المجموع : 12
تذكّرت في الحمراءِ عهد الصبوَّةِ
تذكّرت في الحمراءِ عهد الصبوَّةِ / وما كان فيه من نعيمٍ وبهجةِ
فقلتُ وقد شقَّ الغمامةَ كوكبٌ / سلامٌ على عشرين عاماً تولّت
تولّت ولم أشعر بها كضميمةٍ / على خصرِ ليلى عطّرت خيرَ ليلة
فلم يبقَ إِلا عطرُها وذبولها / ولم يبقَ لي إلا شعوري وصفرتي
سأذكرُ من ليلى لياليَّ والهوى / يمزِّقُ من أثوابِ صبري وعفتي
وما زالَ هذا القلبُ في الحبّ ذائباً / ولكنّه جلدٌ على كلّ شدَّة
أرى الحبَّ قتالاً وأقتل كتمُه / فداوِ بوصلٍ داءَه أو بسلوة
وإلا فقدّم للغرام ضحيةً / وعينُ التي تهوى تضنُّ بدمعة
جميلٌ لئن تعشق بثينةَ تُشِقها / وتَشقَ لأن الحبّ قبرُ الشبيبة
فليسَ لأهلِ العشقِ أمنٌ وراحةٌ / وأمنيّةُ العشّاقِ عندَ المنيّة
نصحتُك فاسمع يا أُخَيَّ فإنني / أرى الدّهرَ نبّاشاً قبورَ الأحِبَّة
يُذَبّلُ أزهارَ الشبابِ بنفحةٍ / ويطفئُ أنوارَ الغرامِ بنفخة
سَلِ الطيرَ هل تبقى لها وُكناتُها / سَلِ الوَرَقَ المنثورَ في كلّ روضة
تُجبكَ ليالي الطيّباتِ قصيرةٌ / كأحلامِها تمضي على حين غفلة
ولكنَّ ليلاتِ الشّقاءِ طويلةٌ / وفيهنَّ تهوي نجمةٌ بعد نجمة
أرى السعدَ وهماً والشقاءَ حقيقةً / فما كان أشقانا بحكم الحقيقة
فكم بسمةٍ تبدو سريعاً وتمّحي / وكم دمعةٍ تكوي الفؤادَ كجمرة
إذا شكرت نفسي حلاوةَ ساعةٍ / شكت بعدها لهفى مرارةَ حجة
هو الحبُّ فيهِ كلُّ ذكرى أليمةٍ / على فقدِ أعلاقِ وأحزانِ وحشة
فنلهبُ أذيالَ الظلامِ بزفرةٍ / ونخرقُ طيّاتِ السكونِ بأنّة
لكِ العزُّ يا دار الحبيبةِ هل لنا / هدوءٌ إذ لم تُسعدينا بزَورة
نذوبُ على الوجه الذي تحجُبينه / ونقنعُ إن عزَّ اللقاءُ بنظرة
ونشتاقُ وصلاً والحياءُ يردّنا / فنرجعُ عن بردِ المياهِ بحرقة
لئن كان في قفر نرىَ الفقرَ جنّةً / فجنَّتنا من بسمةٍ فوقَ وجنة
إذا ما مرَرنا حيثُ مرَّت حبيبةٌ / وحيثُ رأيناها وحيثُ استقرّت
تُنازع هذي النفسُ حتى نخالها / مفارقةَ للجسمِ في كلّ صبوة
ويضعفُ هذا القلبُ حتى نظنَّهُ / تساقطَ منا فلذةً إثر فلذة
ونسمعُ همسَ الطّيفِ في كلّ خلوةٍ / وننشقُ عطرَ الثَّوبِ في كلّ هبّة
كذلكَ حبّي ذقتهُ فأذابني / وسالت على حبر القصائدِ مُهجتي
أنا الكوكبُ السيارُ في ليلةِ النّوى / تُنيرُ سبيلَ التائهين أشعَّتي
أنا البلبلُ الصفّارُ في روضةِ الهوى / تطير قلوبُ العاشقين لصفرتي
أنا العنبرُ الفوَّاحُ في كل مجلسٍ / تُعطِّرُ أثوابَ الحرائرِ نفحتي
أنا العاشق العفّافُ في كلّ خلوةٍ / تركتُ العذارى معجباتٍ بعفتي
أنا المزهرُ الرنّانُ في كفّ مُطربٍ / ملائكةُ الجنّاتِ تشتاقُ رنتي
أنا ما أنا إِلا فؤادٌ معذَّبٌ / ونفسٌ ترى في الموتِ أكبرَ لذَّة
فما للعدى يستقبحونَ محاسني / ولا ذنبَ لي إلا علائي وقدرتي
هجرتُ بلادي في السياحةِ راغباً / وكم فوق بحرِ الرومِ من دمعِ غربة
ولما بدت تلك السواحلُ فجأةً / تفجّرَ شعري من حُبوري ودَهشتي
فحييتُها مع طلعةِ الصّبحِ والهوى / يفيضُ على قلبي وثغري ومُقلتي
فكم شاعرٍ فيها تبسّمَ أو بكى / وقد جاءَها في نزهة أو عبادة
وكم ثم قلباً طارَ حباً وصبوةً / ورأساً غدا يحنى لمجدٍ وعزّة
على بحرِها العمرانُ والنضرُ والغِنى / وقد كملت فيها صنوفُ الحضارة
وما بحرُنا إلا مرائي طلولِنا / كذا الدهرُ يمحو كلَّ حسنٍ بلمسة
فقلتُ ولم أنفكّ للحسنِ عابداً / أُروّي حِماه من دموعي الصفيّة
ألا يا بلادَ العِلم والفنّ والهوى / إِلى شاعر أوحى أرقّ قصيدة
بألطفِ ترنيمٍ وأبهى طبيعةٍ / وأجملِ تمثالٍ وأكملِ صورة
سلامٌ على أهلِ التمدّنِ إنّ لي / بمنظرهم تجديد عزمٍ وقوة
لقد كانتِ الأرواحُ من شعرائهم / لتَمزيقِ أكفانٍ وتنوير ظلمة
لضَربهم انفكّت قيودٌ ثقيلةٌ / وهدَّم سورَ الظلمِ ترديدُ صيحة
وأوطانهم من نارِ شعرهم التَظت / وقد ضَربت بالسيفِ حتى استقلّت
فعادَ إليها مجدُها ونعيمُها / وإنّ المعالي بينَ سيفٍ وراية
ولما رأيتُ الناسَ يبنونُ مجدهم / بكيتُ على آثارنا العربيّة
نما زَهرهم في روضِهم متجدداً / وقد يبست أزهارُنا بعد نضرة
لهم كلَّ يومٍ غزوةٌ وغنيمةٌ / ونحنُ حَيارى بين ذكرى وعبرة
لئن كان في الحريةِ الحلوة الرَّدى / فيا حبذا موتي لتحرير أمتي
بني أمِّ هل من نهضةٍ عربيةٍ / لصيحاتها يهتزُّ ركنُ البرية
فواللهِ لا حريةٌ مُستطابةٌ / إذا لم تكن من قوةٍ أدبية
تصبّاك ما في النجمِ من لمعاتِ
تصبّاك ما في النجمِ من لمعاتِ / وحيّاكَ ما في البَحرِ من هَدَراتِ
فسرتَ تُمنّي النفسَ بالمالِ والعُلى / ولم تدرِ أنّ الدّهرَ ذو غَدَرات
بماذا تُعزّيها إذا عدتَ خائباً / وأنتَ كثيرُ الذّكرِ والسَّفرَات
لئن فاتني ما فاتَ مِثلي مِن المُنى / رَجعتُ ضَحُوكاً منهُ بعد فَوات
وقلتُ لنفسي خفِّفي عَنكِ إنّني / أرى بعدَ طولِ السَّهدِ طولَ سُبات
ليهنئكِ إنَّ الموتَ يُبقيكِ حرةً / ويطرحُ هذا الجسمَ للحَشرات
