القوافي :
الكل ا ب ت ث ج ح خ د ذ ر ز س ش ص ط ع غ ف ق ك ل م ن و ه ء ي
الشاعر : أبو الفضل الوليد الكل
المجموع : 111
بَكت لِفتى يُفني قواهُ تَعمُّدا
بَكت لِفتى يُفني قواهُ تَعمُّدا / وقالت ألا تَنفكُّ تهزأُ بالرّدى
رأيتُكَ بَسَّاماً لباكٍ وعابسٍ / وما كنتَ إِلا صابراً مُتَجلِّدا
فقلتُ دَعيني للمكارِمِ إِنني / رأيتُ اقتِدائي بامرئ القيس أمجدا
لئن تكشُفي عمّا سمعتِ خفوقَهُ / ترَي أسداً بينَ الضّلوعِ مقيَّدا
ألم تعرفي قلباً كبيراً وتسمَعي / زئيراً هو الشِّعرُ الذي قد تردَّدا
خُذيهِ وهاتي مثلهُ قلبَ حرَّةٍ / وإلا دعيهِ للفضائل مُفرَدا
عميقٌ وعالٍ مثلَ بحرٍ وكوكبٍ / فؤادي الذي أبدى هواك وأبَّدا
تصبَّاهُ حُسنُ الشّكل من كلِّ صورةٍ / فأضحى له مُستعبَداً مُتعبِّدا
فَتَحتَ ظِلالِ الدّوحِ كم من بُحيرةٍ / تريني مساءً خدَّها المتجعِّدا
نعم إنّ قلبي كالفراشةِ حائمٌ / على زهراتٍ الروضِ يطلبُ مَرقدا
فمِن بُرعمٍ وسنانَ يُغمِضُ جَفنهُ / إِلى زَهرةٍ ريّا يُفتِّحُها النّدى
وبكرٍ مفدَّاةٍ قصيرٌ نِطاقُها / تُعَرّضُ مِنهُ ساقها المتجرّدا
هواها هوى بي خاضعاً متذلِّلاً / على أنّني أُدعى الفتى المتمرِّدا
يروعُ سلامي أو كلامي فؤادَها / فتخفي حياءً خدَّها المتورِّدا
أرى وجنتيها جنّتين وثغرَها / من الكوثرِ المُحيي ألذَّ وأبردا
وعن مِعصَمٍ ريّان ضاقَ سوارُها / فكانَ كبلَّورٍ يُخالِطُ عَسجدا
إذا صَهلَ الوثّابُ قالت لأمِّها / سمعتُ صهيلَ المهرِ ها هو قد بدا
أتانا فتانا اليومَ يُعدي جوادَه / وما زالَ قلبي عاديا كلّما عدا
أغازلُها والطّهرُ سهرانُ بيننا / كأنّا اتخذنا في الحديقةِ معبدا
وربّةِ مَلهَىً خمرُها كلِحاظِها / حَكت قَصباً فوقَ المياهِ تأوّدا
كما انشقَّ كُمَّا بُرعمَينِ تقارَبا / يكادُ ثُدَيّاها يشقّانِ مجسدا
تُحدّثُ حتى أستعيدَ حديثَها / وتبسمُ حتى أستزيدَ التودُّدا
إذا أترعت كأسي تجرّعتُ نِصفها / لأبقى على الندمانِ والخمرِ سيّدا
فكم بعد سكري من رضابٍ وخمرةٍ / أرتني سبيلَ الطّيباتِ مُمهَّدا
فقلتُ لها حتّامَ أنتِ ضنينةٌ / فجُودي بما أذكى القلوبَ وبرّدا
فقالت بعينيها وفيها وكفّها / تعالَ نُعطّر كالأزاهرِ مقعَدا
ألا حبّذا بردٌ يَفوحُ عبيرُه / ويا حبّذا حسنٌ يدلّ على الهُدى
مَلكتُ بهِ كنزاً وسعدي على يَدي / فأضحى بياضاً كلُّ ما كان أسودا
هنيئاً لمن وفَّي الشبابَ حقوقَه / فغازَلَ مِعطاراً وروَّضَ أجردا
وتعساً لمن بينَ المدامةِ والهوى / سَرى في ليالي الضائعينَ مُعَربدا
لشدَةِ ما يَلقى تحجّر قلبه / فلا ترجُ للخيرِ الدَّمَ المتجمّدا
يقول كذا مرَّت ليالي شبيبتي / على جَسدي والقلبِ سيفاً ومبرَدا
ألا رُبَّ ليلٍ بالقمارِ قَطعتُه / فأصبحتُ منه فاقداً متفقّدا
بمخمَلةٍ خَضراءَ بعتُ سعادتي / ونمتُ على سوداءَ لهفانَ مُبعَدا
أمضّي نهاري بائساً مُتَندّماً / وأقطعُ ليلي شاحباً مُتسهّدا
كَتَبتُ على قَبرِ المقامرِ آيتي / لقد عاشَ ملحوداً وقد مات مُلحدا
فكم مرةٍ قامرتُ للسَّعدِ والغِنى / وليسَ لمِثلي أن يُمالَ ويسعدا
رأيتُ حظوظَ الناسِ تمضي سريعةً / وما زالَ حظّي أعسرَ اليَدِ مُقعَدا
فهمتُ على وجهي أرى السَّهلَ ضيّقاً / وليلي قليلَ النَّجم والبحرَ مُزبدا
كما سارَ أعمى يَنكتُ الأرضَ بالعصا / فضلَّ وأمسى خائفاً مُتردِّدا
حذارِ سقوطَ النفسِ في شَهواتِها / فإن شقاءَ المرءِ أن يَتعوَّدا
وأمّا أنا فالحقُّ والفضلُ والحجى / رفاقُ شبابٍ لي مَددتُ لهم يَدا
ولولا عروسُ الشعرِ متُّ كآبةً / فكم ضربت لي في الشدائدِ مَوعِدا
وكم في الجوى أعرضتُ عنها وقد أتت / تُضَمّدُ جرحاً لم يكن ليُضَمَّدا
سلامٌ على الموتِ الذي فيهِ راحتي / فإنَّ حَياتي أن أموتَ وأخلدا
دَعيني أنم في القبرِ نومةَ ماجدٍ / فيسكنُ هذا القلبُ أو تسكُت العِدى
فلا خيرَ في العيشِ الذي دونُ مَطمعي / خُلِقتُ ليُغريني البعيدُ بأبعدا
كما وقعَ النسرُ الجسورُ على الذُّرى / فتاقَ إِلى أعلى وطارَ مُصعّدا
لعمرُكَ إنّ اليأسَ شرُّ بليَّةٍ / فأهونُ منهُ أن تموتَ وتُلحدا
فما الموتُ إِلا راحةُ الجسمِ في الثَّرَى / وما اليأسُ إِلا أن تعيشَ وتجمَدا
هو اليأسُ حتى يكرَه المرءُ نفسَهُ / ويُدمي بكفَّيهِ السماءَ مُهَدّدا
ويَقذفُ تجديفاً يروعُ سماعُه / كما يقذفُ السّيلُ العرمرمُ جلمَدا
وفي صَدرِه قلبٌ تلوّى كحيّةٍ / مُجرَّحةٍ تشتاقُ لسعاً مبرّدا
وفي رأسهِ نارُ الجحيمِ توقَّدت / فلم يرَ ماءً للسّعيرِ مُخمِّدا
أشبّانَ هذا العصر أبناءَ أُمتي / تعالوا نعالج داءَنا المتَجدّدا
بُلينا بما تحلو المنيَّةُ عندهُ / وبتنا لذكرى أمسِنا نكرهُ الغدا
كذلكَ يمضي في العذابِ شبابُنا / ويقضي الفتى الماضي العزيمة أمردا
إذا رامَ من تلكَ الربوعِ تزوُّداً / تقولُ له الأقدارُ لن تتزوَّدا
تفرَّقَ ما بينَ الأجانبِ شملُنا / فأصبحَ طَلّابُ العُلى متشرّدا
كذا تنضَجُ الأثمارُ قبلَ أوانِها / فتَهوى عَن الأغصانِ ذاهبةً سُدى
قد اخترمَت نفسي الكبيرةُ جسمَها / كما فلَّ طولُ الضَّربِ سيفاً مهنَّدا
أيخمدُ فكرٌ ساطعٌ مثلَ نجمةٍ / بها النازحُ الرحّالُ في الغَيهَبِ اهتدى
ويَسكُنُ قلبٌ كالقَصيفِ خفوقُه / على ألمٍ ردَّ الأعادي وبدَّدا
لئن كانَ هذا حظٌّ كلّ فضيلةٍ / فما هيَ إِلا اسمٌ فلا تكُ مُجهَدا
بكيتُ على الأسيافِ لما تكسّرت / وما صنَعت تلكَ الشفارُ لتُغمدا
ونُحتُ على الأوتار لما تقطَّعت / وقد خلَّفَت قلبَ الفضيلةِ مُكمدا
أُحِبُّكِ يا أرضَ الشآمِ فخلِّدي / لأبنائك الأحرارِ ذِكراً مُمجَّدا
إذا غابَ جسمي في الثَّرى رافِقي ظلِّي
إذا غابَ جسمي في الثَّرى رافِقي ظلِّي / فلن تجدي بَينَ الورى عاشقاً مِثلي
فيُغنيكِ طيبُ الذّكرِ عن حُسن صُورتي / وهل دائمٌ عندَ النساءِ هوى خلِّ
لقد ذبلت أزهارُ وردٍ نقلتِها / من الورقِ النامي الى شَعرك الجثل
فلم يُغنِها دمعي عن الطلِّ والنَّدى / وإنّ الحشى للحبِّ والزَهر للطلّ
وما زالَ فوّاحاً عبيرُكِ بعدَما / سكنتِ مع الوردِ المعاجَلِ بالذّبل
خُلِقنا لأشقى بالغرامِ وتنعمي / فلم تعلمي علمي ولم تحمِلي حملي
فلا تجرحي قلبي الكريمَ تدلُّلاً / فمثلُكِ لا ترضى التذلُّلَ من مِثلي
هَبيني قليلاً من وصالكِ إنّني / لأقوى على حَمل الكوارثِ بالوَصل
ولا تحرميني بسمةً في كآبتي / فما هي إِلا النضرُ في زمن المحل
وكُوني لمن يحمي العفافَ مُحبّةً / ولا تمزجي الخمرَ العتيقةَ بالخل
ولا تحسبي أني أهمُّ بريبةٍ / ولكنني بعضَ التسامحِ أستَحلي
حملتُ الهوى العذريَّ أصفى من التُّقى / تُطهِّره الشمسُ المنيرةُ من عقلي
فما لمست كفِّي ثيابَ مَهانةٍ / ولا وطِئَت أرضاً مدنسةً رجلي
أرى القلبَ معزافاً شجياً رنينُهُ / إِذا اقترنت فيه الطهارةُ بالنُّبل
وإن حركت فيه الخلاعةُ نصلَها / تقطَّعتِ الأوتارُ من حدّةِ النّصل
أراكِ تُصلّينَ المساءَ وللدُّجى / سكونٌ بهِ أجلو الفؤادَ وأستجلي
فأؤمِنُ بالربِّ الذي تَعبدينهُ / وأرجعُ مستاءً من الكفرِ والجهل
قفي نتبادل نظرةً وابتسامةً / فنهزأ بالدّهرِ المفرّقِ للشّملِ
ونذكر أيامَ الصبابةِ والصِّبا / وما بتُّ ألقى في الترحُّلِ والحلِّ
ونجمع قبلاتٍ بها قد سمحتِ أو / تسمّحتِ ما بينَ التمنُّعِ والبذلِ
