المجموع : 152
ظننت بأن الشعر يغني فما أَغنى
ظننت بأن الشعر يغني فما أَغنى / وَكَم شاعر في موقفي أخطأ الظنَّا
لَقَد كانَ شعري يحسن اللحن إن شدا / فَما بال شعري اليوم لا يحسن اللحنا
وكنت لأسفار الحياة اتخذته / رفيقاً أَصافيه المودة أَو خدنا
وكانَ يبث الشجو في الناس شدوه / إلى أَن يهيج السمع والروح والذهنا
يغني فَيُبكي السامعين غناؤُهُ / كذلك يُشجي العندليب إذا غنّى
وأَحسن من غنَّى من الطير بلبل / تبوأ في غناء من جنة غصنا
على فنن لدنٍ نزا وهو صائح / فهز وأحنى تحته الفنن اللدنا
وأَكثر إحسانا من الطير شاعر / إذا قال راعَى في صناعته الفنا
وَما اليَوم عجز الشعر عن خوَر به / ولكنها الأشجان لا تقبل الوزنا
كأني إليه لم أَمتَّ بقربة / وَلَم أَكُ للمطبوع منه أباً وابنا
من الشعر ما يَلقى الردى قبل ربه / إذا قصر المعنى المراد فما أَغنى
وَأَمّا الَّذي قد كانَ معناه فائضاً / فَيَفنى الَّذي قد قاله وهو لا يفنى
وَللشعر جسم ناعم هو لفظه / وَللشعر روح ذو شعور هو المعنى
أَرى الشعر بعد الوحي أَكرم هابطٍ / من الملأ الأعلى إلى الملأ الأدنى
وَلا خير في شعرٍ وإن راق لفظه / إذا كان عنه في الهداية يستغنَى
وَقَد يتفشَّى الشعر كالنور سائحاً / فيركب متن الصبح إن لم يجد متنا
وَقَد تسمع الأذنان جعجعةً له / ولا تشهد العينان عوضُ له طحنا
تناءَيت عَن لَيلى الحقيقة مرغماً / فَما جامعي دار إليها ولا مغنى
يَقولون طارحها الصبابة تنجذب / وأَنّى لمثلي أن يطارحها أنَّى
وَرب قلوب لنَّ بعد قساوة / وعلّك يا قلب الحقيقة مستثنى
تلقيت في بغداد من عصبة قلىً / وَقاسيت في بغداد من ثلة ضغنا
لَقَد طالَ فيما بيننا الطعن موجعاً / فدنّا كَما دانوا ودانوا كما دنا
وكنت أَرى بغداد مِمّا لقيته / ببغداد من كربٍ شقيتُ به سجنا
وَكانَت تَقول النفس مني لجهلها / سأحمل عبء الهم جلداً ولا أضنى
وَلست أُبالي بعد ستين حجة / أَأَبكي الزَمانُ العينَ أَم أَضحك السنا
وَلكنني ألفيت أن احتماله / يشق على من يَشتَكي مثليَ الوهنا
على العلم شن الجهل بالأمس غارةً / وَكَم غارَة من قبلها الجهل قد شنا
وأبعدت عن حتف يسوء برحلتي / وَقَد كانَ مني قابَ قَوسين أَو أَدنى
يريدون مني أن أغني باسمهم / وأي هضيم باسم أَعدائه غنّى
على أن في بغداد لي من شبابها / إذا ضقت أَنصاراً ومن حولهم حصنا
وإن بها صحباً عن الحق ذادة / أبوا أن يهد الحيف من شرفي ركنا
إذا النقد شبت ناره أَدبية / عَدَوا ثم لاقى كل قرن له قرنا
أتوا يدفعون الشر عني بمثله / ولم يظهروا في كل ما أَظهروا جبنا
فَلِلَّه إخوانٌ بهم زدت عدة / وَلِلَّه إخوان رجحتُ بهم وزنا
وَهَل أَنا إلا ابن لبغداد نازح / إذا ذكروا بغداد يوماً له حنا
كَما لَيسَ يَصبو الطفل إلا لأمه / وَلَيسَ بمختار على حضنها حضنا
نهبت فجاج الأرض في ليلة دجت / بسيارة تطوي البعيد ولا تضنى
إلى أن بدا صبح يشق بضوئه / قديراً إِهاب الليل من بعد ما جنا
