المجموع : 66
أطلّ صباح العيد في الشرق يسمع
أطلّ صباح العيد في الشرق يسمع / ضجيجاً به الأفراح تَمضي وتَرجع
صباح به تبدي المَسرةُ شمسَها / وليس لها إلا التوهمَ مطلع
صباح به يختال بالوَشْي ذو الغنى / ويُعوِز ذا الإعدام طِمْرٌ مرقّع
صباح به يكسو الغنيّ وليده / ثياباً لها يبكي اليتيم المضيَّع
صباح به تغدو الحلائل بالحلى / وتَرفَضّ من عين الأرامل أدمع
ألا ليت يوم العيد لا كان أنه / يجدّد للمحزون حزناً فيَجزَع
يرينا سروراً بين حزن وإنما / به الحزن جدّ والسرور تَصَنُّع
فمن بؤساء الناس في يوم عيدهم / نحوسٌ بها وجه المسرّة أسفع
قد ابيضَ وجه العيد لكنّ بؤسهم / رمى نُكَتاً سوداً به فهو أبقع
خرجت بعيد النحر صبحاً فلاح لي / مسارح للأضداد فيهنّ مرتع
خرجت وقرص الشمس قد ذَرّ شارقاً / ترى النور سيّالاً به يتدفّع
هي الشمس خَوْ قد أطلّت مُصيخة / على الأرض من افق العلا تتطلّع
كأن تفاريق الأشعة حولها / على الأفق مُرخاةً ذوائبُ أربع
ولما بدت حمراء أيقنت أنها / بها خجل مما تراه وتسمع
فرُحت وراحت ترسل النور ساطعاً / وسرت وسارت في العلا تترفّع
بحيث تسير الناس كلٌ لِوِجهةٍ / فهذا على رِسل وذلك مُسرع
وبعض له أنف أشمُّ من الغنى / وبعض له أنف من الفقر أجدع
وفي الحيّ مزمار لمُشجي نَعِيره / غدا الطبل في درادابه يتقعقع
فجئت وجوفَ الطبل يرغو وحوله / شباب وولدان عليه تجمعوا
لقد وقفوا والطبل يهتزّ صوته / فتهتزّ بالأبدان سوق وأكرُع
ترى مَيْعة الأطراب والطبل هادر / تفيض وفي أعصابهم تتميَّع
فقد كانت الأفراح تفتح بابها / لمن كان حول الطبل والطبل يقرع
وقفت أجيل الطرف فيهم فراغي / هناك صبيّ بينهم مترعرع
صبيّ صبيح الوجه أسمر شاحب / نحيف المباني أدعج العين أنزع
يَزيِن حجاجَيْه اتساع جبينه / وفي عينه برق الفَطانة يلمع
عليه دريس يَعضِر اليُتم رُدْنه / فيقطرُ فقر من حواشيه مُدقع
يُليح بوجه للكآبة فوقه / غُبار به هبّت من اليتم زَعزَع
على كثر قرع الطبل تلقاه واجماً / كأن لم يكن للطبل ثَمةَ مَقرع
كأن هدير الطبل يقرع سمعه / فلم يُلْفِ رجعاً للجواب فيرجع
يردّ ابتسام الواقفين بحسرة / تكاد لها أحشاؤه تتقطع
ويرسل من عينيه نظرة مُجهِشٍ / وما هو بالباكي ولا العين تدمع
له رجفة تنتابه وهو واقف / على جانب والجوّ بالبرد يلسع
يرى حوله الكاسين من حيث لم يجد / على البَرد من بُرد به يتلفّع
فكان ابتسام القوة كالثلج قارساً / لدى حسرات منه الكجمر تَلذَع
فلما شجاني حاله وأفزّني / وقفت وكلّي مَجْزَع وتَوَجُّع
ورحت أعاطيه الحَنان بنظرة / كما راح يرنو العابد المتخشِّع
وأفتح طرفي مُشبَعاً بتعطُّف / فيرتد طرفي وهو بالحزن مشبع
هناك على مهل تقدمت نحوه / وقلت بلطف قول من يتضرّع
أيا ابن أخي من أنت ما اسمك ما الذي / عراك فلم تفرح فهل أنت مُوجع
فهبّ أمامي من رُقاد وُجومه / كما هبّ مزعوبَ والجَنَان المهجِّع
وأعرض عنّي بعد نظرة يائس / رواح ولم ينبِس إلى حيث يهْرَع
فعقّبته مستطلعاً طِلْع أمره / على البُعد أقفو الأثر منه وأتبع
وبيناه ماش حيث قد رُحت خلفه / أدِبّ دبيب الشيخ طوراً وأسرع
لمحت على بُعد اشارة صاحب / ينادي أن ارْجع وهو بالثوب مُلمِع
فأومأت أن ذكرته موعداً لنا / وقلت له اذهب وانتظر فسأرجِع
وعُدت فأبصرت الصبيَّ مُعرِّجاً / ليدخل داراً بابها مُتَضعضِع
فلما أتيت الدار بعد دخوله / وقمت حِيالَ الباب والباب مُرجَع
دنَوت إلى باب الدُوَيرة مطرقاً / وأصغيت لا عن ريبة أتسمّع
سمعت بكاءً ذا نشيج مُردَّد / تكاد له صُمّ الصفا تتصدّع
فحِرت وعيني ترمق الباب خلسةً / وللنفس في كشف الحقيقة مَطمَع
أأرجِع أدراجي ولم أك عارفاً / جَليّة هذا الأمر أم كيف أصنع
فمرّت عجوز في الطريق وخلفَها / فتاةٌ يُغشّيها ازارٌ وبُرقُع
تعرّضتها مستوقفاً وسألتها / عن الأسم قالت إنني أنا بَوْزَع
فأدنيتها مني وقلت لها اسمعي / حنانَيْك ما هذا الحنين المُرجَّع
فقالت وأنّتْ أنّهً عن تَنَهُّد / وفي الوجه منها للتعجُّب مَوْضع
أيا ابنيَ ما يَعْنيك من نَوح أيِّم / لها من رزايا الدهر قلب مُفجَّع
فقلت لها إني امرؤ لا يَهُمّني / سوى من له قلب كقلبي مُروَّع
وإنّي وإن جارت عليّ مواطني / فؤادي على قُطّانهنّ مُوَزّع
أبوزع مُنّي عمركِ الله بالذي / سألتُ فقد كادت حشاي تَمَزَّع
فقالت أعن هذي التي طال نحبُها / سألتَ فعندي شرح ما تتوقّع
ألا أنها سلمى تعيسةُ معشرٍ / من الصِيد أقوت دراهم فهي بَلقَع
وصارعهم بالموت حتى أبادهم / من الدهر عَجّارٌ شديد مُصرِّع
قلم يبق إلا زوجها وشقيقها / خليل وأما الآخرون فودَّعوا
ولم يَلبَث المقدور أن غال زوجها / سعيداً فأودى وهي إذ ذاك مُرضِع
فربّى ابنها سعداً وقام بأمره / أخوها إلى أن كاد يقَوى ويَضْلع
فأذهب عنه الخالَ دهرٌ غَشَمْشَمٌ / بما يُوجِع الأيتام مُغرىً ومُولَع
جَرَت هَنَةٌ منها على خاله انطوى / بقلب رئيس الشرطة الحقدُ أجمع
فزجّ به في السجن بعد تَجَرُّم / عليه بجُرم ما له فيه مَصنَع
عزاه إلى إيقاعه مُوقعاً به / وما هو يا ابن القوم للجرم موقع
ولكنّ غدر الحاقدين رمى به / إلى السجن فهو اليوم في السجن مُودَع
فحُقّ لسلمى أن تنوح فإنها / من العيش سمّاً ناقعاً تتجرَّع
فلا غرو من أم اليتيم إذا غدت / ضحى العيد يُبْكيها اليتيم المُضيَّع
فعُدت وقلبي جازع متوجّع / وقلت وعيني ثَرّة الدمع تَهمَع
ألا ليت يوم العيد لا كان أنه / يجدّد للمحزون حزناً فيَجزِع
وجئت إلى ميعادنا عند صاحبي / وقد ضمّه والصحبَ نادٍ ومَجمَع
فأطلعتهم طِلع اليتيم فأفّفوا / وخبّرتهم حال السجين فرَجَّعوا
فقلت دعوا التأفيف فالعار لاصق / بكم واتركوا الترجيع فالأمر أفظع
ألسنا الأُلى كانت قديماً بلادنا / بأرجائها نور العدالة يسطع
فما بالنا نستقبل الضيم بالرضا / ونعنو لحكم الجائرين ونَخْضَع
شربنا حميم الذُلِّ ملُّ بُطوننا / ولا نحن نشكوه ولا نحن نَيْجَع
فلو أن عَيْر الحيّ يشرب مثلنا / هواناً لأمسى قالساً يتعوَّع
نهوضاً إلى الغرّ الصُراح بعزمة / تخِرّ لمرماها الطُغاة وتركع
ألا فاكتُبوا صكّ النهوض إلى العلا / فإنّي على موتي به لمُوَقِّع
لعمرك أن الحرّ لا يتقيّد
لعمرك أن الحرّ لا يتقيّد / ألا فليقل ما شاء في المٌفنِّد
إذا أنا قصّدت القصيد فليس لي / به غيرَ تبيان الحقيقة مَقصد
نَشدت بشعري مطلباً عَزّ نَيْله / وأن هان عند الشعر ما كنت أنشُد
فللنجم بعدٌ دون ما أنا ناشد / وللدُرّ قدر دون ما أنا مُنشِد
وكم جَنَّبَتْني عزّة النفس مَنهَلاً / يطيب به لكن مع الذُل مَوْرد
وما أنا إلاّ شاعر ذو لُبانة / أنواح بها حيناً اغَرِّد
ولي بين شِدْقَيَّ في الهَرِيتين صارم / بُسَلّ على الأيام طوراً ويُغْمَد
ولا عجب أن عابني الشاعر الذي / يقول سخيف الشعر وهو مُقلِّد
فإن ابن بُرد وهو أكبر شاعر / تَنَقَّصه في الشعر حَمّاد عَجْرد
تعوّدت تصريحي بكل حقيقة / وللمرء من دنياه ما يتعوَّد
إذا رُمْتُ نُصحاً جئت بالنصح واضحاً / وما كان من شأني الكلام المُعَقَّد
وقد أبصر الداء الدفين الذي بنا / كما أبصر الأمواه في التُرب هدهد
يقولون لي استنهض إلى العلم قومنا / بشعر معانيه تُقيم وتُقْعد
أما علموا أن الحياة بعصرنا / مدارس في كل البلاد تُشيَّد
