المجموع : 152
أَموتُ بَعيداً عَن دياري وَعَن أَهلي
أَموتُ بَعيداً عَن دياري وَعَن أَهلي / فَمَن يا ترى يَبكي حواليَّ من أَجلي
أَموت غَريباً في رَبيع شَبيبَتي / وَلا صاحبٌ عندي يمرّض أَو يسلي
سَيَقتادُني حتفي إلى الرمس صاغِراً / وَيقطع عَن دنياي سيف الردى حبلي
غداة غدٍ يا لهف نَفسي عَلى غد / يتم عَلى الأيدي إلى حفرة نَقلي
فيحمل نَعشي بعد غسل جنازَتي / إلى القبر ناس لا يهمهمُ حملي
إلى حيث لا شمس النهار مطلة / وَلا اللَيل نظّارٌ بأعينه النجل
إلى جدث داجي القرارة ضيقٍ / يجاور أَجداثاً بُنينَ عَلى تل
غَريب يريد الموت بتلَ حَياته / فَللَّه ما يلقي الغَريب من البتل
سلام عَلى الدنيا سلام عَلى المنى / سلام عَلى المأوى سلام عَلى الأهل
سلام عَلى وادي السلام وَمائه / سلام عَلى الحي المخيم في الرمل
سلام عَلى الشمس المضيئة في الضحى / سَلام عَلى ريح الصبا عقب الوبل
أَلا لَيتَ شعري هَل دجيلٌ كعهده / وَهل سمرات الرمل وارفة الظل
وَهَل حيُّنا منه بذي الأثل نازلٌ / كَما كانَ أَم هَل غادر الحيُّ ذا الأثل
وَهَل عرصات الحي بعدُ عذيةٌ / وَهَل جنبات الحي باسقةُ النخل
لعمرك لا ظل الطريفاء قالصٌ / نهاراً وَلا ماء الطريفاء بالضحل
بلاد سكناها وَنحن من الحمى / بحيث النَسيم الطلق يعبث بالطل
بحيث الرضى معشوشبٌ في رَبيعه / بروضٍ كَما شاءَت مُنى النفس مخضَّل
بلاد بها حَزْنٌ وَسهلٌ تقابلا / فَيا لَك من حزنٍ وَيا لك من سهل
هنالك أَهلي الأقربون فَما بهم / بمجتمعٍ يا نفس بعد الردى شملي
أَموت نعم إني أَموت ومن يَعش / فَلا بد من يوم يموت به مثلي
فَما لي أَراني جازِعاً من منيتي / كأَن لَم يمت في غربةٍ أَحد قَبلي
جزعت لأني للمقابِر راحلٌ / وأَكثر سكان المقابر من شكلي
يدبّ البلى في الجسم منيَ سارياً / مَع الترب من بعضي لبعضي إلى كلِّي
إذا كانَ أَصلي من تراب فإنني / سأَرجع فيه بعد مَوتي إلى أَصلي
لَقَد قالَ ناسٌ شاهدونيَ أنَّني / مصابٌ بداء السل وَيلي منَ السل
وَقالوا التمس فيه طَبيباً مداوياً / فعلك تُشفَى منه قلت لهم علِّي
تجرعتُ كأساً للتغرب مرةً / إلى اليوم في بَطني مرارتها تغلي
ومن بات مسلولاً بمنزل غربة / فإن لَياليه تُمِرُّ وَلا تُحلي
أَتاني كتاب من أبي يستعيدني / فَيا أَبتا إني عن العود في شغل
وَيا أبتا أَخبر حناناً أميمتي / بأنيَ زلِّت بي إلى هوَّةٍ رجلي
وَيا أبتا أنبئ جناناً حليلَتي / بأنيَ مودٍ فلتحافظ عَلى طِفلي
بُنَيَّ رضى عش في سَلامٍ فإنما / حَياتك بعدي يا رضى منتهى سؤلي
فلما قضى نحباً وَطارَ نعيُّهُ / إلى أبويه ضيَّعا الرشدَ من ذهل
فَباتَ أبوه مصلح الدين جازعاً / عَلى نجله البرّ الوَحيد أبي الفضل
وَصكت حنانٌ أمُّه الوجه للأسى / وَعضت بأَطراف البنان من الثكل
عَلى رأسها تحثو التراب بكفها / وَتذرف عَيناها مدامع كالوبل
وَتَمشي بأقدام ضعفن عَن الخطى / إلى زوجها مشيَ المقيَّدِ في الوحل
تَقول له أَنتَ المغرّب لابننا / فأرجعه لي يا بعل واجمع به شَملي
بُنيَّ ليؤذيني عَلى رزئك الأسى / بُنَيَّ وَيغلي في فؤاديَ كالمهل
وَلَو كانَ خطبي فيك سهلاً حملته / بُنيّ ولكن لَيسَ خطبيَ بالسهل
مشيتَ حثيثاً في شبابك للردى / فَيا أَيُّها الماشي حثيثاً عَلى مهل
برغم حنان أَهلك الدهر نجلها / وأَبكى حناناً من حنان عَلى النجل
وأما جنان فَهي عند سماعها / حَديث وَفاة البعل ناحَت عَلى البعل
وَشب الأسى في قَلبها متسرِّعاً / إليه شبوب النار في الحطب الجزل
ذَوى وردُ خديها وبدل لونه / سواد بعينيها يَنوب عَن الكحل
وَخرت عَلى وجه التراب يرجها / غياب وَقالَت وَهي كالشَمس في الأفل
