المجموع : 21
تَنَقَّلْتَ مثلَ البَدْر يا طلعةَ البَدْر
تَنَقَّلْتَ مثلَ البَدْر يا طلعةَ البَدْر / فمن منزل عزٍّ إلى منزل فخرِ
بأمر وليِّ الأَمر سرت ولم تزل / كما أنت تهوى صاحب النهي والأَمر
دعاكَ إليه فاستجبت كأنَّما / دعاك وزير العصر دعوة مضطرِّ
ومثلك من يُدعى لكلِّ مُلِمَّةٍ / من الدهر مقدام على نوب الدهر
تعدّك للخطب الملوك ذخيرة / وإن الرجال الشوس من أنفس الذخر
فإمَّا إلى حربٍ وقد شبَّ جمرها / لها شرر ترمي به الجمع كالقصر
وإمَّا إلى بأسٍ شديدٍ وقدرة / وإمَّا إلى عالٍ رفيع من القدر
طلعت على بغداد يوماً فشاهدت / بوجهك يا مولى الورى طلعة البدر
تباشرتِ الأَشراف حين تحقَّقَت / قدومك بالإِكرام والنائل الوفر
إذا قيلَ وافى بندر قال قائلٌ / من البشر وافاكم إذَنْ وابلُ القطر
فأغمرتهم بالفضل حتَّى ملكتهم / ببرِّك إنَّ الحُرَّ يُمْلَكُ بالبرِّ
قضت بك أعياد المسرَّة والهنا / وهاتيك أعيادٌ تُعَدُّ من العمر
وشدّ وزيرٌ أزره بك فاغتدى / لعمري قويَّ الأزر منشرح الصدر
ولمَّا نشدت العدل من بعد طيِّه / وأحسنتَ طيَّ الجور في ذلك النشر
ذُكرت لسلطان السلاطين كلّها / وقد قيلَ إنَّ الأُذّنَ تَعْشَقُ بالذكر
فأهدى إلى علياك ما أنت أهله / فقارن بدر التّمِّ بالكوكب الدرّي
وأرغمت آنافاً وأكبتَّ حُسَّداً / وحاقَ بأهل المكر عاقبة المكر
وقد جئت مسرور الفؤاد مؤيّداً / من الله بالتوفيق والفتح والنصر
تجرُّ ذيول الفخر تيهاً على العدى / ألا إنَّ خفض العيش من ذلك الجرِّ
تحفُّ بك الفرسان من كلِّ جانبٍ / وتدعو لك الأَملاك بالسِّرِّ والجهر
ولمَّا رأيت الماء طمَّ على القُرى / وأصبحَ في إفساده أبداً يجري
طغى والَّذي يطغى وقد مدَّ باعه / ليُفْسِدَ أمسى مَدُّه منك في جزر
وما سالَ مثل السَّيل إلاَّ رَدَدْتَهُ / وخَلَّيت منه سائل البحر في مهمهٍ قفرِ
حشرت لسدّ الماء كلَّ قبيلةٍ / لها وقفة ترضيك في وقفة الحشر
تسدُّ ثغوراً لا تُسَدُّ ولم يكنْ / سواك سداد في الحقيقة للثغر
فكيف إذنْ بحرٌ أضرَّ وإنَّما / فَعَلْتَ بهذا البحر فعلك في البرِّ
وما زلت مدعوَّ الجناب لمثلها / فتكشف ما قد حلَّ بالناس من ضُرِّ
تدافع عن مُلك العراق وأهله / مدافعة المغتار عن ربَّة الخدر
يضرب ظباً بيض تأجَّجُ بالرَّدى / وطعنِ قناً سمرٍ أحرّ من الجمر
وأنتم أُباة الضَّيم ما ذلَّ جاركم / ولا نظرتكم أعين الضَّيم عن شزر
لكم واللَّيالي حيثُ تمضي وتنقضي / على كلِّ حالٍ كانَ في العسر واليسر
بيوتٌ على شطِّ الفرات رفيعة / يرى نارها تبدو لمن حلَّ في مصر
ولولا طروق الضَّيف من كلِّ وجهةٍ / لما بنيت إلاَّ على الأَنجم الزهر
وما ضلَّ ساري اللَّيل إلاَّ اهتدى بها / كنور سنا الإِسلام في ظلمة الكفر
إلى الغاية القصوى إلى الجود والنَّدى / إلى منزلٍ رحب إلى نائل وفر
فللضيف فيها مشهد الحجّ في منًى / وللنوق فيها للقِرى مشهد النحر
مكارم قد أورثْتُمُوها قديمةً / وتلك مواريث لآبائك الغرِّ
سلكت بتلك الخيم ما سلكت به / وما سلكت إلاَّ بمسلكها الوعر
تسلُّ السيوف البيض كفك للورى / فكفُّك للجدوى وسيفك للقهر
وعلّمتها ضربَ الرقاب فأصبَحَتْ / تقدُّ رقاب الفاجرين ولا تدري
ملأت فؤاد الضدّ رعباً ورهبةً / وأوَّل ما ترمي أعاديك بالذعر
فهابك من خلَّ العراقَ وراءه / فكيف بمن لا يستنزل عن الوكر
ولم تنج من صمصام صولتك العدى / ولو أنَّها طارتْ بأجنحة النَّسر
لك الله ما شيّدت بيتاً من العُلى / على غير سمر الخطّ والقضب البتر
لك المدح منَّا والثناء بأسره / على أنَّ في الأُخرى لك الفوز بالأجر
على النعم الَّلاتي بلغنا بها المنى / وبيض أيادٍ منك في الأَزمن الغبر
تجلّ عن التعداد إنْ هي أُحصيت / فيا ليت شعري ما أقول من الشعر
عجزت بأن أقضي لها حقَّ شكرها / فليسَ يعني نظمي بذاك ولا نثري
متى لاحَ رسمُ الدَّار من طلل قَفْرِ
متى لاحَ رسمُ الدَّار من طلل قَفْرِ / فلي زفرةٌ تذكو ولي عَبْرةٌ تَجري
ذكرت الهوى يوماً بمنعرج اللّوى / ولا بدَّ للمشتاق فيه إلى الذكر
سقى اللهُ عهداً في النعيم وحاجر / وجاد على أرجائها وابلُ القطر
وحيَّى بصَوْب المزن في الحيِّ منزلاً / لي العذر فيه من رسيس الهوى العذري
وأيامنا الّلاتي قَضَتْ باجتماعها / على أنَّها قضي ولم تمض من فكري
خليليَّ ما بي كلَّما هبَّت الصَّبا / تصبَّبَ من عينيَّ ما ليس بالنزر
وإنِّي لمطويّ الضلوع من الجوى / على لاعج بَرحٍ أحَرَّ من الجمر
كأَنَّ التهاب البرق يُبرِزُ لوعتي / ويُبْرِزُ للأَبصار ما كانَ في صدري
ولم أدرِ ما هاجَ الحمامَ بنَوْحه / فهيَّجَ أشجان الفؤاد ولا يدري
كأنِّي به يشكو الفراق على النوى / ولا غابَ عن أنفٍ ولا طار عن وكر
أحبَّتَنا هل تذكرون ليالياً / لنا في الحمى كانت تُعَدُّ من العمر
تطوفُ علينا الكأسُ من كفِّ أغيدٍ / كما ذكر قرن الشمس في راحة البدر
تحدِّثُنا عن نار كسرى لعهده / قديمةُ عهدٍ بالمعاصير بالعصر
فحيَّى بها أحوى من الغيد أبلجٌ / مُذاباً من الياقوت تبسَّم عن درِّ
وقلت لساقيها وريدك بالحشا / فقد زدْتَني بالرَّاح سكراً على سكر
بربِّك هل أَبْصَرْتَ منذ شربتها / ألَذَّ لطيب العيش من قدح الخمر
وندمان صدقٍ تشهد الرَّاح أنَّهم / إذا سكروا أحلى من السكر المصري
هنالك أعطينا الخلاعَةَ حقَّها / وقمنا إلى اللّذَّات نعثر بالسكر
إلى أن بدا للصبح خفقُ بنوده / وطار غراب اللَّيل عن بيضة الفجر
وغارتْ نجوم اللَّيل من حسن معشرٍ / خلائقهم أبهى من الأَنجم الزهر
بَلَوْتُ الليالي عُسْرَةً بعد يسرة / وكم ذقت من حلو المذاق ومن مرِّ
فما أبلتِ الأيام جِدَّةَ عزمتي / ولا أخَذَتْ تلك الحوادث من صبري
إذا لم تكنْ لي في النوائب صاحباً / فما أنتَ من خيري ولا أنْتَ من شرِّي
وليسَ تفي مثل الصوارم والقنا / إذا عبثت أيدي المودَّات بالغدر
إذا أنا أنفَيْتُ الهَوانَ بمنزلٍ / تركت احتمال الضَّيم فيه إلى غيري
وما العزُّ في الدُّنيا سوى ظهر سابح / يقرّب ما ينأى من المهمة القفر
سواءٌ لديه الوعرُ والسهلُ إنْ جرى / وَلَفَّ الرُّبا بالسَّهلِ والسَّهلُ بالوعر
تعوَّد جَوْبَ البيد فاعتاد قطعها / فأنْجَدَ في نجد وأغْوَرَ في غور
عتيقٌ من الخيل الجياد كأنَّه / لشدَّته صخرٌ وما قُدَّ من صخرِ
وناصيته ميمونة منه أعْلَنَتْ / بأنَّ لها فيه مقدمة النصر
وإنَّ جياد الخيل عندي هو الغنى / وليس الغنى بالمال والبيض والصفر
وأشْهَبَ يكسوه الصباح رداءه / كما أَشْرَقَ الإِسلام في ملَّة الكفر
أبى أن يَشُقَّ الّلاحقون غبارَه / فكالبرق إذ يهفو وكالريح إذ تسري
إذا ما امتطاه رفعتٌ وجرى به / رأت أعْيُني بحراً ينوف على بحر
أعَدَّ له عند الشَّدائد عُدَّةً / وأرْصَدَه فيها إلى الكرِّ والفرّ
فتى المجد من أهل الصدارة في العُلى / وليس محلّ القلب إلاَّ من الصدر
تُناظِرُ جدواه السحائب بالندى / وأنَّى له جدوى أنامله العشر
إذا جئته مسترفداً منه رِفْدَهُ / فَنَلْ منه ما تهوى من النائل الغمر
وحسبُك من أيدٍ تدفَّق جَورُها / وناهيكَ من وجهٍ تهلَّلَ بالبشر
كما سَقَتِ المُزنُ الرياض عشيَّةً / فأصبح زهر الروض مبتسم الثغر
بياض يدٍ تندى ومخضرّ مربع / تروق برغد العيش في الخطط الغبر
وما زال موصول الصلات ودأبه / من البرّ أنْ يُسديه برًّا إلى برّ
مكارمه لا تترك المال وافراً / وهل تركت تلك المكارم من وفر