وما ينفع القول الذي أنت قائل / إذا لم يكن بالفعل منك يؤيَّد
فيا قومنا أن العلوم تجدّدت / فإن كنتم تهوَوْنا فتجدّدوا
وخلّوا جمود العقل في أمر دينكم / فإن جمود العقل للدين مُفسِد
وإن شئتم في العيش عزّاً فأقدموا / فكم نيل بالإقدام عزٌّ وسؤدد
وأمضوا سديد الرأي دون تردُّد / فما يَبْلُغ الغايات من يتردّد
ولا تقبلوا قَيْداً بقول مجرّد / فما قَيَّد الأحرار قول مجرّد
وأطلالِ علم لا تزال شواخصاً / تُذكر بالعهد القديم وتشهد
أراها فأبكي وهي رهنُ يد البلى / بدمع كما ارفَضّ الجُمان المُنضّد
وما أنا سالٍ عهدها حين لم تَسِل / دموعي ولكنّي امرؤ مُتجلِّد
فإن تُكبِوا تبديد دمعي لأجلها / فإن دمي من أجلها سيُبَّدد
ومعهد علم أسسته عِصابة / من القوم تسعَى للنجاح وتَجْهَد
شباب مشَوا للمكرمات بعَزْمة / تقاعس عنها الكواكب المتوقّد
سأستودع الأيام كل قصيدة / يَطيب لهم فيها الثناء المُخَلَّد
أقول لهم قولاً به أستزيدهم / وأشكرهم شكراً جزيلاً وأحمدَ
أما وخلالٍ فيكم عربية / وذا قَسَمٌ لو تعلمون مؤكَّد
يسُرّ العلا أن ينَهض القوم للعلا / وأن يَجْمَعَ الشبان للعلم معهد
تُريد ليَ الأيام أن أتقيّد
تُريد ليَ الأيام أن أتقيّد / وأطلُب فيها أن أكون المُجِّددا
وتقعد بي دون المدى في خطوبها / وغاية همّ النفس أن أبلغ المدى
كفى بصريح العقل قيداً لمطلَق / من الناس يَبغي أن يكون مقيَّدا
لعمر الهدى أن النُهى ليس من صُوىً / سواها لمن ضلّوا الطريق إلى الهدى
فما بال هذا العقل أمسى معطَّلاً / لدينا كأن الله أوجده سُدى
أيُخلقنا كرّ الجديدَيْن ضِلّةً / ولم نتقمّص فيهما ما تِجدّدا
فيا مُنجِدي فيما أريد من العلا / ولولا العلا لم أطلُب الدهرَ منجدا
أعنّي على ما لو تحقَّق كونُه / لما كان لي بل للأناسِيّ مُسعدا
تَجهّز من الحُسنى بما أنت قادر / عليه ولا تَقبل سوى العقل مُرشدا
وأحسِن إلى من قد أساء تكرُّماً / وإن زاد بالإحسان منك تمرُّدا
وحِبَّ الذي عاداك ان رمت قتله / فإني رأيت الحبّ أقتل للعدى
فليس مُضرّاً بالعلا في الذي أرى / على كلّ حال أن تحبّ من اعتدى
إذا دُفِع الشرُّ القبيحُ بمثله / تَحصَّل شرّ ثالث وتَوَلَّدا
وأمست دواعي الشرّ ذات تسَلسُل / مَديد وصار الشرّ في الناس سرمدا
فما الرأيُ عندي أن تمّحضت الوغى / سوى أن يَظَلَّ السيف في الغِمْد مُغمَدا
وأن تُجمِع الدنيا على ردّ طامع / أشار إلى أسيافه مُتَهدِّدا
فإن كان هذا في العصور التي خَلَت / عسيراً ففي هذا الزمان تمهّدا
فإنّ جميع الأرض أمست كبلدة / بها كل جمع عُدَّ في الحكم مفردا
ولي خُلُق يأبى عليّ انطباعه / على الخير تسليمي إلى الشرّ مِقْوَدا
واضرب عن جهل الجهول ولم أكُنْ / لأضرب في الأيام للغدر موعدا
إذا أيقظتني للعِداء اعتداءة / شربت لها من خالصِ العَفوِ مُرْقِدا
وتكرهُ نفسي كل عبد مُذَلَّل / فقد كرِهت حتى الطريق المُعبَّدا
إذا ما اتَّقَت نفس رداها بذِلّة / فعنديَ نفس تتّقي الذُلّ بالردى
ولو طلَبت نفسي الغنى بامتهانها / لأصبحتُ في المثرين أطولهم يدا
ولكنّني آليتُ أن لا أذيقَها / من العيش إلاّ ما استُطِيب وحُمّدا
سجَّية نفس لم أحُل عن عهودها / وأن لامني الأعمى عليها وفنّدا
وما ضرّني إذ عضّني مُتشادق / شَحا بفم قد كان في العضّ أدردا
ولي وطن أفنَيْت عمري بحبّه / وشتَّتُّ شملي في هواه مُبدّدا
ولم أر لي شيئاً عليه وإنما / عليّ له في الحبّ أن أتشدّدا
تعلَّقته منذ الصبا مُغرَماً كما / تعلّق ليلى العامريُّ مُعَمَّدا
وسَيَّرت فيه الشعر فخراً فطالما / شدوت به في مَحفِل القوم منشدا
وكم رام اسكاتي أناس أبى لهم / خَنى الطبع إلاّ أن يروا لي حُسّدا
ومن عجب أن يَعشَقَ الروض بلبل / ويمنعه ذِبّانه أن يُغرِّدا
وما الناس إلاّ اثنان في الشرق كلِّه / جهول تَلَهّى أو حليم تَبَلَّدا
ولم أر مثل الفضل في الشرق مُخفِقاً / ولا مثل جدّ المرء للمرء مُسعدا
تأمَّل قليلاً في بَنيه مفكّراً / لتَشهد منهم للعجائب مَشهدا
فتُبصِرَ أيقاظاً يُطيعون هُجَّداً / وتبصرَ أحراراً يخافون أعُبدا
وكم فأرة في الشرق تُحسَب هرّة / وكم عَقعَق في الشرق سُميَ هدهدا
ألا ربّ شاك قال لي وهو آسف / أما آن للتهذيب أن يتبغددا
فقلت له أبْشِر بخير فإنه / ببغداد للتهذيب اسس منتدى
أمارِس دهراً من جديدَيّ داهرا
أمارِس دهراً من جديدَيّ داهرا / وما زال ليلي بالعراقَين ساهرا
أبى الحق إلاّ أن أقوم لأجله / على الدهر في كل المَواطن ثائرا
وأن أتمادَى في جدال خصومه / وأقرعَ منهم بالبيان المُكابرا
وإني لأهوى الحق كالطِيب ساطعاً / وكالريح هَبّاباً وكالشمس ظاهرا
ستَبقى لنفسي في هواه سَريرة / إذا الدهر أبْلى من بنيه السرائرا
وتَكره نفسي أن أكون مخادعاً / لأدرك نفعاً أو لأدفع ضائراً
ومن أجل مقتي للمخانيث أنكرت / يدي أن تُحَلّىَ في الجنان أساورا
وما العَجز إلا أن أكون مُكاتِما / إذا ما تَقاضتني العلا أن أجاهرا
وما أنا ممّن يُبْهِم القَول لاحناً / فيُضمرَ فيه للجليس الضمائرا
ولولا طُموحي في الحياة إلى العلا / سكنت البوادي واجتنبت الحَواضرا
يقولون لي في مصر للعلم نهضة / تُفَتِّق أذهاناً وتجلو بصائرا
وإن بها للعلم قَدراً وحُرمة / وإن بها للحق عوناً وناصرا
وإن لأهل العلم فيه نوادياً / وإن لأهل الفضل فيها دساكرا
ألم تر أن القوم في كل مَحفِل / بها رفعوا للقائلين المنابرا
وقد ضربوا وعداً لتكريم شاعر / تملّك صِيتاً في الأقاليم طائرا
هو الشاعر الفحل الذي راح شعره / بانشاده في البَرّ والبحر سائرا
فلو قلتَ بعض الشعر في يوم حَفْلهم / تَشُدّ به منَا لمصر الأواصرا
فقلت أجل والشعر ليس بمُعجزي / ولن تَعدَموا مني على الشعر قادرا
ألا أن شوقي شاعرٌ جِدُ شاعر / يفوق الأوالي بل يَبُزّ الأواخر
تَمَلّك حرّ الشعر فهو رَقيقه / وقام عليه بالذي شاء آمرا
إذا رام جَزْلاً منه أنشد زاخِراً / وأن رام سَهلاً منه أنشد ساحرا
فلا عجب من أهل مصر وغيرهم / إذا عقدوا منهم عليه الخناصرا
بَنى لهم مجداً رَفيعاً بشعره / لذا جعلوا حسن الثناء وكائرا
ولكنني قد أنظر الحفلة التي / تُقام له ذا اليومَ في مصر ساخرا
إذا احتفلت مصر بشوقي فمالها / تُقيم على الأحرار في العلم حاجرا
فقد أسمعتنا ضَجّة أمطرت بها / عليّاً وطه حاصباً مُتطايرا
فما بال هذا عُدَّ في مصر مارقاً / وما بال هذا عدّ في مصر كافرا
إذا لم تك الأفكار في مصر حرّة / فليس لمصر أن تُكَرّم شاعرا
أيُرفِع قَدْر العلم يَنطِق ناظماً / ويُوضَع قدر العلم ينطق ناثرا
ويَختَص بالتبجيل من جاء مُنشداً / ويُقذَف بالتَجْهيل من جاء فاكرا
ألا أن هذا الشعرِ ليس بطائل / إذا كان عمّا يبلغ العلم قاصرا
كما أن هذا العلم ليس بنافع / إذا لم تكن فيه النفوس حرائرا
وتكريم ربّ العشر ليس بمفخر / لمن كان عن حرّية الفِكر جائرا
وإلاّ فعصر الجاهلية قبلنا / له السَبق في تكريم من كان شاعرا
هو الدهر لم يترك مَشَنَّ غِواره
هو الدهر لم يترك مَشَنَّ غِواره / على سابق من ليله أو نهاره
يثير غبار الحادثات بكَرِّه / وهل نحن إلاّ من مُثار غباره
وكم عِبَر مطويّة في صورفه / فهل من مُجيل فيه طرف اعتباره
خليليّ أن الأرض غربال قُدرة / تجمّعت الأحياء بين اطاره