تكاليفُهُ وهو الحقيرُ كثيرةٌ / فصبراً على مُستوَدعِ الشَّهواتِ
فما هو إلا جيفةٌ لنتانةٍ / وما أنتِ إِلا درةٌ لحياة
ولا بدَّ يوماً من طلاقٍ وعودةٍ / إِلى عالمِ الأرواحِ والنجمات
ألا أيها العصرُ الحديديُّ دع لنا / قليلاً من الأفلاذِ والدمعات
بمعدنِكَ القاسي تدوسُ قُلوبَنا / فكم من قلوبٍ فيكَ مُنسَحِقات
وما من شريفِ صادقٍ بوعودهِ / ولا من كريمٍ جابرِ العَثرات
لقد حقَّرَ المالُ الحقيرُ شعورَنا / وقوَّى رجالَ الظلمِ والفتكات
فلا حقَّ إِلا للقويِّ بمالهِ / فمن للضَّعيف الدائم الحَسرات
كذلكَ ذاتُ الخِدرِ تحسدُ قينةً / ويخضعُ ذو رفق لمن هو عات
فيا لكَ عصراً فيهِ أكرهُ مولدي / وأصبو الى الأجداثِ والظُّلمات
دعي الناسَ يا نفسي ولا ترهبي الرّدى / فمثلُكِ للأخطارِ والغَمَرات
تعالي نَذُق بعدَ المعاركِ راحةً / ونذكرُ ما نهواه في الخلوات
بأندلس الحسناء عجتُ مُسلّماً / إِلى أربُع الأجدادِ ذا صَبوات
وهل عربيٌّ صادقٌ لا يزورُها / ويَبكي على آثارها البَهجات
مَررت بها والقلبُ ولهانُ شيّقٌ / يطيرُ على أنفاسها العطِرات
نعم قد عرتني هزّةٌ عِندما بدَت / شواطئُها الملأى من البركات
ومرَّ أمامي طيفُ مُوسى مجاهداً / يُحرّضُ أبطالاً على صَهوات
ورنّ صَدى في الجوّ من صوتِ طارقِ / يقولُ لنصر نحنُ أو للمات
وبالثَّغرِ والكأسِ ابنُ زيدونَ شِعره / تفجَّر لي دَمعاً على ضحكات
ولاح الفتى الرنديُّ في البوقِ نافخاً / يُزَعزعُ ركنَ الأرضِ بالصَّعقات
سلامٌ على روحينِ روحي تصبَّتا / وقد شاركت كلتيهما بهبات
تنشَّقتُ ريّا من صباها مُقبِّلاً / ثراها الذي يحوي عِظام غزاة
لقد نظموا عقداً ثميناً فأصبحت / لآلئُ ذاكَ العقدِ مُنتَثرات
سلامٌ على الحمراءِ والقَصر من فتىً / شَجَتهُ بقايا المجدِ مُغتزِلات
هنالك مجد تمَّ لا مجد فوقه / وقد شيد بالأقلام والشفرات
فكانت جنودُ الحقّ تحتَ لوائها / تهدّدُ أهلَ البطلِ بالزحفات
أيا حبذا أرضٌ على كسرِ أُمّتي / تُريني جيوشَ العربِ مُنتَصرات
وفي أربُعِ الأمواتِ أذكرُ موقفي / على تُرَبٍ مَحجوجةٍ ورفات
تباركَ تربٌ طاهرٌ ضمّ أعظُماً / تُساوي عِظامَ الخلقِ مُجتمِعات
بدَت نجمةٌ زَهراءُ من كلِّ تربةٍ / فكم شِعَلٍ تبدو وكم سطَعات
فناجيتُ حيناً كلَّ روحٍ جناحها / جناح عقابٍ ظلّلَ الوُكُنات
بأندلسٍ هامَ الفؤاد وإنّهُ / فؤادُ محبٍّ صادقِ الخَفَقات
تعشّقتُها طفلاً وشاهَدتُها فتىً / وحيَّيتُها بالشّعرِ والبَسمات
وودّعتُها يوماً وِداعي لموطِني / وجدتُ لها بالدَّمعِ والزَّفَرات
نأى شَبَحي عنها فعزَّت زيارتي / ولكنّ شِعري خالدُ النَّغمات
فلا كانَ هذا آخرَ العَهدِ بَيننا / ولي عبراتٌ سِلنَ من نظرات
وما زلتُ حنّاناً إِلى برجِ بَلدة / مُطلٍّ على الأمواجِ والهضَبات
حفرتُ عليهِ اسمي بخطِّ ابن مُقلةٍ / ليقرأهُ بَعدي الذي هوَ آت
لقد زرتُ فيها جامعاً صارَ بيعة / جَثت أُمهَّاتٌ فيهِ مع أخوات
فذكَّرنني أُماً وأُختاً تشاكتا / مُرَجّعَتَينِ النَّوحَ والصلوات
على طولِ عَهدي بالدّيارِ تَشوقُني / مَحاسِنُ فيها قارَنت حَسنات
تزوَّدتُ بالتَّطوافِ بعضَ جمالِها / وكم لي على آثارِها وَقَفات
لدَى قلعةٍ فيها وقصرٍ ومعبد / رأيتُ جباهَ الناسِ مُنحنيات
ألا هل عزاءٌ للمُحِبّ الذي يرى / مَنازِلَ أحبابٍ على وحشات
إذا سارَ فيها يَرفعُ الرأسَ عِزَّةً / تراءت لهُ الأبراجُ مُنهدِمات
فَقُرطُبَةٌ تبكي على خُلفائِها / وزَهراؤها تَبكي على الملكات
وكم عَرَبيّاتٍ بَكينَ بُكاءَها / وكنَّ معَ النعماءِ مُبتسمات
وغرناطةُ الخضراءُ ترثي ملوكَها / على جانبي وادٍ كثيرِ نبات
نسيمُ الصَّبا يُلقي النَّدى في رياضِها / وَيحمِلُ مِنها أطيَبَ النَّفحات
سَقى الله جَنَّاتِ العَريفِ من الحيا / ودَمعي مَزيجاً طاهرَ القَطرات
بحَمرائها يوماً وقفتُ مُسلّماً / وأنشَدتُ شِعراً جاشَ مع عَبراتي
فجاوَبَني فيها نواحٌ كأنما / تشاكت بناتُ العربِ مُنتحِبات
وبعدَ طوافي في مَقاصيرَ رَحبةٍ / مُزَيَّنةٍ بالخَطّ والنّقَشات
وقد مَلأتها الجنُّ حُسناً وزَخرَفت / حنايا مُطِلاّتٍ على العَرَصات
خَرَجتُ وقلبي فيهِ آلامُ أُمةٍ / توالت عَليها أعظمُ النّكبات
وقلت لقومي والدّيارُ بعيدةٌ / بني العُربِ ولّت أعصرُ الغزوات
فقَدتُم كثيراً فاعتَنوا ببقيَّةٍ / ومأثرُكم فيهِ أَجَلُّ عِظات
غَرَستُ بلَحظي أجملَ الزَّهراتِ
غَرَستُ بلَحظي أجملَ الزَّهراتِ / على خدِّكِ المسقيِّ مِن عَبراتي
فلا تحرميني شمّةَ الزَّهرةِ التي / لإنضارِها أذبلتُ زَهرَ حَياتي
أبيعكِ ليلات الشَّبابِ جميعَها / بليلةِ حبٍّ حلوةِ السّمرات
لكِ الحسنُ والإحسانُ لي فقِفي إذاً / نُجمّع بينَ الحسنِ والحسَنات
بكيتُ من الحبّ الذي فيه شَقوتي / فقابلتِ دمعَ الوَجدِ بالبسَمات
فما كنتِ إِلا زَهرةَ جادَها النَّدى / فَفُتِّحَتِ الأوراقُ للقَطَرات