وقد ذر قرن الشمس يلمع نوره / فأطريت منها النور يلمع والقرنا
تَبارك يوم سرني بلقاء من / أحب فبعد اليوم لا أَشتَكي الحزنا
وجدت رياض الشام ريّا أَنيقة / وأخلاق أهل الشام طافحةً حسنا
وجدت بها علماً وجدت بها حجىً / وجدت بها عدلاً وجدت بها أمنا
سأثني على قوم رعوني بفضلهم / ومن نال ما قد نلت من حظوة أثنى
أَرى المجمع العلميَّ خير وسيلة / ليَزداد ذو علم على شأنه شأنا
أَرى المجمع العلمي أَكبر منقذ / من الفقر للشعب الَّذي رام أن يغنى
أَرى المجمع العلمي يستثمر النهى / أَرى المجمع العلمي يستحضر الذهنا
سيجني شباب الشام منه فوائداً / وَعلماً لهم والعلم أَحسن ما يُجنى
وإني لفضل المجمع اليوم مكبرٌ / فَقَد جاد بالعلم الغَزير وما ضنّا
سيشكر ما للمجمع القوم من يد / كَما شكرت أَرض على الوابل المُزنا
فبالعلم يبنَى المجد في كل أُمَّة / وأَما بغير العلم فالمجد لا يبنى
سينقشع الغيم الَّذي قد تلبَّدا
سينقشع الغيم الَّذي قد تلبَّدا / فيبيضّ ليلي بعد أَن كانَ أَسودا
وغير بعيد أَن لَيليَ ينجلي / فَيبقى بأفق الشرق صبحاً موردا
تحملته حتى تضاءَل قالصاً / لصبح بدا والصبح أَجمل ما بدا
وما كنت ذاك الفدم يحسب ليله / خلافاً لما تأتي النواميس سرمدا
وَقَد كانَ قبل اليوم روضي قاحلاً / يعالج من شح الغمام به الصدى
وَكانَ يَعيش العَندَليبُ بمعزلٍ / عن الروض جم الهم إذ كانَ أجردا
وكنت ذممت العيش في الروض مثله / وأبعدت عنه لا أَرى فيه مقصدا
وَما رغبتي في الروض والروض قاحل / وَقَد طارَ عنه العندليب وأبعدا
وكنت أمنِّي النفس أن تدرك المنى / وأرجو زَمان العز أن يتجددا
أقول لها لا تيأسي فهي عسرة / ستذهب يوماً بعد أَن تبلغ المدى
عسى أَن يعود الروض غضاً كعهده / وَيرجع فيه العَندليب مغردا
إلى أَن رأَيت الدهر قد عاد راحماً / وَعاد زمان كان قد ضام مسعدا
إلى أَن رأَيت الروض يبسم للحيا / وَيشكر من قلب صميم له يدا
تجدد أَنفاس الرَبيع حياته / وتنبت من فيض لجيناً وعسجدا
وَحينئذ أَعلنت بالروض رغبة / وَحينئذ ألممت بالروض مخلدا
وقفت به في الصبح مستمعا إلى / قريض به ابن الطير يطرب منشدا
وأَي امرئ للشعر يسمع ثم لا / يهيم به إلا إذا كان جلمدا
وإني بشدو العندليب لمغرم / فماذا يثير العندليب إذا شدا
جعلت على سيارة ذات سرعة / إلى الشام أطوى فدفداً ثم فدفدا
فأَدركتها من بعد يوم وليلة / ومنها إلى بيروت قد جئت موفدا
فها أَنا ذا ألقى ببيروت حفوة / وأَشهد عزاً لم يكن لي لأشهدا
رَعى اللَه بيروتاً ومن كان نازِلاً / ببيروت أَو كانَت له تلك مولدا
رأَيت بها قوماً تلين طباعهم / وأَهلاً يعزون الغريب المبعَّدا
رجالاً رأوا في المجد عذراً لجهدهم / وَفي العلم مجداً لا يَزول وسؤددا
أَرى أَينما وجهت وجهي حديقة / وَفي جنبها للهو صرحاً ممردا
وللأدب الريان فيها محافلاً / وَللعلم فيها معهداً ثم معهدا
بماذا سوى علم به يكرم الفَتى / يريد الفَتى في الناس أَن يتفردا