وما ادَّخرت للدهر مالاً يد امرئٍ / يُعدُّ الثناءَ المحض من أنفس الذخر
كما لم يَزَلْ يُرجى لكلِّ ملمَّة / ويعرف فيه الأمن في موطن الذعر
ولا خير في عيش الفتى وحياته / إذا لم يكنْ للنفع يرجى وللضرّ
له المنطق العذب الَّذي راقَ لفظه / رمى كلّ منطيق من الناس بالحصر
فلا ينطق العوراءَ سُخطاً ولا رضًى / قريبٌ من الحسنى بعيدٌ من الهُجْر
سواء إذا أثرى وأملَقَ جودُه / جواد على الحالين في العسر واليسر
صبورٌ على الأيام كيف تقَلَّبَتْ / جليدٌ شديدُ البأس فيها على الدهر
وقد أخْلَصَتْه الحادثات بسبكها / فكان بذاك السبك من خالص التبر
إذا ما حمِدْنا في الرجال ابن أحمد / فعن خالص في الودِّ بالسر والجهر
بعطّر أرجاء القوافي ثناؤه / وربَّ ثناءٍ كانَ أذكى من العطر
نشرنا له الصُّحْفَ الني كانَ طيُّها / على طيب ذات فيه طيّبة النشر
ولي في أبيه قبلَه وهو أهْلُها / محاسنُ أوصاف تضيق عن الحصر
فيا أيُّها المولى الَّذي عمَّ فضلُه / لك الفضل فاسمع إن تكنْ سامعاً شعري
خدمتُك في حُرِّ الكلام مدائحاً / فقال لسان الحال يا لم من حرِّ
وقد راقَ شعري في ثنائك كلُّه / ألا إنَّ بعض الشعر ضربٌ من السحر
فخذها من الدَّاعي قصيدة أخرس / عليك مدى الأيام تنطق بالشكر
تريني لدى علياك ما قد يسرُّني / وترفع قدري فيك يا رفعت القدر
لقدْ خَفَقَتْ في النَّحر ألويةُ النَّصْرِ
لقدْ خَفَقَتْ في النَّحر ألويةُ النَّصْرِ / وكانَ انمحاقُ الشَّرِّ في ذلك النَّحر
وفتحٌ عظيمٌ يعلمُ اللهُ أنَّه / ليستصغر الأَخطار من نوب الدهر
عَلَتْ كلماتُ الله وهيَ عليَّةٌ / بحدِّ العوالي والمهنَّدة البُتْر
تبلَّج دينُ الله بعدَ تَقَطُّبِ / ولاحت أسارير العناية والبشر
محا البغيَ صمصام الوزير كما محا / دُجى الليل في أضوائه مطلع الفجر
وكرّ البلا في كربلاء فأَصْبَحَتْ / مواقف للبلوى ووقفاً على الضّرّ
غداة أبادَتْ مفسدي أهلِ كربلا / وكرَّت مواضيه بهما أيَّما كَرِّ
فدانت وما دانت لمن كانَ قبله / من الوُزَراء السَّابقين إلى الفخر
وما أدركوا منها مراماً ولا مُنًى / ولا ظفِروا منها بلبٍّ ولا قشر
وحذَّرهم من قبل ذلك بطشه / وأَمْهَلَهُمْ شهراً وزادَ على الشهر
وعامَلَهم هذا الوزيرُ بعدله / وحاشاه من ظلمٍ وحاشاه من جور
وأنذرهم بطشاً شديداً وسطوةً / وبالغ بالرُّسْلِ الكرام وبالنّذر
ولو يصبر القرم الوزير عليهم / لقيل به عجز وما قيل عن صبر
وصالَ عليهم عند ذلك صولةً / ولا صولةَ الضرغام بالبيض والسمر
وسار بجيش والخميس عرمرم / فكالليل إذ يسري وكالسيل إذ يجري
وقد أفسدوا شرَّ الفساد بأرضهم / إلى أن أتاهم منه بالفتكة البكر
رمتهم بشهب الموت منه مدافعٌ / لها شررٌ في ظلمة الليل كالقصر
رأوا هول يوم الحشر في موقف الردى / وهل تنكر الأَهوال في موقف الحشر
فدمَّرهم تدمير عادٍ لبَغْيهم / بصاعقةٍ لم تُبْقِ للقوم من ذكر
ألم ترهم صرعى كأَنَّ دماءهم / تسيل كما سالت معتقة الخمر
وكم فئةٍ قد خامر البغيُ قلبَها / على أنَّها بأحبولة الحصر
فراحت بها الأَجساد وهي طريحةٌ / تداس على ذنبٍ جنَتْه لدى الوزر
فإنَّ مرادَ جارٍ على الورى / ولا بدَّ أنْ يجرى ولا بدَّ أن يجري
تجول المنايا بينهم بجنودها / بحيث مجال الحرب أضيق من شبر
تَلاطَمَ فيها الموجُ والموجُ من دمٍ / تَلاطُمَ مَوجِ البحر في لُجَّة البَحر
فلاذوا بقبر ابن النبيّ محمد / فهل سُرَّ في تدميرهم صاحب القبر
فإن تُركوا لا يترك السيف قتلَهم / وإن ظَهَروا باؤوا بقاصمة الظهر
ولا برحت أيَّامه الغرُّ غُرَّةً / تضيءُ ضياءَ الشمس في طلعة الظهر
ولا زال في عيدٍ جديد مؤرِّخاً / فقد جاءَ يوم العيد بالفتح والنصر
بكتْ بدمٍ من بعد عيسى وبندر
بكتْ بدمٍ من بعد عيسى وبندر / عيونُ ذوي الحاجات من كلِّ معشر
وأهرقت الدمع الغزير عليهما / لواعج حزن في الجوانح مضمر
فلم تبق منه زفرة ما تأجَّجت / ولا عبرة من مقلة لم تحدّر
أقول لركب راح يرتاد منزلاً / لربع على نهر المجرّة مقفر
سرى ضارباً في الأرض ما بين منجد / يخدّ أخاديد الفلاة ومغور
أقيموا على قبر ثوى فيه بندر / صدور المطايا ما ثوى قبر بندر
ولا تسأموا من واكف الدمع وافرجوا / من الحزن مبيض الدموع بأحمر
ولا تندبوا غير المكارم والعلى / لعالٍ كما صدر القناة مشهر
بكيت فأكثرت البكاء وحقّ لي / بكائي على وفد من العز مكثر
وإنِّي لمعذور إذا ما بكيته / بأكثر من قطر الغمام وأغزر
ولي عَبرة لم ترقا عند ادّكاره / كما لي فيه عبرة المتفكر
وهيهات أنْ أسلو يوماُ وإنّني / خلا منه يوماً خاطري وتذكري
حسامٌ صقيل المتن أُغمِدَ في الثرى / ووارى ترابُ الأرض طلعة نيّر
وقد كانَ لم يحجب سناه بحاجب / ولم تستتر أضواؤه بمستّر
فوا أسفي إنْ كانَ يغني تأسُّفي / وما حَذَري إنْ كانَ يجدي تحذري
وكنت أراني في النوائب صابراً / فأعدَمني صبري فأنى تصبّري
وإنِّي لمقبول المعاذير في الأسى / ومن يعتذر مثلي إلى الصبر يُعذر
لقد ضقت ذرعاً بعد فقدان باسل / من الصيد مفتول الذراع غضنفر
وما سرّ نفسي بعده ما يسرّها / ولا راق ما قد راق شيء لمنظري
فيا عبراتي كلّ آن تحدّري / ويا نار أحشائي عليه تسعّري
فقد غاض بحر كلَّما مدّ راحة / إلى الوفد فاضت منه خمسة أبحر
فتسخر من وبل السحاب أكُفُّه / بأبرعَ من وبل السحاب المسخّر
إلى الله خطب كل يوم يعاد لي / برزءٍ من الأرزاء يقطع إبهري
مصابٌ أُصيبَتْ فيه آل محمد / برغم العوالي من وشيج وسمهري
أصيبَتْ بقوم ما أُصيبَتْ ولم تصب / به مُضَرُ الحمرا ولا آل حميرَ
أرتنا المنايا كيف تُصمي سهامها / وكيف تصول النائبات وتجتري
ولو أنَّه يُفدى فَدَتْهُ أماجدٌ / ترى الموت إلاَّ فيه أربحَ متجر
ولو أنَّه يدعو الكمأة لنصره / عليها أجابته بنصرٍ مؤزر
ولكنه اغتالته إذ ذاك غيلةً / ولم تمتنع عنه بجند وعسكر
خذي من تشائي بعد أخذك بندراً / من الناس من قد شئته وتخيّري
فما كانَ مفقود تشق جيوبها / عليه المعالي يوم مجد ومفخر
سقاك الحيا المنهلُّ يا قبر بندر / وحيّاك مُهراقُ الغمام الممّطر
سألتك والأجفان يرفضّ ماؤها / عن الضيغم العادي فهل أنت مخبري
تدلّى عقيراً فيك والحتف صارم / لعمري متى يُعقَرْ به الليث يُعقر
محاسنُ ذاك الوجه كيف تغيّرت / وكان على الأيام لم تَتَغيَّر
وكان يلاقي ضيفه متهلّلاً / بوجه صباحٍ بالمحاسن مسفر
وقد نُكّرت من بعد علمي بأنها / معارف للمعروف لم تتنكر
مضى لا مضى إلاَّ على عفور ربه / ومسرح جنات ومورد كوثر
فهل وَدَّعَتْه المشرفيّة والقنا / وناحت عليه البيض في كل محضر
لِمَن ترك الخيل الجياد كأنها / عرائس ما زُفَّت لغير مظفر
صواهل يعشقن الطراد بموقف / تبيع الردى فيه الكماة وتشتري
دعوناه للجدوى مراراً فلم يجب / دعاءً لنا عن عزّة وتكبّر
وكان من الداعي بمرآى ومسمعٍ / وفي منظر مما يروق ومخبر
قريب من الحسنى مجيب لمن دعا / زعيم بأخذ الفارس المتجبر
تراه سلانا بعد هذا بغيرنا / بأرغد عيشٍ أم بأكرم معشر
ألم يَدْر أنَّ المُلك أُهمل بعده / ليس سوى فهد له من مدبر
وأنَّ بني العلياء ضاقت صدورها / لفقدان ذاك السيّد المتصدر
ومن نَظَرَ الأيام معتبراً بها / رآها بعين الذاهل المتحير
تحذّرنا صرف المنون نزولها / وتنذرنا في كلّ يوم بمنذر
ونغتر بالآمال لا في سرابها / شراب ولا منها ورود لمصدر
ونبكي على الدنيا على غير طائل / وما أحدٌ من أهلها بمعمَّر