فلا تجحدي دَمعي الذي نوَّرَ الدُّجى / فكان كشعلاتٍ من النجمات
ولا تُهمِلي شِعري الذي فاضَ في الهوى / فكانَ كنوحاتٍ على رَنمات
إلهكِ يا حسناءُ يَرضى دُموعَنا / ويُعرِضُ أحياناً عَنِ الصَّلوات
ويُطربُهُ الشعرُ الذي أنا منشدٌ / فيَلهو عن التَسبيحِ والطَلبات
وتسكتُ أفواجُ الملائك حَوله / لتأخذَ عني أطيب النَّغمات
فكم ليلةٍ تُلقي عليّ سُكونَها / فأسمعَ في صَدري صَدى الخفقات
بكيتُ وأستَحلي البكاءَ لأنني / رأيتُ عزاءَ النفسِ في الدمعات
فكم آسفٍ أو نادمٍ تائباً بَكى / فبرَّد ما في الصّدرِ من حرقات
جَرى دمعُه في الحزنِ والصّدقِ صافياً / فأحيا فؤاداً مات في الشَّهوات
أرى حُسنكِ الفتانَّ يبدو لناظري / كبرقٍ ولا يُبقي سوى الحسرات
أتاني الهوى لما مَرَرتِ خفيفةً / وجاءَ نسيمُ اللّيلِ بالنفحات
فكنتِ ملاكاً شاقَهُ النورُ والشَّذا / فحنَّ إلى الجنَّاتِ في الظُلُمات
لئن ذبلت كالزَّهرِ يوماً قَريحتي
لئن ذبلت كالزَّهرِ يوماً قَريحتي / وقد فَنيَت من كثرةِ الحبِّ مُهجتي
فلي منهُما عطرٌ ونورٌ لأنني / أَسلتُهما في خَيرِ أهلي وأُمتي
ستخفقُ في الدُّنيا قلوبٌ كثيرةٌ / لِقَلبي وتَجري أدمعٌ بعدَ دَمعتي
أُمِرٌّ على جرحي القديمِ أَنامِلي / فأسقطُ من آلامهِ مثلَ ميِّت
وأمشي حزيناً خائفاً متردِّداً / على طَللِ النُّعمى وقبرِ الشبيبة
بكى الركبُ حَولي يومَ توديعِ أهلِهم / فما حرَّكت وَجدي دموعُ الأحبّة
ولا سمحت عَيني بأثمنَ قطرةٍ / لأنَّ وداعَ الأمِّ نشَّفَ عبرتي
أرى القلبَ بين الهمِّ والحزنِ مُغلقاً / لنورٍ وتغريدٍ وحسنٍ وخضرة
تصلَّبَ حتى أصبحَ الرفقُ قسوةً / وأجدَبَ حتى ملَّ من كلِّ نضرة
فكيفَ أُداوي بالمحاسنِ داءَه / على غيرِ شيءٍ من نعيمٍ ولذة
وإن كانَ مفتوحاً لأُنسٍ وبهجةٍ / تبدَّت له الدُّنيا على خَيرِ صورة
هو القلبُ مرآةٌ لدى كلِّ صورةٍ / تراءت على حالَي صفاءٍ وكدرة
تولّى زمانٌ فيهِ علّلني الهوى / كذلكَ أحلامُ الشّبابِ اضمَحلَّت
فما إن لها عودٌ على الذلِّ والنّوى / تُذِلُّ نفوساً لم تكن للمذلّة
ولكن لي من ربة الشعر عطفةً / فأسلو بإكليلٍ يُزَيِّنُ جبهتي
وقد وَهبت عينيَّ بعضَ جمالِها / وكانت إلى كلِّ الحسانِ شَفيعتي
وإني من العُربِ الذين سُيوفُهم / وأقلامُهم كانت نجومَ البريَّة
فخطُّ يراعي مثلُ ضَربِ شِفارِهم / وفوقَ شعارِ الصيدِ شعرُ قصيدتي
لكِ الفَخرَ بي إني أخوكِ فَفاخري / إذن أخواتٍ يفتخرنَ بإخوة
بما فيهِ سعدُ الجاهلينَ شقيتُ
بما فيهِ سعدُ الجاهلينَ شقيتُ / وبينَ ربوعِ الماجدينَ رَبيتُ
سئِمتُ من الدُّنيا ومن أهلِها فكم / يُقاسي الفَتى منها وليسَ يموت
وضيّعتُ قَلبي فلذةً بعدَ فلذةٍ / ومن كلِّ زيناتِ الشّباب عريت
ونثَّرتُ دَمعي في النّوى وقصائدي / وبالشعرِ والدّمعِ السخينِ شفيت
أُبذِّرُ أيّامي ومالي مُغامِراً / وأعجب بعد الموتِ كيفَ حييت
لمستُ بنَفسي أسطَعَ النجماتِ
لمستُ بنَفسي أسطَعَ النجماتِ / وقُلتُ أنيري هذه الظُّلُماتِ
أينكر فَضلي حُسَّدي وفضيلتي / وقد فاضَتِ الأنوارُ من كلماتي
ألم تَسمعوا نثراً كوقعِ مُهَنّدٍ / وشِعراً كموجٍ دائمِ الهَدَرات
فقولوا إذا ما النَّسرُ طارَ مُحلِّقاً / عَرفناكَ سامي الفكرِ والوكُنات
أبعدَ التُّقى أهفو إِلى هَفواتي
أبعدَ التُّقى أهفو إِلى هَفواتي / وأصبو إِلى ما كان من صَبواتي
وأغزلُ شِعري للحسانِ تغزُّلاً / على سيِّئاتٍ عارَضَت حَسناتي
نعم كان قلبي للمحاسنِ مَعبداً / وكانت أحاديثُ الهوى صَلواتي
فلما رأيتُ الحبَّ مكراً وخِدعةً / رجعتُ إِلى حلمي بصدقِ عِظاتي
ولكنَّ مزعاجاً أثارت بِلَحظِها / رَمادي فأبدَت كامنَ الجمرات
جَلُوبُ الهوى سوريَّةٌ عربيَّةٌ / تقولُ ورثتُ الحسنَ عن ظَبيات
قضَيتُ مع الآرامِ آنفةَ الصِّبى / فهنَّ على ما بيننا أخواتي
عرفتُ لمرآها شمائلَ أُمها / وكانت لها أمُّ من البرزات
إذا حدَّثت جاء الحديثُ ترنُّماً / وإن أنشَدَت فالشعرُ ذو نغَمات
لقد جمَّعت ظرفاً وعلماً وعفَّةً / فما هي إِلا أبهرُ الخفرات
محاسنُها في كلِّ قلبٍ تَشُوقُهُ / على قَدرِ ما فيهِ من الحَسَرات
تُحَبُّ ولكن لا تُحِبُّ لأنها / فتاةٌ لعوبٌ جَمعُها لشتات
لها مقلةٌ كالكأسِ بالخمرِ أشرقت / بها شرِقَ العشّاقُ في السَّكرات
وفي صدرِها عرشٌ وكنزٌ لدولةٍ / بَنَتها جيوشُ العربِ مُنتصَرات
وأشبَه ما ألقاهُ قلبي وخَصرُها / على رقَّةٍ مَقرونةٍ بثبات
رأت شَعرها جَثلاً فقصَّته طفلةً / وقالت ندمتُ الآنَ بعدَ فوات
ولو وزّعَتهُ خصلةً خصلةً لنا / لكانَ من الأعلاقِ والبركات
لقد قصرت ما طالَ كالليلِ في الأسى / لتأخذَ حقَّ النور من ظلمات
واذ غاضَها درٌّ يفاخرُ ثَغرها / ترامت عقودُ الدرّ مُنتثرات
وهمَّ بِطَرحِ العقدِ في الماءِ جيدٌ / فقالت لهُ هذا من الدمعات
تزيدُ حرير البرد منها نعومةً / على أنعم الأعطاف والبشرات