وَما زلت قبلاً باسم بيروت هاتفاً / أَبيت له في كل وقت مرددا
فأَحببت بيروتاً وأَحببت أَهله / وكانَ عن الغايات حبي مجردا
وإني إذا ناديت بيروت صارخاً / يجاوبني من جانب الجبل الصدى
وكنت ببغداد أُكابد جفوة / وكانَ يسمّيني بها القوم ملحدا
مريضاً من الآلام يشكو أَمرَّها / فَلا الموت أَنجاني ولا الصبر أنجدا
رجوت سلاماً للشعوب يعمُّهم / وأَن لا يَكون المرء للمرء سيدا
وَقالوا ليَ احمد في البلاد همامها / فقلت لهم هاتوا هماماً لأَحمدا
ورب أَديب باتَ أسوان واجداً / يدير بوجه الليل طرفاً مسهدا
فلما أَراه الصبح ناصع وجهه / أَرى الصبح وجهاً للفجيعة أربدا
غدا يحمل الآلام وهي تمضُّه / وَراح حمولاً للشقاء كما غدا
وَهَذا جزاء الشاعر الأخرق الَّذي / إلى بلد جم الجهالة أَخلدا
وَما الموت ممقوت من الناس كلهم / وإن هابه من طاب عيشاً وأَرغدا
أَلَم يجدوا في باطن الأرض مرقداً / كما وجدوا في ظاهر الأرض مرقدا
وَما كانَ في موت امرئ العز من ردى / ولكن حياة الصاغرين هي الردى
تعبت لهم أَرجو بشعري صلاحهم / وَلِلَّه أَتعابي فقد ذهبت سدى
بلاد بها قد كنت أَمرح في الهَوى / وأَشرب من ماء أَبل به الصدى
وَلَم أَشك من دنياي إلا ظلامة / وَسهماً إلى قلب العراق مسددا
إذا المرء رامَ البعد عَن أَرض ذلة / فَلا يَنبَغي للمرء أَن يترددا
وَلا خير في غمد خلا من حسامه / وَلا في حسام ظل يصدأ مغمدا
وإن فراق الشيخ أَرضاً له بها / مُنىً مشهدٌ أَكبرْ بذلك مشهدا
وأَكبر منه أَن أُفارق بغتة / عَلى شغفي لَيلى لليلَى أَنا الفدى
وكنت وَلَيلى قبل أَن تصدع النوى / جميعين لا نَخشى النوى أَن تهددا
فَلما تفرقنا شكوت كَما شكَت / شقاء أَليماً ثم شملاً مبددا
كلفت بليلى وحدها دون غيرها / وَليلى شهاب غاب من بعد ما بدا
وإني إذا أَهدى لي الليل طيفها / جعلت ظلام الليل للعين إثمدا
وأَكثر مني شقوة في زمانه / صديق سقته الموت مراً يد العدى
وَلَيسَ وداع الشيخ قد شاب رأسه / وَداع فتى في أَول العمر أَمردا
وأَبدع أَلواح الهوى موقف به / تعانق للتوديع غيداء أَغيدا
شدا فاِنبرَت تشدو جواباً لشدوه / فأحسن بما تشدو وأحسن بما شدا
وإني امرؤ بغداد أَول بقعة / رضعت بها الآداب أصفى من الندى
وَما كنت في يوم عن الحق ساكتاً / وَلا فيه عن نصر الحقيقة قُعدُدا
معاذ العلى أَن يرجع الشعر ناكصاً / وَيجبن يوماً عن مكافحة العدى
ورب زَمان خلت لي فيه قربة / إلى الحق إلا أنني كنت مبعدا
وَكَم فجوة فيها الهداية ضلة / وَكَم شقة فيها الضلال هو الهدى
وإني على شيخوختي وَزَمانتي / أُريد بِشعري في الحياة التجددا
وَلا خير في شعر مضى اليوم عهده / وفي شاعر إن قالَ قال مقلدا
وَما شاعر العصر الجديد سوى الَّذي / على دولة الشعر القديم تمردا
ومن كانَ ذا روح مع العصر ثائر / فَلَيسَ يريد الروح منه ليجمدا
أَخو الشعر قد يردى ويُبقي وراءَه / على الدهر للأعقاب شيئاً مخلدا