نؤمّل فيها أنْ يدومَ لنا بها / حياة وما دامت لكسرى وقيصر
ونطمع منها بالمحال ولم تكن / أمانيُّنا إلاَّ أحاديث مفتري
وهذي هي الآجال قد قُدّرت لنا / ولم يَنَل الإنسان ما لم يُقدَّر
ولا بد أن يُمشى بنا فوق أرْبَعٍ / إلى حفرة لا مشيةَ المتبختر
ولو أننا كنّا بقصرٍ مشيّدٍ / وحصنٍ حصينٍ بالحديد مسوّر
وإنَّ المنايا كائناتٌ لوقتها / إذا قُدّمت للمرء لم تتأخر
ولا وَزَرٌ مما قضى الله عاصم / ولا يتّقى منه بدرع ومغفر
على أنها الدنيا إذا ما صفا لنا / بها العيش شابت صفوَه بمكدّر
ومن ترك الدنيا رآها بعينه / قصاصة ثوب أو قلامة أظفُر
لِيَهْنِك يا نحير أهلِ زمانِهِ
لِيَهْنِك يا نحير أهلِ زمانِهِ / ويا كاملاً عنه غدا الطرف قاصرا
يا منبعاً للجود والفضل والندى / ومن لم يزل بحراً من العلم زاخرا
ويا من يحلّ المشكلات بذهنه / وأفكاره رأياً تحير البصائرا
بطفل زكيّ قد أتاك وإنّما / يضاهيك بالأخلاق سرًّا وظاهرا
وبشرتني فيه فقلت مؤرخاً / بمولد عبد الله نلت البشايرا
سرَيْنا لنمحو الإِثم أو نغنم الأَجرا
سرَيْنا لنمحو الإِثم أو نغنم الأَجرا / لزورة من تمحو زيارته الوِزْرا
وسارت وقد أرخى علينا الدُّجى سترا / بنا من بنات الماء للكوفة الغرَّا
سبوحٌ سرت ليلاً فسبحان من أسرى /
تخيَّرتها دون السَّفائن مركبا / وأعْددْتُها للسَّير شرقاً ومغربا
فكانت كمثل الطَّير إنْ رمت مطلبا / تمدّ جناحاً من قوادمه الصّبا
تروم بأكناف الغريّ لها وكرا /
وكانت تُحلَّى قبل هذا تجمُّلا / وقد غذيت فيما أمرَّ وما حلا
أظنّ على فقد الشَّهيد بكربلا / كساها الأسى ثوب الحداد ومن حُلى
تجمّلها بالصبر لاعجها أعرى /
إلى موقفٍ سرنا بغير توقّف / يزيد بكائي عنده وتلهُّفي
ولما تجارينا بفلك ومدنف / جرت وجرى كلٌّ إلى خير موقف
يقول لعينيه قفا نبك من ذكرى /
ترامت بنا فلك فيا نعم مرتمى / إلى دُرَّةِ الفخر الَّتي لن تقوّما
فخضنا إليه والبحر قد طمى / وكم غمرة خضنا إليه وإنَّما
يخوض عباب البحر من يطلب الدُّرَّا /
إلى مرقد يعلو السّماكين منزلا / وقد نالَ ما نال الصراح من العُلى
نسير ولا نلوي عن السَّير معدلا / نؤمُّ ضريحاً ما الضراح وإنْ علا
بأَرفعَ منه لا وساكنه قدرا /
فزوج ابنة المختار كانَ غضنفرا / علا وارتضته الطهر من سائر الورى
أتعرف من هذا الَّذي طال مفخرا / هو المرتضى سيف القضا أسدُ الشرى
عليّ الذرى بل زوج فاطمة الزهرا /
عيون الورى إنْ لاحظت منه كنهه / ترد عن التشبيه حسرى فينتهوا
وإن مقاماً لا ترى العين شبهه / مقام عليٍّ كرَّم الله وجهه
مقام عليٍّ ردَّ عين العُلى حسرى /
لقد صيَّر الغبراءَ خضراءَ قبرُه / وأشرقَ فيها في الحقيقة بدره
وقد وافق الإِعجاز لله درّه / أثيرٌ مع الأَفلاك خالف دوره
فمن فوقه الغبرا ومن تحته الخضرا /
أحاطَ بنا علماً فليت سليقة / تفيد علوماً عن عُلاه دقيقة
مجازاً وقد جزنا إليه طريقة / أحطنا به وهو المحيط حقيقة
بنا فتعالى أن نحيط به خُبرا /
فطفْ في مقام حلَّ فيه ولبّه / ترى العالم الأَعلى حفيفاً بتربه
فكالمسجد الأَقصى وأيّ تشبّه / تطوفُ من الأَملاك طائفة به
فتسجد في محراب جامعه شكرا /
فأثنى عليه من علا مثل من دنا / وكلٌّ بما أثنى أجادَ وأحسنا
فخرب من الدانين إذ ذاك أعلنا / وحزب من العالين يهتف بالثنا
عليه بوحيٍ كدْتُ أسمعه جهرا /
حججنا إلى بيت علا بجانبه / عشيَّة آوينا إلى باب غابه
ومن قد سمت أركان كعبتنا به / جديرٌ بأن يأوي الحجيج لبابه
ويلمس من أركان كعبته الجدرا /
فيوض علوم الله من قدم حوى / فقسّم منها ما أفاد وما احتوى
ومن قبل ما يثوي ومن بعد ما ثوى / حريٌّ بتقسيم الفيوض وما سوى
أبي الحسنين الأَحسنين به أحرى /
ظللنا وكم جان لديه ومذنب / وذي حاجة منَّا وصاحب مطلب
يقبّل والأَجفان تهمي بصيّب / ثرًى منه في الدُّنيا الثراء لمترب
وللمذنب الجاني الشَّفاعة في الأخرى /
خدمنا أمير المؤمنين بموطنٍ / نعفّر فيه الوجه قَصْدَ تيمُّنِ
ويخدم قبر المرتضى كلٌّ مؤمنٍ / بأهداب أجفانٍ وأحداق أعينِ
وحرّ وجوه عفَّرتها يد الغبرا /
أزلنا غباراً كانَ في قبر حيدر / فلاح كغمد المشرفيِّ المشهر
ولا غروَ في ذاك المكان المطهر / أمطنا القذى عن جفن سيف مذكر
أجلّ سيوف الله أشهرها ذكرا /
تبدَّى سنا أنواره وتبيَّنا / غداة جلونا قبره فتزيَّنا
فحيَّر أفهاماً وأبهرَ أعيُنا / فوالله ما ندري وقد سطع السَّنا
جلينا قراباً أمْ جلونا قبرا /
يَميناً بربِّ النجم والنجم إذ يسري
يَميناً بربِّ النجم والنجم إذ يسري / ومَن أنزل الآيات في مُحكَمِ الذكرِ
لقد أشرقت بغدادُ منذ أتَيتها / كما تُشْرِقُ الظَّلماءُ من طلعة البدر
فراحَتْ كما راحَتْ خميلةُ روضةٍ / سَقَتْها الغوادي المستهلّ من القطر
وما سرَّها شيءٌ كمقدمِكَ الَّذي / يبدل منها صورة اليسْرِ بالعُسْر
وكم فرح من بعد حزن وراحة / من النصب الجاني على العدل بالجور
فلا ذنبَ للأيَّام من بعدِ هذه / فَقَدْ جاءَت الأيام للناس بالعذر
تناءَيْتَ عنها لا ملالاً ولا قلًى / ولكن رأيتَ الوصل من ثمر الهجر
وما غِبتَ عنها حين غِبتَ حقيقة / وكيفَ ولم تخرج هنيهة من فكر
رأيت مقاماً لا يرى الفرق عنده / من العالم النحرير والجاهل الغمر
ولا بدَّ للأَشياء من نقدِ عارفٍ / يُمَيِّزُ بينَ الصِّفر والذَهَب التّبر
غَضِبْتَ ولا يُرضيكَ إلاَّ نهوضُه / إذا رَبَضَ اللَّيثُ الهَصورُ على الضُّرِّ
فجرَّدتها كالمشرفيِّ عزيمةً / تَتَبَّعُ آثار الخطوب وتستقري
وأقْلَعْت عن دارٍ جدير بأنَّها / تشينُ أباة الضَّيْم فيها وإنْ تزري
وما زلتَ تطوي كلَّ بيداء نفنف / وتركبُ منها ظهر شاهقة وعر
وسرتَ إلى مجدٍ أثيلٍ وسؤدد / فمن منزلٍ عزٍّ إلى منزلٍ فخر
إلى الغاية القصوى الَّتي ما وراءها / إذا عُدَّتِ الغايات مأوًى لذي حجر
نشرتَ بأرض الرُّوم عِلماً طويته / بجنْبَيك حتَّى ارتاع في ذلك النشر
وسُرَّ أميرُ المؤمنين بما رأى / ولاحَ وأيم الله منشرح الصدر
أشارَ إليك الدِّينُ أنَّك ركنُه / وقال له الإِسلامُ أُشْدُدْ به أزري
وما ظنَّت الرُّوم العراق بأنَّه / يجرُّ عليك فيك أردية الفخر
وما شاد قسطنطين ما شدتَ من عُلًى / مُؤبَّدة تبقى على أبدِ الدهر
فدتك الأَعادي من رفيع محلق / كأَن يبتغي وصلاً من الأَنجم الزّهر
كفى الرُّوم فخراً لو دَرَتْ مثلما تدري / وهيهات أن تدري وهيهات ن تدري
بما قد حباك الله منه بفضله / من الهيبة العظمى ومن شرف النجر
وآيتك الآيات جئتَ بما انطَوَتْ / عليها من الأَسرار في السر والجهر
كشفت معمَّاها وخضت غمارها / وأَنْفَقْتَ في تفسيرها أنفس العمر
وأوضَحْتَ أسرار الكتاب بفطنةٍ / تزيلُ ظلامَ اللَّيل من غُرَّة الفجر
وقفتَ على إيضاح كلّ عويصةٍ / مواقف لم تُعْرَف لزيد ولا عمرو
وأغنيت بالأَسفار وهي كوامل / ثمانيةً عن ما حوت مائتا سفر
ومَن حازَ ما قد حُزْتَ عِلماً فإنَّه / غَنيٌّ عن الدُّنيا مليٌّ من الوفر
إذا احتاجك السُّلطان تعلم أنَّه / بذلك يمتاز المقلُّ من المثري
أرى دولةً أصْبَحْتَ من علمائها / مؤيَّدة الأَحزاب بالفتح والنصر
أرعْتَ أُولي الأَلباب منها بحكمةٍ / بروح أرسطاليس منها على ذعر
قضَتْ عجباً منها العقول بما رأت / وما بَصُرَتْ يوماً بمثلك في عصر
برزتَ مع البرهان في كلِّ موطنٍ / من البحث لا يبقي اللباب مع القشر
فأَفْسَدْتَ للإِلحادِ أمراً دَحَضْتَهُ / فليسَ له فيها وليٌّ من الأَمر