كذاكَ ولم تلمس يدايَ ولا فمي / ولكنَّ مِثلي صادقُ النظرات
أقولُ لها والقلبُ يُضعِفُهُ الشَّذا / بعيشكِ ردّي هذهِ النفحات
ألم تعلمي أن العبيرَ يُهيجُني / فكيفَ على أثوابك العطرات
أطيبتُها أم من قوامِكِ طيبُها / وقد نشرت منه على رقمات
أرى أجملَ الأزهارِ فيه تجمَّعت / فأربى على جنّاتكِ النضرات
شكا كلٌّ عطّارٍ كسادَ عطورهِ / وأصبحَ مَكروهاً من الفتيات
يَقُلنَ لهُ بِعنا كما بعتَ غيرنا / ودَع سلَّةً ملأى من الفضلات
إذا جاءكِ العطّارُ لا تتنفّسي / ولا تُخبري الجاراتِ في الخلوات
فيسرقُ أو يسرقنَ من فيكِ عطرهُ / وتَسري به الأرواحُ مُختلسات
من الظبيةِ الغناءِ ألقى لبوءةً / إذا قلتُ يوماً يا بنيّة هاتي
فلا رقَّةٌ للقلبِ من خَصرِها الذي / يذوبُ من الأنفاسِ والزفرات
تميلُ من الإدلالِ واللّينِ والصّبا / وقد عَذُبت كالماءِ بينَ نبات
فأخشى عليها عثرةً كلَّما مشت / وقلبي لدَيها دائمُ العثرات
لئن أظهرت سخطاً وفي نفسِها الرِّضا / تشفَّعتُ بالقُربى وبالقربات
لوجنتِها ناري ومائي لجيدِها / وهذان للأملاكِ والملكات
سَمَحتُ بما في القلب والعينِ للهوى / ولو قابلت بالبخلِ خيرَ هِباتي
فأبكي غماماً حينَ تضحكُ روضةٌ / جهولاً لما في الصَّدرِ من خفقات
أنارت سبيلَ الحبِّ فهي كنجمةٍ / ولكنّها أعلى من النجمات
تلوحُ من القصرِ المطلِّ على الرُّبى / فَتُشرِفُ من قلبي على شرفات
ويؤنِسني مِصباحُها كلَّ ليلةٍ / وفي نورهِ لهوٌ عن السمرات
سأذكُرُ في دار الحبيبةِ سمرةً / تزوّدتُ منها أطيبَ الكلمات
فقلتُ لها إنَّ الدُّجى يَمنَعُ السُّرى / فقالت ضَحوكاً سِر على بَسَماتي
لقد نفَّست كَربي وسرَّت كآبتي / رخيمةُ صوتٍ حلوةُ الرَنوات
فكم في ليالي الأمنِ باتَت سَميرتي / نرى حولنا الجنّاتِ والهضَبات
وقد أصبَحَ الجسمانُ جسماً كأننا / نُريدُ امتزاجاً في لظى اللّثمات
ولكنَّ بعدَ الحبّ بُعداً وسلوةً / فما من بقاءٍ في ديارِ فناة
أرى الدّهر يُقصي القلبَ عما يُحبُّه / وينزعُ منه كنزَهُ نزعات
كما تحملُ الرّيحُ الشديدةُ نحلةً / فتُبعِدُها عن أجملِ الزهرات
مضى ذلك العهدُ الجميلُ ولم تزل / خيالاتُ ذاكَ الحبّ مرتسمات
أرى الصبَّ لا يرضى بنصحِ نُهاتهِ
أرى الصبَّ لا يرضى بنصحِ نُهاتهِ / إذا كان غيرُ اللّومِ عندكِ هاتهِ
هو القلبُ في الآلامِ يطلبُ لذَّةً / ويُطمِعُه الحرمانُ من مُشتهاته
فمن أينَ لي بعد التردُّدِ ردُّهُ / وللحبِّ فيضٌ من جميعِ جهاته
لكلِّ فتىً يَهوى الجمالَ فتاتُه / وكلُّ غزالٍ هائمٌ بمهاته
هي الظبيةُ الأدماءُ تصرعُ خادِراً / وتنزعُ ما يصطادُه من لهاته
ضعيفٌ أنا وهي القويةُ في الهوَى / سلوا العصرَ منهُ كيفَ حالُ دهاته
دَعوني أشمْ برقاً من الثغرِ خُلَّباً / فإني رأيتُ الحقَّ في ترهاته
تمنَّيتُ منهُ في الحديثِ تنفُّساً / لأشتمّ ريّا الوردِ من نكهاته
طَربتُ لرؤيا أشرَقت فاضمحلَّتِ
طَربتُ لرؤيا أشرَقت فاضمحلَّتِ / وقلبي لها طورٌ عليهِ تجلّتِ
فما زلتُ أهوى خلوةً وسكينةً / لِتَمثيلِ رؤيا دونها كلُّ رُؤيةِ
فأُغمِضُ أجفاني وأشتاقُ أن أرى / بروحي جمالاً لا أراه بمُقلتي
فروحي مع الأرواحِ في دارِ أنسِها / وجسمي مع الأجسامِ في دارِ وحشتي
غريبٌ أنا بينَ الذين أُحِبُّهم / وأُبغِضُهم والموتُ آخرُ غُربتي
الى الملإ الأعلى أحنُّ لأنني / عن الملإ الأدنى أُنزّهُ رفعتي
لقد جمَحت نفسي فرُضتُ جماحَها / فلانت ودانت لي بقطعِ الأعنّة
ولكنّها تهفو إلى هفواتِها / إذا هاجَها في الحربِ لمعُ الأسنّة
فأردعُها بالصبرِ والحلمِ والرِضا / وفيها خمارٌ زائلٌ بعدَ سَكرة
وبين عِراكِ الحقِّ والبطلِ أذعَنت / لنهي نُهاها إذ عَنت فاطمأنَّت
تجرّدتُ عن كلِّ المذاهبِ ناظراً / إلى الدينِ والتاريخِ والبَشَرية
فلم أرَ إلا زخرفاً وخديعةً / وذلك رأيي بعد طولِ الرَّويَّة
تولّهتُ مَشغوفاً بما هو باطنٌ / من الحُسنِ حتى فزتُ منهُ بنظرة
فأنّى لمثلي أن يرى ما رأيتُهُ / ومن ليلةِ المعراجِ تُشتقُّ ليلتي
جناني عليهِ ضيِّقٌ ومقصِّرٌ / بياني لديهِ فهو فوقَ الطبيعة
فياليتني عيٌّ يُفكِّرُ صامتاً / ويا ليتَني ما كنتُ ذاكي القريحة
إذن لاكتَفى قلبي بذكرى نعيمهِ / وما هَزّني شِعري المذيبُ لمهجتي
فلا شرفٌ فوقَ الذي نلتُهُ ولا / كلامٌ لوَصفِ النَّعمةِ العلوية
تشوّقتُ حتى زارني الطيفُ مؤنساً / وأشرَقَ نورُ الطّلعةِ النَبويّة
قديمانِ شوقي والهوى غيرَ أنني / جَلوتُ دُجى شكّي بصبحِ الحقيقة
فقلبي وعيني مَطلعانِ لنورها / وما أطلعَ الأنوارِ غيرُ الدُّجنَّة
وفي غفوَتي أو غفلتي جاءني الهُدى / وكانت على غيبُوبةِ النومِ يقظتي
تبلّجَ حلمي كالصباحِ من الدُّجى / فنّورَ قلبي للضياءِ كنورة
فأصبحتُ بين الطّيبِ والنورِ لا أعي / وطارت شعاعاً مُهجتي للأشعة
فكم من شعاعٍ ذرَّ كالسّهمِ نافذاً / فتحتُ له قلباً غدا كالكنانة