فأَكبرْ بشعرٍ كان حراً كربِّه / وأَكبرْ بحرٍّ لا يَكون مقيدا
أَرى العلم يرمي للبعيد بقصده / وَلكنَّ منه الشعر أَبعد مقصدا
يريد أُناس منيَ الشعر جيداً / وَيأبى الضنى أَن أَنظم الشعر جيدا
أَنا اليوم في بيروت ضيف مكرم / وإن لبيروت على ضيفها يدا
لَقَد سرت من بغداد يدفعني الوَجدُ
لَقَد سرت من بغداد يدفعني الوَجدُ / إلى حيث وكر الشعر طائره سعدُ
إلى مصر أما مصر فهي كأَنَّها / كعاب ووادي النيل في جيدها عقد
إلى حيث يَلقى الحر للحق ذادة / كراماً فلا ضيم هناك ولا حقد
إلى بلد للعلم في أَرضه هدى / وَللشعر مثل النجم في جوه وقد
أجوب على سيارتي الأرض دونها / فيرفعني نهد ويخفضني وهد
يثبطني حب لبغداد لازب / وَيدفعني شوق إلى مصر مشتد
لَقَد ساءَني أني لبغداد بارح / وأني فيها لا أروح ولا أغدو
فقدت بلادي نازحاً غير أَنَّني / إذا جئت مصراً لم يضر ذلك الفقد
وَما دون مصر مطلبٌ لميمم / ففيها ينال المجد من همه المجد
وَلَم تَكُ بغداد سوى دار كربة / نهاريَ فيها مثل ليلي مسود
ورب عدو لَيسَ لي من وصاله / مناص وخل ليس من هجره بد
ولا مثل يوم ظل يبكي غمامه / ويضحك في طياته البرق والرعد
ذكرت به عهداً مضى فحمدته / فَما رد عهداً ماضياً ذلك الحمد
وَلَو كانَ عهدي باقياً لرعيته / وَلكن مضى عهدي فَلا يرجع العهد
ظمئت فَلَم تنقع أواميَ دجلة / وَللناس في بغداد من دجلة ورد
وَما دجلة عن قاصديها قصية / ولا ماؤها يوماً لشاربه ثمد
وكنت هزاراً كل يوم بروضة / على فنن أوراقه غضة أشدو
وَما كانَ يَدري الروض أن خريفه / قَريب وأن الورد آفته البرد
وَزار الهزار الروض إذ غض ورده / وَطارَ بعيداً بعد ما صوّح الورد
لَقَد حالَ ذاكَ الروض بعد نضارة / فَما بانه بان ولا رنده رند
وكنت أبالي أن تشط بيَ النوى / عَن القوم حتى حال منهم ليَ الود
هنالك أحباب تنكر ودهم / فَلا قربهم قرب ولا بعدهم بعد
ولا مثل صاد في الهجيرة بينه / وَبين بلوغ الماء من دجلة سد
يعالج في بغداد عيشاً منغصاً / وَينعم في بغداد أعداؤُه اللدُّ
حملت بصبر لم يخنِّي خطوبَها / وإني على حمل الخطوب أنا الجلد
هنالك قوم ما لَهم في حياتهم / إلى كل شيء يسعدون به جهد
كَسالى بيوم السَعي إلا أقلهم / وَقَد ورثت أخلاق آبائها الولد
وأما نساء القوم في كل بقعة / فهن لهن الضيم منهم أَو الوأد
يَقولون إِن الدين يجحد رشدَها / لَقَد كذبوا فالدين ليس به جحد
وَلَم ينف رشد المرأة الدين نفسه / ولكن غلاة الدين ليس لهم رشد
وأفرط أقوام وفرَّط غيرهم / وإن طريق المفلحين هو القصد
مشيت إِلى مصر أسارع قبلما / طَريقي إلى مصر الجميلة ينسد
سأُلقي عصا الترحال في مصر إنها / بلاد لها من نيلها يكثر الرفد
وأشدو بشعري هابطاً ظل دوحها / فتبسط ذاكَ الظل أفنانها الملد
وَيشملني أبناؤُها برعاية / أَرى أَنَّني قد لا أَرى مثلها بعد
وَللريح ألقاها بوجهي عذوبة / وَللماء أحسوه على كبدي برد