عذوبةُ لفظ في فصاحة منطقٍ / وعينيك لولا حرمة الخمر كالخمر
ورُبَّ بيانٍ في كلامٍ تصوغُه / إذا لم يكن سِحراً فضربٌ من السِّحر
وما زلتَ بالحسَّاد حتَّى تركتها / وقد طُوِيَتْ منها الضلوعُ على الجمر
فتكتَ بها فتك الكميّ بسيفه / كما يفتك الإِيمانُ في مِلَّة الكفر
وكنتُ أُمَنِّي النفسَ فيك بأنْ أرى / صَديقَك في خيرٍ وخصمكَ في شرّ
وما زالَ قولي قبل هذا وهذه / لعلِّي أرى الأيامَ باسمةَ الثغر
فلله عندي نعمةٌ لا يَفي بها / بما قد بلغتَ اليوم حمدي ولا شكري
وما نلتَ مقدار الَّذي أنتَ أهلُهُ / على عظم ما نَوَّلْتَ من رفعة القدر
كأنِّي بقومٍ فارقوك فأصْبحوا / ولَوْعتُهم تذكو وعبرَتُهم تجري
تحنُّ إلى مرآك في كلِّ ساعةٍ / فتأسَفُ إنْ سافرتَ عنهم في السفر
وإنْ سَمَحَتْ منهم بمثلك أنفسٌ / فما هي إلاَّ أسْمَحُ النَّاس بالبرّ
وما صَبَرَتْ عنك النفوس وإنَّما / يصبِّرها تعليلُ عاقبة الصبر
تَغَرَّبْتَ عاماً طالَ كالشهر يومه / ويا ربَّ يوم كانَ أطول من شهر
تكلَّفْتَ أمراً للحلاوة بعده / ولا تخطب الحسناء إلاَّ على مهر
وإنِّي بتذكاريك آناً فمثله / صريع مدام لا يفيق من السكر
مَلَلْت الثوى حتَّى طربت إلى النَّوى / وحتَّى رأيت الأرض أضيق من شبر
ولو أنَّني أسطيع عنه تزحزحاً / قذفتُ إليك العيسَ في المهمه القفر
وليس لنفسي عنك في أحَدٍ غنًى / وكيف يُرى الظَّامي غنيًّا عن البحر
بعثت إلينا بالحياة لأنفسٍ / على رَمَقٍ يدعو إلى البعث والنشر
فَضَمَّ إلينا من يعيد حياتنا / كما ضُمَّ شطرُ الشيء يوماً إلى شطر
فيا كُثْرَ ما قد نَوَّلَتْنا يد المنى / وعادَتُها الإمساك بالنائل النزر
لتصفو لنا الدنيا فقد طاب عيشنا / وضاء محياها بأيامك الغر
أعادَتْ علينا العرف من بعد فقده / فلا قابَلَتْنا بعد ذلك بالنكر
نشيرُ إلى هذا الجناب كأنَّنا / نشيرُ إلى رؤيا الهلال من الفطر
وما كانَ يوم العيد بمثله / إذا كانَ في فطر وإنْ كانَ في نحر
وذلك يومٌ يعلَمُ الله أنَّه / ليذهَبَ تعبيسُ الحوادث بالبشْرِ
لك الفضل والحسنى قريباً ونائياً / وأيْدٍ لأيْد من أناملها العَشْرِ
ولو حُصِدَتْ أيديك فينا حصرْتها / ولكنها ممَّا يجلُّ عن الحَصْرِ
تنفَّسَ عن وَجْدٍ تَوقَّدَ جمرُهُ
تنفَّسَ عن وَجْدٍ تَوقَّدَ جمرُهُ / فأجرى مَسيلَ الدَّمع يَنهلُّ قَطرُهُ
وبات يعاني الهَمَّ ليس ببارحٍ / على قلبه إقدامه ومكرُّه
تمنّى وما يغني التمنّي مطالباً / حَرِيٌّ به لولا الدَّنيَّةُ دهره
ودون أمانيه عوائق جمّة / يضيق لها في المنزل الرحب صدره
تحمَّل أعباءُ المتاعب والتقى / على غرّة صرف الزمان وغدره
وأشقى بني هذا الزمان أريبه / وأتعبُ من فيه من النَّاس حرُّه
وربَّ خميص البطن مما يشينه / ينوءُ بأثقال الأُبوَّة ظهره
له كلّ يوم وقفة بعد وقفة / يهيجُ جوى أحشائه وتقرّه
يطول مع الأيام فيها عتابه / ويسهر ليلاً ما تبلّجَ فجره
يشيم سنا برق المطامع وامضاً / تألَّقَ إلاَّ إنّه لا يغرّه
فأمسى يغضّ الطرف عنه ودونه / وقوف الفتى يفضي إلى الضّيم أمره
وحالَف مختاراً إلى العزّ نفسه / إباءً ولم يُؤْخَذْ على الذُّلِّ إصره
بنفسي امرؤ يقسو على الدهر ما قسا / ولم يتصدَّع في الحوادث صخره
إذا ما رأى المرعى الدنيّ تنوشُه / يَدُ الرذل يُستحلى مع الهون مرُّه
تناول أفنان الخُصاصة وارتدى / بفاضل ذيل الفخر يُسْحَبُ طمره
جليد على عُسر الزمان ويُسره / وما ضَرَّه عًسًر الزمان ويسره
فلا البؤسُ والإقلال مما يسوؤه / وليس ثراءُ المال مما يسره
لئن تخْلِص الإبريزَ نارٌ تذيبه / فما نَفْعُه إلاَّ بما قد يضره
فقد أخْلَصَتْ نارُ التجارب سَبكَه / إلى أنْ صفا من شائب الزُّيف تبرُه
قريبُ مجاني الجود من مستميحه / بعيدٌ على من سامَهُ الخسفَ غَوْرُه
فلا يأمننَّ الدهرَ مكري فإنَّني / من القوم لم يؤمن بمن ساء مكره
وما أنا بالمدفوع إن ضيم شرّه / ولا أنا بالممنوع إن سيمَ خيره
منحتُ الصّبا عذب الموارد في الهوى / بمبتسم باللؤلؤ الرطب ثغره
قضيتُ به عهد الشباب وعصره / فهل راجعٌ عهدُ الشباب وعصره
تفتَّحَ نوّار المشيب بلُمَّتي / وأينعَ في روض الشبيبة زهره
وما فاتني هذا الوقار الَّذي أرى / إذا فاتني وصل المليح وهجره
صحا والهوى العذريُّ باقٍ خماره / بنشوانَ من خمر الصبابة سكره
معذّبتي من غير جُرم يلومها / وأعذبُ شيءٍ في هواكِ أمَرُّه
أرابك منِّي أنْ أقمتُ بموطن / تجوعُ ضواريه وتشبع حمره
وكيف أخاف الفقر أو أُحْرَم الغنى / وهذا ندى عبد الغنيّ ووفره
فلا زال موصولاً من الله لطفه / إليَّ ومسبولاً من الله ستره
بأبلج وضاح الجبين أغرّه / فلله وضّاح الجبين أغرّه
كما لم يزل منِّي عليه ولم يَزلْ / ثنائي على طول الزمان وبرّه
كفاني مهمّات الأمور جميعها / فما سرَّني أن ساءني الدهر غيره
وما بات إلاَّ وهو في الخطب كالئي / بطرف يريع الدهر إذ ذاك شزره
وما لامرئٍ عندي جميلاً أعدُّه / وكيف وقد غطّى على البحر نهره
وإنَّ الجميل المحضَ معنىً وصورةً / خلائقه بين الأنام وذكره
حياة جميل الصنع فيها حياته / وعمر المعالي والأبوّة عمره
حياض العطاء المستفاض أكفُّه / ومن فيضها جزل العطاء وغمره
يمينٌ كصوب المزن يهرق جودها / ووجه كروض الحزن قد راق بشره
دعاه إلى المعروف من نفسه لها / وتلك سجاياه وذلك طوره
أدَرَّتْ له أخلاف كُلِّ حَلوبَةٍ / من المجد حتَّى قيل لله دَرُّه
تنصّل هذا الدهر من ذنبه به / فلا تعتبنّ اللَّيل والصبح عذره
فما ذنبه من بعد ذلك ذنبه / ولا وزره من بعد ذلك وزره
ولي منه ما أهدي لديه وأبتغي / ومنِّي له المدح الَّذي طاب نشره
فيا قمراً في أُفق كلّ أبيّةٍ / سريع إلى المعروف والبرّ سيره
فداؤك نفسي والمناجيب كلّها / ومن سرَّه في النَّاس أنَّك فخره
أفي النَّاس إلاَّ أنتَ من عَمَّ خيرُه / بيوم على الدنيا تطايَرَ شرّه
وما غيرك المدعوُّ إن شبَّ جمرها / وأنشبَ نابُ الخطب فينا وظفره
قواضٍ على صرف الحوادث بيضه / مواضٍ لعمري في الكريهة سمره
إذا ما غزا معروفه النكر مَرَّةً / فلله مغزاه وبالله نصره
تدفَّق في حوض المكارم جوده / وحَلَّق في جَوٍّ من الفخر صقره
فهل يَعْلَمَنَّ المجدُ أنَّك فخره / وهل يعْلَمنَّ الجود أنَّك بحره
ومستعصم بالعزِّ منك وثوقه / إليك إذا هاب الدنايا مفره
وما خَفَيت حال عليك ظهورها / وكيف وسرُّ العَبد عندك جهره
فلا تحسبنِّي من ثراك مملّقاً / ورُبَّ غنيٍّ ليس يبرح فقره
وليس فقيراً من رآك له غنىً / ولا آيساً مَن أنتَ ما عاش ذخره
فشكراً لأيديك الَّتي قد تتابعت / إليَّ بما يستوجب الحمد شكره
ولو نظم الجوزاء فيك لما وفى / بها نظمه المُثني عليك ونثره
وما يملأ الأقطار إلاَّ ثناؤه / ويعذُب إلاَّ في مديحك شعره
أسرَّكَ من بادٍ لعَيْنَيْك حاضرِ
أسرَّكَ من بادٍ لعَيْنَيْك حاضرِ / طُروقُ خيال من أُميمَة زائرِ
سرى ليبلّ المستهام غليله / ويشهدُ ما بين الحشا والضمائر
وإنْ كانَ لم يغن الخيال ولم يكنْ / ليشفي جوًى في الحبِّ من وصل هاجر
سَلا من سَلا قبلي وما كنتُ سالياً / وعيشك ما مرَّ السُّلُوُّ بخاطري
وهيهات أن أسلو عن المجد بالهوى / وأصبو إلى غير العُلى والمفاخر
وأقتحم الأمر المهول وما العُلى / بغير العوالي والسُّيوف البواتر
ألا ثكلت أُمُّ الجبان وليدها / ولا قررت منه بعين وناظر
إذا كشف عن ساقها الحرب في الوغى / ودارت على أبطالها بالدوائر