تَميد به كفّ الزمانِ تحرّكاً / لمَحْوِ ضعيف أو لأثبات فاره
فيبقى به الأقوى قرين ارتقائه / كما يسقط الأوهى رهين اندثاره
فلا عيش في الدنيا لمن لم يكن بها / قديراً على دفع الأذى والمكاره
لعمرك ما هذه الحياة بملبَس / لمن حيك من عجز نسيج شعاره
ولكن لمن أمسى بأيْد وقوّة / يجرّ على الأيام فضلَ ازاره
أرى الشمس يُخفي ضوءُها كل شارق / وإن كان ينبو الطَرْف عن مستناره
وما ذاك إلاّ أنّها في تَّلَهُّب / يموج بنور ساطعَ وقْد ناره
فلم يستطع نجم طلوعاً تجاهها / إذا لم يَعُذْ بالليل غبَّ اعتكاره
كذاك ضعيف القوم أن كان جاره / قوياً يكن شِلواً أكيلاً لجاره
وما الليث لولا بأسه في عرينه / بأشرفَ من ضبّ الفلا في وجاره
ومن غاوره اليام غيرَ مُدجَّج / فلا يطعمَنْ في مَغنَم منَ مَغاره
ومن لم يُهِن صَرْف الزمان برحلة / تُهِنْهُ صروف الدهر في عُقر داره
وما شرفُ الدرِ الثمينِ فريدُه / إذا هو لم يَبْرَح بطون مَحَاره
أرى كل ذي فقر لدى كل ذي غنىً / أجيراً له مستخدَماً في عَقاره
ولم يعطه إلاّ اليسير وإنما / على كدّه قامت صروح يَساره
ويلبس من تذليله العزّ ضافياً / وينظره شزراً بعين احتقاره
يَشُدّ الغنى أزر الفتى في حياته / وما الفقر إلا مكسرٌ في فقاره
وليس الغنى إلاّ غنى العلم أنه / كنور الفتى يجلو ظلام افتقاره
ولا تحسَبنّ العلم في الناس مُنْجياً / إذا نكَّبَت أخلاقهم عن مناره
وما العلم إلاّ النور يجلو دجى العمى / ولكن تَزوغ العين عند انكساره
فما فاسد الأخلاق بالعلم مُفْلِحاً / وإن كان بجراً زاخراً من بحاره
سل الفلك الدوّار عن حركاته / فهل هو فيها دائر باختياره
وهل هو في هذا الفضاء مسافر / له غاية مقصودة من سِفاره
وهَبْنا جهلنا بدأه من تقادم / فهل يدرك العقل انتهاء مداره
متى ينجلي ليل الشكوى عن النُهى / وترفع كفُّ العلم مُرْخى ستاره
ألا وَرْيَ في زند الزمان فنهتدي / بسقط ضئيل من سقيط شراره
أرى الدهر ليلاً كلّه غيرَ مُبصر / وإن كان في رَأد الضحا من نهاره
وأهليه ساروا خابطين ظلامه / وإن ركبوا في السير متن بخاره
لعمرك أن الدهر يجري لغاية / فإن شئت أن تحيا سعيداً فجاره
وها هو ذا يعدو فيبتدر المدى / وينهب أعمارَ الورى في ابتداره
لقد فاز من بارى جديده جدّةً / وخار الذي في جدّة لم يباره
وليست حياة الناس إلاّ تجِدّداً / مع الدهر في إيباسه واخضراره
وما الناس إلاّ الماء يحييه جَرْيُه / ويُرديهُ مكث دائم في قراره
لك الخير هل للشرق يقظة ناهض / فقد طال نوم القوم بين دياره
ألم تر ان الغرب أصلت سيفه / عليهم وهم لاهون تحت غِراره
وبادرهم كالسيل عند انحداره / وهم في مهاوي غفلة عن بِداره
أما آن للساهين أن يأبهو له / وقد أصبحوا في قبضةٍ من اساره
تراهم جميعاً بين حيران واجمٍ / وآخر يُطري ماضياً من فَخاره
أرى الدهر لا يألو بسَتر الحقائق
أرى الدهر لا يألو بسَتر الحقائق / إذا افتر عن صبح تلاه بغاسق
يجرّ ذيول الخطب فوق طريقها / ليعفوَ منه ما له من سلائق
ولو لمَ يجئنا كل يوم موارباً / لما كان فجر كاذب قبل صادق
كأن ليالي الدهر غضبي على الورى / فتنظر شزراً بالنجوم الشوارق
وما طلعت كي تَهدي القومَ شمسُه / ولكن لتُصليهم جحيم الودائق
وقد تُنطق الأيام بالحق أعجماً / وتُسكِت عن تبيانه كلَّ ناطق
وكم مُدّع فضل التمدّن ما له / من الفضل إلاّ أكله بالملاعق
وكم عاقل قد عدّه الناس أحمقاً / وما هو لو يُبْلَى سوى متحامق
وربّ ذكيّ لم يكن من ذكائه / سوى ما رووه من ذكاء اللقالق
وقد تُعرِض الأسماعُ عن ذي فصاحة / وتُصغى إلى ذي اللُكنة المتشارق
ومن شِيمَ الأيام في الناس انها / تجور عليهم باقتطاع العلائق
وأطلف جَورْ الدهر نرى به / تدلّل معشوق وذِلّة عاشق
وما كان كذب القوم في القو وحده / ولكنّه في كُتْبهم والمهارق
وأقبح مَيْن في الزمانُ خرافةٌ / تَخُطّ بها طرساً يراعة نامق
ضلال على مرّ الجديدين لم تزل / مغاربنا من أمره كالمشارق
فعدِّ عن الأيام إذ لم تَجِد بها / سوى لَغَطٍ يزري بفضل المناطق
نَفَضتُ من الدنيا يَدَيّ لأنني / تعرّفتُ منها ما بها من خلائق
فما أنا وقّاف بها عند منزل / ولا أنا باك من حبيب مُفارق
ولا عذّبَتْني في العُذَيب صبابة / ولا شاقني برق لربع ببارق
تعشقت فيها حسن كل حقيقة / وأعرضت عن حسن الحسان الغَرائق
ولي عند أخوان الصفا أريحيّة / إلى كل خلّ في الزمان موافق
إذا ما عقدنا مجلس الأنس بالطِلا / فبيني وبين السُّكر خمس دقائق
أقوم إلى كبرى الزُجاجات مُدْهِقاً / بمُستقطَر من خالص التمر رائق
فأقرع بالكأس الرَوِيّة جبهتي / بشُرب كما عبّ القَطا متلاحق
اسابق ندماني إلى السكر طائراً / بجنحِ من الأنس المضاغف خافق
فما هي إلاّ بعد شربي سُوَيْعة / وقد دبّ من رأسي الطلا في المفارق
فنادت أصحابي على غيرِ حشمة / وقلت لهم ما قلت غير منافق
وأغنيتهم عن نَقْلهم في شرابهم / بمُزٍّ طريٍّ من نُقول الحقائق
ولم يُبدِ فيّ السُكر عند اشتداده / سوى شكر خِلّي أو سوى حمد خالقي
تعّودت سبقي في الفَخار فلم أرِد / من السكر أن أحظي به غير سابق
كما أعتاد سبقاً في المكارم خزعل / بلا سابق فيها عليه ولاحق
أمير نَمَتْه للمكارم والعلا / جحاجح من كعب كرام المعارق
كذلك أعلى اللّه في الناس كعبه / بحظّ من المجد المؤثّل فائق
إذا سار سار المجد في طيّ بُرْده / يرافقه أكرم به من مرافق
فيرحل من أنسابه في مواكب / وينزل من أحسابه في سُرادق
وأن جاء أغضى من رآه تهيّباً / سوى نظر منهم بعينَيْ مسارق
جواد إذا استمطرته جاد كفّه / بأغزر من وبل الغيوم الدوافق
بك القصر في الفيلية الدهر عامر / فخيم مبانيه كثير المرافق
أحاطت به من كل صَوب حدائق / كوجهك حسناً في العيون الروامق
وفاحت به للناشقين أزاهر / كأخلاقك الغّراء طيباً لناشق
تكامل حسناً صُنعه وفخامةً / وأحسن منه ما لكم من خلائق
أناف على أعلى السحاب معارضاً / بجُودك للعافين جَوْد البوارق
حوى منك قرماً بأسه ضامن له / بذلّ أعاديه وعزّ الأصادق
فلا غروَ أن ينتابه كل خائف / فيأمن من وقع الخطوب الطوارق
ويرجع عنه من يوافيك راجلاً / على لاحق الآطال من نسل لاحق
فدىً كل قصر في العراق ومن جوى / لقصر زها منكم بحامي الحقائق
هنيئاً لك العيد الذي أنت مثله / لدى الناس عيد غير أن لم تفارق
آبا الأمراء الصيد جئتك شاكياً / إليك جنايات الزمان المماذق
أجرني رعاك اللّه منها فإنها / رمت كل عظيم فيّ منها بعارق
أترضى وأني صقر بغداد أنني / تقدّمني فيها فراخ العقاعق
لئن أنكروا حقي فسوف تُحقّه / شواهد أقلام بكفّي نوامق
أصوغ بها حُرّ الكلام لخزعل / مديحاً كعِقد اللؤلؤ المتناسق
هل الدهر إلا أعجميّ أخاطبه
هل الدهر إلا أعجميّ أخاطبه / فما لي إلى فهم الحديث أجاذبه
أيَثْني إلى وجه اللئيم بوجهه / ويرتدّ مُزورّاً عن الحُرّ جانبه
أراه إذا طارحته الجِدّ لاعباً / وما أنا ممن يا أميم يلاعبه
ويضرب أطناب المُنى لي هازلاً / وما أنا مخدوع بما هو ضاربه
وبيناه يبدي لي ابتسامة خادع / يُقطّب حتى لا تَبينَ حواجبه
لقد أضحكت غير الحليم شُؤونه / وأبكت سوى عين السفيه نوائبه
فيا أدباء القوم هل تنقضي لكم / شكاية دهر حاربتكم مصائبه
يَشُدّ عليكم بالسيُوف نكاية / وَأقلامكم وهو الأصمّ تعاتبه