وغني بتلحينٍ كتغريدِ بُلبلٍ / فنلهو عن الدنيا المحبةِ للنذل
فأمّك تحتَ الدّوحِ تغزلُ قطنَها / وإنَّ أباكِ الشيخَ سار الى الحقل
وما أنسَ مِ الأشياءِ لا أنسَ ليلةً / على الجانبِ الشرقيّ من ذلكَ الرمل
تناثرَ دمعي مثلَ شِعري ومُهجتي / على سَمرٍ بينَ القرنفلِ والفلّ
وكانَ شبابي عقدَ زَهرٍ نظمتُه / فنثَّرتِ الأحزانُ زَهري على الحبل
عِديني وفيني أو عِديني ولا تفي / فأجملُ ما في الحبِّ تعليلةُ المطل
فما الحسنُ إِلا أن تصوني حياءَه / وما الحبُّ إِلا أن تصونيه بالبخل
فزنبقةُ الباقاتِ تذبلُ عاجلاً / وزنبقةُ الغَيضاتِ تَذوي على مهل
دعي القلبَ من عينيكِ يجمعُ زادَه / فما هو إِلا متحفُ الأعينِ النجل
تجمَّعَ فيهِ نورُها وذبولها / فلم يُبدِ إِلا ما لهذينِ من فعل
وما هو إِلا الغصنُ ريانَ مُزهراً / وما هو إِلا السيفُ يُرهفُ بالصّقل
أأرحلُ عن مغناكِ غيرَ مزوَّدٍ / إِلى البلدِ المزدان بالآسِ والنخل
ستبكينَ أياماً على قلبِ راحلٍ / تعوَّد ألا يطلبَ المالَ بالذلّ
فإن هاجَك الذكرُ المؤرّقُ فانظري / إلى نجمةٍ زهراءَ تبدو على التلّ
أراعتكِ مني صفرةٌ هي زينتي / نعم أنا في غلٍّ ولن يشتفي غلّي
فجسمي كغصنٍ أيبسَ البَردُ زهرَهُ / وقلبي كسيفٍ في المعاركِ منفلِّ
حَديثي طويلٌ فاسمعي الآنَ بعضَه / وإن تلمُسي عقدَ العواطف ينحلّ
أقولُ إذا ما الليلُ هاجَ عواطفي / بلا وطنٍ أقضي الحياةَ ولا أهل
هناكَ وراءَ البحرِ أمٌّ حزينةٌ / تُكابدُ آلامَ الشَّهيداتِ من أجلي
سأحملُ عبءَ العيشِ رفقاً بقلبها / فأُحسَبُ من أهلِ الفضيلةِ والفضل
أبيتُ أناجي طيفَها قائلاً لها / روديدَكِ إني كالأُلى فعلوا فِعلي
فما شعرُهم إِلا انفجارُ شعورِهم / فقوَّى على البلوى وروَّى على القحل
وأبياتُه ما بينَ لؤم وقسوةٍ / أشعةُ بدرٍ في الدُّجى وعلى الوحل
لقد مات دَنتي يائساً في جهادهِ / وقد مات في المنفى امرؤ القيس من قبلي
وضلّ شتبريان يَبكي ويشتكي / فمن روحهِ روحي ومن ظلهِ ظلّي
وكم لجة سوداء كمونس خاضها / وعادَ بلا ثوب يقيه ولا نعل
وإني لأدعو كلّ ذي محنة أخي / فللشبل حنّاتٌ الى زارةِ الشبل
كذلكَ أهلُ الشعر ذابت قلوبُهم / فقيلَ لهم أنتم مصابون بالخبل
وقال أحبائي اتخِذ لكَ حرفةً / فقلتُ لهم ما أولع الزّهرَ بالنحل
بُليتُ بقلبٍ للمحاسنِ عابدٍ / بها غزلٌ والشعرُ يُلهي عن الشغل
فهل نافِعي نصحُ الذين أُحبُّهم / وقلبي طروبٌ للجمالِ وللدلّ
فلا هيّجت وجدي من الشعرِ نغمةٌ / إذا لم أُلقّب فيهِ بالشاعر الفَحل
ولا حَملتني مهرةٌ عربيةٌ / إذا لم يكن صدري يعرَّض للنبل
أبيرُنَ نلتَ الحسنَ والمجدَ والهوى / فقل لي لماذا ما رضيت بها قُل لي
فأسمعتَنا في ظلمةِ اليأس صرخةً / وفي شعركَ السحار من نفثةِ الصلِّ
رغبتَ عن الدّنيا فبتَّ مفتشاً / عن الغايةِ القصوى فما فزتَ بالسؤل
ومتَّ فدى الحريةِ العذبةِ الجنى / فيا حبّذا في ظلّ رايتِها قتلي
لك العزُّ يا حسناءُ من وطنيةٍ / رجالكِ من تأثيرِها دُمُهم يغلي
إذا مَرّتِ الراياتُ حَيّوا جلالها / وقد خفقت في جيشك الحَسَن الشّكل
أغصُّ بريقي باكياً ما شَهدتها / وما غصّتِ الساحاتُ بالخَيل والرجل
فأرنو إِلى أرضٍ هناكَ شقيةٍ / كأمٍّ أذابت قلبَها لوعةُ الثكل
أزالَ جحيمُ الظالمينَ نعيمَها / وفارقَها الخَصبُ المجاورُ للعدل
فيقطرُ قلبي من مصائِبها دماً / وأبكي على شعبٍ أخفَّ من الطفل
على مثل تلكَ الحالِ لا يصبرُ الفتى / إذا كان طَلّابَ العُلى طيَّبَ الأصل
سَأتبعُ ظلَّ الموتِ بينَ الكتائبِ
سَأتبعُ ظلَّ الموتِ بينَ الكتائبِ / لعلَّ شفاءً من شِفارِ القواضِبِ
فَبيرُنُ في اليونان حيّاهُ باسماً / وقبَّلَ بنتَ المجدِ بين الحواجب
قضى وعذارى الشِّعر يندُبنَ حوله / فيا حبَّذا دمعُ العذارى النوادب
لئن كنتُ محروماً من الحبَّ والغِنى / كفاني من الأمجادِ فخرُ المحارب
سُعادُ قِفي نجلُ السيوفَ لثأرِنا / وراحةِ أرواحِ الجدودِ الغواضب
فيضرِبُ هذا الشعبُ حتى يَرى الهدى / ويرجعُ بسّاما لذكرى المضارب
شَكَوتُ الضَّنى بعد الجهادِ فقلتِ لي / تعوَّدَ هذا الجسمُ حملَ المتاعب
هبي الجسمَ يا حسناءُ سيفاً مهنّداً / أما فلَّ حدَّ السيفِ ضربُ المناكب
فربَّ جوادٍ لم يقم بعد كبوةٍ / وليثٍ أهانتهُ صِغارُ الثعالب
فما أنا إِلا النسرُ يحملُ سهمَهُ / ويضربُ قلباً دامياً بالمخالب
ستخلدُ أشعاري وتبلى محاسني / ويشفي خُصومي غلَّهم بالمثالب
فقولي لهم ماتَ الذي كان خيركم / ولم تعلموا ما بينَ تلكَ الجوانب
أرى الأهلَ والأحبابَ يمشونَ مَوكباً / وأمشي وحيداً بين زَهرِ المواكب
وأفقدُ صحبي واحداً بعد واحدٍ / وأبكي عليهم في بلادِ الأجانب
فمنهم إلى البَلوى ومنهم إلى الثّرى / وَطرفي وقلبي بينَ ذاوٍ وذائب
فشيَّعتهُم حتى المقابرِ باكياً / وودّعتُهم ولهانَ عندَ المراكب
فيا وَحشَةَ المنفى ويا ظُلمةَ الثَّرى / وراءَكما نورٌ يَلوحُ لراقب
مساكينُ أَصحابي الكرامِ فقَدتُهم / ولم يَبقَ إلا كلُّ أحمقَ عائب
يمرّون أطيافاً فأسمعُ هَمسَهُم / وأمشي على ماضٍ كثيرِ الخرائب
وأَذكُرهم تحت الدُّجى ونفوسُهم / تطيرُ على الأرواحِ من كلِّ جانب
لقد أغمضوا أجفانهم ولحاظُها / تُنيرُ ظلامَ القلبِ بينَ المصائب
وإني ليوهيني تقَسُّمُ أُمّتي / بأديانِها والشرُّ بينَ المذاهب
متى يَنتهي كهّانُنا وشيوخُنا / فَنَنخلصَ من حيّاتِهم والعقارب
شقينا لنُعماهم وراحتِهم فهم / يسوقوننا كالعِيسِ نحو المعاطب
يقولونَ صلّوا واصبروا وتقشَّفوا / وتوبوا وصُوموا واثبتوا في التجارب
وهم بينَ عوّادٍ وزقٍّ وقينةٍ / لها عَبَثاتٌ باللحى والشوارب
يجوعُ ويَعرى في الكهوفِ فقيرُنا / ويَشقى ويَبكي صابراً غيرَ عاتب
وقد أكثروا ديباجهم ودجاجَهم / وقالوا لشعبِ اللهِ عش بالعجائب
وإن خَرجوا يويماً للهوٍ ونزهةٍ / تجرُّ جيادُ الخيلِ أغلى المراكب
فكم أكلوا القربانَ بعد فظيعةٍ / وكم جحدوا الإيمانَ عندَ المكاسب
خلاصي وما أغلاهُ لستُ أُريدُهُ / إذا كان من خوري وقسٍّ وراهب
متى يَهزمُ الغربانَ نسرٌ محلِّق / وتبطشُ آسادُ الشّرى بالثعالب
تنوَّعتِ الأديانُ والحقُّ واحدٌ / فنَال بها الكهّانُ كلَّ الرغائب
فما الدينُ إلا نسخةٌ بعد نسخةٍ / تُزَخرفُها للناسِ أهواءُ كاتب
وأكثرُهُ وَهمٌ يضلِّلُنا بهِ / مجاذيبُ أغراهم بريقُ الحباحب
أضاع القوى تسليمُنا واتكالُنا / فكم خابَ من باكٍ وشاكٍ وطالب
فمزِّق بنورِ العَقلِ ظلمةَ خِدعةِ / وقطِّع حبالاً وُصلُها للمآرب
ففي هذه الدُّنيا جحيمٌ وجنّةٌ / لكلٍّ وبعدَ الموتِ راحةُ لاغب
وإني رأيتُ الخيرَ والشرَّ فطرةً / بلا رغبةٍ أو رهبةٍ من مُعاقب
فكم ديّنٍ يزني ويقتلُ سارقاً / ولا يختَشي سُخطَ الإلهِ المحاسب
أَتينا معَ الأقدارِ والرزقُ حيلةٌ / وحظٌّ تعامى عن جزاءٍ مُناسب
فهل حُرِمَ الأشرارُ خيراً ونعمةً / وهل وُهِبَ الأخيارُ أسمى المطالب
فكم لي إذا أسعَى إلى خيرِ غايةٍ / ندامةَ مَغبونٍ وحسرة خائب
أهذا جزاءُ الخيرِ يُقتلُ مُحسِنٌ / ويُصقلُ متنُ السيفِ في كفِّ ضارب
أأضحكُ من نفسي وأرضى بغبنِها / وقد شاقها علمُ الحكميمِ المراقب
دَعي الوهمَ يا نَفسي وعيشي طليقةً / بلا خبثِ شرِّيرٍ ولا خوفِ تائب
وبشِّي لذكرِ الموتِ فالموتُ راحةٌ / ولا تؤمني من بعده بالعواقب