فنَلْ ما تَمنَّى عند مشتجر القنا / فَنَيْلُ الأَماني بالقنا المتشاجر
وخاطرْ بنفسٍ لا أبا لك حرَّةٍ / فما يبلُغ الآمالَ غيرُ المخاطر
كما بلغا في المجد أبناءُ راشدٍ / مكان الدراري والنُّجوم الزَّواهر
فمن يطلبُ العلياءَ فليطليَنّها / برأفةِ منصورٍ وسطوة ناصر
هما ما هما في الرجال سواهما / إذا عُدَّتِ الأَشراف بين العشائر
رجالُ المنايا إذ يشبُّ ضرامها / بداهيةٍ دهياء ترمي بثائر
وهم مُورِدوها والسُّيوف مناهل / مواردَ حتف ما لها من مصادر
وإنَّ بني السّعدون بالجود والنَّدى / لأشبَهُ شيءٍ بالبحور الزَّواخر
فما وَلَدَتْ أُمُّ المعالي لهم أخاً / وقد خابَ من يرجو نتاج العواقر
أرى النَّاس إلاَّ آل سعيدون أُمَّةً / تُعَدُّ من الأَحياء موتى المقابر
أباحوا نداهم للعُفاة وحرَّموا / على جارهم للدهر سطوة جائر
لقد أُشْرِبَتْ حُبّ المعالي صدورهم / هنيًّا مريًّا غير داءٍ مخامر
وإنِّي متى عرَّضتُ يوماً بمدحهم / وأوْرَدْتُ ما أوْرَدْتُهُ من خواطري
إذا قلتُ قولاً كنتُ أصدق قائل / وإنْ قلتُ شعراً كنتُ أشعر شاعر
ولو علم السُّلطان إقدامَ ناصر / لما استنصر السُّلطان إلاَّ بناصر
همامٌ أباد المفسدين ودمَّرَتْ / صوارمه من طلّ باغ وفاجر
وقلَّم أظفار الخطوب فلم تَصُلْ / بأنياب أحداث ولا بأَظافر
فليس ببدعٍ أن تراه لدى الوغى / بأشجع من ليث بخفَّان خادر
يسافرُ عنه الصيت شرقاً ومغرباً / مقيمٌ على الإِحسان غير مسافر
يحدِّثُ راويه عن البأس والندى / ويأتيك من أخباره بالنوادر
وما نامَ عن قوم تكفَّل حفظها / وقد باتَ يرعاها بأعين ساهر
إذا جَرَّدَتْ يُمناه عضباً يمانياً / كساه نجيعاً من نجيع الخناجر
وإنْ كَتَبَتْ أيديه في الجود حُرِّرَتْ / بياض العطايا من سواد المحابر
نظمتَ أُمور النَّاس علماً وحكمةً / فمن ناظم فيك الثناء وناثر
ودبَّرْتَ إكسير الرِّياسة والعُلى / بما لا يفي يوماً به علم جابر
وقُمتَ مقاماً يخطبُ النَّاس منذراً / ويُعْلِنُ من إرشاده بالبشائر
لئنْ خطبتْ أسيافك البيض خطبةً / فهامُ الأَعادي عندها كالمنابر
ويا رُبَّ قوم طاولتك فقصَّرتْ / وما كانَ منك الباع عنهم بقاصر
وجاءَتك بالمكر الَّذي شَقِيَتْ به / فما رَجَعَتْ إلاَّ بصفقة خاسر
وأرغمت آناف الطغاة فأصْبَحَتْ / تصعِّر ممَّا أبْصَرَتْ خدّ صاغر
ثَبَتَّ ثباتَ الرَّاسيات لحربهم / وحَلَّقتَ يومَ المفاخر تحليق طائر
أذقْتَهُم البأسَ عقوبةً / ويا طالما أنذرتهم بالزواجر
وما خُلِقَ الإِحسان إلاَّ لصالحٍ / ولا خُلق الصَّمصام إلاَّ لفاجر
عليك بِوُدّ الأَقربين وإنْ أتَتْ / بغير الَّذي تهوي فليس بضائر
وأحسِنْ إليهم ما استطعت فإنَّما / تشاهدُ بالإِحسان صفو الضمائر
لعمرك إنْ ألَّفْتَ بين قلوبهم / ظفِرت من الدُّنيا بأسنى الذخائر
فما أَفْلَحَتْ بين الأنام قبيلةٌ / إذا ابتليت يوماً بداء الضرائر
وإنَّك تعفو عن كثيرٍ وهكذا / وعيشك قد كانت صفات الأَكابر
فما أنتَ إلاَّ كابرٌ وابن كابرٍ / وما أنتَ إلاَّ طاهرٌ وابن طاهر
يميناً بربِّ البيت والركن والصَّفا / ومن حَلَّ في أكتاف تلك المشاعر
لأنتم بنو السعدون في كلِّ موطنٍ / أكارم مذ كنتم كرام العناصر
عليكم ثنائي حيثُ كنت وطالما / ملأت بأشعاري بطون الدفاتر
أزيد لكم شكراً وأزداد نعمة / وما ازدادت النعماء إلاَّ لشاكر
أقلِّدكم منِّي الثناء وإنَّه / قليلٌ ولو قلَّدتُكُمْ بالجواهر
أدارَ على النّدمان كأسَ عقارِهِ
أدارَ على النّدمان كأسَ عقارِهِ / وحَيَّى بوَرْدِ الخَدِّ من جُلّنارِهِ
وفي طرفه للسكر ما في يمينه / فكلتاهما من خمرِهِ واختماره
وماسَ فمالَ البان إذ ذاكَ غَيْرَةً / عليه وأزرى فيه عند ازوراره
على أنَّه من روضة الحسن جنَّةً / ولكنَّه ما حفَّها بالمكاره
وقد نسجت أيدي الرَّبيع ملابساً / مُفَوَّقةً من ورده وبهاره
وسالَ لجين الماء فوقَ زمرّد / يحلّيه من نوّاره بنضاره
وأَصبَحَ مخضرًّا من النَّبت شارب / يروق ويزهو بهجة باصفراره
وقد رَقَصَتْ تلك الغصون تطرّباً / لبُلْبُلِه الشَّادي وصوت هزاره
تألَّفَ ذاك الشكل بين اختلافه / وأبْدَعَ في إحسانه وابتكاره
فهذا يَسُرُّ الناظرين اصفراره / وهذا زها مخضرُّه باحمراره
وكم راح يغنيني عن الزهر أغيدٌ / بنرجس عينيه وآس عذاره
عَصَيْتُ عذولي في هواه ولائمي / وما زلتُ في طوع الهوى واختياره
أطال بطول القدّ في الحبِّ حَسرتي / وحيَّرني في خصره واختصاره
ولله مخضرّ العذار عشقته / وحمر المنايا السُّود عند اخضراره
أُجادلُ عُذَّالي على السخط والرضا / وإنِّي لراضٍ بالهوى غير كاره
يقولُ الهوى العذريّ في مثل حبِّه / إذا لم تُطِقْ هجر الحبيب فداره
وليلٍ كيومِ النَّقْع أسْوَدَ فاحمٍ / نَخُوض بكاسات الطّلا في غماره
أَغَرْنا على اللَّذَّات ما ذكرت لنا / وأَبْعَدَ كلٌّ عندها في مغاره
وقد زارَ من أهوى على غير موعدٍ / فيا قُربَ منآه وبعد مزاره
فآنسني في وَصْله بعد هجره / وقد آلف المشتاق بعد نفاره
وما زال حتَّى صوَّب النَّجم وانطوى / رداءُ ظلام اللَّيل بعد انتشاره
ولاحتْ أسارير الصَّباح وبشَرَتْ / بأنَّ الدُّجى قد حانَ حين بواره
ولم يبقَ من أبناء حام بقيَّة / فما شقَّ عن حامٍ ولا عن غباره
يدير علينا كأسَ راح رويَّة / تجرِّدُ من يُروى بها من وقاره
تخبرنا عن نار كسرى لعهده / وقد بَرَزَتْ في طوقه وسواره
فما نزلت والهمّ يوماً بمنزلٍ / وما أقْبَلَتْ إلاَّ لأجل فراره
وقلنا له هاتِ الصَّبوح فكلُّنا / يُريدُ شفاءً بالطّلا من خماره
ونحن بروض رقَّ فيه نسيمه / وجرَّ على الأَنفاس فضل إزاره
وأهدت إلى الأَرواح أرواحها الصبا / أريج خزاماه وطيب عراره
وأنعمُ عيشٍ ما حَظِيتُ برغده / وكنتُ لعبد الله ضيفاً بداره
أَمِنتُ طروق الهمِّ من كلِّ وجهةٍ / إذا كنتُ يوماً نازلاً في جواره
أقرُّ به عيناً وأَشرح خاطراً / وأشرك شكر الروض وبل قطاره
فمن فضله أنِّي أبوء بفضله / وأَفخر ما بين الورى بافتخاره
ولا خير فيمن لا يؤمَّل نفعه / ولا يتَّقى من بأسه وضراره
ومنذُ رأيتُ اليُمن طوعَ يَمينه / وَجَدْتُ يَساري حاصلاً في يساره
وقيَّدني منه رقيقُ جميله / فَلَسْتَ تراني مطلقاً من إساره
أبَرَّتْ به في الأَنجبين ذخيرة / وحسبُك ما كانَ الغنى بادِّخاره
أُنزِّه طرفي في محاسن وجهه / وإنْ غابَ عنِّي لم أزلْ بانتظاره
وإنِّي لأهواهُ على القرب والنوى / وأطربُ في أَخباره وادِّكاره
جَنَيْتُ به غرس المودَّة يانعاً / وكلّ جميل يجتنى من ثماره
سريع إلى الفعل الجميل مبادر / إلى الخير في إقباله وبداره
رعى الله من يرعى من الخلّ عهده / وأَدَّى له ما ينبغي لذماره
إذا دارَ في زهر العُلى فلك العُلى / فآل زهير الصّيد قطب مداره
صناديدُ يشتارون من ضَرب العُلى / وشوك القنا الخطيّ دون اشتياره
لقد عرف المعروف من قبلها بهم / وشيد بفضل الله عالي مناره
وهل تجحد الحسَّاد آيةَ مجدهم / وقد طَلَعت في الكونِ شمس نهاره
بهم كلّ مقدام على الرَّوع فاتك / بسطوته في جنده واقتداره
ويفترُّ في وجه المطالب ضاحكاً / ولا الأُقحوان الغضّ عند افتراره
إذا استنصر الصَّمصام أيَّد حزبه / وقام اليماني قائماً بانتصاره
إذا قيل رمح كانَ حدّ سنانه / وإنْ قيل عَضبٌ كانَ حدّ غراره
وإنْ عُدَّ كُبَّار الأنام فإنَّما / أصاغرهم معدودةٌ من كباره
هم خيرُ من لا يَبرح الخيرُ فيهم / وما كلُّ من ألفَيْتَه من خياره