هو الدهر لم يسلم من الغيّ أهله / كما الليلُ لم يأمَنْ من الشر حاطبه
إذا آنسوا نور الحقيقة رابهم / فتجثو على الأبصار منهم غَياهبه
تضاربت الأهواء فيهم فناكبٌ / عن الشرّ يُقصيه وآخر جالبه
طبائعهم شتّى على أن بينهم / كريماً تُواليه ووغداً تُجانبه
لعمرك حتى البرق خالف بعضَه / فقد خولفت بالموجبات سوالبه
أبت حركات الكون إلا تَبايناً / دوافعه فَعّالة وجواذبه
ولولا أختلاف شاءه اللّه في القوى / لما دار في هذا الفضاء كواكبه
سَبَرت زماني بالنُهَي ومَخَضْته / بتجربتي حتى تجلّت عواقبه
ولم أستشر في الناس إلاّ تجاربي / وهل يَصْدُق الأنسانَ إلاّ تجاربه
فلا ترتكب قرب اللئام فإنهم / لكالبحر محمول على الهول راكبه
وما عجبي في الدهر إلاّ لواحد / وأن كثرت في كل يوم عجائبه
وذلك أن العيش فيه مُطيَّب / لمن خَبُثت بالمخُزيات مكاسبه
ولو كان في أعماله الدهر عاقلاً / لما كان مثلي في الورى مَن يُحاسبه
ولو كان يكن في كل ما فيه خادعاً / لما أمَّ فيه صادقَ الفجر كاذبه
ألا ربّ شيطان من الأنس قد غدا / يُخاتلني خَلساً وعيني تراقبه
فقلت له أخسأ إنما أنت خائب / وقبلك أعيا الجنّ ما أنت طالبه
فوَلّى على الأعقاب يحبو وقد دَرى / وللّه دَرّى أنني أنا غالبه
فأتبَعَه مني شهاب تسامح / يَشُق ظلام الجهل بالحلم ثاقبه
ولو شئت أرسلت الخَديعة خلفه / تطارده حتى تضيق مذاهبه
ولكن أبي منّي الخِدالع مهذَّب / تعوَّدِ فعل الخير مُذ طَرُّ شاربه
وذي سفه أغضَيْت عنه تكَرُّماً / فَدَبّت على رجليّ غدراً عقاربه
فقمت له بالنَعل ضرباً فلم تزل / يدايَ به حتى اطمأنّت غواربه
وجنّبته السيف الجُراز لأنه / تعالت عن الكلب العَقور مَضاربه
لقد عابني جهلاً ولم يدر أنّه / أقلّ فِداءٍ للذي هو عائبه
له نسبة مجهولة غير أنه / مَغامزه معلومة ومعايبه
سأبدي لدهري ناج المتضحّك
سأبدي لدهري ناج المتضحّك / ولو كانَ يجري بالذي هوُ مهلكي
فما أنا راجٍ بعد ذا اليوم خَيره / ولا خائف من شرّه المتحَرِّك
إذا الدهر لم يُعتِب من الناس جازعاً / فأضيَع ما فيه شكاية مُشتك
علي أن ضحكي منه لا عن سفاهة / ولكن كضحك العَفّ من مُتهتِّك
ولو سَبَر الناس الحوادث بالنهي / لما حصلوا منها على غير مضحك
وما حادثات الدهر إلا خوابط / كعَشواء تمشيِ مشية المُتَرهوِك
وتَنهض للأرقال في غير مَنهضٍ / وتَبرُك أحياناً على غير مَبرَك
وما حكم هذا الدهر إلاّ تحكُّمٌ / كحكم فُصوص النرد في نقل مُهرَك
كأنا من الدنيا ببيت تقامر / حَوى من سهام القَمر كلّ مُدَمْلَك
فمن قامر قد فاز باليُسرِ قدحه / وآخَر مقمور بقِدح التصعلُك
وما الحِرف اللاتي نُجيد احترافها / سوى شَبَك منصوبة للتملّك
وأن طبيب القوم ناصب كفّة / ليصطاد فيها بالدواء الممصطك
ومن مضحكات الدهر حامل سُبحة / تُقبَّل جهلاً كفّه للتبرُّك
ويا ربّ تركيّ تعرّب وادَعي / على عربيّ هجنة المُتترّك
وتحديث غِرّ مُطرياً عدل دولة / برايتها رسم الصليب المشبّك
وما الناس إلا خادع أدرك المُنى / وآخَر مخدوع لها غير مدرِك
فلا تُبدِ منِ زير النساء تعجُباً / ولا تغترر بالزاهد المتنسِّك
فما دارت الأفلاك إلا وقُطبها / بحكم الهوى حُبّ الكَعاب المفلّك
وأن أبصرت عيناك يوماً حقيقة / تخالف ما قد قلتُه فتشكَّك
فإنّك لم يُنبِئك مثل مجّرِب / خبير ولم ينصحك مثل مُحنَّك
فهذا لعمر اللهّ رأيي فخُذ به / فقد فُزت منه بالجُذيل المُحكَّك
لقد طَوَّحَتْني في البلاد مُضاعا
لقد طَوَّحَتْني في البلاد مُضاعا / طوائح جاءت بالخطوبِ تباعا
فبارحت أرضاً ما ملأت حقائبي / سوى حبّها عند البَراح متاعا
عتَبْت على بغداد عَتْب مُوَدِّع / أمَضَّتْه فيها الحادثاتِ قراعا
أضاعَتْنيَ الأيام فيها ولو دَرَتْ / لعزّ عليها أن أكون مُضاعا
لقد أرضعتني كل خسف وأنني / لأشكرها أن لم تُتمَّ رَضاعا
وما أنا بالجاني عليها وإنما / نهضت خصاما دونها ودفاعا
وأعلمت أقلامي بها عربيّةً / فلم تُبدِ اصغاءً لها وسَماعا
ولو كنت أدري أنها أعجميّة / تَخِذت بها السيف الجُراز يراعا
ولو شئت كايَلْت الذين أنطَوَوا بها / على الحِقد صاعاً بالعِداء فصاعا
ولكن هي النفس التي قد أبَتْ لها / طباع المعالي أن تَسُوء طباعا
أبَيْت عليهم أن أكون بذِلّةٍ / وتأبى الضَواري أن تكون ضباعا
على أنني دارَيْت ما شاء حقدهم / فلم يُجْدِ نفعاً ما أتَيْت وضاعا
وأشقَى الورى نفساً وأضيعهم نُهىً / لبيبٌ يداري في نُهاه رَعاعا
تركت منِ الشعر المديح لأهله / ونزّهت شعري أن يكونِ قذاعا
وأنشدته يجلو الحقيقة بالنُهَى / ويكشِف عن وجه الصوابِ قناعا
وأرسلته عفواً فجاء كما ترى / قَوافيَ تَجتْاب البلادِ سراعا
وقفت غداة البَيْن في الكرخ وقفةً / لها كَرَبت نفسي تطير شَعاعا
أوَدّع أصحابي وهم مُحدِقون بي / وقدِ ضقت بالبين المُشِتّ ذراعا
أودّعهم في الكرخ والطرف مرسِل / إلى الجانب الشَرقيّ منه شُعاعا
وأدعَم رأسي بالأصابع مُطرِقاً / كأنّ برأسي يا أميمُّ صداعا
وكنت أظنّ البين سهلاً فمذ أتى / شَرَى البين مني ما أراد وباعا
وإنّي جبان في فراق أحِبّتي / وإن كنت في غير الفراق شجاعا
كأنّي وقد جَدَّ الفراق سفينةٌ / أشالت على الريح الهَجومِ شراعا
فمالت بها الأرواح والبحر مائج / وقد أوشكت ألواحها تتداعى
فتحسبني من هزّة فيّ أفْدَعاً / ترقَّى هضاباَ زُلزلت وتِلاعا
فما أنا إلاّ قومة وأنحناءة / وسِرٌّ إذاعته الدموع فَذاعا
رعى اللّه قوماً بالرُصافة كلما / تذكَّرتهم زاد الفؤاد نزاعا
أبيت وما أقوى الهموم بمَضجَع / تُصارعني فيه الهمومِ صراعا
وألْهو بذكراهم على السير كلما / هبَطتِ وهاداً أو علوت يَفاعا
هم القوم أما الصبر عنهم فقد عصى / وأما أشتياقي نحوَهم فأطاعا
لقد حكّموني في الأمور فلم أكن / لأنطِق إلاّ آمراً ومُطاعا
فلست أبالي بعد أن جَدَّ بَينهُم / زجرت كلاباً أم قَحَمْت سباعا
سلام على وادي السلام وأنني / لأجعل تسليمي عليه وَداعا
له اللّه من وادٍ تكاسَلَ أهله / فباتُوا عِطاشاً حوله وجياعا
رآهم عبيداً فاستبدّ بمائه / ولم يَجْر بين المُجْدِباتِ مُشاعا
جرى شاكراً صُنْع الطبيعة أنها / أبانَت يداً في جانبيه صَناعا
وما أنْسَ لا أنس المياه بدجلة / وأن هي تجري في العراق ضَياعا
ولو أنها تَسْقي العراق لما رَمَتْ / به الشمس إلاّ في الجنان شُعاعا
وما وَجَدَت ريح وأن قدتَنا وَحت / مَهَبّاً به إلا قُرىً وضياعا
سأجري عليها الدمع غير مُضيَّع / وأندُبُ قاعاً من هناك فقاعا
وأذكر هاتيك الرِباعَ بحسُنْها / فنعمتْ على شَحْط المَزار رباعا
إذا كان جهل الناسَ مدعاة غيّهم
إذا كان جهل الناسَ مدعاة غيّهم / فليس سوى التعليم للرُشد سُلَّم
فلو قيلَ من يستنهض الناس للعلا / إذا ساءَ محياهم لقلت المعلمّ
معلّم أبناء البلاد طبيبهم / يُداوي سَقام الجهل والجهل مُسقِم
وما هو إلاّ كوكب في سمائهم / به يهتدي الساري إلى المجد منهم
فلا تَبخسَنْ حق المعلّم أنه / عظيم كحقّ الوالدين وأعظم
فإن له منك الحجا وهو جوهر / وللوالدين العظم واللحم والدم
ألا إنما تعليمنا الناس واجب / وأن على الجهال أن يتعلّموا
وما أخذ اللّه العهود على الورى / بأن يعلَموا حتى قضى أن يُعلِّموا
علام حُرِمنا منذ حينٍ تلاقيا