فَتَعلَم بَغداد على بعد أرضها / بأن ابنها في مصر منزله حمد
أحييك يا مصر الجَميلة يا مصرُ
أحييك يا مصر الجَميلة يا مصرُ / بشعر يزكيه شعوريَ والفكرُ
بشعر كتغريد العنادل مطربٍ / تعي الأذن ما يعني فينشرح الصدر
بشعر إليه النفس تلقي قيادها / تخال به سحراً وليس به سحر
إذا الشعر لم يهززك عند سماعه / فَلَيسَ خَليقا أن يقال له شعر
تحيَّة شيخ شاب أكثر رأسه / وَلما تشب منه الصبابة والذكر
تحيَّة من قد جاء أرضك ينضوى / إلى راية في وجهها كتب النصر
إلى راية خضراء كالنبت زانها / هلال به قد حق للعرب الفخر
إلى بلد يَلقى به الحق ذادةً / وَينعم في أكنافه الشاعر الحر
إلى بقعة فيها الأديب مكرم / وأرض عليها ينبت الأدب النضر
قصدت بسيري مصر حتى وصلتها / ولا بد من مصر وإن بعدت مصر
وإن العراق اليوم كالبحر مائج / به تعبث الأنواء والمد والجزر
طغى ثم غاض البحر من بعد ما طغى / وَلَيسَ بما في نفسه يعلم البحر
وَكابدت في تلك الربوع تعاسةً / وَليلاً تثير الشجوَ أَنجمُه الزهر
فَيا لَك من ليل كأَنَّ نجومه / عيون إلى وجهي لها نظر شزر
لَقَد طالَ حتى خلته غير منقضٍ / وَحتى كأَنَّ الليل لَيسَ له فجر
وَلِلَّه ما كابدته من تعصب / يقبِّحه من راض أخلاقه العصر
يَلومون من يأبى سوى العقل هادياً / وَيَرمون بالكفر امرأً ما به كفر
وَضاقَت بنا بغداد حتى كأَنَّها / على رَحَبٍ فيها لأبنائها قبر
وأما أحبائي هناك فقد قضوا / سوى النزر منهم لَو يَعيش ليَ النزر
أراد العدى أن يرهقوني بمكرهم / وإن سلاح العاجزين هو المكر
وَما أَنا من يجزي القَبيح بمثله / على أن بعض الشر يدفعه الشر
تجنبتهم من قبل أن يفرخ القلى / وَقاطعتهم من قبل أن يفدح الأمر
وَكَم وعدوا أن ينصفوني فما وفوا / وكم حلفوا أن يصدقوني فما بروا
نصحت فَلَم أَسمَع كلامي كأَنَّما / بآذان قومي حين أنصحهم وقر
وَلَولا شباب أيدوني بنصرهم / لما كانَ للكسر الَّذي هاضني جبر
على الصبر يا نفسي الكئيبة عوِّلي / فَلا عسر إلا سوف يعقبه يسر
وَمن حاد عن نهج الحقيقة لم يعش / ومن لم يدار الدهر ناصبه الدهر
تعلق بأهداب الطبيعة تنتفع / هناك هناك الجود والنائل الغمر
صبرت على ضيمي ببغداد حقبةً / فما سرت إلا بعد أن نفد الصبر
وَفي الأرض للرواد مرعىً وموردٌ / وفي الأرض منأىً عن مكان به ضر
وقد يبخل الإنسان في وفره على / أَخيه الَّذي أكدى ولا يبخل القطر
وقد ذقت حلو العيش دهراً ومره / إلى أن تساوى في فمي الحلو والمر
نزلت بوادي النيل أنقع غلتي / فَزالَ بماء النيل عن كبدي الحر
نزلت به بعد الفرات ودجلة / أعلُّ فأنسانيهما ماؤه الغمر
ذوت دوحة بالأمس كانَت تظلني / إذا صخدتني الشمس أفنانها الخضر
لَقَد قطعوا أغصانها وفروعها / فَلَم يَبقَ ذاكَ الفيء والورق النضر
وَلَو أن في بغداد حراً أَعزها / ولكنما بغداد لَيسَ بها حر
سوى نفر ليسوا قليلاً بعلمهم / أضاء بنور العصر منهم بها الفكر
أولئك يعتز العراق بصدقهم / ويسعد في الآتي بمسعاهم القطر