لكِ الجوُّ يا نفسي وجسمي له الثَّرى / فلا تَقبَلي يوماً شهادةَ غائب
فديتُك يا أُمّي الحقيقةَ مزِّقي / بنورِ الهدى والعَقلِ سِترَ الغَياهب
ولا تدعي الإخوانَ في أرضِهم عدىً / بما زيَّنَت أهواءُ غاوٍ وكاذب
أنيري أَنيري الأرضَ واهدي شُعوبَها / إِلى مشعبٍ فيهِ التقاءُ المشاعب
سلامٌ على روحِ المعريِّ إِنها / أنارت وغارت شعلةً في الكواكب
فلو كان عندَ النّاس عدلٌ وحكمةٌ / لما ضاعَ في الدَّيجورِ نورُ الثَّواقب
بناتِ بلادي القارئاتِ قصائدي / فتاكُنَّ هذا ضاعَ بين الغرائب
أُخاطِبُ منكنَّ الشّواعرَ بالهوى / وأعرضُ عن هزلِ اللّواهي اللّواعب
فَطيَّبنَ نفساً صوتُها في كُروبها / كبرقٍ ورعدٍ بين سودِ السحائب
وهَبنَ لِشعري دمعةً وابتسامةً / هما سلوةٌ للصبّ عندَ النوائب
ألا يستحقُّ القلبُ منكنَّ عطفةً / وقد ذابَ وجداً فوقَ تِلكَ الذوائب
وناحَ على تِلكَ المعاطفِ بلبُلاً / وفاحَ عبيراً من بياضِ الترائب
تزوّدنَ طيباً في الربيعِ ونضرةً / وجمِّعنَ حبّاً في الليالي الذّواهب
ونوِّلنَني التقبيلَ والضمَّ خلسةً / ونعّمنني في شقوتي بالأطايب
ومتِّعنَ كفِّي من كنوزٍ ثمينةٍ / تكونُ سِلاحي في الرَّزايا الغوالب
وغرِّدنَ تغريدَ العصافيرِ في الحمى / لتخفينَ في الظلماءِ صَيحاتِ ناعب
على الحبِّ لا تخشينَ لوماً ونقمةً / ففي الحبِّ تسهيلٌ لكلِّ المصاعب
تذكَّرتُ ما أبلى الزمانُ وما غيّرْ
تذكَّرتُ ما أبلى الزمانُ وما غيّرْ / فقلتُ لنفسي فاتكِ الوطرُ الأكبرْ
تكسَّر سيفي في الجهادِ وطالما / تكسَّر سيفٌ في يدِ البطلِ الأجسر
نفضتُ يدي بعدَ المطامعِ قانعاً / فما أصغَر الدنيا لديَّ وما أحقر
وبين الغِنى والفقرِ أضحكُ باكياً / وأبكي ضحوكاً والبغاثُ قد استَنسَر
لعمرُكَ ما بعتُ الفضيلةَ بالغِنى / فكم عرضٌ يَفنى وقد بَقي الجوهر
فربَّ غنّيٍ فقرهُ في يسارهِ / وربَّ فقيرٍ بالمكارمِ قد أيسر
وربَّ بخيلٍ مالُه كوديعةٍ / فبتُّ أرى الأغنى على حرصهِ الأفقر
كذا أنتِ يا دنيا غريقٌ وظامئٌ / فذو فاقةٍ يَشقى وذو نعمةٍ يبطر
فكم فاضلٍ عزّت عليهِ رغيفُهُ / وأحمقَ يَبغي أو يقامرُ أو يسكر
وكم ذاتِ أطفالٍ على العري والطَّوى / تعيشُ لئلا تفقدَ الشَّرفَ الأطهر
وكم قينةٍ في حليها وحريرِها / منعَّمةٍ تمشي على الخزِّ والمرمر
وإنّ رغيفَ الخبزِ أصعبُ خلسهُ / من الثروةِ الكبرى فكن سارقاً أمهر
فلا قدرٌ أعمى ولا ربَّ منصفٌ / ولكنّه السرُّ الذي عَقلنا حيَّر
إذاً فنعلل بالفناءِ وجودَنا / ولا نكُ أشراراً لنغنم أو نظفر
فلا كان هذا الكونُ خلقاً وصدفةً / لأنَّ قيامَ الكونِ بالمعدَنِ الأصفَر
وفينا صِراعُ الخيرِ والشرِّ دائمٌ / وما زالَ فكرُ الخيرِ من ضِعفِنا يَخسر
بُليتُ بأجلافٍ أضاعوا مواهبي / فمن جاهلٍ أغضى ومن حاسدٍ أنكر
فَلسنا رفاقاً في الحياةِ وإنما / بُليتُ بأسرٍ بينهم والرّدى أستر
ولولا شقائي ما ظفرتُ بحكمتي / فما كان أغلاها عليّ وما أعسر
فيا حبّذا النسيانُ لو كانَ مُمكِناً / وإني لناسٍ كلّ ما عيشتي مرَّر
لِأَذكر أحلى ما لقيتُ وإن أكن / غريبَ الهوى والدارِ فالأثمنُ الأندر
سلامُ على ليلاتِ لامي وطيبها / فتلكَ الليالي في ليالي الأسى تُذكر
تزوَّدَ قلبي من شذاها ونورِها / ففيها نسيمُ البحرِ قد حَمَل العنبر
هنالكَ حيثُ الموجُ للرّملِ يَشتكي / ودمُع الهوى يُذرَى ودمع النّدى يُنثر
طربتُ لترنيماتِ حبٍّ شجيّةٍ / لها النفسُ تعلو في الشدائد أو تكبر
وقد شاقني زنّارُ نورٍ مسلسل / على جونِ ريّو وهو أجملُ ما يُنظر
ويومُ ضبابٍ فيهِ طابَ شرابُنا / ونُزهتُنا صبحاً على الشاطىء الأحمر
ومنهُ صعدنا في الهواءِ بمركبٍ / علا فَوقَ مهواة إلى قالبِ السكَّر
هو الجبلُ العالي الذي البحرُ تحتَهُ / يُكسّرُ أمواجاً على الساحل الأخضر
غمامٌ يعاليهِ حجابُ جلالهِ / وإنّ جلال الملكِ يحجُبُ أو يستر
فطوراً يغشّيهِ السحابُ وتارةً / يلوحُ محيّاهُ وبرقُعُهُ يُحسَر
تشامخَ جباراً يصعّر خدَّهُ / لعصبةِ أقزامٍ وقد تاه واستكبر
فكم دهشة أو صبوةٍ منهُ للفتى / إذا قلبَه والعينَ دَحرجَ أو دَهور
يرى الغابَ والأسواقَ والسهلَ والقُرى / رُسوماً كأنَّ الكونَ في عينهِ يصغر
وإني لتوّاقٌ إلى كلّ عزَّة / وكلّ اقتدار إذ أرى الأفضلَ الأقدر
أُحبُّ مساءً جاءَ يُرخي على الوَرى / من الأفقِ الوردي برقعَهُ الأكدر
على مَهَلٍ يَسري ونَفسي كطائرٍ / تغرّدُ لما ضيَّعَ الوكرَ واستَنكر
وفي القبّةِ الزرقاءِ فوقَ ظلامهِ / من النَّجمِ إكليلٌ على رأسه يُضفر
وللغاب والوادي الخشوعَينِ تحتَهُ / زفيرٌ وهمسٌ عنهما الشّعرُ قد قصّر
وأشتاقُ فجراً لاحَ بعدَ تَسهُّدٍ / كما لاحَ يجلو بأسَنا الأملُ الأنور
يُنقّشُ بالأنوار نُمْرُقَةَ الدُّجى / ويبكي على الأزهارِ والنّجمُ قد غوّر
فتستيقظُ الأحياءُ بعدَ رقادِها / وما كان يُطوى من محاسِنها يُنشَر
وكلٌّ يحيّي باسماً متنفساً / وما الحيُّ إلا ميِّتٌ في الدُّجى يُقبر
غَنيتُ بمغنى ذاتِ عزٍّ ورفعةٍ / ولولا هواها لم يَلُح كوكبي الأزهر
تفتّحَ قلبي إذ تفتَّحَ ثَغرُها / على بابِ روضٍ كلُّ ريحانهِ أزهر
ولما تلاقينا على حين غفلة / وقد مرَّ بي شهرانِ في الحبّ أو أكثر
حنيتُ لها رأسي فردّت تحيّتي / وقالت ألا تخشى أبي القائد الأظفر
على كل باب من حديقةِ قصرنا / رقيبٌ يُذيعُ السرَّ أو حارسٌ يَسهَر
فزُرنا لماماً تحت ظلّ وظلمة / وعُد مُسرعاً فالصّبحُ سرعانَ ما أسفَر
فقلتُ لها لا أرهَبُ الحرسَ الذي / على بابِ هذا القصر أسيافه تُشهَر
أُحبُّ جمالاً بالجلال محجَّباً / بأبيض يُحمى بينَ أهليه أو أسمر
بسيدةٍ في قومها هام سيدٌ / يرَى أكبرَ الأخطارِ في حبّها أصغر
فلو لم تكوني ربّةَ القومِ لم أدَع / فؤادي يُعنَّى في الهوى ودَمي يُهدر
وإني أرى الأقدار طوعَ إرادتي / إذا زرتُ مولاتي على صَهوةِ الأشقَر
ليالي النّوى حتّامَ ترخينَ برقعا
ليالي النّوى حتّامَ ترخينَ برقعا / لينتابني ذكرُ الأحبَّةِ أفجعا
فتنظمنَ من دمعي عقوداً ثمينةً / يُعَدُّ لها شِعري من الخلدِ مَوضِعا
أنارت دجاكنَّ المدامعُ فاهتَدى / إِلى الصبرِ قلبٌ لن يملَّ ويجزعا
ولما رأيتُ اليأسَ يحملُ خنجراً / حكمتُ عليهِ أن يظلَّ مدرَّعا
فما الكوكبُ السيّارُ إن ذرَّ مُشرقاً / بأجملِ منهُ في دُجَى الخَطبِ مطلعا
خمائلكنَّ الزافراتُ سمعنَني / أنوحُ وأهوى إن يَنُحنَ وأسمعا
وموجاتكنَّ الهادراتُ رأينني / أُشير إلى النّجمِ البعيدِ مودّعا
وأنفاسكن العاطراتُ حملنَ لي / زفيراً وشعراً من شذا المسكِ أضوعا
ذكرتُ الليالي السالفاتِ فلُحنَ لي / يُزَحزحنَ عن وجهِ السّعادةِ برقعا
ومثَّلنَ لي طيفَ الفتوَّةِ باسماً / يمدُّ لضمّاتِ المعاطفِ أذرعا
نعم كنتُ فتاناً لكلِّ خريدةٍ / وكانَ فؤادي للمحاسنِ مَرتعا
تولّينَ بيضاً باسماتٍ لبهجتي / وجئتنَّ سوداً لا تنوِّلنَ مطمعا
فيا حبّذا تِلكَ الليالي وطيبُها / وهيهاتِ أن تصغي إليّ وترجعا
أُحاولُ فيكنَّ التناسي لأنني / رأيتُ التناسي للمحبّينَ أنفعا
ولكنَّ تذكاراً مذيباً لِمهجتي / يمرُّ فأبقى منه ولهانَ مولعا
أيا ليلةً بينَ الليالي عَشِقتُها / أسرِّي إِلى قلبي كلاماً مشجِّعا
تمرّينَ بيضاءَ الوشاحِ خفيفةً / تجعِّدُ منكِ الريحُ بُرداً ومقنعا
وتزفرُ للأطيابِ نفّاثةً كما / سَمعتِ لأنفاسِ المشوقِ تقطعا