علام حُرِمنا منذ حينٍ تلاقيا / أفي سفر قد كنت أم كنت لاهيا
عهدناك لا تَلهو عن الخِلّ ساعةً / فكيف علينا قد أطلت التجافيا
وما لي أراك اليوم وحدك جالساً / بعيداً عن الخُلاّن تأبَى التدانيا
أنابَكَ خَطب أم عَراك تعشُّقٌ / فإنّي أرى حزناً بوجهك باديا
وما بال عينيك اللتين أراهما / تُديران لحظاً يحمل الحزن وانيا
وأيُّ جَوىً قد عُدت اصفر فاقعاً / به بعد أن قد كنت أحمر قانيا
تكلّم فما هذا الوُجوم فأنني / عهدتك غِرِّيداً بشعرك شاديا
تَجَلَّد تجلّد يا سليم ولا تكن / بما ناب من صرف الزمان مُباليا
ولا تبتئس بالدهر أن خطوبه / سحابة صيف لا تَدوم ثوانيا
فقال ولم يملِك بوادرَ أدمع / تناثَرْن حتى خلتهنّ لآليا
لقد هجتني يا أحمد اليومِ بالأسى / وذكَّرتني ما كَنت بالأمس ناسيا
أتعجَبُ من حزني وتعلمَ أنني / قَرِيع تباريح تُشيب النواصيا
لقد عشت في الدنيا أسيفاً وليتني / تَرَحّلت عنها لا عليَّ ولا ليا
وقد كنت أشكو الكاشحين من العدى / فأصبحت من جور الأخِلاّء شاكيا
وما رحت أستشفي القلوب مداوياً / من الحِقد إلاّ عدت عنها كما هيا
ودارَيت حتى قيل لي متملِّق / وما كان من داء التَمَلُّق دائبا
وحتى دعاني الحزم أن خَلِّ عنهم / فإن صريح الرأي أن لا تُداريا
وربّ أخ أوْقَرت قَلبي بحبّه / فكنت على قلبي بحُبِّيه جانيا
أراد انقيادي للهوان وما درى / بأنيَ حر النفس صعب قياديا
إذا ما سمائي جاد بالذُلّ غَيْثها / أبَيْت عليها أن تكون سمائيا
ألا فَابْك لي يا أحمد اليوم رحمةً / ودعني وشأني والأسى وفؤاديا
فإنّ أحقَّ الناس بالرحمة امرؤٌ / أضاعِ وداداً عندَ من ليس وافيا
وما كان حَظي وهو في الشعر ضاحك / ليظهر إلاّ في سوى الشعر باكيا
ركِبت بحور الشعر رَهْواً ومائجاً / وأقْحَمْت منها كلّ هَوْلٍ يراعيا
وسَيَّرت سُفْني في طِلاب فنُونه / وألْقيت في غير المديح المَراسيا
وقلت اعصِني يا شعر في المدح إنني / أرى الناس مَوْتَى تستحق المرانيا
ولو رضِيَت نفسي بأمرٍ يَشيِنها / لما نطقت بالشعر إلاّ أهاجيا
وكم قامَ ينعَى حين أنشدت مادحاً / إليّ الندى ناعٍ فأنشدت راثيا
وكم بشّرتَنْي بالوفاء مقالة / فلما انتهت للفعل كانت مناعيا
فلمّا بكى أمسكت فَضلِ ردائه / وكفكفت دمعاً فوق خَدَّيْه جاريا
وقلت له هَوِّن عليك فإنما / تَنوب دواهي الدهر من كان داهيا
وما ضَرّ أن أصفَيْت وُدّك مَعشراً / من الناس لم يَجْنُوا لك الوُدّ صافيا
كفى مَفخراً أن قد وفَيْت ولم يَفُوا / فكنت الفتى الأعلى وكانوا الأدانيا
لعلّ الذي أشجاك يُعقب راحة / فقد يَشكر الأنسان ما كان شاكيا
ألاّ ربّ شرّ جرّ خيرا وربما / يجُرّ تجافينا الينا التصافيا
فلو أن ماء البحر لم يك مالحاً / لرُحنا من الطوفان نشكو الغواديا
ولولا اختلاف الجذب والدفع لم تكن / نجوم بأفلاك لهنّ جواريا
وكيف نرى للكهرباء ظواهراً / إذا هي في الأثبات لم تلق نافيا
تموت القوى أن لم تكن في تبايُنٍ / ويَحَيْين ما دام التبايُنُ باقيا
فلا تعجبَنْ من أننا في تنافر / ألم تر في الكون التنافر ساريا
وهَبْهم جَفَوْك اليوم بُخْلاً بوُدّهم / ألم تَغْنَ عنهم أن ملكت القوافيا
فطِرْ في سموات القريض مرفرفا / وأطلع لنا فيها النجوم الدراريا
فأنت امرؤٌ تُعطي القوافيَ حقّها / فتبدو وأن أرخصتهن غواليا
يجيبك عفواً أن أمرت شَرودها / وتأتيك طوعاً أن دعوت العواصيا
فقال وقد ألْقَي على الصدر كفّه / فشدّ بها قلباً من الوجد هافيا
لقد جئتني بالقول رَطباً ويابساً / فداويت لي سُقماً وهيّجت ثانيا
فإني وأن أبدي لي القوم جفوةً / أُمَنّي لهم مما أحبّ الأمانيا
وما أنا عن قومي غنيّاً وأن أكن / أطاول في العزّ الجبال الرواسيا
إذا ناب قومي حادث الدهر نابني / وأن كنت عنهم نازح الدار نائيا
وما ينفع الشعر الذي أنا قائل / إذا لم أكن للقوم في النفع ساعيا
ولست على شعري أروم مَثوبةً / ولكنّ نُصح القوم جُلّ مراميا
وما الشعر إلاّ أن يكون نصيحة / تنشِّط كسلاناً وتُنهض ثاويا
وليس سَرِيّ القوم من كان شاعراً / ولكن سري القوم من كان هاديا
فعلّمهم كيف التقدم في العلا / ومن أيّ طُرْق يبتغون المعاليا
وأبْلَى جديد الغَيّ منهم برُشده / وجدّد رشداً عندهم كان باليا
وسافر عنهم رائداً ِخصب نفعهم / يَشق الطَوامي أو يَجوب المواميا
وأن أفسدتهم خُطّة قام مُصلِحاً / وأن لَدَغَتْهمِ فتنةٌ قام راقيا
أما آن أن تُنْسى من القوم أضغان
أما آن أن تُنْسى من القوم أضغان / فيُبنَي على أسّ المؤاخاة بنيان
أما آن يُرمَى التخاذُل جانبا / فتكسبَ عزاً بالتناصُر أوطان
علام التعادي لأختلاف ديانة / وأن التعادي في الديانة عُدوان
وما ضَرَّ لو كان التعاوُن ديننا / فتَعْمُرَ بلدان وتأمنَ قطّان
إذا جمعتنا وحدة وطنيّة / فماذا علينا أن تَعَدَّد أديان
إذا القوم عَمَّتْهم أمور ثلاثة / لسان وأوطان وباللَّه إيمان
فأيّ اعتقادٍ مانعٌ من أخوّة / بها قال أنجيل كما قال قرآن
كتابان لم يُنزلهما اللَّه ربنا / على رُسْله إلاّ ليَسعَد أنسان
فمن قام باسم الدين يدعو مُفّرِقاً / فدعواه في أصل الديانة بُهتان
أنَشقى بأمر الدين وهو سعادة / إذاً فإتباع الدين يا قوم خُسران
ولكن جهل الجاهلين طَحا بهم / إلى كل قول لم يؤيّده برهان
فهامُوا بتَيْهاء الأباطيل كالذي / تخَبَّطَه من شدة المَسّ شيطان
مَواطنكم يا قوم أُمّ كريمة / تدُرّ لكم منها مدى العمر ألبان
ففيِ حضنها مهدٌ لكم ومَباءةٌ / وفي قلبها عطف عليكم وتَحْنان
فما بالكم لا تُحسنون وواجب / على الابن للام الكريمة أحسان
أصبراً وقد أمسَى العدوّ يُهينها / أما فيكم شَهْم على الام غَيْران
أجل أنكم تأبى الحياة نفوسُكم / إذا لم يكن فيها على المجد عُنوان
ألستم من القوم الذين عَلاؤُهم / تَقاعس عنه الدهر وأنحطّ كيوان
نمَتْكم إلى المجد المُؤثَّل تغلبٌ / كما قد نمتكم للمكارم غَسّان
فلا تُنكروا عهد الأخاء وقد أتت / تصافحكم فيه نزار وعدنان
أجبْ أيها النَدْب المسيحيّ مسلماً / صفا لك منه اليوم سرٌّ وأعلان
فلا تَحرِما الأوطان أن تتحالفا / يداً بيدٍ حتى تؤكَّد أيمان
ألا فانهضا نحو العِدي وكلاهما / لصاحِبه في المأزِق الضَنْكِ معوان
وقولا لمن قد لام صَهْ وَيْك أننا / على حال في المواطن أخوان
فمَنْ مبلغُ الأعداءِ أن بلادنا / مَآسِد لم يَطرُق َذراهنّ سرحان
وأنّا إذا ما الشّر أبدى نُيوبه / رددناه عنا بالظُبي وهو خَزيان
سنَستَصرخ الآساد من كل مَربض / فتمشي إلى الهَيْجاءِ شيب وشُبان
أسود وغىً تأبى الحياة ذَمِيمةً / وتلبس بالعزّ الرَدىَ وهو أكْفان
مَقاحِيم تَصْلَى المَعمَعان مُشِيحةً / إذا أحتَدَمت في حَوْمة الحرب نيران
وتكسو العَراء الرَحب مسْح عجاجة / يَمُجّ بها السيفُ الرَدى وهو عُريان
سننهض للمجد المخلَّد نهضة / يقرّ بها حَوران عيناً ولُبنان
وتعتزّ من أرض الشَآم دمشقها / وتهتز من أرض العراقَيْن بغدان
وتطرَب في البيت المقدَّس صخرة / وترتاح في البيت المحرَّم أركان
وتَحسُن للعُرب الكرام عواقب / فيحمَدها مُفتٍ ويشكر مطران
ولو أنصفتنا ساسة الغرب لأغتدت / دمشق لها من ساسة الغرب أعوان
ورقّت قلوب للعراق وأهله / وأصغت إلى شكوى فلسطين آذان
ولكنهم رانت عليهم مطامع / فأمسَوْا وهم صُمٌّ عن الحق عُميان