خذ الحق إن الحق يحسن أَخذه / فَليسَ به عيب سوى أنه مر
وإن طريق المجد في كل بقعة / قَريب على من سار لكنه وعر
وَلما وصلت الثغر كان لحسنه / بِوَجهي وقد أَحببته يبسم الثغر
وَها أَنا ذا ألقى بمصر رعاية / فمنها ليَ النعمى ومني لها الشكر
لَقَد سر قَلبي أن في مصر أُمةً / تمتع باستقلالها فلها الأمر
وَقَد جاهدت مصر الفتية دونه / وَبعد جهاد طال قد أَفلحت مصر
فأكرم بقوم ناضلوا عن حقوقهم / وأَشجع بقوم لا يروعهمُ الذعر
وَقوم إلى استقلال أوطانهم سعوا / أولئك فوق الأرض يبقى لهم ذكر
وَفي مصر آداب وتلك ثمارها / لأبناء مصر ثم للعرب الفخر
فَيا مصر أَنت اليوم أَكرم بقعة / حماها من الأطماع أَبناؤُها الغر
تحررت لما شئت أَن تتحرري / وَلَيسَ على حال يَليق بك الأسر
يَموت أناس في سبيل حقوقهم / وَلَيسَ يموت الحق فهو له العمر
قَد اِختَلَفوا ما بينهم في المنافعِ
قَد اِختَلَفوا ما بينهم في المنافعِ / كَما اِختَلَفوا في لونهم وَالطبائعِ
وَفي الناس مخدوع لآخر خادعِ /
وَرب جهول لام غير مليم / وَذم من الأخلاق غير ذميم
وَنازع من قد كان غير منازع /
وَصاحب سوء قلبه مضمر غلّا / أضرّ بمن قد كانَ ينفعه قبلا
وَقاطع من قد كانَ غير مقاطع /
وَمجتمع فيه السباب عتابُ / وإن عتاب الجاهلين سبابُ
فَما أَنا إن أبعدت عنه بجازع /
أرى الخزي كل الخزي في بلد الجهل / وأسمع سباً ليس يسمعه مثلي
أَأُغمض عيني أَم أسد مسامعي /
سأرحَل عن بغداد بعد قَليل / وإن عز في وهني عليَّ رحيلي
سأَرحل عنها مبعداً غير راجع /
عسى أن تضيء الشمس بعد دلوكها / وأن تطمئن النفس بعد شكوكها
كَما يطمئن البحر بعد الزوابع /
لَقَد طرقت ليلى بليلٍ تزورني
لَقَد طرقت ليلى بليلٍ تزورني / فَيا حبذا لَيلى وَيا حبذا الطرقُ
وَساءَلتها كيف اِهتدَت لي فَلَم تجب / فَما بال لَيلى لا يطاوعها النطق
وَبعد قَليل بان لي أنَّ ما أَرى / خيال تجلَّى لي يصوره الومق
فَما تلك إلا طيف لَيلى وإنه / شَبيه بليلى لَيسَ بينهما فرق
وأعني بليلى موطناً ما ذكرته / على البعد إلا كان دَمعي له دفق
أَردتَ لهم خيراً فجازوك بالشر
أَردتَ لهم خيراً فجازوك بالشر / كَذاك يجازَى الخير في غالب الأمر
إلى البلد الحر ارتحل غير قافلٍ / فَقَد يَستَريح الحر في البلد الحر
لعلكِ يا لَيلى إذا مت نازحاً / ستهدين من بعد سلاماً إِلى قَبري
وضعت يدي عند الوداع على قَلبي
وضعت يدي عند الوداع على قَلبي / لأَمنعه تحت الضلوع من الوثبِ
عَلى الرَغم مني اليوم من بعد ساعة / سأعتاض من لَيلى نزوحاً عن القرب
دَعيني أَقبِّل وجنتيك فإنني / سأَقضي بعيداً عنك في غربة نحبي
سأَرحل بعد الموت والموت قاهر / إلى منزل قد ضاق عن منزل رحب
لَقَد قَضَت الأيام بالبعد بيننا / فَطالَ على الأَيام فيما قَضَت عتبي
وعلك يا لَيلى إذا مت نائياً / تجلين بعد الموت ذاكرة حبي
سلام على الدنيا سلام على المنى / سلام على بغداد والأهل والصحب