إذا زرتِ هاتيكَ الربوعَ وأهلها / تهزّينَ من بيضِ الأمانيّ مَضجعا
هنالكَ أمٌّ تذرفُ الدّمعَ فاعبري / برفقٍ لتَسلوني قليلاً وتهجعا
وأوصي كذا من جانبِ الشّرقِ نجمةً / تقولُ لها لا بدَّ أن نتَجَمَّعا
وإني لاستَحلي جبينَك شاحباً / وشَعرك مُرخىً بالنجومِ مرصّعا
وأصبو إِلى حفّاتِ أذيالكِ التي / عَليها جَرى دَمعي ودمعُ النّدى معا
وفي ذلك الروضِ الكثيفِ بحيرةٌ / نثرتُ عَليها عقدَكِ المتقطّعا
كحباتِه ضاءت عيونُ أحبتي / بقَلبي فكانت منه أغلى وأسطعا
بدمعِ النّدى هَل تذكرينَ مواقفي / هنالك أرعى بَدرَكِ المتطلعا
يلوحُ ويخفى كالسعادةِ هازلاً / خجولاً بشفَّافِ الغمامِ مُلفَّعا
أرى بسماتِ الصبحِ تبدو على الرُّبى / فهل حانَ أن أحني جبيني مودّعا
حنانيكِ مهلاً لا تمّري سريعةً / فإنّ مِنَ الإسراعِ للصبِّ مَصرعا
خُذي لكِ شيئاً من زَفيري ومَدمعي / وأبقيه ذكراً بينَ نهدَيكِ مُودَعا
وهاتي لقلبي من خمارِك نفسةً / لعلَّ له منها شفاءً ومقنعا
قِفي نتَشاكى بينَ ماءٍ وخضرةٍ / فلا يتباكى من بكى متوجِّعا
فنذكر منسيّاً وننضرُ ذابلاً / وننشرُ مطويّاً ونمطرُ مربعا
سنونَ ثلاثٌ من شبابي تصرّمت / وما تَشتهيه النفسُ يهربُ مُسرعا
عريتُ كما يعرى من الرّيشِ طائرٌ / فأصبحَ شِعري للنواحِ مُرَجِّعا
بما جدتِ لي من بهجةٍ وسكينةٍ / تذيبانِ قلبي لذةً وتخشُّعا
لئن جاءَ بعدي عاشقٌ يذكرُ الهوى / ويشكو نوىً فيها الشبيبة ضَيّعا
ويُلقي جبيناً في ذراعَيكِ مُثقَلاً / فقولي له ذيّاكَ لم يُبقِ مَنزعا
كثيرون ناحوا مثلهُ وتألّموا / فلم أرَ صبّاً منهُ أصبَى وأوجعا
سأجعل نجمي ساطعاً فوقَ رَمسِهِ / فقد كان ذا نفسٍ من النَّجمِ أرفعا
أتطمَعُ كالضلّيلِ بالوطرِ العالي
أتطمَعُ كالضلّيلِ بالوطرِ العالي / وأنتَ قليلُ الحظّ والصبرِ والمال
سَتَقضي غريباً مِثله ودَعِ المُنى / بصَيحةِ مغبونٍ كزأرةِ رِئبال
لقد ضلَّ من يَرجو الثريّا على الثَّرى / ويطلبُ برد الماء من وهج الآل
دَعوني فما النّسرُ الكسيرُ جناحُه / بناسٍ ذرى تِلكَ الجبالِ ولا سال
حياتي كحربٍ كلَّ يومٍ أخوضُها / فَهَل راحةٌ تُرجى لركَّابِ أهوال
عَذرتُ فَتى يَسعى إلى المجدِ سَعيَه / ويَسقُطُ في الهَيجاءِ سقطة أبطال
وقد ضمّ منها كلَّ أبيضَ مَرهفٍ / وعانقَ فيها كلَّ أسمَرَ عسّال
فما المجدُ إِلا أن يريكَ جروحَه / إذا كشَفَ الأثوابَ عن جسمهِ البالي
وما الجسمُ إلا قَيدُ نفسٍ كبيرةٍ / فيا حبّذا الموتُ المقطّعُ أغلالي
لئن بَقيت نَفسي تُنيرُ كنجعةٍ / فما همّني جسمي ولا همّني مالي
فإني لجسمي كنتُ أوَّلَ مُتلِفٍ / وإني لمالي كنتُ أوَّلَ بَذّال
سَتَبكي عذارى الشِّعرِ والمجدِ والهوى / على عربيٍّ للكريهةِ نزّال
أطرفَةَ في العشرين فاجأك الرّدى / ويا ابن زُريقٍ متَّ من طولِ إهمال
لقد متّما في مثلِ عمري فعشتُما / بتخليدِ ذكرٍ لا يُبالي بأجيال
وأبقيتما شعراً يُردِّدُه الوَرى / ألا أيُّ قلبٍ من محاسنهِ خال
نحسَّبُ فتياناً وتحني ظهورَنا / همومٌ وأحزانٌ كأثقلِ أحمال
وُلدنا لنَشقى هكذا كلٌّ عاقلٍ / يعيشُ لتُشقيه سعادةُ جهّال
كما يَنحني غصنٌ لكثرةِ حملهِ / ويشمخُ غصنٌ مورقٌ غير حمّال
وعيّرني بالفقرِ أحمقُ موسرٌ / فكرّهني جوداً يسبّبُ إقلالي
لئن كان ريحُ الشّحمِ يملأ ثوبَه / فإنّ عبيرَ المجد يملأ سربالي
أرى التبرَ والسامورَ في الفحمِ والثَّرى / كقَلبٍ شريف خافقٍ تحتَ أسمال
فكم عثراتٍ للكرامِ جَبرتُها / وكم من جميلٍ للّئامِ وإجمال
فوا أسفي لو كنتُ للمالِ مبقياً / لما مزّقت عرضي براثنُ أنذال
لعمركَ إنّ العدمَ ما زالَ مُزرِياً / بأعظمِ قوّالٍ وأعظمِ فعّال
ألا فَلتمُت بالثكلِ كلُّ فضيلةٍ / لأن الوَرى وارَى الفضيلةَ في المال
وأقتلُ ما ألقى من البينِ أنَّ لي / هنالِك أُماً ضائعٌ دمعُها الغالي
أمامَ نجومِ الليلِ تضربُ صَدرَها / وللموجِ في الظلماءِ رنّاتُ إعوال
أتبكي لأجلي بنتُ أشرفِ قومها / وتضحكُ منى في النّوى بنتُ بقّال
وتفقدُ أختٌ ذاتُ عزِّ وبهجةِ / أخاً مثلَ مهرٍ طيِّبِ الأصل صَهّال
وتخطرُ بنتُ الوَغدِ في ثوبِ مخملٍ / ويمشي أخوها ضاحكاً ناعمَ البال
تأمّلتُ في هذي الأمورِ جميعها / فألفَيتُ دَهري هازلاً مثلَ دجَّال
فجدّفَ قلبي يائساً متألِّماً / وفاضت دموعُ الكبرِ تُغرقُ إذلالي
أبنتَ بلادي إنني ذاهبٌ غداً / إلى القبر كي ألقي عظامي وأثقالي
لقد كنتُ عزّاماً فأصبحتُ عاجزاً / وما الطَّيرُ في بردِ الشتاء برحّال
قفي أتزوّد من محيّاكِ إنه / يُذكّرني أهلي وأرضي وآمالي
محيّاً عليهِ من ليالي جبالنا / سكونٌ ونورٌ اشتهي أن يعودا لي
وصَوتُكِ خلاّبٌ كنوحاتِ موجنا / على الشاطىءِ المسقيِّ من دمعِ ترحال
وَعينكِ فيها شمسُ سوريَّة التي / أموتُ ولم تخطر سواها على بالي
لها العيش أرجو بعد موتي فطالما / رأيتُ من الأيام تقليبَ أحوال
أديري إليها جبهتي فاصفرارُها / بقيةُ أنوارٍ من الزّمنِ الخالي
فيخققُ هذا القلبُ آخرَ خَفقةٍ / بما فيهِ من وَجدٍ على هذهِ الحال
وألقي على صَدري رداء سياحتي / لأذكرَ أسفاري عليهِ وأوجالي
لقد مزّقتهُ العاصفاتُ وبلّلت / حواشيهِ أمواجٌ تفحُّ كأصلال
وبالآس والغارِ النضيرينِ كلِّلي / جبيني جزاءً لي على حُسنِ أعمالي
وبيتين من شعرِ امرئ القيس أنشِدي / فمِثلي تُعزّيهِ قصائدُ جلّال
ويشتاقُ تطريبَ الحماسةِ والهوى / ويهوى من الغاداتِ حفّاتِ أذيال
ومن يدِ رافائيلَ أجملَ صورةٍ / ومن يدِ ميكالنجَ أكملَ تمثال
وأجري دموعاً من جفون عشقتُها / فدمعُ الصّبايا لا يضيعُ بأمثالي
بكيتِ لباكٍ واشتكيتِ لشاكِ
بكيتِ لباكٍ واشتكيتِ لشاكِ / فما كانَ أحلى مُقلتيكِ وفاكِ
سمعتِ نشيدي للجمالِ وللهوى / فلبّيتِ هذا القلبَ حينَ دعاك
فأنتِ كنورِ اللوزِ للنّورِ باسماً / ودَمعي ودَمعُ العاشقينَ نَداك
لقد ظلَّلت روحي محيّاكِ عِندما / نثرتِ على الأتراب ورد مُحَيَّاك
وبينَ ذواتِ الحسنِ كنتِ مليكةً / وبينَ ذوي الإحسانِ مثل ملاك
كفاكِ فخاراً أنّني لكِ عاشقٌ / ومن كان مِثلي لا يحبُّ سِواك
لكِ العزُّ يا حسناءُ أنتِ سعيدةٌ / لأنَّ فؤادي قد هَوى بهواك
ولو لم تكوني ذات أسطع نجمةٍ / لما هيَّجَت مافي حشايَ حشاك
فلا تجحدي قلباً وكفّاً كِلاهُما / وَفاكِ على رغم العدى ووقاك
بعيشِكِ هل حدّثت أمّكِ عن فتى / على مَتن صهّالٍ أغرَّ أتاك
يُجاري جيادَ الخيلِ في الرَّملِ سابقاً / ويعرفُ تحتَ الليلِ نورَ خِباك
وما ساءَني إِلا هُيامي بقَينةٍ / تُحاوِلُ أن تحكي الذي أنا حاك
فقلتُ لها سيري فلا صلحَ بَيننا / فقَلبي صَحا من سِكرِه وقَلاك
أتبكي الكريماتُ الأُصولِ قصائِدي / وأنتِ ضحوكٌ من تألُّم شاك
وتسطَعُ في شرقِ البلادِ وغربها / نُجومي وتُخفِيها غيومُ سماك
ولولا غُروري لم تنالي التِفاتةً / ولا بسمةً منِّي تُنيرُ دُجاك
لقد شفيت نفسي وعادت إلى الهُدى / وإنَّ شفاءَ النفسِ منهُ شقاك
كرهتُكِ إذ لولاكِ ما بتُّ يائساً / كأني أسيرٌ لم يَفُز بفِكاك
وذلكَ ضعفٌ فيه ضيّعتُ قيمتي / وأصبَحتُ مَبهوتاً بدونِ حِراك
نعم ضلَّ قلبي في هَواها وإنما / تعزَّيتُ لما أن هداهُ سَناك
مَليكةَ قلبي أنتِ ضلعٌ فقَدتُها / فعودي إلى صدرٍ شفاهُ نداك
يداكِ على الأوتارِ مُنعِشتانِ لي / كما أنضَرت روضَ الحمى قَدَماك