لقد قيل أن الغرب ذو مدنيّة / فقلت وهل معنى التمدن عُدوان
وأيّ فَخارٍ كائنٌ في تمَدُّن / إذا لم يقُم في الغرب للعدلِ ميزان
إذا كانت الأخلاق غير شريفة / فماذا عسى تُجْدي علوم وعِرفان
بنفسي أفدي في العراق مَنابتاً / يفوح بها شِيحٌ ويَعبَق حَوْذان
رياض رَعَتْها النائبات بأذْؤب / من الجَور فأرتاعت ظباء وغِزلان
لقد كان فيها الرَنْد والبان زاهياً / فأصبح لارند هناك ولا بان
وأصبح مَرْصوداً بها كل مَنْهَل / عليه من التَرْنيق بالظلم ثعبان
وظلّ ابنها عن كل حَوْض مُحَلأً / يَحُوم على سَلساله وهو عطشان
سأبكي عليها كلما هبّت الصَبا / فمالت بها من حول دجلة أغصان
ومَن ذَرَفت آماقه الدمعَ لؤلؤاً / ذرفت عليها أدمُعي وهي مَرْجان
حَبَبْت العلا منذ الصبا حبّ شاعر
حَبَبْت العلا منذ الصبا حبّ شاعر / وقمت إليها ساعياً سعيَ قادر
أأقدِر فيها أن أصيخ للأئم / وقد ملكت مني جميع المشاعر
تقول ابنة الأقوام وهي تلومني / وأدمعها رَقْراقة في المحاجر
إلى كم تُجدّ البَيْن عنّي مسافراً / أما تستلِذّ العيش غير مسافر
وأسكتها عنّي نشيج فلم تزل / تردّده منها بأقصى الحناجر
إلى أن تفاني الصبر فافترّ مَدمعي / كمدمعها عن لؤلؤ مُتناثر
ولا غروَ أن أبكي أسىً من بكائها / فأعظم ما يشجي بكاء الحرائر
وقلت لها أني امرؤ لي لُبانة / مَنوط مداها بالنجوم الزواهر
تعوّدت أن لا أستنيم إلى المني / وأن لا أرى إلاّ بهيئة ثائر
وأن أُمضِيَ الهمّ الذي هِو مُقلقي / بطيّ الفيافي أو بخَوْض الدياجر
أما تَرَيِنّ الوجه مني شاحباً / لكثرة ما عرّضته للهواجر
ولست أبالي أنني عادم الغنى / إذا كان جَدّي في العلا غير عائر
ذريني أزُرْ في هَضْب لُبنان أربعاً / تعالت بحيث العزّ مُرخَى الضفائر
بحيث أرى تلك الليوث خوادراً / تسارق ألحاظاً عيونَ الجآذر
ليوث إذا ما عَبَّست في مُلِمَّة / تبسّمَت الدنيا تبّسُم ناصر
وألقت جُيوش الفاخرين سلاحها / إذا خفقت راياتها بالمفاخر
فأكرم بلبنان مَقَرّاً لِنابهٍ / ومأوىً لمنكودٍ ومَهدىً لحائر
ألا إنما لبنان في الأرض عاهل / تَبّوَأ عرشاً من جليل المآثر
وزحلة في لبنان تاج لرأسه / قد أزدان من أبنائها بالجواهر
وما هي إلا روضةٌ أنبتت له / أزاهير من تلك الحسان الغرائر
أزحلة إني تارك فيك مهجتي / تُعاطيك منَ بعدي محبّة شاكر
فتشكرك الشكر الذي أنتِ أهله / طَوالَ الليالي خالداً في الدفاتر
وفاء أمرىء ما عوّد الغدرَ نفسه / ولا وَدّ إلاّ مخلصاً في الضمائر
ومن عجب أن الشُوَ يعر لامني / ببيروت لوم الشاتم المتجاسر
ومَن كان مثلي شاعراً لا تَسُوءُه / مقاذعةٌ جاءته من متشاعر
على أنني من عاذريه وأن يكن / لي الحق في عذري له غير عاذر
وكم في رُبا لبنان من ذي فصاحة / مُجيدٍ بيوم الحفل قَرْع المنابر
ومن أهل آداب كشارقة الضحى / ومن أهل علم كالبحار الزواخر
بني وطني ماذا أُؤمّل بعدما
بني وطني ماذا أُؤمّل بعدما / تفشّت سعايات لكم بالتجسّس
أقول لمن قد لامني في تشدٌّدي / على كل تدليسٍ أتى من مدلّس
لو أسوَدّ وجه المرء من قُبح فعله / لما كنت تَلقي بيننا غير مُدفِس
ولو نال بالأخلاص مُثرٍ ثراءه / لما كنت تلقي بيننا غير مفلس
نحاول عزاً بابتذال نفوسنا / فنشري خسيساً بالثمين المقدّس
ومن جهلنا استكراهُنا في معاشنا / شقاءً نزيهاً للنعيم المدنّس
سأرحل عنكم للذي قد أقامني / على مُوحش من أمركم غير مؤنس
أبَيت لنفسي أن تحُلّ مكانة / من العيش إلاّ فوق عزٍّ مؤسَّس
ولو أنّ هذا الصبح كان انبلاجه / بغير شروق الشمس لم يتنفّس
فلا أبتغي بالذلّ عيشاً مرفَّهاً / ولو عشت في العُزّى بفول مدمّس
وما أنا كابن العبد إذ عانق الردى / لجَدْوَى أبتها رغبة المتلمّس
إذا ابتسمت لي عزتي ونزاهتي / فلست أبالي بالزمان المعبّس
أقابل أخلاق الرجال بمثلها / وأعرف منهم وجهها بالتفرُّس
فأعنُو لمن يعنو وأقسو لمن قسا / وأظهر كالغِطريس للمتغطرس
ولست أجازي المعتدي باعتدائه / ولكن بصفح القادر المتحمّس
وما أنا من أهل الدَعارة والخنى / ولا من أولي حمل السلاح المسدّس
ولكنّ لي فيكم يراعاً إذا شدا / أتاكم بكافٍ من علاه ومخرس
وما خالق الأكوان إلاّ مهندس / وإن جلّ عن تعريفه بالمهندس
تجلّى على أكوانه بصفاته / وأغلس فيهم كنهُهُ كلَّ مُغلَس
وأقبسهم نوراً شديداً جلاؤه / فساروا به كالعُمي في كلِ حندس
وألبسهم حمر الغرائز فأغتنَوْا / بحمرتها عن كل ثوب مُوَرّس
وما مقبِس عند النهى غير قابس / ولا لابس عند النهي غير مُلبس
فأيّان جان الطرف لم يَرْءَ غيره / إذا كان في ألحاظه غير مبلِس
حقيقة مخلوقاته لم تكن سوى / حقيقته دع عنكَ حدس المحدّس
ألا أنني للكائنات موحذِد / ولو أرغمت كل المذاهب معطسي
ألا ما لأهل الشرق في بُرَحاء
ألا ما لأهل الشرق في بُرَحاء / يعيشون في ذُلّ به وشقاء
لقد حكّموا العادات حتى غدت لهم / بمنزلة الأقياد للأسراء
إذا تختبرهم في الحياة تجد لهم / حياةً تخطّت خُطة السعداء
وما ذاك إلاّ أنّهم في أمورهم / أبوا أن يسيروا سيرة العقلاء
لقد غَمِطوا حق النساء فشدّدوا / عليهنّ في حبس وطول ثواء
وقد ألزموهنّ الحجاب وأنكروا / عليهنّ إلاّ خَرْجَة بغطاء
أضاقوا عليهنّ الفضاء كأنهم / يَغارون من نور به وهواء
قد انتبذوا عنهنّ في العيش جانباً / فما هنّ في أمرٍ من الخُلَطاء
وقد زعموا أن لَسْن يصلحن في الدنى / لغير قرار في البُيوت وباء
فما هنّ إلاّ متعة من متاعهم / وأن صنّ عن بَيع لهم وشراء
أهانوا بهنّ الأمّهات فأصبحوا / بما فعَلوا من أْلأم اللؤماء
ولو أنّهم أبقَوْا لهنّ كرامة / لكانوا بما أبقوا من الكرماء
ألم ترهم أمسَوْا عبيداً لأنهم / على الذُلّ شَبُّوا في حجور أماء
وهان عليهم حين هانت نساؤهم / تحمُّل جَوْر الساسة الغرباء
فيا قوم أن شئتم بقاءً فنازعوا / سواكم من الأقوام حبل بقاء
أيَسعَد محياكم بغير نسائكم / وهل سعِدت أرض بغير سماء
وما العار أن تبدو الفتاة بمسرح / تمثّل حالَىْ عزّة وأباء
ولكنّ عاراً أن تَزَيّا رجالكم / على مسرح التمثيل ِزيّ نساء
أقول لأهل الشرق قول مؤنِّب / وأن كان قولي مسخط السفهاء
ألا أن داء الشرق من كُبَرائه / فبُعداً لهم في الشرق من كبراء
وأقبح جهل في بني الشرق أنهم / يسمُّون أهل الجهل بالعلماء
وأكبر مظلوم هو العلم عندهم / فقد يدّعيه أجهل الجهلاء
لو أقتصّ ربّ العلم للعلم منهم / لصبّ عليهم منه سَوْط بلاء
ولأسْتأصل الموت الوَحِيّ نفوسهم / ونادى عليهم مُؤذناً بفناء
ولكنّ حلم اللّه أبقى عليهم / فعاشوا ولو في ِذلّة وشقاء
لقد مزّقُوا أحكام كل ديانة / وخاطُوا لهم منها ثياب رياء
وما جعلوا الأديان إلاّ ذريعة / إلى كل شَغْب بينهم وعداء
فما علماء الجهل إلاّ مساقم / رمَت جهلاء العلم بالقُوَباء
ألا يا شباب القوم أني إلى العلا / لداعٍ فهل مَن يستجيب دعائي
أما آن للأوطان أن تنهضوا بها / لأدراك مجد وابتغاء عَلاء
فقد بحّ صوتي واستشاطت جوانحي / وقلّ أصطباري وأستطال بكائي
على أنّ لي فيكم رجاءً وأن يكن / من اليأس مسدوداً طريق رجائي
وما أنا في وادي الخيال بهائم / وأن كنت معدوداً من الشعراء
ألا خَليِّاني في الكلام من السجع
ألا خَليِّاني في الكلام من السجع / ولا تَجريا في القول إلاّ على الطبع