تَضَوَّعَ مسكيّ الشذا رِدائه / بعنصره الزَّاكي وطيب نجاره
فهم أبحرُ الجدوى نقيض ولم تَغِضْ / فكم وارد عذب النَّدى من بحاره
يهون عليه المال إنْ عزَّ أو غلا / وينظر أسناه بعين احتقاره
صفا مثل صفو الرَّاح لَذَّتْ لشارب / ودارت كما شاءَ الهوى في دياره
فلا زالت الأَفراح حشوَ ردائه / ولا بَرِحَتْ عن بُرده وشعاره
تَوَلَّتْ من الظَّلماء تلكَ الدياجرُ
تَوَلَّتْ من الظَّلماء تلكَ الدياجرُ / وشاقَكَ طيفٌ من أميمةَ زائرُ
سرى حيث لا واشٍ هناك يصدّه / ولا لَمَحتْه من رقيب نواظر
ووافى على بُعد المزار فليته / أقام وقد آوَتْه تلك المحاجر
يبلُّ غليل الشَّوق من ذي صبابة / يذكّره المنسيَّ في الحبّ ذاكر
تذكّرت فيما بعد ذلك نائياً / فلا هو بالداني ولا أنا صابر
فيا ليت شعري هل يعود لي الصبا / وتألف هاتيك الظباء النوافر
فأغدو إلى ما كنت أغدو وللهوى / على برحاء الوجد عين وناظر
فلله عهدٌ بالصبابة مرّ بي / وما فتكت أحداقهن الجآذر
أعاذلتي والعتب بيني وبينها / رويدك فالأنصاف لو كانَ عاذر
لبست الضنى حتَّى أبادني الضنى / وخامَرَني في الحبّ داءٌ مخامر
وحسبُك أنِّي فيك يا ميٌّ وامقٌ / وأنِّي امرؤٌ مما يريبك طاهر
وهل تَعْلَقُ الفحشاء من ذي صبابة / وقد كَرُمَتْ نفسٌ وعفَّت مآزر
زكوتُ فما ألمَمْتُ يوماً بريبة / ويزكو الفتى من حيث تزكو العناصر
تطالبني نفسي بما تستحقُّه / وإن أجْحفت فيها الجدود العواثر
تحاول مجداً في المعالي ورفعة / فيرجى لها نيل وتخشى بوادر
فأكرمتُها أن صُنتُها عن دنيّة / وإنِّي بها في الأنجبين أفاخر
أنوء بأعباء المروءة حاملاً / من الهمّ ما لا تستطيع الأباعر
وأزداد طيباً في الخطوب كأنّني / أنا المندليّ الرطب وهي مجامر
فما ساءني فقرٌ ولا سرّني غِنىً / وعرضي لم يُكْلَمْ إذا هو وافر
سواءٌ لديَّ الدهر أحسنَ أم أسا / وما ضائري من حادث الدهر ضائر
فمن عزماتي للهموم معاذر / ومن كلماتي للنجوم ضرائر
ولي في بلاد الله شرقاً ومغرباً / نوادر من حُرِّ الكلام سوائر
شواردها حلي الملوك وصوغها / من اللفظ إلاَّ أنَّهنَّ جواهر
تحضّ على الذكر الحميد بفعله / وفيها لأرباب العقول بصائر
إذا اختَبَرتْ كُنْهَ الرجال بعلمها / أفادَتْك عِلماً والرجال مخابر
سقى الله حيًّا فيه أبناءُ راشد / سمامُ الأعادي والسيوف البواتر
ومنزلة بين الفرات ودجلة / إذا لم يكن فيها المشير فناصر
إذا نزلوا الأرض المحيلة أخْصَبتْ / وجادت عليها المرسلات المواطر
صوارمهم نارٌ وأمَّا أكفُّهُم / فأبْحُرُ جودٍ بالنوال زواخر
يروقك في داجي الحوادث منهمُ / وجوهٌ عن البدر المنير سوافر
فهذا غمام بالمكارم ماطر / وهذا حسام للمعاند قاهر
يقي من سموم الحادثات بنفسه / إذا لَفَحتْها بالسموم الهواجر
وأرضاً حَماها ناصر بحسامه / حمىً لم يطأه للنوائب حافر
رحى الحرب إنْ دارت رحاها فإنَّه / هو القطب ما دارت عليه الدوائر
ومتَّخذٍ بيض الأَسنَّةِ والظبا / موارد تستحلى لديها المرائر
وحسبك يوم الرَّوع من متقدم / إذا أحجمت فيه الأُسود القساور
يُريعُ ولا يرتاع يوماً لحادثٍ / ومن ذا يريعُ اللَّيثَ واللَّيث خادر
فيا مُورِدَ الفرسان في حومة الوغى / مواردَ حتفٍ ما لهنَّ مصادر
تطلَّبتها حتَّى ظفرت بنيلها / ولا مطلبٌ إلاَّ العُلى والمفاخر
وراثة آباءٍ كرامٍ تقدَّموا / أوائلهم أربابها والأواخر
تطاولت حتى نلت أعلى مقامها / بطول يدٍ طولى وما أنت قاصر
ومن ذا الَّذي يدنو إليك مبارزاً / وأنتَ على أنْ تصرع اللَّيث قادر
بوجهك يا سَعْدَ البلاد تطلَّعَتْ / مطالع فيها للبعاد بشائر
وما شقيت من آل بيتك عُصبَةٌ / وأنْتَ بهم في العدل ناهٍ وآمر
يُؤَمِّلهم من جود كفِّك نائل / ويزجرهم من حد سيفك زاجر
تهابك في أقصى البلاد وإنْ نأتْ / قبائل شتَّى لم ترع وعشائر
تنام عن الدُّنيا وما أنتَ نائم / وحزمك يقظانٌ وسعدك ساهر
تخافك أعداءٌ كأنَّكَ بينَهُم / وما غِبْتَ عن قوم وبأسك حاضر
إذا قيلَ في الهيجاءِ هل من مبارزٍ / فما عُقِدَتْ إلاَّ عليك الخناصر
فإنَّ بني أهليك في كلِّ موطنٍ / بدور المعالي والنجوم الزَّواهر
وإنَّ بني أهليك لله درّهم / أَكابر أَقوام نمتهم أكابر
فلا غَرْوَ أن أرتاحَ يوماً بمدحكم / ويسمحَ لي في نظمي الشعر خاطر
فإنِّي بكم أبناء راشد شاعر / وإنِّي لكم ما دُمْتُ حيًّا لشاكر
فلا راعت الأَيَّام قوماً ولا خَلَتْ / ديارٌ بها من آلِ بيتك عامر
عسى نظرةٌ من ناصرٍ والتفاتَةٌ
عسى نظرةٌ من ناصرٍ والتفاتَةٌ / تُخَفِّفُ من همِّي وتَكشِفُ من ضُرِّي
فعَهْدي به برٌّ رؤوفٌ وراحِمٌ / تَعاهَدَني من قَبلُ بالعُسْرِ واليُسْرِ
لفُقْدانِ عبد الواحد الدَّمع قد جرى
لفُقْدانِ عبد الواحد الدَّمع قد جرى / وأَجرى نجيعاً لمدامع أحمرا
تذكَّرته من بعد حول فأَذْرَفَتْ / عليه جفوني حسرةً وتذكّرا
فكفكفْتُ من عيني بوادر عبرة / وما خِلْتُها لولاه أنْ تتحدَّرا
أَقامَ عليَّ العيدُ في النَّحر مأتماً / وأَظهرَ ما قد كانَ في القلبِ مضمرا
لئنْ غيَّبوهُ في التُّراب وأَظلَمَتْ / معالم كانت تفضح الصبح مسفرا
فما أَغمدوا في الترب إلاَّ مهنَّداً / ولا حملوا في النَّعش إلاَّ غضنفرا
أُصِبنا وأيم الله كلّ مصيبة / بأَروع أبكى الأَجنبين ولا مِرا
فيا لك من رزءٍ أصاب وحادث / ألمَّ وخطب في الجلاميد أثَّرا
تفقَّدْتُ منه وابل القطر ممطراً / وفارقتُ منه طلعة البدر نيّرا
وما كانَ أبهى منه في النَّاس منظراً / ولا كانَ أزكى منه في النَّاس مخبرا
أفي كلّ يومٍ للمنايا رزيَّةٌ / تكاد لها الأَكبادُ أن تتفطَّرا
تهيِّجُ أحزاناً وتبعثُ زفرةً / وتُرسلُ في فقد الأَحبَّة منذرا
تكدّر أخوان الصَّفا في انبعاثها / وأيّ صفاءٍ لامرئٍ ما تكدَّرا
أجلُّ مصاب الدَّهر فَقْدُكَ ماجداً / ودفْنُكَ أجداث الأَكارم في الثَّرى
وقولكَ مات الأَكرمون فلم نَجِدْ / زعيماً إذا ما أورد الأَمر أصدرا
وما حيلة الإِنسان فيما ينوبه / إذا كانَ أمر الله فيه مقدَّرا
وهبكَ اتَّقيتَ الرِّزءَ حيث أريته / فكيف بمن يأتيك من حيث لا ترى
ونحنُ مع المقدور نجري إلى مدًى / وليس لنا في الأَمر أن نتخيَّرا
إذا لم تُمَتَّع بالبقاء حياتنا / فلا خيرَ في هذي الحياة الَّتي نرى
على ذاهبٍ منَّا يرغم أُنوفِنا / نُعالِجُ حُزْناً أو نموت فنُعذرا
وما أنا بالناسي صنائعه الَّتي / تذكّرنيه كلّ آنٍ تذكّرا
فأُثني عليه الخير حيًّا وميّتاً / وأشكره ما دمتُ حيًّا مذكرا
وإنِّي متى ضَوَّعْتُ طيب ثنائه / فتَقْتُ به مِسكاً وأَشممْتُ عنبرا
تبارك من أنشاكَ يا ابن مبارك / جميلاً من المعروف لن يتنكَّرا
وما زلت حتَّى اختاركَ الله طاهراً / فكُنتَ ماء المُزن عذباً مطهَّرا
إلى رحمة الرَّحمن والفوز بالرّضا / سبَقت وما أسبقت فينا التَّصبّرا
وما كانَ بالصَّبرِ الجميل تمسُّكي / ألا إنَّ ذاك الصَّبر منفصم العُرى
كفى المرء في الأَيَّام موعظةً بها / وتبصرة فيها لمن قد تبصَّرا
ولا بدَّ أنْ تلقى المنون نفوسَنا / ولو أنَّنا عشْنا زماناً وأَعصرا
وإنَّ اللَّيالي لم تزلْ بمرورها / تسلُّ علينا بالأهلَّة خنجرا
أتُطْمِعُنا آمالُنا ببقائنا / بكلّ حديثٍ ما هنالك مفترى
وإنَّ المنايا لا أبا لك لم تَدَعْ / من النَّاس سرباً ما أُريع وأذعرا
أغارت على الأَقيال من آل حميرٍ / وجاءتْ على كسرى الملوك وقيصرا
فما منعت عنها حصون منيعة / ولا كشفتْ من فادح الخطب ما عرا
