حبَستُ بجَفنَيَ المدامِعَ لا تجري
حبَستُ بجَفنَيَ المدامِعَ لا تجري / فَلَمّا طَغى الماءُ استطالَ على السكرِ
نسيمَ صبا بغدادَ بعد خرابِها / تمَنَّيتُ لو كانت تَمُرُّ على قبري
لأنّ هلاكَ النفسِ عندَ أولى النُهى / أحَبُّ لهم من عيشِ منقَبِضِ الصدرِ
زجَرتُ طبيباً جسّ نبضى مداوياً / إليك فما شكوايَ من مرَضٍ يَبرى
لزِمتُ اصطباراً حيثُ كنتُ مفارِقاً / وهذا فراقٌ لا يعالجُ بالصبر
تُسائِلُني عمّا جرى يوم حصرَهِم / وذلكَ مما ليسَ يدخُلُ في الحصرِ
أديرَت كؤوسُ الموت حتى كأنّه / رُؤوسُ الأسارى ترجَحِنّ من السكرِ
لَقَد ثكِلَت أمّ القُرى ولكَعبةٍ / مدامِعُ في الميزابِ تسكُبُ في الحِجرِ
بكَت جُدُرُ المستَنصريّةِ نُدبَةً / على العلماءِ الراسخينَ ذوي الحُجرِ
نوائبُ دهرٍ ليتَني متُّ قبلَها / ولم أرَ عدوان السفيهِ على الحبرِ
محابِرُ تبكى بعدَهم بسوادِها / وبعض قلوبِ الناس أحلكث من حبرِ
لحى اللَهِ من يُسدى إليهِ بنِعمَةٍ / وعندَ هجومِ الناس يألَفُ بالغَدرِ
مرَرتُ بصُمِّ الراسياتِ أجوبُها / كخَنساءَ من فرطِ البكاءِ على صخرِ
أيا ناصحي بالصبرِ دعني وزَفرَتي / أمَوضِعُ صبرٍ والكُبودُ على الجمرِ
تهَدّمَ شخصي من مداوَمَةِ البُكى / ويَنهَدِمُ الجوفُ الدوارِسُ بالمخرِ
وقفتُ بعبّادانَ أرقُبُ دجلَةً / كمِثلِ دمٍ قانٍ يسيلُ إلى البحرِ
وفائضُ دمعي في مصيبَةِ واسِطٍ / يزيدُ على مدّ البحيَرةِ والجزرِ
فجَرتُ مياهَ العينِ فازدَدتُ حرقَةً / كما احترَقَت جوفُ الدماميل بالفجر
ولا تسألنّي كيف قلبُك والنوى / جراحةُ صدري لا تبَيًَّنُ بالسبرِ
وهب أنّ دار الملك ترجعُ عامراً / ويُغسَلُ وجهُ العالمين من العفر
فأينَ بنو العباس مُفتَخَر الورى / ذوو الخلقِ المرضيّ والغُرَرِ الزهرِ
غدا سمَراً بينَ الأنامِ حديثُهُم / وذا سمرٌ يُدمى المسامِعَ كالسمرِ
وفي الخبرِ المرويِّ دينُ محمّدٍ / يعودُ غريباً مثلَ مبتَدإِ الأمرِ
أأغرَبَ من هذا يعودُ كما بدا / وسبيُ ديار السلمِ في بلَدِ الكُفرِ
فلا انحَدَرَت بعد الخلائفِ دجلَةٌ / وحافاتُها لا أغشَبَت ورقَ الخُضرِ
كَأنَّ دمَ الأخوَينِ أصبحَ نابِتاً / بمَذبحِ قتلى في جوانبِه الحمرِ
بكَت سمراتُ البيدِ والشيحُ والغضا / لكَثرَةِ ما ناحت أغارِبَة القفرِ
أيُذكَرُ في أعلى المنابرِ خطبَةٌ / ومستَعصِمٌ باللَه لم يك في الذكر
ضفادِعُ حول الماءِ تلعَبُ فرحَةً / أصبَرٌ على هذا ويونُسُ في القعرِ
تزاحَمَت الغربانُ حول رسومِها / فأصبحَت العنقاءُ لازمةَ الوكرِ