فيا لكِ رؤيا نوّرت كلَّ ظلمةٍ / ويا لك ريّاً عطّرَت كلَّ نسمة
ألا ليتَ عمري كلَّهُ كان ليلةً / ويا ليتني في ليلةٍ أبدية
فليلةُ سعدي قد رأيتُ ظلامَها / ضياءً وفي آفاقها ألفُ نجمة
فوالله لا أدري مصابيحُ تلكَ أم / صَبائحُ جيلٍ جُمِّعَت في صبيحة
أُعاهِدُ ربي أن أُصلِّي مُسلِّماً / على أحمدَ المختارِ من خيرِ أُمّة
هداني هواها ثم حبّبَ شرعُهُ / إليَّ فصَحَّت مثلَ حبي عقيدتي
فمن قومُهُ قومي أدينُ بدينهِ / لأني أرى الاسلامَ روحَ العروبة
توسّلتُ بالقربى إليه فلم تضع / لدى العربيّ الهاشميّ شفاعتي
فشرّفني بعد العروبةِ بالهُدى / وفضّلني بين الورى لقرابتي
وأنعمَ بالرؤيا عليَّ وطالما / تصبّت فؤادَ الصبِّ منذُ الصبوّة
وأهدى إليّ النيّراتِ وإنما / هِدايتُهُ في الحلمِ أغلى هَديّة
فبعدَ الذي شاهدتُهُ مُتشهِّداً / غدا الملأ الأعلى شهودَ شهادتي
تفتّقَ ليلي زهرةً حولَ مَضجعي / وشقَّ حِجابَ الغيبِ نورُ البصيرة
فأبصرتُ جناتٍ تميلُ غصونُها / وأنهارُها تجري لبردٍ ونضرة
وفي البابِ رضوانٌ تشرّفَ حارساً / عليهِ من الدّيباجِ أَفخرُ حلّة
فحييتُهُ مستأنساً بلباسهِ / وقلتُ بأحلى لهجةٍ مُضريّة
سلامٌ على جناتِ عَدنٍ وأهلِها / أنا عربيٌّ مثلُهم ذو صَبابة
فقال على الآتي سلامُ محمدٍ / لكَ الخيرُ يا ابنَ الأُمةِ اليعربية
أماناً وأمناً فادخُلِ الخلدَ خالداً / وحمداً على حسنِ الهُدى والسلامة
هنالِكَ جناتٌ حَوَت كلَّ طيّبٍ / وطَيِّبةٍ للصالحين أُعِدَّت
مشى مؤمنٌ فيها ومؤمنةٌ معاً / رفيقَي نعيمٍ خالدَينِ لغبطة
وطافت بها الأملاكُ من كل جانبٍ / صفوفاً وأفواجاً لذي العرش خرّت
وحفَّت به جنداً تغطي وُجُوهَها / بأجنحةٍ وَرديّةٍ زَنبقيّة
ولكنّها لم تذوِ قطُّ ولم تحل / لديمومةٍ في النضرةِ القُدُسية
فسقياً لجناتٍ يدومُ ربيعُها / ويخلُدُ أهلوها لرغدٍ ونعمة
مقاعِدُهُم خزٌّ وعاجٌ ولبسُهُم / حَريرٌ عليهِ كلُّ وشيٍ وسبغة
وتحديثُهُم همسٌ وتسبيحُهم صدىً / وتسليمُهم تنعيمُ صوتٍ ولفظة
فحيَّيتُهم مُستبشراً فتَبسّموا / وردّوا فأحياني جمالُ التحيّة
وقالوا سلاماً فاشربنَّ رَحيقَنا / حلالاً وهذا عهدُ أهلِ المودّة
يَطوفُ بها الوالدانُ والحورُ بيننا / بأكوابِ درٍّ أو قوارير فضّة
شربتُ ولم أنطق وقاراً وإِنّما / تمطّقت كي ألتذَّ أطيبَ رَشفة
فما أعذَبَ الكأس التي قد شربتُها / فكان بها سكري الذي منه صَحوتي
وأصبحَ في نفسي جمالٌ عَشِقتُهُ / كمالاً يُريني الطّيفَ من كلِّ صورة
وفي الأُفقِ الأسنى على عَرشهِ استوى / إلهُ الورى ذو القدرةِ الأزلية
غمامةُ عليّينَ تحجبُ نورَهُ / ترفَّعَ ربُّ العرشِ عن كلِّ هيئة
وإذ كنتُ مَسلوبَ القوى متحيِّراً / سمِعتُ نديّاً من خلالِ الغمامة
فملتُ إلى ذيالكَ الصوتِ ساجداً / وقد خَرّتِ الأطوادُ مثلي لخشية
فقالَ وفي ألفاظه الرعدُ قاصفٌ / دعوتُكَ فاسمع أنتَ صاحبُ دعوة
وكن منذراً بينَ الورى ومبشِّراً / وبلِّغ جميعَ المسلمينَ وصيّتي
وأضرم لهم نارينِ للحربِ والهدى / وقلبُكَ في ديجورهم كالمنارة
وأنشد من الشعر الحماسيِّ رامياً / على كلِّ قلبٍ من جمارِ الحميّة
فشِعرُكَ وحيٌ منزلٌ في جهالةٍ / كما أُنزلَ القرآنُ في الجاهليّة
تشجع وآمن يا وليدُ فأنتَ لي / رسولٌ وفي الإبلاغِ فضلُ الرسالة
أنا المصطفى المبعوثُ للحقِّ والهدى / وقد صحّفوا في مِصحفي كلَّ آية
هو الدينُ والفرقانُ بالحقِّ مُنزَلٌ / لإصلاحِ دنياهم ومَنعِ الدنيّة
وإن لم يكن منهُ صلاحُ شؤونِهم / فذاك لجهلٍ حائلٍ دونَ حكمة
فقل يا عبادَ الله جاروا خصومَكم / بتَوسيع ديني أو بتطبيق سنتي
دعوا عَرضاً منهُ على حفظِ جوهرٍ / يُطابق لخيرٍ مُقتضى كلِّ حالة
وللدينِ والدنيا اعملوا وتنافسوا / ليُحمدَ في الدارينِ حسن المغبّة
فقوّتُكم منهُ وقُوتُهُ بكم / فلوذوا من الدنيا بسورٍ وسورة
لقد عزّ إذ كنتُم رجالاً أعزةً / وفي ذِلِّكم قد باتَ رهنَ المذلّة
فعودوا إلى عهد الفتوحِ التي بها / بَنيتم على الإسلامِ أضخمَ دولة
وما قوةُ الاسلامِ إلا بدولةٍ / خلافيّةٍ بالمسلمينَ قوية
فقل لجميعِ المسلمينَ تجمّعوا / وصونوا وقارَ الدولة الهاشمية
دعتكُم رؤوماً فاستجيبوا دعاءَها / تموتوا لحقٍّ أو تعيشوا لعزَّة
أما لرسولِ اللهِ حقٌّ وحرمةٌ / ومن آلهِ المدلي بأظهرِ حجة
لأُمَّتِهِ الفضلُ العميمُ على الورى / بنشرِ الهُدى من صفحةٍ وصحيفة
على السيفِ والقرآنِ سالت دماؤها / لتثبيتِ ملكٍ شيّدتهُ بشدّة
قد استَبسلت واستشهدَت في جهادِها / وما رَجعت إلا بفيءٍ وجزية
بَنت دولةً للمسلمينَ بهامِها / وأكبادِها ما بين فتحٍ ونصرة
لهم مهَّدَت في كلِّ قُطرٍ ومَعشرٍ / سبيلَ الغنى والحكمِ والعبقرية
بِميراثِها قد متّعتهم ولم تزَل / مجدّدَةً فيهم لعهدِ وعهدة
سلالةُ إسماعيلَ خيرُ سلالةٍ / فمنها رسولُ اللهِ خيرُ البريّة
لها حقُّ سلطانٍ وحقُّ خلافةٍ / وما نوزِعَت إلا لنزغٍ وشرَّة