وأن أنا أرسلت الحديث فأصْغيا / وإلاّ فما يُجدي لسمعكما قرعي
فإنيَ ما أطلعت شمس حقيقة / لمستمع إلاّ لتَغرُب في السمع
ولست أبالي بعد أفهام سامعي / أكان بخفض لفظ ما قلت أم رفع
وإني إذا قبَّلت رأساً ولم أجد / به فضل عقل كان أجدر بالصفع
إذا كان علم الأصل عنديَ حاصلاً / ففيم أهتمامي بعد ذلك بالفَرع
فإن بان لي سير الكواكب لم اُبَلْ / أكان بجَذب ذلك السير أم دفع
شكَوْت إلى ربّ السموات أرضَه / وما الأرض إلاّ من سمواته السبع
فقد جار في الأرض البسيطة خَلْقه / على خلقه جوراً إلى الحزن يستدعي
وأن السموات العلي لكثيرة / وأن لم نعُدّ اليوم منها سوى تسع
وأني لأشكو عادةً في بلادنا / رمى الدهر منها هَضْبة المجد بالصدع
وذلك أنا لا تزال نساؤنا / تعيش بجهل وانفصال عن الجمع
وأكبر ما أشكو من القوم أنّهم / يعُدّون تشديد الحجاب من الشرع
أفي الشرع أعدام الحمامة ريشها / واسكاتُها فوق الغصون عن السجع
وقد أطلق الخَلاّق منها جناحها / وعلمها كيف الوقوع على الزرع
فتلك التي مازلت أبكي لأجلها / بكاءً إذا ما اشتدّ أدّى إلى الصرع
بكْيت بلا دمع ومَن كان حزنه / شديداً بكى من غير صوت ولا دمع
فيا ربّة الخدر أسمعي ما أقوله / لعلّ مقالي فيه شيء من النفع
أيا ابنة فندي أن للمجد غايةً / وأني في أدراكها باذل وسعي
وأني أرى في القوم بعض مخايلٍ / وأحذر من أن يَنقشعْن بلا هَمْع
فقد لا يُرَوّينا السحاب بمائه / وأن كان فيه البرق متصل اللمع
يقولون لي أن النساء نواقص / ويُدْلون فيما هم يقولون بالسمع
فأنكرت ما قالوه والعقل شاهدي / وما أنا في أنكار ذلك بالبِدْع
إذا النخلة العَيْطاء أصبح طلعها / ضعيفاً فليس اللوم عندي على الطلع
ولكن على الجِذع الذي هو نابت / بمنبِت سوء فالنقيصة في الجذع
وواللّه ما أن ِضقت َذرعاً بقولهم / ولكنّما قد ضاق من فعلهم ذرعي
أمزّق دعواهم إذا ما طعنتها / ولو أنها كانت من الدين في دِرْع
ألا فأصدعي يا ربّة الخدر بالذي / ترَيْن من الآراء في الردّ والردع
فأنت مثال للكمال الذي حوى / من العلم أسباباً تجِلّ عن القطع
أدامك ربّ الناس للناس حُجّةً / على مَن نَمى نقص النساء إلى الطبع
وبيضاء أغناها عن الحلي ثغرها
وبيضاء أغناها عن الحلي ثغرها / بسِمطَيْن من درّ مضيئين في الثغر
إذا ابتسمت في ظلمة الليل أشرقا / فعُدنا من الآمال في أنجم ُزهر
نرى وجهها بدراً محاطاً من السَنى / بصبحَيْن من ثغر وضيءٍ ومن نحر
يذكرني من مطلع الشمس شعرُها / ذوائبَ تُرخَى من أشعّتها الصفر
تراءت فأما نفسها فحزينة / وأما مُحيّاها فكالكوكب الدرّي
بدت في ِحداد ترسل الطرف وانياً / يُغَضّ على وجد ويُفتح عن سحر
رأيت بها بدراً تردّى ُدجُنّةً / غداة أُميط السجف من جانب الخِدر
فكانت لها سود الجلابيب ِحليةُ / ولا عجبٌ أن الدجى من حِلى البدر
تَبَسَُّ حيناً ثم تُجهش بالبكا / فمن لؤلؤٍ تُبدي ومن لؤلؤ تُذري
كأن تلاميح الأسى في جبينها / بقايا ظلام الليل في غُرّة الفجر
وكم أبصرت عيناي لما تنهّدت / تموُّح بحر الحب من عاصف الهجر
فقد كان منها الصدر يعلو ويرتمي / فيبعث بي شجواً يموج به صدري
ومما شجا نفسي ذُبول بخدّها / كما ذبلت في بيتها باقة الزهر
ولما أنقضى صبري وقفت تجاهها / اُسائل عما ناب من نُوَب الدهر
فقالت وقد ألقت على الصدر كفّها / تشدّ ضلوعاً ينطوين على جمر
لك الخير من حرّ يسائل حرّة / شَكَت هجر بعل لم يكن بالفتى الحرّ
سقاني بكأس الحب حتى شرِبتها / ولم أدر أن الحب ضرب من الخمر
فلما رآني قد سكِرت بحبّه / صحا قلبه من حيث لم أصحُ من سُكري
ألا أن قلبي اليوم إذ مسّه الجَوى / وإذا مال بعلي في هوايَ إلى الغدر
ليَفزَع ممن يدّعي الحبَّ قلبُه / كما فزِعت قُمريّة الروض من صقر
على أن قلبي لم يعُد عنه صابراً / ألا لا أمال اللّه قلبي إلى الصبر
إذا شرقت شمسي تناسيت ذكره / وأن جنّ ليلي بتّ منه على ذُكر
وأني على ما نابني من جفائه / لأقنع منه بالخيال الذي يَسري
ولما شكت لي حُرقةً في فؤادها / ترقرق دمع العين في خدّها يجري
أرى قَطَراتِ الدمع في وَجَناتها / فأحسبها الياقوت رُصّع بالدرّ
هنالك ألقت راحتَيْها بوجهها / تُكَفكِف أسراباً من الدمع بالعشر
وقالت وقد كان النَشيج يصدّها / عن القول إلاّ عن كلام لها نَزر
سأحمل ما قد حَمَّلَتني يد الهوى / من الوجد حتى يحملوني إلى القبر
فقلت أما واللّه لو أن لي يداً / على كل حكم جاء من ظالم الدهر
لشدّدت في زجر المحبّين أن جَفَوْا / وعاقبت منهم من يميل إلى الهجر
هو الليل يُغريه الأسى فيطول
هو الليل يُغريه الأسى فيطول / ويرخي وما غيرُ الهموم سدول
أبِيت به لا الغاربات طوالع / عليَّ ولا للطالعات أفول
وينشر فيه الصمت لِبداً مضاعفاً / فتَطويه منّي رنّة وعويل
ولي فيه دمع يلذع الخدّ حره / وحزن كما امتدّ الظلام طويل
بكَيت على كل ابن أروع ماجد / له نسب في الأكرمين جليل
يُليح من الضيم المُذِل بغُرّةً / لها البدر تِربٌ والنجوم قبيل
من العُرب أما عِرضه فمُوَفَّر / مَصونٌ وأما جسمه فهزيل
له سَلَف عزّوا فبزّوا نباهةً / ولم تعتَوِرهم فترة وخُمول
وساروا بنهج المكْرُمات تُقِِلَهم / قلائص من سعيٍ لهم وخيُول
وكانوا إذا ما أظلم الدهر أشرقت / به غُرَرٌ من مجدهم وحجول
أولئك قوم قد ذوى روض مجدهم / ولم تَسرِ فيه نسمة وقَبول
وقد أعطشَتْه السحب حتى لقد عَلَت / على الزهر منه صُفرة وذُبول
رعى الله من أهل الفصاحة معشراً / لهم كان فوق الفَرقَدَيْن مَقيل
ترامى بهم رَيب الزمان كأنما / له عندهم دون الأنام ذُحول
فأمست من العُمران خلواً بلادهم / فهنَ حُزون قفرة وسهول
وعادت مَغاني العلم فيها دوارساً / تُجَرّ بها للرامسات ذُيول
وقَوّضت الأيام بنيان مجدها / فرَبْع المعالي بَينهنَ محول
نظرت إلى عَرض البلاد وطولها / فما راقني عرض هناك وطول
ولم تَبدُ لي فيها معاهد عزّها / ولكن رسوم رثَةٌ وطلول
نظرت إليها من خلال ذوارفٍ / من الدمع طرفي بينهنّ كليل
فكنت كراءٍ من وراء زجاجة / بعينيه كيما يستبين ضئيل
ولم أتبَّين ما هنالك من علاً / لكثرة ما قد دبّ فيه نُحُول
هناك حَنْيت الظهر كالقوس رابطاً / بكفّي على قلب يكاد يزول
وأوسعت صدري للكآبة فاغتدت / بأرجائه تحت الضلوع تجول
وأرسلت دمعَ العين فانهلَ جارياً / له بين أطلال الديار مسيل
أأمنع عيني أن تجود بدمعها / على وطني إني إذن لبخيل
فإن تعجبوا أن سال دمعي لأجله / فِإنَّ دمي من أجله سَيسيل
وما عِشت أني قد تناسَيت عهده / ولكنَ صبري في الخطوب جميل
وإن أمرءاً قد أثقل الهَمُّ قلبه / كقلبي ولم يَلْق الردى لحَمول
أفي الحق أن أنسى بلادي سلوةً / وما لي عنها في البلاد بديل
أقول لقومي قول حيران جازع / تهيج به أشجانه فيقول
متى ينجلي يا قوم بالصبح ليلكم / فتذهبَ عنكم غفلة وذهول
وينطقَ بالمجد المؤثل سعيكم / فيسكتَ عنكم لائم وعذول
تُريدون للعَليا سبيلاً وهل لكم / إليها وأنتم جاهلون سبيل
أناشدكم أين المدارس إِنها / على الكون فيكم والحياة دليل
وأين الغنىُّ المُرتجىَ في بلادكم / يجود على تشييدها ويطول
بلاد بها جهل وفقر كلاهما / أكول شروب للحياة قتول
أجل إِنكم أنتم كثير عديدكم / ولكن كثير الجاهلين قليل
ولو أنّ فيكم وَحدةً عصبّيةً / لهان عليكم للمرام وُصول