أيا أحمدُ المعصومُ لستَ بخاسِرٍ / وروحُك والفردَوس عسرٌ معَ اليُسر
وجنّاتُ عدنٍ خُفِّفَت بمكارِهٍ / فلابُدَّ من شوكٍ على فنَنِ البُسر
تهنأ بطيبِ العيشِ في مقعدِ الرضا / ودَع جيَفِ الدنيا لطائِفَةٍ النسر
ولا فرق ما بين القتيل ومَيِّتٍ / إذا قمتُ حياً بعد رَمسك والنخرِ
تحيّةُ مشتاقٍ والفُ ترَحُّمٍ / على الشهداءِ الطاهرين من الوزرِ
هنيئاً لهم كأسُ المنيّةِ مترَعاً / وما فيه عند اللَه من عظم الأجر
فلا تحسَبَنَّ اللَه مخلِفَ وعدِهِ / بأنّ لهُم دار الكرامةِ والبشرِ
علَيهم سلامُ اللَهِ في كلِّ ليلَةٍ / بمَقتَلَةِ الزورا إلى مطلَعِ الفجرِ
أأبلغُ من أمرِ الخلافةِ رتبَة / هلُمَّ انظروا ما كان عاقِبَةَ الأمر
فلَيتَ صماخي صَمَّ قبل استماعهِ / بهتك أساتير المحارمِ في الأسر
عدَونَ حفايا سبسَباً بعد سبسَبٍ / رخائمُ لا يسطعنَ مشياً على الحبر
لعَمرك لو عاينتَ ليلَةَ نفرِهم / كَأنَّ العذارى في الدجى شُهُبٌ تَسرى
وإنّ صباحَ الأسرِ يوم قيامَةٍ / على أمَمٍ شعثٍ تُساقُ إلى الحشر
ومستصرخٍ يا للمروءةِ فانصروا / ومن يصرِخُ العصور بين يدى صقر
يساقون سوق المعزِ في كبدِ الفلا / عزائزُ قومٍ لم يعوّدنَ بالزَجرِ
جلبِنَ سبايا سافراتٍ وجوهُها / كواعِبَ لم يبرزنَ من خلَلِ الخدرِ
وعترَةُ قنطوراء في كل منزلٍ / تصيحُ بأولادِ البرامك من يشرى
تقومُ وتجثو في الماجرِ واللوى / وهل يختفى مشيء النواعمِ في الوعرش
لقد كان فكري قبل ذلك مائزاص / فأحدثَ أمرٌ لا يحيطُ به فكر
وبين يدى صرف الزمان وحكمهِ / مغلّلةٌ أيدي الكياسةِ والخُبرِ
وقفتُ بعبّادان بعد صراتِها / رأيتُ خضيباً كالمنى بدَمِ النحرِ
محاجرَ ثكلى بالدموع كريمةً / وإن بخِلَت عينُ الغمائمِ بالقطرِ
نعوذُ بعفو اللَه من نارِ فتنَةٍ / تَأَجَّجُ من قطرِ البلاد إلى قُطرِ
كأنّ شياطينَ القيودِ تفلّتَت / فسالَ على بغداد عينٌ من القطر
بَدا وتعالى من خراسانَ قسطَلٌ / فعاد ركاما لا يزولُ عن البدرِ
إلامَ تصاريفُ الزمان وجورُه / تكلّفنا ما لا نطيقُ من الإصر
رعى اللَهُ إنساناً تيَقَّظَ بعدَهم / لأنّ مصابَ الزيد مزجرةُ العمرو
إذا كانَ للإِنسانِ عندَ خطوبِه / يزولُ الغنى طوبى لمَملكَةِ الفقرِ
ألا إنّما الأيّامُ ترجعُ بالعَطا / ولم تكسُ إلا بعد كسوتِها تُعرى
وراءَك يا مغرورُ خنجَرُ فاتكٍ / وأنتَ مُطأطس لا تفيقُ ولا تدري
كناقَةِ أهل البدو ظلّت حمولَةً / إذا لم تطِق حملاً تساقُ إلى العقرِ