لكِ الخيرُ قد سلَّيتِ قلبي بنغمةٍ / فلو سالَ وجداً ما خَلا وسلاك
أعيدي أعيدي لي غناءً منعَّماً / فإنَّ لنفسي راحةً بغناك
صدى صوتِكِ الرنّانِ في أضلُعي دَوى / وما الشعرُ إِلا من رنينِ صَداك
بأوَّلِ ميعادٍ وأولِ قبلةٍ / وأول ليلٍ فيه طارَ كراك
وقد عصفت مثلَ السُّمومِ مطامِعي / وقد سطعت مثلَ النجومِ مُناك
قِفي وَدِّعيني تحتَ أغصانِ كرمةٍ / عناقيدُها لماعةٌ كحِلاك
فكم تحتَها دَمعاً وكم فوقها ندى / أجَفَّتهُما شمسُ الضُحى ولماك
حنانيكِ حينا ودَّعيني وأودعي / جناني جناناً واسمَحي بجناك
شذا الياسمين انبَثَّ مني فعبِّقي / شذا الوردِ كي يَلقى شذايَ شذاك
أيا وردَتي في الوردِ والياسمين ما / يعيرُ شتائي من ربيع صِباك
محيّاكِ حيّاني على كلِّ زَهرةٍ / وفي كل ريحٍ من أريجِ صَباك
كديكٍ يحيِّي الشّمسَ حيَّيتُ بسمةً / تنيرُ بها ليلَ النّوى شفتاك
وكم صحتُ مثلَ الدّيكِ أُوقِظُ أُمتي / وأُطلعُ نورَ الشمسِ فوقَ رُباك
دَعيني أسِر مُستَعجِلاً إنّ إخوتي / غَدَوا بينَ مبكيٍّ عليهِ وباك
فكم نازحٍ بينَ الأجانبِ ضائعٍ / وكم نائحٍ عندَ الخرابِ شَجاك
أجودُ على قومي بنفسي لأنني / تعوَّدتُ كالجندي خَوضَ عراك
فيا حبَذا بعدَ الشقاءِ خلاصُهم / ولو كان في ذاكَ الخلاصِ هلاكي
إذا لم يكن في الجسمِ جرحٌ ففي الحشى / جروحٌ بها يَعلو جبينُ فَتاك
أنا عربيُّ الأصلِ والنّطقِ والهوى / فحبي لِلَيلى والمنازلِ زاك
إذا العربيُّ الأبيضُ الكفِّ زارنا / أقولُ لها حيِّي أخي وأخاك
أفيقي فردّي بسمةً وسلاما
أفيقي فردّي بسمةً وسلاما / نسيمُ الحمى في الوردِ شقَّ كماما
ألا طالما بكّرتِ للشّغلِ والتُّقى / صلاةٌ وتدبيرٌ كذلكَ داما
أطلِّي فما أحبَبتِهِ لكِ باسمٌ / ولم يدرِ أن جاءَ النهارُ خِتاما
خفيفٌ وتغريدٌ وشمسٌ وخضرةٌ / وزهرٌ وأفنانٌ تشوقُ رهاما
لقد كنتِ تهوينَ الربيعَ أنيسةً / فلا كانَ فصلٌ إذ رَحَلتِ أقاما
أبعد اشتياقِ النورِ والعطرِ والصَّبا / تحلّينَ رَمساً ضاقَ عنكِ وضاما
فوا ضيقَ صَدري حين بدّلت فيه من / نسيمٍ ونورٍ حبسةً وظلاما
عزيزٌ علينا أن تموتي وفَصلُنا / ربيعٌ يُميطُ العيدُ فيه لِثاما
يزادُ معَ العمرِ الحبيبِ محبَّةً / وما عرفَ الحبُّ الشريفُ سآما
نقهتِ فأمّلنا شفاءً وصحةً / فأعقَبنا ذاكَ الأمانُ حِماما
فما أنتِ للإيناسِ والعطفِ بيننا / ولا نحنُ نرجو مُلتقى ولزاما
هنيئاً لأبناءٍ لهم أُمهاتُهم / وفي ذمةِ الرحمنِ دمعُ يَتامى
حكَيتُ يتيماً في الكهولةِ ما له / قوىً بل رضيعاً لا يُطيقُ فطاما
فلم ينقطع دَمعي وذكركِ ساعةً / بدارٍ تَغشَّت ظلمةً وجهاما
وكم لاحَ فيها وَجهكِ الحلُو كوكباً / وفاضَ الحديثُ العذبُ منك جماما
فأصغي وأرنو حيثُ كنتِ فلا أرى / وأسمعُ ما قلبي استَحبَّ وراما
فيا حبّذا صوتٌ رخيمٌ وطلعةٌ / وقورٌ وما للبيتِ كانَ دعاما
حياتُك كانت لي نعيماً وغبطةً / وموتُك عادَ الصدرُ منهُ حطاما
فما كان أغناني عن الحبّ والأسى / هما عذَّباني منذ كنتُ غُلاما
رفيقينِ كانا فالجوَى يصحبُ الهوى / وقد حملا سمّاً لنا ومداما
فلا صبر لي يا أُمّ عنكِ فإن يَكُن / لكِ الصّبرُ عنّي قد رضيتُ تماما
كفاكِ الذي عانيتِ ستينَ حجَّةَ / فلا داءَ بعدَ اليومِ حلَّ عقاما
سهدتِ طويلاً ثم نمتِ وهكذا / شكَوتِ سهاداً فاشتكيتُ مناما
إذن فاستريحي في ضريحٍ مقدَّسٍ / تباركَ لما ضمَّ منكِ عظاما
ليهنئكِ يا أمّاه نومُكِ في الضُّحى / ترينَ حقولاً أنضرت وأكاما
فميتَتُكِ الحُسنى على النورِ نعمةٌ / وحولكِ قد جلَّى الصباحُ قتاما
إلى مَطلعِ الأنوار طِيري خفيفةً / فلا أُفقَ في تلك المنازلِ غاما
ولا جسمَ منهوكٌ ولا صدرَ ضيِّقٌ / ولا قلبَ مصدوعٌ يعلُّ سماما
لَنحنُ بنو البؤسى على الفقرِ والغِنى / وُلِدنا لكي نَلقى الخطوب جساما
همومٌ وأمراضٌ وموتٌ وحسرةٌ / فنفرحُ يوماً ثم نحزنُ عاما
وإن لم يكن بعد المماتِ تعاطفٌ / رحمتُ هجوداً يَعشقونَ نياما
رأى الناسُ منكِ الخيرَ والحزَم والنُّهى / وما وَجَدُوا بينَ المحامدِ ذاما
هي المرأةُ الفُضلى يَقولونَ كلما / ذُكِرتِ وقد أعلى الصلاحُ مقاما
وفي ذاكَ فخرٌ لا عزاءٌ فإنّهُ / لحمدٌ يمرُّ الذكرُ فيهِ حُساما
سَلَكتِ سبيلَ الصالحاتِ وكنتِ لي / معلمةً تَبغي هُدى ونِظاما
فلي خيرُ إرثِ من فضائلَ جمَّةٍ / ومن موهباتٍ كنَّ فيكِ عِظاما
لكِ اللهُ يا أُمّاهُ أنتِ شهيدةٌ / تهالكُها كانت تراهُ ذماما
فأدمعَ عَينَيها وأدمى فؤادَها / شعورٌ كما ترمي القسيُّ سِهاما
أطيّبَةَ الآباءِ والأمَّهاتِ هَل / من الطّيبِ إِلا الطّيبُ طبتِ مقاما
ستلقينَ خالاتي الحسانَ فسلّمي / على أخواتٍ يَستَطِرنَ حَماما
ذوَيتُنَّ في ظلّ الخدورِ كما ذوَت / زنابقُ في ظلِّ الغياضِ أواما
كذا ذبلت قبلَ الأوان ولم يكن / لغيرِ نعيمٍ مَيلُها ونعامى
فنعمَ المحباتُ اللواتي إِلى الرَّدى / تَوالينَ يحسبنَ الحياةَ حراما
سلامٌ على جسمٍ طَهورٍ منزَّهٍ / تهدَّمَ همّاً ثمّ ذابَ سقاما
به حفَّتِ الأملاكُ حياً وميِّتاً / على طول ما صلّى وعفَّ وصاما
سلامٌ على قبرٍ غدا طيّبَ الثَّرى / سأبكي وأستبكي عليهِ غماما
وأنشقُ منهُ نفحةً ملكيَّةً / وألثمُ لحداً فوقَه ورغاما
قَضى الدهرُ أن أهواكَ غير مُمتَّعِ
قَضى الدهرُ أن أهواكَ غير مُمتَّعِ / فلم نجتمع يوماً ولم نتودَّعِ
إذا لم يكن لي في السّلام تعلَّةٌ / رضيتُ وداعاً منهُ علّةَ مُوجَع
ولكنَّ من يَهوى كثيراً منالُهُ / قليلٌ فما أشقى الفَتى بالتولُّع
وهذا نصيبُ الطِّيبينَ فطالما / شكوتُ الذي أشكوهُ غيرَ مشفَّع
فأنتَ نَسيبي والقرابةُ بيننا / شعورٌ وفهمٌ فاسترح وترفَّع
عهدتُك طَلقَ الوجهِ والكفِّ للألى / رَجوكَ فلم تَمنَع ولم تتمنَّع
وكنتَ كريماً عسرُهُ مثلُ يُسرهِ / أبى عزَّةً أو عفةً ذلَّ مَطمَع
فما ضاع دمعُ الأهلِ والصحبِ في الأسى / وقد كنتَ للأحبابِ غيرَ مضيّع
نُعيتَ فكان الحزنُ للناسِ شاملاً / ونَعيُكَ للأحبابِ غيرَ مضيّع
فلا كان يومٌ قيلَ في صُبحهِ قَضى / عميدٌ فأنسُ الدّارِ وحشةُ بَلقَع
لقد شهدت أطوادُ لبنانَ هولَهُ / فكادت تهي من هيبةٍ وتخشّع
تمثّلَ يومُ الحشرِ فيهِ ونورُهُ / ظلامٌ كأنَّ الجوَّ وجهُ مقنَّع
فلم أرَ فرقاً بينَ عرسٍ ومأتم / لما كانَ في ذاكَ الحفالِ المجمَّع
فُجِعنا بمن إحسانُه مثلُ حسنهِ / وأيُّ محبٍّ عاشَ غيرَ مروّع
وجدنا على روقِ الشّبابِ بدَمعِنا / فكان كغيثٍ فوقَ ريانَ مُمرع
وأصعبُ شيءٍ فرقةٌ بعد إلفةٍ / فكم مهجةٍ منها تسيلُ بمدمع
فما أوجد الإخوانُ والأخواتُ في / مماتِ الذي قد كان بهجةَ أربُع
مَضى وقلوبُ الصَّحبِ حوليه جمةٌ / وأدمعُهم ماءٌ على نارِ أضلع
ومن ذا يردُّ الموتَ عنهُ وقد سطا / على كلِّ ذي عرشٍ وجيشٍ مدرَّع
فلو أنه يفدَى ببعض حياتنا / لجدنا له من كل عمر بأربع
ولم نكُ يوماً آسفينَ لأنّنا / نُقاسمهُ ما هانَ عند التفجُّع
ويا حبّذا ما كان منه وذِكرُهُ / لهُ نفحاتُ الفاغمِ المتضوّع
فأنّى لنا ذيّالِكَ الظرفُ والنَّدى / وتِلكَ السَّجايا بعد أهولِ مَصرَع
ولطفُ ابتِسامٍ في عذوبةِ مَنطقٍ / وحسنُ كلامٍ في حديثٍ منوَّع
فكيفَ أُعزّي أهلهُ وأنا الذي / يُشارِكُهم في حزنِهم غيرَ مدّع
ألا يا أخا الفتيانِ كيفَ تركتَنا / فأوحَشتَ منا كلَّ قلبٍ ومَوضع
