المجموع : 3
سرى القمرُ الوضَّاحُ بين الكواكبِ
سرى القمرُ الوضَّاحُ بين الكواكبِ / يُفكِّرُ فيما تحتهُ من غياهبِ
فناداهُ من وادي الخلِّيينَ هاتفٌ / بصوتِ محبٍّ في الحياةِ مُقاربِ
يقول له يا روعةَ الحسنِ والصِّبا / وأجملَ أحلامِ الليالي الكواعبِ
أنا العاشقُ الوافي إذا جنَّني الدَّجى / وراعيكَ بين النيِّراتِ الثواقبِ
ألا ليتني حُرٌّ كضوئِكَ أرتقي / عوالمَكَ الملأى بشتى العجائبِ
ويا ليتَ لي كنزَ ابتساماتِكَ التي / تُبعثرها في الكونِ من غير حاسِبِ
فأصغى إليهِ الضوءَ في صفوِ جذلانِ / وأضفى على الوادي شعاعَ حنانِ
وجاسَ خلال السُّحْبِ والماءِ والثرى / فلم يرَ في أنحائها وجهَ إنسانِ
فصاحَ بهِ يا صاحبي ضلَّ ناظري / فأين تُرى ألقاك أمْ كيف تلقاني
فأوما له إني هنا تحت شُرفتي / وراءَ زجاجيها أخذتُ مكاني
أبى البردُ أن أستقبلَ الليلَ قائماً / وأن أنزل الوادي بحيث تراني
وحسبُ الهوى من عاشقٍ لك وامقٍ / تَزَوُّدُ عيني من سنا ضوئكَ الحاني
فألقى عليه الضوءُ نظرةَ حائر / وأعرضَ عنهُ بابتسامةِ ساخرِ
وقال له يا صاحبي قد جهلتني / ويا رُبَّ شعرٍ ساقهُ غيرُ شاعرِ
أنا الموثَقُ المكدودُ طالتْ طريقهُ / طريقُ أسيرٍ في رعايةِ آسرِ
تجاذبني طاحونةُ الشمس كلما / وقفتُ وتمضي بي سِياط المقادِرِ
وما بسمتي إلا دموعٌ من اللظى / قد التمعتْ في وجهِ سهمانَ حاسِرِ
فدعْ عنكَ يا أعجوبةَ الحبِّ عالمي / فقبلكَ لم يَلقَ الأعاجيبَ ناظري
وأمعنَ في تفكيرهِ القمرُ الزاهي / فمرَّ بأرضٍ ذاتِ عشْبٍ وأمواهِ
يناجيهِ منها عاشقٌ ذو ضراعةٍ / مناجاةَ صُوفيٍّ لِطَيْفِ إلهِ
يقول له يا مُشهدي كلَّ ليلةٍ / جمالَ مُحيَّا رائعِ الحسنِ تيَّاهِ
شبيهٌ بهذا الضوءِ نورُ جبينهِ / على أنَّهُ في الناسِ من غير أشباهِ
وترسمُ لي الأشباحُ طيفَ خيالهِ / فأدنو لضمٍّ أو للثمِ شفاهِ
تمنَّيْتُ لو وَسَّدْتَ خدّك راحتي / وصدرُكَ خفَّاقٌ وجفنُك ساهي
فرفَّ على الوادي الشاعُ طروبا / وناداهُ من بين الظلالِ مُجيبا
أزحْ هذه الأغصانَ عنكَ لعلّني / أصافحُ وجهاً من هواك حبيبا
فجاوَبهُ يا قرّةَ العين إنني / قد اخترتُ من شطِّ الغدير كثيبا
إذا أتعَبَتْ عيني السماءُ تطلُّعا / وخالستُ لحظاً للنجومِ مُريبا
ففي صفَحات الماءِ نهزة عاشقٍ / يراكَ على بُعْدِ المزار قريبا
خلوتُ به أرعاك أوْفى قسامةً / وأوفرَ من سحرِ الجمالِ نصيبا