فلا تنقضوا عَهدَ النبيِّ وعهدَها / وكونوا أمام اللهِ أهلَ المبرّةِ
يجود عليكم بالعروبة منةً / وفي شرعة الإسلام أكبر منةِ
هي الشرفُ الأعلى لكم فتشرَّفوا / بأطهرِ آيات وأشرفِ نسبة
على العربِ إرسالُ الوفودِ تتابعاً / إلى كل قُطرٍ فيه من أهلِ ملّتي
ليستطلعوا أحوالهم ويُثبّتوا / لساني وديني بعد ضعفٍ وعجمة
فيشرف كلُّ المسلمينَ تعرُّباً / كما شرفوا بالشّرعةِ الأحمدية
أبى اللهُ أن يستظهرَ الآيَ مؤمنٌ / ويبقى على ما فيهِ من أعجمية
فلا مؤمنٌ إلا الذي هو معربٌ / وهذا كتابُ اللهِ بالعربية
لقد حانَ أن يَستَعربوا ويُعرّبوا / بنيهم وأهليهم لإتمامِ وحدة
فتوحيدُهم للنطقِ والملكِ واجبٌ / كتوحيدِهم للهِ أو للخلافة
فلا لغةٌ للمسلمينَ سوى التي / بها نُزّلَ القرآنُ للأفضلية
ولا رايةٌ إلا التي طلعت لهم / مُبشِّرةً بالعتقِ بعد العبودة
بها أشرَقت بطحاءُ مكةَ حرةً / وقد ظلّلت أرضي وقومي وعترتي
هي الرايةُ العرباءُ تخفقُ للهدى / وللمجدِ فوقَ الحصنِ أو في الكتيبة
مباركةً كانت فللّهِ درُّها / ودرُّ الألى ساروا بها في الطليعة
رأوا تحتها الأحرام واللهَ فوقها / فقالوا لملكٍ ظلُّها أو لجنة
فمن يبغِ إرضائي ومرضاةَ رَبّهِ / يسلّم عليها شاخصاً نحو قبلتي
براءٌ أنا من مستظلٍّ برايةٍ / عليها لطوخٌ من دماءٍ زكيّة
فمهما يكن حكمُ الأجانب عادلاً / يخُن دينَهُ الراضي بحكم الفرنجة
فأجراً لمشهومٍ تكاره صابراً / وخزياً لمولى الدولةِ الأجنبية
ألا يا بني الإسلامِ كونوا عصابةً / فلا قوةٌ إلا بحبٍ وإلفة
ولا قدرةٌ بعد الشتاتِ على العدى / بغيرِ اتحادٍ فيهِ توحيدُ غاية
لكم دولةٌ في الشرقِ عاصمةٌ لها / دمشقُ التي عزّت بملك أميّة
وعاصمة الأخرى مدينة جوهرٍ / لتجميعِ أفريقيَّةِ المسلميّة
وبينهما القلزمُّ يفتحُ ترعةً / كهمزةِ وصلٍ بالبوارجِ غصّت
يجوس العدى كثراً خلالَ دياركم / ويغزونكم عزلاً على حين غفلة
ولم تُغنهم أموالكم عن نفوسكم / فزجّوا بنيكم عنوةً في الكريهة
تذودون عن أوطانهم في حروبهم / وأولادكم فيها جزورُ الذبيحة
وأوطانُكم مغصوبةٌ مستباحةٌ / موطأةُ المثوى لعلجٍ وعلجة
لدولتِهم أموالكم ودماؤكم / وأنتم بلا ملكٍ ومالٍ وعدَّة
أليس عظيماً أن تموتوا لأجلهم / وأن يقتلوكم في مواطن جمّة
فهل من حياةٍ في القصاصِ لغُفَّلٍ / وهل نهضةٌ فيها إقالةُ عثرة
لكم من بلاياكم بلاءٌ وعبرةٌ / فمن عِلةٍ أشفت شفاءٌ لعلّة
خذوا من أعاديكم وعنهم سلاحَهم / به تكشفوا أسرارَ فنٍّ وصنعة
ولا تقحموا قذّافةَ النارِ بالظُبى / فقد سَخرت من بأسِكم والبسالة
ويومَ التفاني تعتدون كما اعتدوا / وإن يخدعوكم تأخذوهم بخدعة
تُنال المعالي باجتهادٍ وقدرةٍ / وكل مُجدٍّ واجدٌ بعد خيبة
فعَبّوا لهم طامي الضفافِ عرمرماً / كتائبُه للحربِ والسلمِ صُفَّت
ورصّوا كبنيانٍ فخيمٍ صُفوفَهُ / لكي تُرهِبوا الأعداءَ من غيرِ حملة
فلا منعةٌ إلا بجيشٍ منظّمٍ / يجمّعُ أبناءَ البلادِ كإخوة
هو الجيشُ يمشي فيلقاً تلوَ فيلقٍ / لحوطِ الضواحي أو لخوضِ الوقيعة
فيالقُ أعطتها الرعودُ قصيفَها / وقد كَمَنَت في مدفعٍ وقذيفة
إذا الخصمُ أبزى تدفعُ الضيمَ والأذى / مدافعُ شدّتها القيونُ لشدة
بناتُ المنايا تلكَ فاعتصموا بها / فلا أمنَ إلا من بنات المنية
فمن سَكبها تسكابُ نارٍ وجلمدٍ / لخيرِ دفاعٍ دون حقٍّ وحرمة
فكم رغبوتٍ كان من رهبوتِها / لدن خشعت أبصارُ أهل القطيعة
هي الخيلُ معقودٌ بها الخيرُ فانفروا / على كل محبوسٍ بعيدِ الإغارة
خِفافاً إلى الجلّى ثقالاً على العدى / إذا الخيلُ بعد المدفعيّةِ كرَّت
مناصلُ حبسٍ أو مقانبُ غزوةٍ / مداعيقُ تعدو تحتَ فرسانِ جمرة
وما الحربُ إلا خدعةٌ فتربّصوا / لختلٍ وقتلٍ في غرارٍ وغرة
لقد كتبَ اللهُ القتالَ فجاهدِوا / لأجرٍ ومجدٍ أو لعزٍّ ومنعة
قِتالُ العدى فرضٌ على كل مسلمٍ / وإني بريءٌ من فتى غير مُصلت
أكبّوا على حملِ السلاح تمرُّناً / فإن تمرسوا يصبح كلهوٍ وعادة
تجندكم طوعاً وكرهاً فرضتُهُ / فكونوا جنوداً بُسَّلاً في الحداثة
ولا تطلبوا الإعفاءَ من غيرِ مانعٍ / لكم شرفٌ بالخدمةِ العسكرية
فهل كان إلا بالبعوثِ انتصاركم / وأوّلُ بعثٍ كان بعث أُسامة
ورثتم عن الأجدادِ مجداً مؤثلاً / وقد فتحوا الدنيا لديني وسُلطتي
ألا يزدهيكم ذكرهم في حقارةٍ / تغضّون عنها كلَّ عينٍ قذيّة
فأينَ المغازي والفتوحُ ترومُها / جنودٌ وقوادٌ شدادُ المريرة
مضى زمنُ العلياءِ والبأسِ والندى / لصعلكةٍ شوهاءَ بعدَ البطولة
بأبطاله المستشهدين تشبهوا / ورجُّوا له عوداً بصدقِ العزيمة
وفوقَ الجواري المنشآت تدرّبوا / على الخوضِ في عرضِ البحارِ الخِضمّة
وشدوا على أمواجها وتقحّموا / عباباً وإعصاراً لغنمٍ وسطوةٍ
فما خوضُكم في لجةٍ بأشدَّ من / تعَسُّفِكم في مهمهٍ وتنوفة
فللرملِ كالتيهور آلٌ وموجةٌ / وريحٌ فذو رحلٍ كربِّ سفينة