عزيزٌ علينا أن تواريكَ تربةٌ / فتفقدُ منكَ الدارُ أجملَ مطلع
ولو فزتُ قبلَ الموتِ منكَ بنظرةٍ / لكانت عزاءً لي على غيرِ مقنع
ولكنَّ نفسي لاعها الموتُ في النَّوى / وليست على مرأى حبيبٍ ومسمع
ترنَّحتَ غصناً مزهراً في خَميلةٍ / غدا بعد طلِّ الصبحِ يُسقى بأدمع
تناثرَ مِنكَ الزَّهرُ وارتحلَ الشّذا / فبعدَكَ لا أرجو ربيعاً لمربع
وكنتَ حبيبَ الكلِّ في علو مجلسٍ / فبتَّ فقيدَ الكلَّ في عمقِ مضجع
عزاءً ذوي القُربى فما المرءُ خالدٌ / ولو حازَ دَهراً ملكَ كِسرى وتُبّع
تأسّوا بإخوانٍ أُصيبوا بإخوةٍ / فما الأرضُ إِلا مرقدٌ بعد مرتع
أعيناكِ حينا ترنوانِ إلى الزَّهرِ
أعيناكِ حينا ترنوانِ إلى الزَّهرِ / فيصبو إليها القلبُ في ظلمةِ الصّدرِ
عَواطفُ ذيّاكَ الفؤادِ عَرَفتِها / تَسيلُ كينبوعٍ وتهدرُ كالبحر
إذا ما سكونُ الليلِ حرَّك ساكني / تَشهَّيتُ أشجان التأمُّلِ والذكر
لعمركِ إنَّ الحزنَ يَذهبُ بالصِّبا / سَريعاً وإنَّ البردَ يَذهبُ بالزّهر
وإنَّ الليالي المقمراتِ هنا مَضَت / وما رَنَّ فيها مرةً وترُ الشّعر
لياليَّ في هذي البلادِ طويلةٌ / وكانت ليالي الشّرقِ عاجلةً تسري
هنا لا تقرُّ العينُ بالنورِ إِنما / هناكَ الدُّجى أشهى إليَّ من البدر
تولَّت ليالٍ ذكرُها في قلوبنا / كما أبقَتِ الأزهارُ شيئاً من العطر
فيا حبّذا التذكارُ وهو عبيرُها / فنَنشُقه حيناً وعبرتُنا تجري
ونرنو إذا سرنا إِلى ما وَراءَنا / نُودِّع ظعناً خفَّ من أطيبِ العمر
وقد شاقنا مرأى جمالٍ وبهجةٍ / وحبٌّ كظلِّ الطيرِ أو زَمَنِ النضر
وآثارُ بؤس أو نعيمٍ تناثرت / على سُبُلِ الأيام في العسرِ واليسر
وما هذه الآثارُ إِلا أشعّةٌ / من الشّمسِ إذ مرآتها صفحةُ البحر
وأفلاذُ قلبي والدّموعُ تناثرت / كريشات عصفورٍ على مَدخلِ الوكر
فديتُكِ يا أرضَ الشآم فمنكِ لي / ثراءٌ على فقرٍ وسكرٌ بلا خمر
متى أطأ التّربَ الذي هُو عنبرٌ / وأملأ من أراوحِ تلكَ الربى صَدري
وتأمنُ نفسي غربةً أجنبيَّةً / ولي بعد إفلاتي التِفاتٌ من الذّعر
فأقضي حياتي بَينَ أهلي وتربُهم / أحَبُّ إِلى قلبي الوجيعِ من التبر
فكم قيلَ لي أجِّل رَحيلَكَ يا فتى / لئن تَدُخلِ الدّنيا رَمَتك على عسر
فلم أنتصح حتى أذبتُ حَشاشتي / وعانيتُ ما عانى الشُّجاعُ من الأسر
لقد كنتُ طماعاً فأصبحت راضياً / بأيسرِ شيءٍ إذ غُلِبتُ على أمري
وأنَّى يفوزُ الحرُّ بالمجدِ والغِنى / وحوليهِ أصحابُ الخساسةِ والمكر
فلو كنتُ زَهراً كنتُ واللهِ وردةً / ولو كنتُ ماءً كنتُ من منبعِ النّهر
ولو كنتُ شهراً كنت أيارَ مُزهراً / ولو كنتُ نوراً كنتُ من طلعةِ البدرِ
ولو كنتُ عمراً كنتُ من زَمَن الصِّبا / ولو كنتُ نوماً كنتُ من غفوةِ الفجر
فبعدَ غيابي كيفَ حالةُ أهلِنا / وكيفَ العذارى الباسماتُ عن الدرِّ
وكيفَ الحِمى والحقلُ والغابُ والرُّبى / وكيفَ ليالي النورِ والطيبِ والقَطر
ألا فاذكريني كلَّما خيّمَ الدُّجى / وراعكِ في الوادي دويٌّ مِنَ الهدر
ألا فاذكريني كلَّما هبَّت الصَّبا / وشاقَتكِ أسمارُ الصبوَّةِ في الخِدر
فهل من رجوعٍ للغريبِ وشَهرُهُ / كعامٍ على بَلواهُ واليومُ كالشَّهر
رأيتُ الدُّجى يبكي على الزَهرِ عِندما / تنزّهتُ في الجنّاتِ مع طلعةِ الفَجر
وفاحَ الشّذا كالحبِّ من فم عاشقٍ / فأصبحتُ مثلَ الليلِ أبكي على عمري
رجائي عزائي في بلائي وهكذا / أرى الليلَ حولي والصبيحةَ في صدري
أعذَّبُ في ناري وأُبصِرُ جنّتي / وما ظمأي إلا على ضَفّةِ النَّهر
بحُبِّكِ أسري كان نصري فمن رأى / أسيراً غدا يخشى الخلاصَ من الأسر
لياليَّ قَلّت إن عَدَدت اللياليا
لياليَّ قَلّت إن عَدَدت اللياليا / فرُبَّ ليالٍ لم يكن طيبُها ليا
سأشرَبُها في كأسِ وهمي مدامةً / وأنظُمُها في سلكِ شِعري لآليا
فخُذ وَصفَها منَّي كما شاءهُ الهوى / وما زلتُ بالغالي النّفِيسِ مُغاليا
تولَّت فأولاني جميلاً جَمالُها / ولكِنَّهُ قد بزَّ منِّي جلاليا
فَيا لكِ بيضاً من لياليَّ بَعدَها / غَدوتُ لزهدي لا أعدُّ اللياليا
بَذَلتُ لها نومي ومالي وصحتي / وكانَ حَرامي في غَرامي حَلاليا
وجرَّرتُ أذيالاً يُبلِّلها النَّدى / لألقى خَيالاتٍ تُناجي خياليا
فمن غيرِ ما سهدٍ أرى النَّومَ مُتعباً / ومن غيرِ ما حبٍّ أرى العيشَ خاليا
رَعى الله في شَطِّ الجزيرةِ ليلةً / نسيتُ بها مَجدي وعلمي وماليا
صفا الفَلكُ الأبهى يبينُ هلالهُ / وأطلعَ فلكي من يَديَّ هلاليا
فأحبَبتُها حباً لمن عطرت فمي / وثوبي فأفشى الطيبُ سرَّ وصاليا
هنالكَ فوقَ الموجِ بتنا لحبِّنا / نرى الحبَّ للآفاقِ والأرض ماليا
فقلتُ لها إني مليكٌ وفارسٌ / فلستُ بما حَولي لديكِ مباليا
وليلةَ بتنا بينَ أغصانِ دَوحةٍ / كإلفينِ في عشٍّ تراوحَ عاليا
نميلُ مع الأغصانِ كيفَ تميّلت / ويُمنايَ حولَ الخصرِ تَلقى شماليا
تمنَّيتُ أن أكسو الجمالَ أشِعَّةً / وأجعَلَ ذاكَ الجيدَ بالنَّجمِ حاليا
فآخذُ مِنهُ عقدَها وكِساءَها / ويَهوي إليها ما بدا مُتَعاليا
نَعِمتُ بها مثلَ النّعامى حَديثُها / وقد كملت حُسناً لحُسنِ كماليا
فما أبصَرت عَيني ولا لمسَت يَدي / ولا سمِعَت أذني ولا خالَ باليا
كتِلكَ التي حَلّت لديَّ وِشاحَها / وقالت لقد أرخصتَ ما كان غاليا
تمتّع من الدُّنيا التي أنا طيبُها / فما نيلُها إِلا بنيلِ جماليا
على قدرِ ذاكَ الحبّ قد كان مَطمعي / فما كنتُ يوماَ راضياً بنواليا
بكيتُ عَليها في الحياةِ فليتَها / إذا متُّ تَبكيني دَفيناً وباليا
محا لكَ حُسناً مَدمَعٌ وتسهُّدُ
محا لكَ حُسناً مَدمَعٌ وتسهُّدُ / وما زلتَ دامي القَلبِ تَشكو وتَنشُدُ
لئن كنتَ ذا نفسٍ تميلُ إِلى النُّهى / تعالَ أُريكَ الشَّملَ كيفَ يُبدَّد
ويُكسرُ سقطُ النّسرِ وهو محلِّقٌ / وتَقضي فِراخُ الطير وهو مغرِّد
ويذوي جمالٌ في الشبابِ ويَنطوي / وَيهوي جلالٌ كادَ في الأرضِ يُعبد
فكم سيِّدٍ في قومهِ كان دوحةً / عَليها وكورٌ للنسورِ ومرقد
تجدَّلَ فاهتزَّ الوَرى لسقوطهِ / وأبقى دوياً بَعدَهُ يتردَّد
عَجِبتُ له إذ نامَ في ظلمةِ الثَّرى / وكان إذا نامَ الخليُّونَ يَسهد
ويَقضي لياليهِ إِلى الجوِّ شاخِصاً / يسامرُ نجمَ المجدِ فيهِ ويَرصد
ضحكت من الدّنيا زماناً وإنّها / لتَجعلُني أبكي اضطراراً وأكمد
فسيّانَ عندي البؤسُ والنعُم إن تكن / حياةُ الفتى هذي فإني لأزهَد
أمدُّ يَدي كي أمسحَ الدّمعَ غافلاً / فأعلم كيفَ الدّمعُ في العينِ يجمد
وأضربُ صَدراً دامياتٍ ضلوعُهُ / فأرجعُ كفّي عن حَشىً تتوقَّد
وإني ليُوهيني فراقُ أحبَّتي / فكيفَ على خَطبِ الرّدى أتجلّد
وفي النفسِ آمالٌ نثرتُ هباءها / وفي القلبِ جرحٌ قاتلٌ ليسَ يُضمَد
فما أتعسَ النائي المحبَّ الذي يَرى / أحبَّتَهُ تحتَ الثّرى وهو مُفرَد
وتحرمهُ الأيّامُ حتى زيارةً / ونظرةَ مُشتاقٍ يَرى الدارَ تبعد
فلا كان نأيٌ قصَّرَ العمر طوله / وفيهِ المُنى والحبُّ والعزمُ تنفد
هُنالِكَ لي أرضٌ عبدتُ جمالها / وما أنا إلا العاشقُ المتعبِّد
عَليها أحبائي الذين قلوبُهم / تجاذبُ قلباً عاجزاً يتمرَّد
وُلدتُ ولي قلبٌ لطيف خفوقُهُ / كما جسَّ أوتاراً فأطرَبَ معبد
لهُ نغماتٌ كلُّهنَّ صبابةٌ / يحرِّكنَ قلبَ الصَّخر والصَّخرُ أصلد
لِشَقوتهِ يجتازُ أرضاً وطيئةً / ويسرحُ في جوِ الكَمالِ ويصعد