وسائرُ ملكٍ يقتَفيه زوالُه / سوى ملكوتِ القائمِ الصمَدِ الوَترِ
إذا شمِتَ الواشي بمَوتى فَقُل لهث / رُوَيدك ما عاش امرؤٌ أبد الدهر
ومالكُ مفتاح الكنوزِ جميعِها / لدى الموتِ لم تخرُج يداهُ سوى صفرِ
إذا كان عندَ الموتِ لا فرقَ بينَنا / فلا تنظُرَنَّ الناسَ بالنَظَرِ الشزرِ
وجاريهُ الدنيا نعومةُ كلّها / محَبّبةٌ لكنّها كلِبُ الظفرِ
ولو كان ذو مالٍ من الموت فالِتاً / لكانَ جديراً بالتعاظُمِ والكبرِ
ربِحتَ الهدى إن كنتَ عاملَ صالحٍ / وإن لم تكُن والعصرِ إنّك في خُسرِ
كما قال بعضُ الطاعنينَ لقرنِه / بسُمرِ القنانيلَت معانِقَةُ السمرِ
أمُدّخِرَ الدنيا وتاركَها أسىً / لدار غدٍ إن كان لابُدّ من ذُخرِ
على المرءِ عارٌ كثرَةُ المالِ بعدَ / وإنّك يا مغرورُ تجمَعُ للفَخرِ
عَفا اللَه عنّا ما مضى من جريمَةٍ / ومَنّ علَينا بالجميلِ من الصبر
وصانَ بلادَ المُسلمينَ صيانَةً / بدولَةِ سلطانِ البلاد أبى بكرِ
مليكُ غدا في كلّ بلدَةٍ اسمُه / عزيزاً ومحبوباً كيوسُفَ في مصرِ
لقد سعدَ الدنيا به دام سعدهُ / وأيّدَهُ المولى بألويَةِ النصر
كذلك تنشا لينَةٌ هو عرقُها / وحسنُ نباتِ الأرضِ من كرَمِ البذرِ
ولو كان كِسرى في زمانِ حياتهِ / لقال إلهي اشدُد بدَولَتِه أزرى
بِشُكرِ الرعايا صين من كلّ فتنَةٍ / وذلك أن اللُبّ يحفظُ بالقِشر
يُبالِغث في الإنفاقِ والعدل والتقى / مبالغةَ السعديّ في نُكَتِ الشعر
وما الشعرُ أيمُ اللّهِ لستُ بمُدّعٍ / ولو كان عندي ما ببابِلَ من سحرِ
هنالكَ نقّادونَ علماً وخبرَةً / ومنتخبو القول الجميلِ من الهجرِ
جرَت عبَراتي فوق خدّي كآبضةً / فأنشأتُ هذا في قضيّةِ ما يجرى
ولو سبقتني سادةٌ جلّ قدرُهُم / وما حسُنَت منّي مجاوَزَةُ القدرِ
ففي السمطِ ياقوتٌ ولعلٌ وجاجَةٌ / وإن كان لي ذنبٌ يُكَفَّرُ بالعُذر
وحرقَةُ قلبي هيّجتني لنَشرِها / كما فعلَت نارُ المجامرِ بالعِطر
سطَرتُ ولولا غضُّ عيني على البُكا / لرَقرَقَ دمعي حسرةً فمَحا سطرى
أحدّثُ أخباراً يضيقُ بها صدري / وأحمِلُ آصاراً ينوءُ بها ظهري
ولا سيّما قلبي رقيقٌ زجاجُه / ومُمتَنِعٌ وصلُ الزجاجِ لدى الكَسرِ
ألا إنّ عصري فيه عيشى منكّدٌ / فَلَيتَ عشاءَ الموتِ بادرَ في عصري
خليليّ ما أحلى الحياةَ حقيقةً / واطيبَها لولا المماتُ على الإثرِ
ورَبُّ الحجى لا يطمئنُّ بعيشةٍ / فلا خيرَ في وصلٍ يُرَدّّفُ بالهجرِ
سواءٌ إذا ما متّ وانقطَع المُنى / أمخزَنُ تبنس بعد موتِكَ أم تبرِ