على قتبٍ أو هوجلٍ طلَبُ العلى / وإحرازُها من ناقةٍ أو سفينة
ففي البحر مجرى للشعوب ومكسبٌ / بتحصينِ ثغرٍ أو بتحصيل ثروة
فمن يقطعِ الصحراءَ والرمل عالجٌ / تخُض خيضةَ الروميّ خضراءَ لجّة
ويكبحُ من كلِّ البحور جماحَها / إذا أزبَدَت أمواجُها واكفهرّت
ويصنع أسطولا كثيرٌ سفينُه / لصدِّ مغارٍ أو لنقلِ تجارة
ففي ذلك الجاهِ العظيمِ لأمةٍ / توجّه ركباناً إلى كلِّ فرضة
وأسطولها المرصوفُ يحمي ثغورَها / فتأمنُ في أملاكِها فتحَ ثغرة
بدارعةٍ فولاذُها حرشفٌ لها / رست قلعةً تمشي إلى دكِّ قلعة
وغواصةٍ تحتَ المياهِ تسلّلت / ونسّافةٍ فوقَ المياهِ اسبكرّت
بوارجُ أسطولٍ إذا ما تزَحزَحَت / تُزَعزِعُ أركانَ الحصونِ المنيعة
فأعظِم بشعبٍ مستقلّ سفينُهُ / يتيهُ دلالاً بين مرسىً وغَمرة
فرادى وأزواجاً يسيرُ كأنه / عصائبُ طيرٍ في البحورِ المحيطة
لقد كان همُّ الملكِ ضبطَ ثغوركم / لدفعِ التعدّي أو لنفعِ الرعيّة
ومن خلفائي للأساطيل نجدةٌ / لغزوِ بلادٍ أو لفتحِ جزيرة
فأربى على كلِّ السفينِ سفينُكم / وبرّز تبريزاً ببأسِ وجرأة
ولاذت أساطيلُ الفرنجِ بمخبإٍ / وقد حُطِمَت ألواحُها شرَّ كسرة
لأسطولكم كانت طرائد هالها / ضراءُ ليوثٍ بحرُها كالعرينة
ولما تراجعتم كسالى تدرّأوا / وشدوا عليكم في أساطيل ضخمة
فكيفَ لكم أن تدفعوها بمثلِها / وقد كبّلوكم بالقيودِ الثقيلة
سَبَقتُم وكانوا لاحقينَ فشمّروا / ونمتم فللساعينَ حسنُ النتيجة
نتيجةُ سعي الرومِ تلكَ فهل لكم / بها عبرةٌ أو أسوةٌ بعد يقظة
خذوا خولاً منهم لدارِ صناعةٍ / وعنهم خذوا إتقان علمٍ ومهنة
وشيدوا على أشكالهم ومثالهم / بوارجَ فوقَ اليمِّ مثل الأئمة
يزكّي لها أمواله كلُّ مسلمٍ / فيبقى لهُ في اللوحِ أجرٌ بلوحة
بوارجُهم منها المداخنُ أشرفت / منابر تُلقي وعظةً بعدَ وعظة
أما قرعت أسماعكم بصعاقِها / ونيرانُها أجّت أجيجاً فعجّت
فلولا الأساطيلُ التي بجنودهم / أجازت إليكم ما مُنيتم بنكبة
ولا دنّسوا أرضاً ولا سفكوا دماً / ولا غصبوا إرثاً بأيدٍ أثيمة
فلا دارَ للإسلامِ إلا تهدمت / ولا قلبَ إلا ذابَ من حرِّ لوعة
كذا هدموا ملكي فمن ذا يردُّهم / إذا أزمعوا تهديمَ قبري وكعبتي
أما في نفوسِ المسلمينَ حميةٌ / لتطهيرِ أحرامي وحفظِ الأمانة
عليكم يمينُ اللهِ إن تألفوا الكرى / وإن تشعروا في النائبات بلذّة
فما كان مولاكم ولا كنتُ راضياً / بغيرِ جهادٍ فيهِ نيلُ الشهادة
تنادوا وثوروا واستميتوا لتنقذوا / دياراً من الاسلامِ في كلّ قبضة
لئن ثبتت أقدامكم ونفوسكم / رجعتم إلى اليرموكِ والقادسية
فبالصبرِ والتقوى ظهرتم على العدى / وما الصبرُ إلا عند أولِ صدمة
إذا لم يَعُد للمسلمينَ سفينُهم / وأسطولهم لا يأملوا عودَ صولة
مرافئهم مفتوحةٌ وثغووهم / معرّضةٌ للغزو من كلِّ وجهة
وما الثغرُ من أرضٍ سوى بابِ منزلٍ / فإن لم يُصَن يولج بدونِ وليجة
وإن وطأته الخيلُ والرجْلُ وطّأت / قواعدَ ليست بعدَهُ بحصينة
فما عصمَ الأمصارَ إلا ثغورُها / إذا اعتصمَ الأسطولُ فيها لعصمة
سواحلكم خيرُ السواحلِ موقعاً / ولكنّها ليست بكم ذات قيمة
فلما خَلت أيامُ أمجادكم خَلت / وللرومِ فيها رغبةٌ بعد رهبة
فهَمّوا بها واستَملَكوها رخيصةً / وما رَخِصت إلا لرخصِ المروءة
فلو أنها كانت سواحلَ أرضهم / لشادوا عليها ألفَ برجٍ وعقوة
وصفّوا بها أسطولهم متلاصقاً / كأسوارِ فولاذٍ قبالة عَدوة
فما صدّ أعداءً ولا سدَّ ثغرةً / سوى بارجاتٍ كالبروجِ اشمخرّت
تقذّفُ نيرانَ الجحيمِ بطونُها / إذا فغَرت فوهاتِها وازبأرّت
وترفُلُ من فولاذِها وحديدها / بأمتنِ درعٍ أو بأشرفِ لبسة
وبعد اقتدارٍ في الملاحةِ أقدموا / على طيرانٍ تم من دون طيرة
وطيروا نسوراً في مناطيدَ حلّقت / فنُفِّرَتِ الأطيارُ والجنُّ فرّت
فإمّا لتحليقٍ يكون اصطعادُها / وإمّا لتدويمٍ وإمّا لرحلة
فمنها امتناعٌ وانتفاعٌ لدولةٍ / ترى في الطباقِ السبعِ أرحب حَلبة
ومن علوِ طيارٍ وطيارةٍ لها / تُجرِّرُ ذيلَ المجدِ فوقَ المجرّة
تردّى ابنُ فرناسٍ وقد طارَ مخطراً / وأودى كذاك الجوهريُّ بسقطة
بذلك باهوا واقتفوا أثريهما / فما انتَحلت فضلَ التقدّمِ نحلتي
فدونَ المعالي ميتةٌ ترفَعُ الفتى / وكم خطرٍ دون الأمورِ الخطيرة
لقد كان منكم كلُّ ساعٍ وسابقٍ / وفي كلِّ مضمارٍ لكم بدءُ جولة
ولكن على الإهمالِ ضاعَ فعالكم / فهلا لحقتم باهتمامٍ وهمة
لكم فضلُ إبداعٍ وللغيرِ نفعُهُ / فبالجهدِ والتجريبِ إتمامُ خطة
توافوا إلى تاريخكم وتأملوا / عسى أن تروا خيراً بذكرى وعبرة
على حقِّ دنياكم حقيقةُ دينكم / وإنّ رجالَ العلم أهلُ الهداية
جميلٌ بكم إكرامهم واحترامهم / وقد أطلعوا نورَ الهدى والشريعة
فروحي وروحُ الله في كلِّ عالمٍ / على وجههِ سيمى التُّقى والفضيلة
ومن فيهِ أو عينيه مبعثُ علمهِ / ومن جبهةٍ وضّاحةٍ مستنيرة