أبى الدَّهر إلا أن أكونَ طريدَهُ / وكيفَ يرجّي القربَ من هو مُقعَد
صبرتُ على ما فيهِ ذابت حَشاشتي / وقلتُ لعلَّ الصبرَ في الخطبِ يسعد
فما انقشَعَ الغيمُ الذي ليسَ مُمطراً / ولا انفَتَح البابُ الذي هو موصد
وما كانَ دَمعي للإساءةِ ماحياً / ولا نارُ وَجدي في الأضالعِ تخمد
لذلكَ فضّلتُ الضَّلالَ على الهُدى / وقد شاقَ نَفسي كلُّ ما هو أَسود
فبتُّ أرى في اليأسِ راحةَ لاغبٍ / كما ألِفَ القيدَ الثَّقيلَ مقيَّد
هَزِئتُم بنفسٍ تجهلونَ خِلالَها
هَزِئتُم بنفسٍ تجهلونَ خِلالَها / فهلّا رأيتم نقصَكم وكمالَها
وقلتم تُسِرُّونَ الأحاديثَ في الدُّجى / تعالوا نُخَفِّف زَهوها واختِيالها
كصاعقةٍ نَفسي فخافوا انقِضاضَها / وقُولوا بيأسٍ ما أعزَّ منالها
فكم منيةٍ قد نلتُها بمنيّةٍ / وكم ذروةٍ شماءَ عَزمي أمالها
أما أحرقَتكُم نارُها حيثُ نورُها / هَداكم فبتُّم تُكبروُن فِعالها
فما هي إلا مهرةٌ عربيَّةٌ / تُقَطِّعُ في مجرى الجيادِ شِكالها
جرى دَمُها ناراً فحنَّت إلى الوَغى / وقد عَشِقَت بعدَ الجروحِ نبالها
لئن سَقَطت بينَ الرِّماحِ صريعةً / فذلكَ موتٌ ما تمنّت أنالها
تَتُوقُ الى مَرعى خصيبٍ ومرتعٍ / رحيبٍ وتَشتاقُ المساءَ رمالها
فكم صهلاتٍ في النَّوى تَستفزُّني / وكم نظراتٍ أستحبُّ اشتِعالها
وذاتِ دلالٍ قابَلتني ببسمةٍ / فقابلتُ بالوجهِ العبوسِ دلالها
لها بسماتُ البرقِ في ليلِ مِحنتي / فليتَ لحظِّي في الجهادِ كما لها
فأظفرَ من دنيايَ بالحبِّ والغِنى / وأملكَ حيناً مالها وجمالها
تُسائلني عن صفرتي فأُجيبُها / نضارةُ هذا الوجهِ همِّي أزالها
جَبيني عليهِ مسحَةُ الحِكمةِ التي / تميزُ بتَصفيرِ الجباهِ رِجالها
إذا قلتِ دعها وانعَمَنَّ بوصلِنا / أقولُ دَعيني قد عبدتُ جَلالها
رويدكِ يا حسناءُ ليست نفوسُنا / تُحِبّ من الأجسام إلا نصالها
خُلِقنَ كبيراتٍ لهّمٍ ومطمعٍ / فما رَضيت نفسي الكبيرةُ حالها
ولا تَنفَعُ الأموالُ نفساً فقيرةً / ولا تجمعُ النفسُ الغنيةُ مالها
فنفسي لجسمي كاللّهيبِ لِشَمعةٍ / وكم حلَّ همٌّ مهجةً فأسالها
فهل راحةٌ تُرجى لمن سارَ والعُلى / تُشيرُ إليهِ وهوَ يَبغي نوالها
وإني لجوّادُ على المجدِ والهوى / بنَفسي وما طيفُ المنيَّةِ هالها
لكِ اللهُ كم نفسٍ حَصانٍ تألمت / لِمرأى شرورٍ لا تُطيقُ احتمالها
لها وثباتُ الضوءِ قبلَ انطفائهِ / وعِقدَتُها يأبى الزمانُ انحلالها
لئن تكُ زلاتُ الكبارِ كبيرة / فأكبرُ منها من عَفا وأقالها
وما روضةٌ قد نوَّرت زَهراتُها / وفضَّضَ نورٌ رَملها وزلالها
وغنّت سواقيها قصائدَ حبِّنا / لتودعَ شكوى العاشقينَ ظلالها
بأجملَ من وجهٍ تُرفرِفُ نفسُهُ / عليهِ وفي العَينَينِ تُلقي خيالها
بعيشكَ هل شاقَتكَ دارُ حبيبةٍ / تنشَّقتَ ريّاها ونلتَ وصالها
فأبكاكَ في بَلواكَ تذكارُ نعمةٍ / كحلمٍ ترى إقبالها وارتحالها
فما أقتلَ التذكارَ في نفسِ عاشقٍ / تحاول من كلِّ الأمورِ عضالها
لئن تسألِ العشّاقَ عن دمعاتهم / أروكَ على صفرِ الوجوهِ انهمالها
أحبَّتَنا هَل في النّوى يَنعمُ البالُ
أحبَّتَنا هَل في النّوى يَنعمُ البالُ / وقد كثُرَت حَولي عداةٌ وعُذّالُ
إذا عَبسوا للصّبحِ أبسمُ للدُّجى / وإن كمنوا ليلاً فأمشي وأختال
تذكَّرتُ أيامَ الحِمى متَشوِّقاً / وقلبي مع الأغصانِ في الرَّوضِ ميّال
فهل تذكُروني في ليالي ربيعِنا / وقد شاقني منها ضَبابٌ وأَظلال
وإني لأحيا بالتحيَّة عِندما / يمرُّ نسيمٌ للتحيَّةِ حمَّال
فبالله حَيُّوا كلّما هبَّتِ الصَّبا / فتىً هو مثل الظلِّ والطيف زوّال
على خَفَقاتِ القَلبِ ينظمُ شِعرَهُ / فما هو وزَّانٌ ولا هو نحَّال
قصائدُه من نفسهِ قد تناثرت / تناثُرَ ريشِ الطَّيرِ والطَّيرُ رحّال
أليسَ حَراماً أن تُضيِّعَهُ النَّوى / فيقضي شهيداً وهو للخَطبِ حمّال
فمن ذا يُعزِّيهِ ويَشرحُ صَدرَهُ / ببسطةِ كفٍّ عندها تحسُنُ الحال
لقد سارَ يخفي سائلاً من جُروحِهِ / فأضجَرهُ حلٌّ وأضناهُ ترحال
وجمّد لؤمُ الناسِ والحرصُ دمعَهُ / فأصبحَ لا تُبكيهِ سلمى وأطلال
وهانَ عليه أن يجودَ بنفسهِ / ويَسري وملء الأرضِ خوفٌ وأهوال
كما عرَّضَ الجنديُّ في الحربِ صَدرَهُ / وباهى بجرحِ السَّيفِ والرمحِ أبطال
لقد حملت نوراً وناراً جوانحي / فللعَقلِ تنويرٌ وللنفسِ إشعال
أرى أبداً عزمي يُجدّدُ همّتي / ومن كان مثلي لم تُرَزِّحهُ أثقال
وما أنا بالأصحابِ والأهلِ واثقٌ / فما نافِعي خلٌّ ولا مُسعِدي خال
إذا اللهُ أعطاني حياةً طويلةً / فعلتُ وإلا كيفَ تُدفَعُ آجال
وذاتِ دلالٍ ودّعتني عشيَّةً / هُنالِكَ تحتَ الدَّوحِ والدّمعُ هطّال
فقلتُ وقد قبَّلتُ خدّاً كأنّهُ / قرنفلةٌ فيها ندَى الصّبحِ جوّال
رويدك لا تبكي على الراحلِ الذي / يَسيرُ وملء النّفسِ عزمٌ وآمال
دعي القلبَ يَلهو بالرجاءِ وبالهَوى / وصلّي لعلّ الله للحَبلِ وصّال
سأقتحمُ الأمواجَ في طلبِ العُلى / كما انقضَّ بازٌ أو تقدَّمَ رئبال
إذا هاجَكِ البدرُ المطلُّ على الحِمى / وللموجِ فوقَ الرَّملِ نوحٌ وإعوال
وجاءت مع الأرواحِ ريّا حقولنا / وحفَّت غصونُ الغابِ والماءُ سيّال
قِفي حَيثُ كنّا نلتَقي كلَّ ليلةٍ / ونذرفُ دمعاً دونَهُ الملكُ والمال
وألقي سلاماً مثلَ شعلةِ كوكبٍ / لها انشَقَّ سِترُ الليلِ والتَهبَ الآل
دَعي الوَردَ يَذبل ما أنا بمقيمِ
دَعي الوَردَ يَذبل ما أنا بمقيمِ / وميلي لشِعري وردةً لنسيمِ
أخَذتُ لِنَفسي لونَه وأَريجَهُ / ونثَّرتهُ حَولي وحولَ نديمي
أَتوقُ إِلى الوردِ الذي تحملينَهُ / على وجنةٍ ريّا بماءِ نعيم
ففي نَفحةٍ منهُ أرى الأرضَ جنّةً / وتخمدُ في الأضلاعِ نارُ جَحيم
هَبيها لِمن أضنَتهُ آلامُ جرحهِ / فما كلُّ جرحٍ مثلهُ بأليم
شقاءُ الفتى من فِكرهِ وشعورهِ / فأعظِم ببَلوى شاعرٍ وحكيم
شقيتُ بعبءٍ ماخُلِقتُ لحملِهِ / فكم بدميمٍ جاءني وذميم
إذا شَغَلَ الإنسانُ غيرَ محلِّهِ / يضلُّ بليلٍ في الشقاءِ بَهيم
لعمرُكَ إنّ العَقلَ في الجهلِ ضائعٌ / كما ضاعَ ماءُ المزنِ فوقَ هشيم
على الحرِّ أن يوفي الجميعَ ولا يرى / وفيّاً وان يُبلى بألفِ غريم
وكل مَليحٍ للقبيحِ ضحيَّةٌ / ومن حلمِ أهلِ الخيرِ فتكُ زنيمي
فلا بُلي الأحرارُ من كلِّ أُمةٍ / بجيرةِ عِلجٍ وائتمانِ لئيم
ولا خيرَ في القومِ الألى أنا بينَهم / كَثَوب غريبٍ أو كمالِ يتيم
لهم وَلعٌ بالظّلمِ من طَبعِهم كما / لهم طمعٌ في الحلمِ عندَ حليم
فهم بينَ أشرارٍ وبلهٍ تقاسموا / حماقةَ مجنونٍ وغَدرَ أثيم
لقد أحرَجَت منا القرودُ أُسودَنا / وقد لبسَ الصّعلوكُ ثوبَ زعيم
ألا فاسمَعي الشّكوى فكلٌّ كريمةٍ / شَعورٌ بما يَلقاهُ كلُّ كريم
وإن تهزئي بالعلجِ والجلفِ أنعمي / على عربيٍّ من ذويكِ صميم
وقُولي لهُ سِر بينَهم ساخراً بهم / فكلُّ عظيمٍ طامعٌ بعظيم
تُحاولُ إنكاراً وَدمعُكَ مُوضِحُ
تُحاولُ إنكاراً وَدمعُكَ مُوضِحُ / أشاقَتكَ من ليلى ديارٌ ومسرحُ
لكلِّ فتى في الخَطبِ شكوى ودمعةٌ / ولكنَّ ما يجري مِنَ العينِ أفضَح
صَدَقتَ وحقّ الحبّ والوطنِ الذي / يَسحُّ عَليهِ الدّمعُ والدَّمُ يُسفَح
تؤرِّقني الذّكرى القديمةُ في النّوى / وعِندي إِلى العَلياءِ شوقٌ ومَطمَح
فبينَ الهوى والمجدِ نفسي مُقيمَةٌ / وإني لأُمسي في الهمومِ وأُصبح
