أَفي كُلِّ حِينٍ وَقفَةٌ إِثرَ ذاهِبِ
أَفي كُلِّ حِينٍ وَقفَةٌ إِثرَ ذاهِبِ / وَصَوغُ دَمٍ أَقضي بِهِ حَقَّ صاحِبِ
أوَدِّعُ صَحبي واحِداً بَعدَ واحِدٍ / فَأَفقِد قَلبي جانِباً بَعدَ جانِبِ
تَساقَطُ نَفسي كُلَّ يَومٍ فَبَعضُها / بِجَوفِ الثَرى وَالبَعضُ رَهنُ النَوائِبِ
فَيا دَهرُ دَع لي مِن فُؤادِي بَقيَّةً / لِوَصلِ وَدُودٍ أَو تَذكُّرِ غائِبِ
وَدَع لي مِن ماءِ الجُفونِ صبابَةً / أُجِيبُ بِها في البَينِ صَيحةَ ناعِبِ
وَهَل صِيغَ قَلبي أَو ذَخَرتُ مَدامِعي / لِغَيرِ وَفاءٍ أَو قَضاءٍ لِواجِبِ
فَقارِب أَخاكَ الدَّهرَ وَالعَيشُ مُسعِفٌ / فَسَوفَ تُرى بِالمَوتِ غَيرَ مُقارِبِ
حَياةُ الفَتى بَعدَ الأَخلاءِ زَفرَةٌ / تَرَدَّدُ ما بَينَ الحَشا وَالتَرائِبِ
رَعى اللَهُ فِتياناً وَفَوا حَقَّ شاعِرٍ / وَفيٍّ عَلى مَضِّ الخُطوبِ الحَوازِبِ
وَفِيٍّ لِمصرٍ لَم يُدَنِّس قَرِيضَهُ / بِحَمدِ خَئُونٍ أَو بِإِطراءِ كاذِبِ
وَفِيٍّ وَفاءَ الرُسلِ بَينَ مَعاشِرٍ / نَصِيبُ الحِمى مِنهُم وَفاءُ الثَعالِبِ
يَدُورُونَ بِالأَمداح يَبغُونَ مَأرَباً / فَيا ضَيعَةَ الأَوطانِ بَينَ المَآرِبِ
فَبَينا نَرى حَمداً نَرى الذَمَّ بَعدَهُ / يُريكَ فُصُولَ العامِ شِعرُ الأَكاذِبِ
فَدَع عَنكَ شِعرَ الحَمدِ وَالذَمِّ إِنَّني / نَصَحتُ بِما قَد أَقنَعَتني تَجارِبي
وَكُن أُمَّةً لَم تُعنَ إِلّا بِأُمَّةٍ / فَنَفسُكَ لَم تُخلَق لِسحرِ الأَلاعِبِ
مَتى تَخلِص الأَقلامُ للِنيلِ وَحدَه / فَمِن شاعِرٍ عالي الشُعورِ وَكاتِبِ
إِذا الشَّعبُ بِالنُوّاب عَزَّ مَكانُهُ / فَشِعرُكَ إِن تُنصِفهُ أَبلَغُ نائِبِ
وَهَل نائِبٌ زَكَّيتُمُوه كَنائِبٍ / يُزَكِّيهِ صَوتُ اللَهِ أَعدَلُ ناخِبِ
وَشتّانَ بَينَ اِثنَينِ نائِبِ أُمَّةٍ / وَنائِبِ إِنسانِيةٍ في المَصاعِبِ
فَهَذا إِلى وَقتٍ مِن الدَهرِ يَنقَضي / وَذاكَ عَن الأَجيالِ آتٍ وَذاهِبِ
لَقَد فَقَدَت مصرٌ بِفقدانِ حافِظٍ / لِساناً كَوَقعِ المُرهَفاتِ القَواضِبِ
فَسَل عَنهُ في المَوتى كرُومَرَ إِنَّه / سَقاهُ بِكَأسِ الشِعرِ سُمَّ العَقارِبِ
أَلَم يَرمِهِ في دِنشِوايَ بِضَربَةٍ / سَرى وَقعُها في شَرقِها وَالمَغارِبِ
أَطارَ فُؤادَ اللُوردِ صاعِقُ هَولِها / فَوَلّى عَلى أَعقابِهِ غَيرَ آئِبِ
وَشَدَّ عَلى قَصرِ الدُبارَةِ شَدَّةً / تَبَيَّنَ فيها اللُوردُ سُوءَ العَواقِبِ
تَداعَت بِها أَركانُهُ وَتَجاوَبَت / مَقاصِيرُهُ تَبكي بُكاءَ النَوادِبِ
وَكادَ يَقُولُ القَصرُ لِلُوردِ أَخلِني / فَلَو دامَ هَذا القَذفُ لا ندَكَّ جانِبي
ظُلِمتُ فَما ذَنبي تعرضُ ساحَتي / عِناداً لِلَيثٍ مُرهَفِ النابِ غاضِبِ
فَلَو كانَ لي في ساكِني مُتَخَيَّرٌ / لأَغلَقتُ بابي دُونَ إِيواءِ غاصِبِ
وَسَل بَعدَهُ غُورستَ ما فَعَلت بِهِ / بَواتِرُ أَمضى مِن نِصالِ المَضارِبِ
بَواتِرُ صاغَتها قَرِيحةُ شاعِرٍ / مِن اللَفظِ لَم تَحفِل بِحَشدِ الكَتائِبِ