فغاضَ ابتسام الضوءِ من فرط حيرةٍ / وصاحَ نجيِّي أنتَ حقَّرتَ سيرتي
هو الكونُ مرآتي ومجلى مفاتني / وما لغديرٍ أن يُمثِّلَ صورتي
وما نظرَ العشَّاقُ إلَّا لعالمٍ / يُعَظِّمُ في المعشوقِ كلَّ صغيرةِ
أعيذُ الذي شبَّهتَني بجماله / أديمَ مُحيَّا مثل صمَّاء صخرَتي
أنا الفحمةُ البيضاءُ إن جنَّني الدُّجى / أنا الحمة السوداءُ رأدَ الظهيرةِ
فدَعْ عالم الأفلاك واقنعْ بلجَّةٍ / وغازلْ من الأسماك كلَّ غزيرةِ
وبينا يهيمُ الضوءُ في سُبُحاتهِ / وقد غطّ هذا الكونُ في سُخرياتِهِ
رأى شبحاً في قربِ نارٍ كأنما / يودِّعُ طيفاً غابَ عن نظراتِهِ
يمدُّ ذراعيه ويُرسلُ صوتَه / بلوعةِ قلبٍ ذابَ في نبراتِهِ
إلى القمر الساري مُحيَّاهُ شاخصٌ / كصاحبِ نُسْكٍ غارقٍ في صلاتِهِ
فحامَ عليه الضوءُ واستمهلَ الخُطى / وأجرى سناهُ الطلْقَ في قسَماتِهِ
وصاحَ به يا شيخُ ما أنت قائلٌ / تكلَّمْ فإنَّ الليلَ في أخرياتِهِ
فقالَ له يا باعثَ الحبِّ والمنى / سلِمْتَ وحيّتك العوالمُ والدُّنى
شفيتَ جوى شيخٍ أحبَّك يافعاً / وعاش بهذا الحبِّ جذلانَ مؤمنا
وأفنيتُ عمري أرتقي عالي الذُّرى / إلى أنْ بلغتُ اليومَ مثوايَ ههنا
وأوقدُ ناري كي تراني وأنثني / لأطلقَ ألحاني وأدعوكَ مَوهِنا
وقيلَ ضنينٌ لا يجودُ بوصله / فهأنذا ألقاك يا ضوءُ محسنا
تساوتْ كلابٌ تنبح البدرَ سارياً / ونُوَّامُ ليلٍ أنكروا آيةَ السنا
فحدَّقَ فيه الضوءُ وارتدَّ مُغضَبا
فحدَّقَ فيه الضوءُ وارتدَّ مُغضَبا /
وقال له أفنيتَ في سُخفِك الصِّبا /
ولمَّا تُرِحْ جفناً من السهدِ مُتْعبا /
وسُخريةٌ بالنار أن تتقرَّبا /
كأنَّ شعاعي في جفونك قد خبا /
ومن عَبَثِ مثواكَ في هذه الرُّبى /
على حين لم تبلغ من النور مَرْقبا /
وما كنتَ إلَّا الواهمَ المترقِّبا /
وثالثَ عشَّاقٍ بهمْ ضِقتُ مذهبا /
وكانوا لأمثال الخلّيين مضربا /
فوا أسفا ما كنتُ في الدهر مذنِبا /
فأُجزى بنجوى من تعشَّق أو صبا /
وساق على حبي الدليلَ المكذَّبا /
سَلِ العاصيَ الهاوي من الخلدِ هل نبا /
به الليل لمّا آثر الأرض واجتبى /
أأبصرَ قبلي في الدُّجنَّة كوكبا /
أضاءَ له الدرْبَ السحيقَ المشعَّبا /
وهلْ في سنا غيري تملّى وشبَّبا /
بحواءَ واهتاجَ اليراعَ المثقَّبا /
حويتُهما روحاً طريداً مُعذَّبا /
فذاب حيائي منهما وتصبّبا /
وأورثني هذا الشحوبَ وأعقبا /
رأيتُ فماً يدنو ووجهاً تخضَّبا /