لَقَد جرحوا سعداً وفي شخصه الشعبا
لَقَد جرحوا سعداً وفي شخصه الشعبا / على غرة منه فما أَكبر الذنبا
أَيطعن مصراً في صميم فؤادها / أناس إلى مصر يمتّون بالقربى
ورب شباب كان سعد يميزها / فكان لها سلماً وكانت له حربا
أَصابَت يد سوداء سعداً بطلقة / فسحقاً لها سحقاً وتباً لها تبا
أَسعداً وسعدٌ قلب مصر جميعها / لَقَد جرحوا من مصر في جرحه القلبا
أصابت على الأشهاد في رائع الضحى / ذراعاً بها سعد عن الحق قد ذبا
فأفظع بما قد أوقعت من جريمة / لها الشعب مستاء ومصر لها غضبى
وطار يقل البرق أنباء شره / فَما طارَ حتى أقلق الشرقَ والغربا
فَلِلَّه والأوطان والحق والهدى / دم سال من جرحيه يخضبه خضبا
أَلا ثكلت وغد الجريمة أمُّه / فأية نار في قلوب المنى شبا
كذلك يلقي الطيش في الغاب جذوة / وَلَيسَ يبالى يابساً كان أم رطبا
لَقَد خرقت منه الرصاصة ساعداً / لسعد طويلاً ثم صدراً له رحبا
أصاب بها ثدياً له بعد ساعد / يريد لروح منه قد كبرت سلبا
ولكن سلام اللَه حاط حياته / فَلَم يقض سعد نحبه لا قضى نحبا
وَقَد كان بعد الجرح والجرح فائر / يُقابل جلداً بابتساماته الصحبا
فقد حس رعباً مَن جنى إذ أصابه / وَما حس سعد من إصابته رعبا
فأعزز بروح جأشه ظل رابطاً / وأعزز بزاكي ذلك الدم منصبا
لَقَد جاء أمراً منكراً باعتدائه / كأَنْ لَم يكن في صدره قلبه قلبا
كأن الفَتى لا بارك اللَه في الفَتى / قد اعتاض عن قلب له حجراً صلبا
وَلَو شاء سعد مزق الشعب لحمه / ولكنَّ سعداً قلبه راحمٌ يأبى
وإنك يا عبد اللطيف لشقوة / ركبت بما قد جئته مركباً صعبا
أَلما شكت مصر جراحاً أَتيتها / بجرح جديد زاد كربتها كربا
وإنك يا عبد اللطيف تزيدها / على ما تعاني من خطوب لها خطبا
أَردت اغتيالا لِلَّذي لم تكن رأت / له مصر إلا أَن يرى فوزها إربا
خسرت بما قد جئت داريك فاسقاً / فَليسَ لك الدنيا وليس لك العُقبى
لمصر بسعد كل يوم صبابة / كَما كانَ سعد كل يوم بها صبا
فَما ساس سعد مصر حتى تقدمت / وحتى مشت نحو الرقيِّ به وثبا
وَقَد أَعجبت مصراً وزارة سعدها / بما جعلت أمر الدفاع لها دأبا
وقد فرح الأحزاب من صحة به / فهنَّأ حزب بالسلام له حزبا
تجمع حشد من بني مصر ثائر / وقد ملأ الحشد الميادين والدربا
فمرَّ بمستشفى أَخي الطب رامزٍ / يقبِّل جدرانَ المحلةِ والتُربا
وأنحى على الأقدار يكثر عتبه / ولكنما الأقدار لا تسمع العتبا
إلى أَن أَتى سعداً شفاء وإنني / لأحمد من قَلبي الجراحة والطبا
إليك إِلَهي في بكاءٍ أجيده
إليك إِلَهي في بكاءٍ أجيده / قصيداً إِذا ما نابَني الخطب أَضرعُ
إليك بداجي الليل في البحر إن طغى / إليك إذا ما ريع قلبيَ أَفزع
عبدتك ما أدري ولا أَحد درى / أَسرُّك أَم صدر الطَبيعة أَوسع
قرأت اسمك المحمود في الليل والضحى / إذ الشمس تستَخفي إذ الشمس تطلع
فأَيقنت أن الكون باللَه قائم / وآمنت أَنَّ اللَه للكون مبدع
وأنك معنى والخَليقة لفظه / وأنك حسن والطَبيعة برقع