تُمزِّقُ مِن أَعراضهم لا جُسومِهم / فَما القَتلُ أَن تُعنى بِحَشوِ الجَلابِبِ
وَما قَتَلَ الأَحرارَ كَالهَجوِ إِنَّهُم / يَرَونَ أَلِيمَ الطَعنِ طَعنَ المَناقِبِ
وَلَم أَرَ سَيفاً كَاللِسانِ قِرابُهُ / فَمٌ وَشَباهُ مِن قَوافٍ صَوائِبِ
يَرى شِعرَهُ بَينَ الصُفوفِ مُحارِباً / وَصاحِبُهُ في الناسِ غَيرُ مُحارِبِ
وَسَل مَجلِسَ الشُورى تَجبكَ من البِلى / مَواقِفُ صَرعى الجاهِ صَرعى المَناصِبِ
رَآهُم لأَغراضِ العَميد مَطِيَّةً / وَأَنَّ لِحَى الأَشياخِ لُعبَةُ لاعِبِ
فَأَوتَرَ قَوسَ النَقدِ غَيرَ مُصانِعٍ / وَسوَّدَ مُبيضَّ اللِّحى غَيرَ هائِبِ
فَذاكَ جَلالُ الشِّعرِ لا شِعر عُصبَةٍ / يُطالِعُنا تَجديدُهم بِالحَواصِبِ
هُمُ جُدَريُّ الشِعر أَذوَوا جَمالَه / بِما أَلصَقُوا في حُسنِهِ مِن مَعايِبِ
عَناوينُ كَالأَلغازِ حَيَّرَت النُهى / وَما تَحتَها مَعنىً يَلذّ لِطالِبِ
دَواوِينُ حُسنُ الطَبعِ قُوَّةُ قُبحِها / وَهَل يَخدَعُ النُقّادَ نَقشُ الخَرائِبِ
فَيا ضَيعَةُ الأَوراقِ في غَيرِ طائِلٍ / وَيا طُولَ ما تَشكو رَفُوفُ المَكاتِبِ
وَكَم دافَعوا عَن مَذهَبِ العَجزِ جُهدَهم / فَما غَسَلوا أَسواءَ تِلكَ المَذاهِبِ
وَكَم ملئُوا بِالزَهرِ وَالنَهرِ شِعرَهُم / بِلا طِيبِ مُستافٍ وَلا رِيِّ شارِبِ
وَكَم يَذكُرونَ الأَيكَ وَالطَيرَ صُدَّحاً / عَلَيها فَلَم نَسمَع سِوى صَوتِ ناعِبِ
وَكَم لَهِجُوا بِالشَمسِ حَتّى تَبَرَّمت / بِهم وَتَمَنَّت مَحوَها في الغَياهِبِ
وَكَم أَقلَقُوا بَدرَ الدُجى في سُكونِهِ / وَكَم أغرَقُوا سُمّاعَهم بِالسَحائِبِ
وَكَم هاتِفٍ بِالخُلدِ مِنهُم وَشِعرُهُ / تُوفيَ سِقطاً قَبلَ عَقد العَصائِبِ
وَشاكٍ كَواهُ الحُبُّ أَطفأَ جَمرَهُ / بِشعرٍ كَبَردِ الثَلجِ جَمِّ المَثالِبِ
فَأُقسِمُ لَو يَبغي وِصالاً بِشعرِهِ / لجانَبَهُ مَن لَم يَكُن بِمُجانِبِ
إِذا ما اِحتَفى بَعضٌ بِبَعضٍ فَإِنَّهُم / نَواضِبُ عِلمٍ تَحتَفي بِنَواضِبِ
أَكُلُّ مَتاعِ كاسِدٍ عِندَ غَيرِكُم / يَرُوجُ لَدَيكُم يا بِلادَ الأَعاجِبِ
وَكُلُّ أَخي زَيفٍ نَفاهُ سِواكُمُ / يُرى فيهِ مِن أَخيارِكُم أَلفُ راغِبِ
لَقَد راجَ دَجلُ الشِعر عِندَ رِجالِكُم / كَما راجَ دَجلُ السِحرِ عِندَ الكَواعِبِ
تَواصَت بِغَبنٍ شيبُكُم وَشَبابُكُم / وَفَوضى الهَوى ساوَت مُجدّاً بِلاعِبِ
فَأَحجم عَن مَيدانِها كُلُّ سابِقٍ / جَوادٍ وَجَلّى فيهِ تَهريجُ صاخِبِ
وَأَمسى زِمامُ الفِكرِ في يَدِ عُصبَةٍ / هُمُ المَثَل الأَعلى لِسُخفِ المَواهِبِ
عَلامَ يُجيدُ الفَنَّ في مصرَ مُتقِنٌ / إِذا كانَ بِالتَهريجِ نَيلُ المَراتِبِ
فَيا جَهلُ واصِلنا وَيا عِلمُ فَاِبتَعِد / وَيا حُمقُ لازِمنا وَيا عَقلُ جانِبِ
أَرى الجَهلَ نُوراً في بِلادٍ رِجالُها / خَفافيشُ يعشيها ضِياءُ الكَواكِبِ
إِذا الشَعبُ بِالإِهمالِ أَرسبَ عالياً / فَلا بِدعَ لَو يَعلُو بِهِ كُلُّ راِسِبِ