ولكن إذا مستنهض قام بينكم / تلقّاه منكم بالعناد جهول
وأيّ فريق قام للحق صده / فريق طَلوب للمحال خذول
وإن كان فيكم مُصلحون فواحدٌ / فَعول وألف في مداه قؤول
على أن لي فيكم رجاءً وإن أكن / إلى اليأس أحياناً أكاد أميل
ألستم من القوم الألى كان علمهم / به كل جهل في الأنام قتيل
لهم ههم ليس الظُبات تفلّها / وإن كان منها في الظبات فلُول
ألا نهضةٌ علميّة عربية / فتُنْعَشَ أرواح بها وعقول
ويشجُعَ رعديد ويعتزّ صاغر / وينشطَ للسعي الحثيث كسول
فإن لم تقُم بعد الأناة عزائم / فَعْتبي عليكم والملام فُضول
أما آن أن يَغْشى البلاد سُعُودها
أما آن أن يَغْشى البلاد سُعُودها / ويذهبَ عن هذي النيام هُجُودها
متى يتأتَّى في القلوب انتباهها / فَينْجاب عنها رَيْنُها وجمودها
أما أسدٌ يَحمي البلاد غَضَنْفَر / فقد عاث فيها بالمظالم سِيدها
برئت إلى الأحرار من شرّ أمّةٍ / أسيرةِ حكام ثِقالٍ قُيودها
سقى الله أرضاً أمْحَلت من أمانها / وقد كان رُوّاد الأمان تَرودها
جرى الجور منها في بلاد وسيعة / فضاقت على الأحرار ذَرْعاً حدودها
عجبت لقوم يخضعون لدولة / يسوسهم بالمُوبِقات عميدها
وأعجب من ذا أنهم يَرْهبونها / وأموالها منهم ومنهم جنودها
إذا وُلَيِت أمر العباد طُغاتُها / وساد على القوم السَراةِ مَسُودها
وأصبح حُرُّ النفس في كل وِجهة / يُرَدّ مُهاناً عن سبيل يُريدها
وصارت لئام الناس تعلو كرامها / وعاب لبيداً في النشيد بليدها
فما أنت إلاّ أيها الموت نعمةٌ / يعِزّ على أهل الحِفاظ جُحودها
ألا إنما خرّية العيش غادة / مُنى كل نفس وصلها ووفودها
يُضيء دُجُنّات الحياة جبينها / وتبدو المعالي حيث أتْلِع جيدها
لقد واصلت قوماً وخلّت وراءها / إناساً تَمَنّى الموت لولا وُعودها
وقد مَرِصت أرواحنا في انتظارها / فما ضرّها والهفتا لو تعودها
بني وطني مالي أراكم صبرتم / على نُوَب أعيا الحُصاةَ عديدها
أما آدكم حَمل الهوان فإنه / إذا حُمّلَتْه الراسيات يؤودها
قعدتم عن السعي المؤدّي إلى العلا / على حين يُزري بالرجال قُعودها
ولم تأخذوا للأمر يوماً عَتاده / فجاءت أمور ساء فيكم عَتيدها
ألم تَرَوُا الأقوام بالسعي خَلَّدت / مآثر يستقصي الزمان خلودها
وساروا كراماً رافلين إلى العلا / بأثواب عزّ ليس يبْلى جديدها
قد اسْتَحْوَذَت يا لَلخسار عليكم / شياطين إنْس صال فيكم مرَيدها
وما اتّقدت نار الحّمية منكم / لفقد اتحاد فاستطال خُمُودها
ولولا اتحاد العُنصُرَيْن لما غدا / من النار يَذْكوا لو علمتم وَقودها
إذا جاهل منكم مشى نحو سُبَّةٍ / مشى جمعكم من غير قصد يُريدها
كأنكم المِعزى تهاوَيْن عندما / نزا فنزت فوق الجبال عَتُودها
وماثَلَّة قد أهملتها رُعاتها / بمأسدة جاعت لعشرٍ أسودها
فباتت ولا راع يحامي مراحها / فرائس بين الضاربات تُبيدها
بأضيعَ منكم حيث لاذو شهامة / يذبّ الرزايا عنكم ويذودها
أتطمع هذي الناس أن تبلغ المُنى / ولم تُورَ في يوم الصدام زُنودها
فهل لمَعَت في الجوّ شعلة بارق / وما ارتجست بين الغيوم رعودها
وأدخِنة النيران لولا اشتعالها / لم تمّ في هذا الفضاء صعودها
وإن مياه الأرض تَعْذُب ما جرت / ويُفْسدها فوق الصعيد ركودها
ومن رام في سوق المعالي تجارة / فليس سوى بيض المساعي نقودها
سقَتنا المعالي من سُلافتها صِرفا
سقَتنا المعالي من سُلافتها صِرفا / وغَنَت لنا الدنيا تُهنّئنا عزفا
وزَفّت لنا الدستور أحرارُ جيشنا / فأهلاً بما زفّت وشكراً لمن زقّا
فأصبح هذا الشعب للسيف شاكراً / وقد كان قبل اليوم لا يشكر السيفا
ورُحنا نَشاوىَ العِزّ يَهتف بعضنا / ببعضٍ هتافاً يُصعِق الظلم والحَيْفا
ولاحت لنا حريّةُ العيش عندما / أماطت لنا الأحرار عن وجهها السَجْفا
أتت عاطلاً لا يعرف الحلي جيدُها / ولا كَحَلت عيناً ولا خَضَبت كفّا
فجاءت بمطبوع من الحُسن قد قضى / على الشعر أن لا يستطيع له وصفا
فلم نَرضَ غير العلم تاجاً لرأسها / ولا غير شَنْف العدل في أذنها شَنفا
ولم نكْسُها إلا من العُرف حُلّة / وهل يكتسي الديباج من يكتسى العرفا
نشرنا لها من لفيف اشتياقنا / ونحن إناس نُحس النشر واللفّا
حَللنا الحُبا لما أتتنا كرامة / وقمنا على الأقدام صفّا لها صفا
عَقَدنا لها عقد الوَلاء تعشُّقاً / فكنّا لها إِلفاً وكانت لنا الفا
رَفَعنا لواء النّصر يهفو أمامها / ورحنا على صرف الزمان لها حِلْفا
فلم تَرَ غير الرفق فينا سجيّة / وإن كان بعض القوم أبدى لها عنُفا
تَحَّمل أعباء الصدارة كامل / فَناءَ به ما لم يَخِفّ وما خَفّا
طَوى كَشحه منها على غير لُطفها / وأظهر من وجه الخداع بها اللطفا
نَحا أن يَتِمّ الدَست فيها لحزبه / علينا وظن الأمر فيما نحا يَخْفى
وقد فاته أنّا أولو ألْمَعِيّة / بها نخطُف الأسرار من قلبه خطفا
وأنا نرى من قد تأبّط شَره / بعين تَقُدّ الإبط أو تَخلع الكَتْفا
لنا فِطنةٌ نّرمى الزمان بنورها / فيبدو حجاب الغيب منه وقد شَفّا
رمانا بشَزر اللحظ مُزْوَرّ طرفه / فصحنا به أن غُضّ يا كامل الطرفا
فما نحن بعد اليوم مهما تنوّعت / عناصرنا من أمةٍ تَحمل الخَسفا
مددنا إلى كفّ الإخاء أكُفّنا / نصافحه شوقاً فمدّ لنا الكفّا
فطاب لنا منه العِناق وضمَّنا / إليه فقّبلناه من عينه ألفا
أذُلاً وهذا العزّ صرّح سابغاً / علينا إِذن فالعز أن نُدرك الحَتفا
إِذا نحن قُمنا محنَقين رأيتنا / نَدُكّ جبال الظلم نَنسفها نسفا
ونحن إِذا ما الحرب أفنت جِيادنا / قتالاً ركبنا الموت في حربنا طِرفا
تَرَبع في صدر الوزارة كامل / فخَطّ من النُقصان في وجهها حرفا
وأنحى عليها بالجَفاء مشِّتتاً / نجاحاً بركنَيْها الركينين ملتفا
لقد أغضب الدستور فِعلاً ونِيَّة / ومن أعلنوا الدستور والشعب والصحفا
قد استَوْ ضحوه الأمر والأمر واضح / فأعياه إيضاح الحقيقة فاستعفى
ولم يَطُلبِ الإمهال إِلاّ لأّنه / رأى عذره إِن لم يُطل سبكه زيفا
كذلك مَن صاغ الكلام مُلَفَّقاً / تمّهل حِيناً يُكثِر الخَطّ والحذفا
ومن قال حقاً قاله عن بديهة / ويحتاج للتفكير مّن مّوَّه الخُلفا
فيا أيها الصدر الجديد اتَّعِظ به / فإيّاك تَطْغَى وأن تَثنيَ العطفا
ويا مجلس النواب سر غير عاثر / إلى المجد لا تلقى كلاّلا ولا ضَعفا
ودَع عنك مذموم التجافي فإنما / لغير التجافي اختارك الشعب واستصفى
ألم تَرَ أرجاء البلاد مَحُولة / من العلم فاستمطر لها الدَيم الوطفا
بلاد جفاها الأمن فهي مريضة / فحقق لها من طب رأيك أن تشفى
فإنّ لأهليها عليك لذِمّةً / ومثلك من راعى الذمام ومّن وفّى
وما أنت إلا أمة قد تقدّمت / أماماً وقد خلّت تقهقُرها خلفا
ولا تنسَ مُغبَّر العراق وأهله / فإن البلاء الجمّ من حوله احتفّا
فدجلة أمست مالدُجيل شحيحةً / فلا أنبتت زرعاً ولا أشبعت ظِلفا
وإن الفرات العَذب مُرنقاً / به الماء يجفو أو به الماء قد جَفا
سل الحِلة الفيحاء عنه فإنها / حَكَت شهداء الطف إذ نزلوا الطفا
فيا ويل قوم في العراق قد انطَوَوْا / على الذُل إذ أمست قلوبهم غُلفْا
ولم يذكروا مجداً لهم كان صارباً / رِواقاً على هام الكواكب قد أوفى
وكانوا به شُمّ العَرانين فاغتدَوْا / يُقاسون أهوالاً به تَجْدع الأنفا
يُرَجّوُن من أهل القبور رجاءهم / ومن يحمل الدبوس أو يضرب الدنا