وصدراً خفوقاً فوق صدرٍ توثَّبا /
غرائزُ فيها الغيُّ والنقصُ ركِّبا /
تَلمَّسُ في ضوئي الأثامَ المحبّبا /
فيا شيخُ دَعْ هذا الوشاحَ المذهبا /
تَرَ الحمأَ المسنون في الكأسِ ذُوِّبا /
طفا الراحُ فيه والترابُ ترسَّبا /
وإنّ كلابَ الأرضِ أشرفُ مأربا /
ينيرُ لها ضوئي الظلامَ لتجنبا /
خُطى اللصِّ يستارُ الطريقَ المحجَّبا /
فإن نبحَتْ ضوئي تسمَّعتُ معجبا /
بأرخمِ لحنٍ رنّ في الليل مطربا /
تحيّةَ مُثنٍ بي أهَلَّ مُرحِّبا /
بني آدمٍ إنْ لم يكن آدمُ الأبا /
رجوت لكم من عالم الرجس مهربا /
وآثرتكم بالكلبِ جَدّاً مهذَّبا /
وأجملُ بالإنسان أن يتكلبا /
ومالَ عن الأرض الشعاعُ وغرَّبا /
ووسوسَ في صدرِ الدُّجى فتأَلَّبا /
ألا ما لهذا الليلِ تَدجى جوانبُهُ
ألا ما لهذا الليلِ تَدجى جوانبُهُ / على شَفَقٍ دامٍ تلظَّى ذوائبُهْ
وما ذلك الظلُّ المَخوفُ بأُفْقِهِ / يُطِلُّ فترتدُّ ارتياعاً كواكبُهْ
أأيتها الأرضُ انظري ويكِ واسمعي / توثَّبَ فيكِ الشرُّ حمْراً مخالبُهْ
أرى فِتنةً حمْراءَ يَلْفُظُها الثرى / دُخاناً تُغَشِّي الكائناتِ سحائبُهْ
وأشتمُّ من أنفاسها حَرَّ هَبْوَةٍ / كأنَّ هجيرَ الصيف يلفحُ حاصبُهْ
أرى قبضةَ الشيطان تستلُّ خنجراً / توهَّجُ شوقاً للدماءِ مَضارِبُهْ
تسلَّلَ يبغي مقتلاً مِن محمدٍ / لقد خُيّبَ الباغي وخابَتْ مآرِبُهْ
تقدَّمْ سليلَ النَّارِ ما الباب موصدٌ / فماذا توقَّاهُ وماذا تُجانبُهْ
تأمَّلْ فهَلْ إلَّا فتىً في فراشه / إلى النورِ تَهفو في الظَّلامِ ترائبُهْ
يُسائِلُكَ الأشياعُ زاغَتْ عيونُهم / وأنتَ حَسيرٌ ضائعُ اللُّبِّ ذاهبُهْ
تُرانا غفوْنا أم تُرى عَبرتْ بنا / نُفاثةُ سِحْرٍ خدَّرَتْنا غرائبُهْ
وما زال منا كلَّ أشوسَ قابضاً / على سيفهِ لم تخْلُ منه رواجبُهْ
تُرى كيف لم تُبصِرْ غريمك سارياً / وأين تُرى يمضي وتمضي ركائبُهْ
تقدَّمْ وجُس في الدار وهْناً فما ترى / لقد هَجَر الدارَ النبيُّ وصاحبُهْ
يحثَّان في البيداء راحلتَيْهما / إلى جبلٍ يُؤوي الحقيقةَ جانبُهْ
فقفْ وتنظَّرْ حائراً نَصْبَ غارهِ / تحدَّاكَ فيه ورْقُهُ وعناكبُهْ
لتعلمَ أن الحق رُوحٌ وفكرةٌ / يذلُّ لها الطاغي وتعْنو قواضبُهْ
فطِرْ أيها الشيطان ناراً أو انطلق / دُخاناً فأخْسِرْ بالذي أنت كاسبُهْ
خَسِئتَ ولو لم يَعصِمِ الحقَّ ربُّه / طوى الأرض ليل ما تزول غياهبُهْ