خذوا العلم عن كل الشعوب إضافةً / إلى ما وضعتم من علومٍ صحيحة
وكونوا عليهِ عاكفين تنافساً / وباروا الألى فازوا بأكبرِ حصة
وصيروا جميعاً عالمينَ وعلّموا / بنيكم بترغيبٍ وحضٍّ وغيرة
فعن كلِّ أميٍّ يصدُّ نبيُّكم / وقد جاء أميّاً لصدقِ النبوءة
طلاباً ولو في الصينِ للعلمِ إِنه / يوفّقُ بين الدينِ والمدنية
إذا عم أدنى الشعب صارَ سراتُهُ / ملوكاً وألفى سادةً من أشابة
به الجوهر الأعلى يصانُ ويُجتلى / ولولاهُ كان المرءُ مثلَ البهيمة
سواءٌ جميعُ الناسِ خلقاً وصورة / ولا فضلَ إلا فضلُ علمٍ وفطنة
أُريدُ لكم ملكاً يجمِّع شملَكم / وتوحيدَ أوطانٍ ونطقَ رواية
بمدرسةٍ فيكم تجاورُ جامعاً / ومعرفةٍ مقرونةٍ بعبادة
هنا انقطع الصوتُ الرهيبُ وقد وعى / فؤادي كلامَ الحقّ والحقُّ إِمَّتي
فأجفلتُ مرتاعاً من الصمتِ وانجلت / غيابةُ نومي عن رسومٍ جلية
أفقتُ وفي عينيَّ أُنسٌ وبهجةٌ / وفي أذُني والقلب أعذبُ نغمة
ولكنَّ رؤياي المنيرةَ أظلمت / فأعقبني حزناً زوالُ المسرّة
فيا حبّذا جناتُ خلدٍ تحجَّبَت / وفي خَلدي مِنها تصاويرُ بهجة
شممتُ شذاها ثم شمتُ سناءها / فشمي وشيمي منهما حسنُ شيمتي
لبانٌ وكافورٌ ومسكٌ وعنبرٌ / ثراها الذي فيه حلا مسح لمتي
ونفحُ النعامى فيه نفحُ طيوبها / إذا رفرفت أفنانُها وارجحنَّت
وقلبي له منها رفيقٌ يهيجُه / حفيفٌ حكى ترنيمَ شادٍ وقينة
غناءُ الهوى فيهِ الغِنى عن مُخارقٍ / وعن مَعبدٍ فالصبُّ ذو أريحيّة
فكم منيةٍ فيها اشتياقُ منيّةٍ / وأغنيةٍ عن جسِّ عودٍ غنية
إذا ما تلاقى الحسُّ والجسُّ أسفرت / محاسنُ حلّت في الضميرِ وجلّت
فكلُّ طروبٍ فيهِ أوتارُ مُزهرٍ / ترنُّ لإنباضِ البنانِ الخفية
وما الطربُ الأعلى سوى ما تبينه / سجيّةُ نفسٍ مزدهاةٍ شجية
نَعِمتُ بإغفائي وقد كنتُ ساهراً / فحبت إلى الهيمانِ آخرُ غفوة
أحنُّ إلى الجنّاتِ في وحشةِ النوى / وأصبو إلى أطيافِ حلمٍ وبُرهة
شربتُ حميَّا الخالدينَ ترفُّعاً / ونزَّهتُ عن دنيايَ نفسي بنزهة
وطيّبتُ بالطوبى فؤادي فلم أزَل / أشمّ من الفردوسِ أطيبَ نفحة
وفي الشعر ريحانٌ وراحٌ وكوثرٌ / فما فيَّ من ريٍّ وريَّا لأمَّتي
تعالي فأحييني بفنجانِ قهوةِ
تعالي فأحييني بفنجانِ قهوةِ / إذا الصبحُ حيّا من نوافذِ غرفةِ
وأيقظني الدِّيكُ الفخورُ بفيقهِ / فقمتُ نشيطاً بعد أطيب هَجعة
فللجسمِ بعد النومِ عزمٌ وقوةٌ / وللنفسِ آمالٌ بعودِ الأشعَّة
ونفحتُها للقلبِ ألطفُ نفحةٍ / وحمرتُها للعينِ أجملُ حمرة
ضَعي فوقها المقهاةَ حتى إذا غَلت / ضَعي البنَّ وائتينا بأطيَب قهوة
كزنجيَّةٍ بعد العبوسِ تبسَّمَت / وغَنَّت وقد حنَّت بوحشيِّ لهجة
وصفِّي الفناجينَ اللطيفةَ واسكُبي / لِننشَقَ ريحَ المسكِ من غيرِ فأرة
وبينَ ارتِشافٍ وانتِشاقٍ يشوقُنا / من التبغِ مصٌّ فيهِ أكبرُ لذَّة
فتعذبُ من تدخِيننا وبخارُها / أحاديثُ فيها كلُّ لطفٍ ورقّة
نعم إنّ ليلاتِ الشتاءِ جميلةٌ / ولذَّاتُها مع أهلِنا والأحبَّة
على جمرِ كانونٍ وفنجانِ قهوةٍ / وكأسِ مدامٍ واستماعِ حكاية
أيا قهوةً في الصبحِ قد عطَّرت فمي / لكِ الخيرُ في إذكاءِ نارِ القريحة
وإيقاظِ أفكارٍ وتطييبِ أنفُسٍ / وتجديدِ آمالٍ وتشديدِ همَّة
أرى فيكِ رمزَ الخيرِ والخَصبِ والغِنى / فدايمةٌ قد قيلَ بينَ الجماعة
أُحِبُّكِ أعرابيَّةً عدنيَّةً / مفضَّلةً في حبّ أفضَلِ أُمة
تعلَّمَ منها الناسُ شربَكِ والنّدى / فكم من نعيمٍ في حِماها ونِعمة
لِصَوتِكِ في قلبي دَويٌّ ورنّاتُ
لِصَوتِكِ في قلبي دَويٌّ ورنّاتُ / كما ردَّدَت صوتَ البلابلِ جنّاتُ
على المزهَرِ الشاكي وأنشودةِ الهوى / يُهيِّجُ ذكراً منهُ للنفسِ حنّات
جَسَستِ من الأوتارِ ألطفَها كما / جَسَستِ فؤادي وهو بالحبِّ يقتات
فأخرَجت من ألحانِها كلَّ مُطربٍ / وأخرَجتِ منهُ شِعرَهُ وهو أبيات
وغنَّيتِهِ حيناً فذابت حشاشتي / ألا فلتَذُب في مِثلِ هذا الحشاشات
ونقّلتِ قلبي حيثُ نقَّلتِ أنملاً / كطيرٍ على غصنٍ تُثنِّيهِ هبّات
فأجمِل بتلحينٍ وشعرٍ ترافقا / وفي طرَبي العلويِّ صوتُكِ أصوات
تنامينَ في أثوابك العَطِراتِ
تنامينَ في أثوابك العَطِراتِ / كعصفورةٍ نامت على زَهَراتِ
يعزُّ علينا أن تموتي صبيَّةً / وفي النفسِ ما فيها من الصَّبوات
ويسكُتُ عودٌ قد شجانا رنينُهُ / ويخفُتُ صوتٌ طيِّبُ النغمات
وتُغمَضُ أجفانٌ أنِسنا بلحظِها / ويُطبَقُ ثغرٌ جادَ بالبَسمَات
لك اللهُ قد أبقيتِ ذكراً كزهرةٍ / سرى عَرفُها من ذابلِ الوَرَقات
سَهرتِ لتلذيذٍ وما لكِ لذَّةٌ / وللناسِ كانت لذّةُ السهرات
فنامي هنيئا تحتَ أغصانِ دَوحةٍ / تُرَجِّعُ لحناً منكِ في النَّفَحات
ألا خفَّ تربٌ من ضريحكِ مثلما / لصوتِكِ خفَّت وطأةُ السأمات
وحيَّتكِ أنفاسُ الصَّبا ونفوسُنا / وحيَّاكِ مافي المزنِ من قطَرات
لقد ضمَّ منكِ القبرُ أزهارَ باقةٍ / وأوتارَ عودٍ أجرَت العَبرات