أَيذكرك الإنسان في العسر جائعاً / وَيَنساك عند اليسر إذ هو يشبع
تعاليت أنت اللَه مقتدراً فما / يضرك نسيان ولا الذكر ينفع
تقدَّم إِلى تلك المشانق باسماً
تقدَّم إِلى تلك المشانق باسماً / ولاق عليها الموت ما لك تجبنُ
تعلق بها وسط الزحام بجرأة / فَما هي إلا رجفةٌ ثم تسكنُ
لعل الفَتى إن نام في قبره الفَتى
لعل الفَتى إن نام في قبره الفَتى / وأطبق جفناً يَستَريحُ لدى الغمضِ
وما كانَ تحت الأرض يذكر ميت / لَياليَهُ إذ كانَ يَمشي على الأرض
مريض من الآلام يشكو وحوله
مريض من الآلام يشكو وحوله / أطباء موصوفون بالحذق والنصْفِ
فقروا على أن يسكتوه بجرعة / تخدر أعصاب المريض ولا تشفي
وَما الأرض بين الكائنات سوابحاً
وَما الأرض بين الكائنات سوابحاً / سوى ذرة مقذوفة صغرت حجما
وأنت على الأرض الحقيرة ذرة / تحاول جهلاً أن تحيط بها علما
لقد جاء شيطانٌ من الجن داعياً
لقد جاء شيطانٌ من الجن داعياً / إلى جنةٍ فيها عذارى وغلمانُ
فقلت له اغرب أنت لست بخادعي / فإني شيطانٌ كما أنت شيطانُ
يقولون إن الدهرُ يصلح فاسداً
يقولون إن الدهرُ يصلح فاسداً / فما حيلةٌ الإنسان إن فسد الدهرُ
لنا قدمٌ في الحكم تعوزها الخطى / وحرية في القول يعوزها الجهرُ
تصور لي الذكرى شباباً قد انقضى
تصور لي الذكرى شباباً قد انقضى / ولم يبق لي من صرحه غير أنقاضِ
لقد حبَّبَ الذكرى إلى الشيخ أنه / يحس له فيها رجوعاً إلى الماضي
توقفت لا أدري تجاه الحقائق
توقفت لا أدري تجاه الحقائق / أأني خلقت أم هو خالقي
لئن وثق الجمهور خالقاً / فرب حكيم بينهم غير واثق
وكيف اعتقادي بالذي قد أراد لي / شروراً وجازاني مجازاة حانق
يقدر لي كفوا فإن جئته نكى / وكان إلى وادي جهنم سائقي
أأكفر لما شاء لي الكفر ساعة / واخلد في النيران غير مفارق
بقلبي أن يهدي عباده / فاكتم ما في القلب كتم المنافق
متى يصبح الإنسان حراً يقول ما / يريد ويبدي ما يرى غير فارق
وللناس زعم في الذي يعبدونه / ولكن ذاك الزعم غير مطابق
فمن قائل جسم على عرشه استوى / ومن قائل نور زها في المشارق
ومن قائل بل ربنا اللَه قوة / سرى فعلها في جسم كل الخلائق
ومن قائل ما اللَه جسما وقوة / بل اللَه شيء فوق كل الخوارق
يقولون ما يوحى إليهم ضميرهم / وما أحد فيما يقول بصادق
أتحسب أن الكون قد كان عاطلاً
أتحسب أن الكون قد كان عاطلاً / فلا أرضنا تسعى ولا الشمس تشرق
وقد خلق العوالم بغتة / وكان زمانا قبلها ليس يخلق
لئن كان هذا في اعتقادك راسخاً / فأنت لعمري في الحقيقة أحمق
لإبليس في الدنيا على الناس سلطة
لإبليس في الدنيا على الناس سلطة / كما أن للرب المهيمن سلطانا
شريكان فيها لا يموتان إنما / يموت الذي قد كان في الأصل حيوانا
لقد كان هذا يلهم الناس طاعة / وذلك فيها يفعم القلب عصيانا
وأكثر ما أوصى به لم يكن / وأكثر ما قد شاء قد كانا
وكم فقد الرحمن إذنا سميعة / وكم وجد الشيطان للسمع آذانا