لئنْ غابَ عن أبصارنا بوفاتِه / فما زالَ في الأَفكار منَّا مفوَّرا
فقدناك فقدان الزُّلال على الظّما / فلا منهل إلاَّ ومورده جرى
ألا في سبيل الله ما كنت صانعاً / من البرّ والمعروف في سائر الورى
وكنتَ لوجه الله تشبعُ جائعاً / وتُطعم مسكيناً وتكسو لمن عرى
وإنِّي لأستسقي لك الله وابلاً / متى استمطر الصَّادي عزاليه أمطرا
يصوب على قبر يضمّك لَحْدُهُ / ويَسْطَعُ مسكاً من أريجك أذفرا
سقاك الحيا المنهلُّ كلّ عشيَّةٍ / وروَّاك من قطر الغمام مبكرا
فقد كنتَ للظمآن أعذبَ منهلٍ / وقد كنتَ غيثاً بالمكارم ممطرا
وقد كانَ فيك الشّعر ينفُقُ سوقه / لديك ويبتاع الثناء ويشترا
وقد ساءني أن أصبح الفضل كاسداً / وأصبح مغنى الجود بعدك مقفرا
وقد خمدتْ نار القِرى دون طارق / فلا جود للجدوى ولا نار للقرى
وغُدر ساري الحمد في كلِّ مهمهٍ / من الأرض مصروف العنان عن السّرى
فلا أُخْصِبَتْ أرض الخصيب ولا زهى / بها الرّبع مأنوساً ولا الرَّوض مزهرا
لقد كانَ صُبحي من جبينك واضحاً / وقد كانَ ليلي من محيَّاك مقمرا
فيا ليتَ شعري والحوادث جمَّةٌ / ويا ليتني أدري ومن ذا الَّذي درى
محاسن ذاك العصر كيف تبَدَّلتْ / ورونق ذاك الحُسن كيفَ تغيَّرا
وكانتْ لك الأَيدي طوالاً إلى العُلى / تناول مجداً في المعالي ومفخرا
فكم راغب فيها وكم طامع بها / أمدَّ لها الباعَ الطويلَ فقصَّرا
ومن مكرمات تملكُ الحرَّ رقَّةً / تطوّق من أيديك يداً ومنحرا
ومن حسنات تخلق الدهر جدَّةً / كتبتُ بها في جبهته المجد أسطرا
وكم مُعسرٍ بدَّلت بالعُسْر يُسْرَه / وما زلت للفعل الجميل ميسّرا
ولو كانت الأَنصار تُنجي من الرَّدى / نصرناكَ إذ وافاك نصراً مؤزّرا
فكم مقلةٍ أذْرَتْ عليك دموعها / ومُهجة صادٍ أوشكَتْ أن تسعّرا
وكم كبدٍ حرَّى يحرّقها الأَسى / تكادُ على ذكراك أنْ تتَفَطَّرا
وليلة تُذكيني بذكرك زفرةً / حرامٌ على عيني بها سنة الكرى
عليك سلام الله ما حجَّ محرمٌ / وهلَّلَ في تلك البقاع وكبَّرا
بوَخْزِ القنا والمرهفاتِ البواترِ
بوَخْزِ القنا والمرهفاتِ البواترِ / بلوغُ المعالي واقتناءُ المفاخر
وإنَّ الفتى من لا يزال بنفسه / يخوض غمار الموت غير محاذر
يشيد له ما عاش مجداً مؤثلاً / ويبقي له في الفخر ذاكراً لذاكر
إذا كنتَ ممَّنْ عظَّم الله شأنه / فشمِّر إلى الأَمر العظيم وبادر
وإنِّي امرؤ يأبى الهوان فلم يَدِن / إلى حكم دهر يا أُميمة جائر
مضت مثل ماضي الشفرتين عزيمتي / وحلَّق في جوّ الأُبوَّة طائري
لئن أنكر الغمر الحسود فضائلي / وأصبحَ بالمعروف أَوَّلَ كافر
فتلك برغم الحاسدين شواردي / يسير بها السَّاري وتلك نوادري
فما عُرِفَتْ منِّي مدى الدهر ريبةٌ / ولا مَرَّ ما راب الرِّجال بخاطري
وما زلتُ مذْ شَدَّتْ يدي عقْد مئزري / ولا يتَّقي من قد صَحِبتُ بوادري
وكم مشمخرِّ أنفُه بغروره / يرى نفسه في الجهل جمَّ المآثر
جَدَعْتُ بحول الله مارنَ أَنفِهِ / وأوطأْتُ نَعلي منه هامة صاغر
ألا ثكلت أُمُّ الجبان وليدها / وفازت بما حازته أُمُّ المخاطر
أَحِنُّ إلى يومٍ عبوسٍ عصبصبٍ / تتوقُ له نفسي حنين الأَباعر
إلى موقفٍ بين الأَسنَّة والظبا / ومنزلةٍ بين القنا المتشاجر
يكشِّر فيه الموت عن حدّ نابه / وتغدو المنايا داميات الأَظافر
ترفعت عن قومٍ إذا ما خبرتهم / وَجَدْتُ كباراً في صفات الأَصاغر
أخو الحَزم مَن لم يملك الحرصُ رقَّه / ولا ينتج الآمال من رحم عاقر
شديدٌ على حرب الزَّمان وسلْمِه / جريءٌ على الأَخطار غير محاذر
خُلِقْتُ صبوراً في الأُمور ولم أكنْ / على الضَّيم في دار الهوان بصابر
إذا ما رأيت الحيَّ بالذّلّ عيشه / فأَولى بذاك الحيّ أهل المقابر
ألا إنَّ عُمر المرءِ ما عاش طوله / كطيف خيالٍ أو كزورة زائر
تمرُّ اللَّيالي يا سعاد وتنقضي / وتمضي بباقٍ حيث كانَ وبائر
فكيف يعاني الحرُّ ما لا يسرُّه / ويأْمنُ من ريب الزَّمان بغادر
أَزيد على رزء الحوادث قسوة / وإنَّ معاناتي بها غير ضائر
كما فاح بالطِّيب الأريج وضوّعت / شذا المندليَّ الرّطبَ نارُ المجامر
أرانا سليمانُ الزهيرُ وقومُه / رجال المنايا فتك أروع ظافر
يريك بيوم الجود نعمةَ مُنعمٍ / ويوم الوغى واليأس قدرة قادر
يسير مواليه بعزٍّ وسؤدد / ويرجع شاتيه بصفقة خاسر
لقد ظفِرَتْ آل الزهير بشيخها / بأَشجع من ليث بخفَّان خادر
يشقُّ إلى نيل المعالي غبارها / ومن دونها إذ ذاك شقّ المرائر
فذا سيفه الماضي فهل من مبارزٍ / وذا فخره العالي فهل من مفاخر
ففي الحربِ إنْ دارتْ رحاها وأصبحَتْ / تدور على فرسانها بالدوائر
تحفّ به من آل نجد عصابة / شبيهة ما تأتي به بالقساور
وكم برز الأَعداء في حومة الوغى / وثغر الرَّدى يفترّ عن ناب كاشر
فأوردها بالمشرفيَّة والقنا / موارد حتف ما لها من مصادر
وكم أنهلَ الواردَ منهلَ جودِهِ / فَمِنْ واردٍ تلك الأَكُفّ وصادر
ألا إنَّ أبناء الزهير بأسرهم / أَوائلهم متلُوَّةٌ بالأَواخر
سلِ الحرب عنهم والصوارم والقنا / وما كانَ منهم في العصور الغوابر
فهم شيَّدوها في صدورهم علًى / وهم أُورِثوها كابراً بعد كابر
كابرُ يعطون الرئاسة حقَّها / ومعروفهم يُسدى لبَرٍّ وفاجر
وما برحت في كلّ مكرمةٍ لهم / صدور المعالي في بطون الدفاتر
يميناً بربّ البيت والرّكن والصَّفا / ومن فاز في تعظيم تلك المشاعر
بأنَّ سليمان الزهير محلُّه / محلٌّ سما فوق النجوم الزّواهر
يقرّ لعيني أن ترى منه طلعةً / ترى العين فيها قرَّةً للنواظر
فأَسْمَعُ منه ما يشنّف مسمعي / وأنظرُ فيه ما يروق لناظري
كريم أكاسير الغنى بالتفاته / فهل كانَ إلاَّ وارثاً علم جابر
يصحّ مزاج المجد في رأي حاذق / طبيب بأدواء الرئاسة قاهر
يمرُّ بنادي الأَكرمين ثناؤه / كما مرَّ نجديُّ النَّسيم بعاطر
وقد نطقتْ في مدحه ألسُنُ الورى / فمن ناظمٍ فيه الثناء وناثر
أَحامي الحمى بالبأس ممَّا ينوبه / وصنديدها المعروف بين العشائر
إليك من الدَّاعي لك الله مدحة / مقدَّمةً من حامد لك شاكر
فلا زلت فيزرق الأَسنَّة تحتمي / وتحمي بحدّ البيض سود الغدائر
سَعَيْت لهذا المُلك بالهمَّة الكبرى
سَعَيْت لهذا المُلك بالهمَّة الكبرى / فأدركتَ أَفنائها الدَّولة الغرَّا
وسرتَ على نُبل الأَسَنَّة للعلى / ومن رامَ إدراك العُلى ركبَ الوعرا
لنيل المنى جُزتَ المسير وإنَّما / يخوض عباب البحر من يطلب الدّرَّا
إذا عارضت دون المرام بحيرةٍ / من الحتف صيّرت الحديد لها جسرا
وإنْ رقمت فوق الأَنام حنادسٌ / جَلَيْتَ من الرَّأي السَّديد لها فجرا
قدِمتَ قدوم اللَّيث غابة شبله / ونزّهت هذا الملك بالنيَّة الخضرا
درى الملك يا مولايَ أَنْتَ فؤاده / فضمَّك منه حين أسكنك الصَّدرا
رقيتَ على كرسيّه فأَزَنْتَهُ / فأَصْبَحْتَ كالتوريد في وجنة العَذرا
فما هذه الفيحاء إلاَّ قلادة / ونحرك من كلِّ النّحور بها أحرى
وما هي إلاَّ كاعبٌ قد تستَّرتْ / قد اتَّخَذَتْ خَيْسَ الأُسُود لها خدرا
فجوزاء أُفقٍ بالدَّراري تمنْطَقَتْ / مخدّمة تَستخدم البيض والسُّمرا
لقد مطلت بالوعد عصراً وعاودت / فجادت بوصلٍ بعدما مطلت دهرا
تزَوَّجْتَها أَيْماً عجوزاً مُسِنَّةً / فأَضْحَتْ لديك الآن كاعبةً بكرا
فحكتَ لها ثوب المفاخر بالنَّدى / وألبَستها من بأسك الحُلَّةَ الخضرا
وهيَّأْتَ من نقد العوالي صداقها / وأَنْقَدْتَ من بيض الحديد لها مهرا