خُلِقتُ لأشقى بالهواجسِ والمُنى / فلا كانَ لي قلبٌ من المهرِ أجمَح
تلذُّ لهُ الآلامُ فهو أليفُها / فأثمنُ ما يُعطيكَ وهوَ مجرَّح
تجمَّعَ فيهِ الذكرُ والحسنُ والهوَى / ألستَ تراهُ بالعواطف يَطفَح
كثيرونَ أصحابي قليلٌ وفاؤهم / ومن كانَ بذَّالاً لهم ليسَ يَنجَح
يُحمِّلُني خلِّي الذي فوقَ طاقتي / وأخسرُ في كلِّ الأمورِ ويربَح
أراني ضعيفاً في الصداقةِ والهوى / إذا ضنَّ أحبابي أجودُ وأسمَح
وإن بعدوا عنّي دَنوتُ مُصافحاً / وإن أذنبوا عمداً فأعفو وأصفَح
فما أنا إِلا البحرُ يقذفُ جيفةً / ويكنزُ دراً والحسودُ يُقَبِّح
أهيمُ بلبنانيّةٍ قرويَّةٍ / منازِلُها حيثُ الأزاهرُ تنفح
وأذكرُ ماضي حبِّنا وشبابنا / هنالِكَ في لبنانَ والعيشُ أفسح
فواللهِ لن أنسى حديثَ غَرامِنا / عشيّةَ فاحَ الياسمينُ المفتّح
رَنَت بجفونٍ مثل أكمامِ زَهرِها / عَليها جُفُوني في الجوى تتقرَّح
ومالت إِلى حيثُ السكينةُ والدُّجى / تقولُ ضياءُ البَدرِ أمرَكَ يفضَح
هُنالكَ أحيَتني بتَقبيلِ كفِّها / وكادت بلثمِ الثّغرِ والخدِّ تَسمَح
فيا حبّذا من ذلكَ الثَّغرِ بَسمَةٌ / أرَتني سماءً رحبةً تتفتَّح
ويا حبّذا من ذلكَ الشعرِ نفحةٌ / بها فرحُ القلبِ الذي ليسَ يَفرح
ويا حبّذا ليلٌ بللنا حِجابَه / بدمعِ التّشاكي والكواكبُ تجنح
جبيناً على خدِّ وعيناً على فمٍ / وكفّاً على كفٍّ تضمُّ وتمسح
لقد زالَ ذياكَ النَّعيمُ ولم أزَل / أرى الحسنَ يَفنى والحبيبةَ تَنزَح
غَرَستُ بلَحظي أجملَ الزَّهراتِ
غَرَستُ بلَحظي أجملَ الزَّهراتِ / على خدِّكِ المسقيِّ مِن عَبراتي
فلا تحرميني شمّةَ الزَّهرةِ التي / لإنضارِها أذبلتُ زَهرَ حَياتي
أبيعكِ ليلات الشَّبابِ جميعَها / بليلةِ حبٍّ حلوةِ السّمرات
لكِ الحسنُ والإحسانُ لي فقِفي إذاً / نُجمّع بينَ الحسنِ والحسَنات
بكيتُ من الحبّ الذي فيه شَقوتي / فقابلتِ دمعَ الوَجدِ بالبسَمات
فما كنتِ إِلا زَهرةَ جادَها النَّدى / فَفُتِّحَتِ الأوراقُ للقَطَرات
فلا تجحدي دَمعي الذي نوَّرَ الدُّجى / فكان كشعلاتٍ من النجمات
ولا تُهمِلي شِعري الذي فاضَ في الهوى / فكانَ كنوحاتٍ على رَنمات
إلهكِ يا حسناءُ يَرضى دُموعَنا / ويُعرِضُ أحياناً عَنِ الصَّلوات
ويُطربُهُ الشعرُ الذي أنا منشدٌ / فيَلهو عن التَسبيحِ والطَلبات
وتسكتُ أفواجُ الملائك حَوله / لتأخذَ عني أطيب النَّغمات
فكم ليلةٍ تُلقي عليّ سُكونَها / فأسمعَ في صَدري صَدى الخفقات
بكيتُ وأستَحلي البكاءَ لأنني / رأيتُ عزاءَ النفسِ في الدمعات
فكم آسفٍ أو نادمٍ تائباً بَكى / فبرَّد ما في الصّدرِ من حرقات
جَرى دمعُه في الحزنِ والصّدقِ صافياً / فأحيا فؤاداً مات في الشَّهوات
أرى حُسنكِ الفتانَّ يبدو لناظري / كبرقٍ ولا يُبقي سوى الحسرات
أتاني الهوى لما مَرَرتِ خفيفةً / وجاءَ نسيمُ اللّيلِ بالنفحات
فكنتِ ملاكاً شاقَهُ النورُ والشَّذا / فحنَّ إلى الجنَّاتِ في الظُلُمات
إذا الرّيحُ حيَّتني بنَفحةِ طيبِ
إذا الرّيحُ حيَّتني بنَفحةِ طيبِ / تذكَّرتُ ليلَ الحبّ فوق كثيبِ
عشيَّةَ بتنا نسمَعُ الموجَ شاكياً / فَنَمزُجُ ترنيمَ الهوَى بنحيب
وقد سَطَعت زهراءُ في أُفُقِ الحِمى / تُحيِّي هلالاً مثلَ وجهِ كئيب
ومنكِ ومنّي دمعةٌ وابتسامةٌ / هما في الشّبابِ الغضِّ خيرُ نصيب
فما أعذبَ الشَّكوى وما أعظم الهوى / إذا انفَجَرا من أعيُنٍ وقلوب
فكم مرةٍ قبَّلتُ عَينَكِ خلسةً / كما نقَرَ العصفورُ حَبَّ زَبيب
وقَدُّكِ ميّالٌ وشَعرُك مُرسَلٌ / فكنتِ كغصنٍ في الرّبيعِ رطيب
تزوّدتُ من عينيك أجملَ نظرةٍ / تُنيرُ سَبيلي في ظلامِ خطوب
لأجلِهما أهوى بلادي وأُمتي / ولو قابَلت صفحي بشرِّ ذنوب
سَقى اللهُ يا حسناءُ ليلةَ حُبِّنا / هُنالِكَ فوقَ الرّملِ دمعَ غريب
تُعلِّلُني في النأي ذكرى كأنها / ربيعُ شبابٍ في خريفِ مشيب
إذا خطرت لي والهمومُ كثيرةٌ / أرتني شعاعَ الشّمس بعد غروب
فأصبحَ قَلبي خافقاً مثل طائرٍ / أسيرٍ يُعزّيهِ حَنينُ سروب
أَأُمّاهُ حيّاكِ الرّبيعُ نضيرا
أَأُمّاهُ حيّاكِ الرّبيعُ نضيرا / مُحيّاكِ في قَلبي يَلوحُ مُنيرا
أُأُمّاهُ لا تبكي على فَرخِكِ الذي / نأى فغدا مِنهُ الجناحُ كسيرا
أما هيَّجَت ذكراكِ عصفورةً غدَت / تُحيِّي ضياءً أو تزقُّ صَغيرا
أحنُّ إِلى مرآكِ في دارِ غربتي / وأحسدُ أفراخاً تزينُ وُكورا
وأستقبلُ الأنسامَ كلَّ صَبيحةٍ / لآخُذَ مِنها قوَّةً وعَبيرا
وأُدخِلُ نورَ الشمسِ صَدري ومُقلتي / وأُخرِجُ من بين الضلوعِ زَفيرا
أيا أمِّ هذا النأيُ لم يُبقِ لذةً / لِقَلبي فإني قد عريتُ نضيرا
فأصبحَ غُصني يابساً في رَبيعهِ / وأصبحَ زَهري في الهواءِ نَثيرا
تولّى شبابي ما انتَفَعتُ بحسنِهِ / وكان نَصيبي أن أعدَّ شُهُورا
شهوراً تولّت مع رجائي وبهجتي / وقد خلَّفت باعي الطويل قصيرا
أيا أمِّ والأمواجُ تَفصُلُ بيننا / فأسمعُ مِنها في الظلامِ هَديرا
وأبكي عليها آسفاً متشوِّقاً / وآملُ منها أن تَفُكَّ أسيرا
فأشتاقُ نَظمَ الشعرِ حيناً لأنني / من البُلبُلِ العاني أُحِبُّ صَفيرا
عَهدتُكِ في الظلماءِ ترعينَ نجمتي / وقلبُكِ يَهفو خافقاً ليَطيرا
فإن يَغشَها الغَيمُ الكثيفُ تَبسَّمي / لعلَّ لها بعدَ الأفولِ ظهورا
وألقي تحياتٍ على نفسِ الصَّبا / لعلَّ له يوماً عليَّ مزورا
لئن ذبلت كالزَّهرِ يوماً قَريحتي
لئن ذبلت كالزَّهرِ يوماً قَريحتي / وقد فَنيَت من كثرةِ الحبِّ مُهجتي
فلي منهُما عطرٌ ونورٌ لأنني / أَسلتُهما في خَيرِ أهلي وأُمتي
ستخفقُ في الدُّنيا قلوبٌ كثيرةٌ / لِقَلبي وتَجري أدمعٌ بعدَ دَمعتي
أُمِرٌّ على جرحي القديمِ أَنامِلي / فأسقطُ من آلامهِ مثلَ ميِّت
وأمشي حزيناً خائفاً متردِّداً / على طَللِ النُّعمى وقبرِ الشبيبة
بكى الركبُ حَولي يومَ توديعِ أهلِهم / فما حرَّكت وَجدي دموعُ الأحبّة
ولا سمحت عَيني بأثمنَ قطرةٍ / لأنَّ وداعَ الأمِّ نشَّفَ عبرتي
أرى القلبَ بين الهمِّ والحزنِ مُغلقاً / لنورٍ وتغريدٍ وحسنٍ وخضرة
تصلَّبَ حتى أصبحَ الرفقُ قسوةً / وأجدَبَ حتى ملَّ من كلِّ نضرة
فكيفَ أُداوي بالمحاسنِ داءَه / على غيرِ شيءٍ من نعيمٍ ولذة
وإن كانَ مفتوحاً لأُنسٍ وبهجةٍ / تبدَّت له الدُّنيا على خَيرِ صورة
هو القلبُ مرآةٌ لدى كلِّ صورةٍ / تراءت على حالَي صفاءٍ وكدرة
تولّى زمانٌ فيهِ علّلني الهوى / كذلكَ أحلامُ الشّبابِ اضمَحلَّت
فما إن لها عودٌ على الذلِّ والنّوى / تُذِلُّ نفوساً لم تكن للمذلّة
ولكن لي من ربة الشعر عطفةً / فأسلو بإكليلٍ يُزَيِّنُ جبهتي
وقد وَهبت عينيَّ بعضَ جمالِها / وكانت إلى كلِّ الحسانِ شَفيعتي
وإني من العُربِ الذين سُيوفُهم / وأقلامُهم كانت نجومَ البريَّة
فخطُّ يراعي مثلُ ضَربِ شِفارِهم / وفوقَ شعارِ الصيدِ شعرُ قصيدتي
لكِ الفَخرَ بي إني أخوكِ فَفاخري / إذن أخواتٍ يفتخرنَ بإخوة

المعلومات المنشورة في هذا الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع إنما تعبر عن رأي قائلها أو كاتبها كما يحق لك الاستفادة من محتويات الموقع في الاستخدام الشخصي غير التجاري مع ذكر المصدر.
الحقوق في الموقع محفوظة حسب رخصة المشاع الابداعي بهذه الكيفية CC-BY-NC
شبكة المدارس الإسلامية 2010 - 2025