قَدِمتَ لها من بعد كشف حجابها / فكنت لعوراء الزَّمان لها سترا
فعُدت إليها بالتقرُّب بعدما / علاها قنوطٌ أَنْ تعود لها أُخرى
تدانيتَ منها كالهلال ولم تزلْ / تَنَقَّلُ حتَّى عُدْتَ في أُفقها بدرا
وَوَدَّعْتَها مكروبة اللُّبّ والحشا / وأُبْتَ وأَبْدَتْ من مسرَّتها البشرى
فإنْ طاوَعَتْكَ اليوم جهراً وصالها / فقد كانَ هذا الأَمر في نفسها سرَّا
فكم مراً آنٌ وهي تكتم شوقها / إليكَ وتُحْيي ليلَها كلَّه سرَّا
لأمر القضا كادَت تفرّ إذا رأت / لوصلك وقتاً ولم تجد دونه عذرا
لقد أحْدَقَتْ بعد العمى بك عينها / وأحدَثْتَ في أجفانها الفتك والسّحرا
وحَلَّيت في سلك العزائم جيدها / ووشَّحتَ منها في صنائعك الخصرا
وزيَّنتَها حتَّى حكى التّبر تربها / ولو لم تكن في أرضها أصبَحتْ صفرا
فصِرْتَ لها لمَّا حللتَ بصدرها / كيوسُفَ إذ ولاّه خالقُه مصرا
فلم تَجْزِ أهلَ المكر يوماً بمكرهم / ولم تصطنع غدراً لِمَنْ صَنَع الغدرا
صَفَحتَ عن الجانين إلاَّ أقلّهم / فأوسَعْتَهم عَفواً وأثْقَلْتَهم شكرا
قَدِمْتَ فحيَّاك المهيمنُ بندرا
قَدِمْتَ فحيَّاك المهيمنُ بندرا / لترجعَ مسروراً وتمضي مُظفَّرا
وأقبلتَ بالعيد السَّعيد مبجَّلاً / فهلَّل هذا العيدُ فيك وكبَّرا
بشهرٍ محيَّاك استهلَّ هلالُهُ / فقُلنا هلالُ العيد لاح مبشّرا
فلا ليلَ إلاَّ فيكَ أَصبحَ مُقمِراً / ولا صُبحَ إلاَّ في جبينك أسفرا
وقلتُ لنفسي والأَماني لم تزل / تخيّل لي إمكان ما قد تعذَّرا
عسى أن أرى من بعد عيسى وبندر / ببندر ما قد كنت في بندر أرى
رعيتُ بهم روض المكارم مزهراً / وأُسْقِيتُ منهم عارض الجود ممطرا
وكانوا على روض المجرَّة أمَّةً / تَفَجَّرَ من أيديهمُ الجود أنهرا
وتلك ديار أورِثوها منيعةً / حَمَوْها ببيض تقطر الموت أحمرا
فكم طائل قد رامهم بخديعةٍ / ولكنَّه ما طال إلاَّ وقصَّرا
وكم قائل لي هَلْ وجدت نظيرهم / فقلتُ له أين الثريَّا من الثرى
ذكرت ومن ينساهم القلب ساعةً / على أنَّني فيهم أَذوب تَذَكّرا
زماناً بهم طلق المحيَّا ومنزلاً / من العزِّ أمسى بالحديد مسوَّرا
تدرّ علينا الخير أخلافها المنى / وكان لنا في الدَّهر أنْ نتخيَّرا
أَلم تنظر الأَيَّام كيف تبَدَّلَتْ / بأَحوالها والدَّهر كيف تغيَّرا
وكانتْ أُمورٌ ما هنالك بعدها / يكادُ لها الجلمود أنْ يتفطَّرا
وقد كانَ ذاك المنهل العذب صافياً / بهم قبل هذا اليوم حتَّى تكدَّرا
وقامت لها ساق على سوق فتنة / تباع بها الأَرواح بخساً وتشترى
إلى أنْ تلافيتَ العشيرة فارعَوَتْ / وأصبح فيها آمراً ومُؤَمَّرا
وأَخْمَدْتَ تلكَ النَّار بعدَ وقودها / وقَد أَوْشَكَتْ لولاك أَنْ تتسعَّرا
جمعتَهُم بعد الشتات وسُسْتَهم / وأَقْصَيْتَ منهم من عَصى وتكبَّرا
وما راح يستغني عن الرأي عسكرٌ / وكم دمّر التدبير والرأي عسكرا
وما كانَ أقواها لديك قبيلة / لو انتصرت للبأس نصراً مؤزَّرا
إذا الحرُّ ألفى الضَّيمَ شرط حياته / رأى الرأي فيها أنْ يموتَ ويقبرا
لقد فازَ من أصبحْتَ في النَّاس شيخَهم / ومن كنتَ فيه هادياً ومدبّرا
دعوتَهُم للخير إذ ذاك دعوةً / كشفتَ بها عنهم من الضُّرِّ ما عرا
سلكتَ سبيلَ الأَوَّلين فلم تَحِدْ / عن الرُّشد أو تُلقى عن الورد مصدرا
سَعَيْتَ إلى المجد الأَثيلِ مُوَفَّقاً / ومَن حَلَّ بالتَّوفيق صَدراً تصدَّرا
أبا مصطفى إنَّا ذكرناكَ بَيْنَنا
أبا مصطفى إنَّا ذكرناكَ بَيْنَنا / فهاجَ بنا شَوْقٌ إليكَ مع الذّكْرِ
وقد جَمَعَتْنا للمسرَّات ساعةٌ / هي العمرُ لا ما مرَرَّ في سالف العصر
ونازَعَنا فيكَ الحديثَ مُعتَّقٌ / ونحنُ بقصر قد أطَلَّ على نهرِ
وقد مدَّ ماءُ النهر من بعد جزره / فيا حسن ذاك المدِّ في ذلك الجزر
بحيث اكْتَسَتْ أشجارُه فتمايَلَتْ / على نغماتِ الطير بالورقِ الخُضر
وقد غَرَّدَتْ من فوقهن حمائمٌ / لها أَنَّةُ المأْلوم من ألَم الهجر
وأطرَبنا في شكر نعماك أخرسٌ / بأَعذَب ما قد قال فيك من الشعر
وعاجَ بنا في كلِّ فنٍّ يجيده / فطوراً إلى نظيمٍ وطوراً إلى نثر
وكان لنا فيما روى عنك نشوةً / من السّكر ما يغني النديم عن الخمر
ورقَّ كما رقَّتْ سلافُ مدامة / تَخَيَّلها الندمان ذوباً من التبر
فلو كنتَ فينا حاضراً وَوَجَدْتَنا / ومن تحتِنا الأَنهار حينئذٍ تجري
لقُلْتَ اغنموها ساعةَ الأُنس واسلموا / على غفلات الدَّهر من نوب الدَّهر
هي البصرة الفيحاءُ لا مصرَ مثلها / وفيها لعمري ما ينوف على مصر
خلا أَنَّني أصْبَحْتُ بينَ وخامَتَيْ / عَناءٍ أُعانيه وآخر في فكري
سقى الله عهداً بالحمى قد تقدَّما
سقى الله عهداً بالحمى قد تقدَّما / وعَيشاً تقضّى ما ألَذَّ وأنعَما
تعاطيتُ فيه الراح تمزج باللمى / وعفراء سكرى المقلتين كأنَّما
سقتها الندامى من سلافة أشعاري /
لَهَوْتُ بها والدهر مستعذب الجنى / ونلتُ كما أهوى بوصلي لها المنى
ولم أنْسَها كالغصن إذ مال وانثنى / تمرُّ مع الأتراب بالخَيف من مِنى
مرورَ المعاني في مفاوز أفكاري /
وبيضٍ عذارى من لويٍّ وغالبِ / كواعبَ أترابٍ فيا للكواعبِ
تَخُطِّينَ في أبهى خُطاً متقاربِ / وعَفِّين آثار الخُطا بذوائبِ
كما قد عَفَتْ في منزل الذلِّ آثاري /
إذا نظَرَتْ سلَّت بألحاظها الظبا / وإن خَطَرت كانت كما خطر القنا
فما نَظَرتْ إلاَّ بأبيض يُنتضى / ولا خَطَرَتْ إلاَّ وتذكّرتُ في الوغى
بهام خطير القدر ميلة خطّاري /
كأنِّي بها ما بينَ أختٍ وضرّةٍ / إليَّ بأسرار الغرام أسَرَّتِ
أضيمَتْ كضَيْمي بين قومي وأُسْرتي / ومن ضَيْمها كادَت تبيحُ طمرَّتي
من الضَّيْم ما أخفَيْتُه تحت أطماري /
أمضَّ هواها في فؤادي وما حوى / سوى حبّها حتَّى أُليم فما ارعوى
وقد سألتْ عمَّا أُلاقي من الجوى / فَرُحْتُ إليها أشتكي مضض الهوى
كما شَكت الأقلام مني إلى الباري /
رَأتْ فَتَياتُ الحيّ عَيني وَوَبْلَها / فأكْثَرْنَ بالتأنيب إذ ذاك عَذْلَها
فَرُحْتُ وقد أجْرَتْ لها العينُ سَيْلَها / وجاراتها راحَتْ مُؤَنِّبة لها
على ما جرى في السفح من مدمعي الجاري /
أهيمُ بمرآها وحسن قوامها / وإنِّي لمعذورٌ بمثل هيامها
وكم ليلةٍ قد بِتُّ جنح ظلامها / يسامرني طول الدجى من غرامها
سميرٌ أُناغي في معانيه سُمّاري /
إذا قَرُبَتْ من ناظري أو تأخَّرَتْ / ففي صورة الشَّمس المنيرة صُوِّرَتْ
متى أسْفَرَتْ عن وجهها أو تَستَّرَتْ / على قربها منِّي إذا هي أسْفَرَتْ
يباعدُ منها الحسنُ ما بين أسفاري /
لها مقلةٌ كالمشرفيِّ شباتُها / لعقيدة صَبري أوهَنَتْ نفثاتُها
إذا ما رَنَتْ أو رُتّلت كلماتها / لرقّةِ سِحْري تنتمي لحظاتُها
وألفاظُها تُعزى لرقَّةِ أشعاري /
ولما رأيتُ الحيَّ والميْتَ واحداً
ولما رأيتُ الحيَّ والميْتَ واحداً / وفَقْد المعالي في وجودِ الأكابرِ
بَكيْتَ على أهل القبور وإنَّما / بكيْتُ السَّجايا الغُرَّ بين المقابر
رَمَيْتَ شهابَ الدِّين في نور فطنةٍ
رَمَيْتَ شهابَ الدِّين في نور فطنةٍ / شياطينَ أكدار يُوَسْوِسْنَ في صَدري
فيا لك من شهم إذا جاءَ كفُّه / تَيقَّنْتُهُ كالغيث يهمي وكالقطر
يدلّ على جود ابن غنام جوده / فوا عجباً للبحر دلّ إلى البحر
على من يرينا الموتَ طوع يمينه / ونقرأ من صَمصامه آية النصر
ويُنقِذُ من والاه مما يسوؤه / كما ينقذ الإسلام من ظلمة الكفر
فلا زِلْتُما يا نَيِّريْ أُفُق العلى / ملاذَ الَّذي يرجو إلى آخر الدهر