يَقول أناس لي أبو الفضل ميت / لَقَد كذبوا ما مات قط أبو الفضل
لَقَد كذبوا هَذا أبو الفضل قادم / إليَّ سليم الجسم يَمشي عَلى الرجل
لَقَد كذبوا هذا أبو الفضل شخصه / أَتانيَ هش الوجه يَهتز كالنصل
جَميلاً يحييني تبسُّمُه كَما / يحيي التراب البرق في البلد المحل
وفيت بوعد في الرجوع إلي يا / أَبا الفضل لكن بعد طولٍ من المطل
لأنت هوى نَفسي وأَنتَ سرورها / وأَنتَ رَبيع النفس في سنة الأزل
وَدامَت كَذا في حلمها نصف ساعة / فَلما أفاقت منه كانَت بِلا عقل
وَعاشَت لأسبوعين خائرة القوى / تبيت بلا نوم وَتُمسي بلا أَكل
يجيء إليها مصلح الدين سائلاً / فتستر عنه الوجه بالشعر الجثل
وَتوسعه شتماً وبعد دقائق / تقبِّلُ في خضْعٍ يديه وَفي ذلِّ
وَتضحك في الجلَّى وَتَبكي مصابها / بدمع كأمثال اللآلئ منهلِّ
إلى أَن أَتاها الموت يَحبو فَصادَفَت / نجاة به من أَزمة السقم وَالخبل
لَقَد كانَ بعد البعل غلاً حَياتها / فأطلقها كفُّ المَنايا من الغلّ
وَجيش كمثل اللَيل قد طالَ زحفه
وَجيش كمثل اللَيل قد طالَ زحفه / إذا زالَ جنح منه أعقبه جنحُ
سَيَلقون منا أُمة عَربية / تحارب حتىّ يثخنَ القتلُ وَالجرحُ
يجودون بالأرواح في حومة الوَغى / وأما بأوطان لهم فبهم شح
نقاتل حتى يبصر الموت صبرنا / وَنثبت حتى يأتي النصر وَالفتح
أَقول لِقَومي أَين أَحفاد يعرب
أَقول لِقَومي أَين أَحفاد يعرب / وَأَينَ بَنو فهر وأبناء عدنانِ
وأين الألى يوم الدفاع عهدتهم / عَلى صهوات الخَيل أشباه عقبان
خذوا ثار من قَد طاحَ من شهدائكم / فإن صعيد الأرض من دمهم قاني
لَقَد طلعت شمس النهار مضيئة / عَلى أَوجه تَحكي صحائف أَحزان
قرأت بها ما سطر اليأس والأسى / قراءة من يَتلو الحروف بإمعان
فقلت لقرن الشمس بوركت إنني / رأَيتك للمكروب أحسن سلوان
فدى لك يا جيش المحاماة مهجَتي / فَقَد جئت تَرعى اليوم ديني وأوطاني
إنِ الخصمُ لم يذعن الى ما تقيمه / من القسط كانَ السيف أَصدق برهان
تَراها بكت لما رأَتني باكياً / أكفكف عَن عيني الدموع بأرداني
لأنت جَدير بالظهور عَلى العدى
لأنت جَدير بالظهور عَلى العدى / وَأَنتَ بتأييد الخلافة أَجدَرُ
جهادك يفشي البرقُ أخبار نصره / وَفوزك في كل الجَرائد ينشر
وَفعلك في الأفواه يتلى وَفي الوَرى / يشيع وَفي التاريخ بعدك يذكر
يود العلى والحق أَنَّك كلما / تقابل أعداء السلامة تظهر
إليك عيون المسلمين بأسرهم / عَلى بعدهم في الشرق وَالغرب تنظر
لَقَد صَحَّ أن الضعف ذل لأهله / وأن عَلى الأرض القويّ مسيطر
وأن اقتحام الهول أقصر مسلك / إلى المَجد إلا أنه متوعر
هيَ الحَرب تعلي أُمةً فتزيدها / نشاطاً وَتُشقي أمة وَتؤخر
وَلا حكم إلا للأسنة وَالظُبى / وَللنار فهي اليوم تنهى وتأمر
وَشتان بين الجند قد هبَّ زاحفاً / وَجند تولى وَهو بالخزي يعثر
وَما هذه في الدهر أَول مَرَّة / رأى الحق فيها الظالِمون فأنكروا
بغوا مرة من بعد أخرى فَنالهم / أذى البَغي وَالتاريخ أَمر مكرر
لَقَد جاسَ جيش الحق أرض عدوه / كَما غاصَ في صَدرٍ طوى الحقدَ خنجر
وَغى نشبت تلو الحَمامة واِنتهَت
وَغى نشبت تلو الحَمامة واِنتهَت / بهلكة شبان كرام المضاجعِ
تهول بدباباتها فوق برها / وَترهب في دأمائها بالدوارع
وَتقذف طياراتها نار غيظها / فتفتك بالأجناد أَو بالطَلائع
فَما ناظر إلا بَريق صواعق / وَلا سامع إلا هَزيم مدافع
تملكها جيش يؤلف وحدة / عَلى ما لَهُ من كثرة في المَنازِع
بأيدٍ لآذان العتو صوالمٍ / وأخرى لآناف الغرور جوادع
لَقَد كنت في درب ببغداد ماشياً
لَقَد كنت في درب ببغداد ماشياً / وَبَغداد فيها للمشاة دروبُ
فَصادَفَت شيخاً قد حنى الدهر ظهرَه / له فوق مستن الطَريق دَبيبُ
عليه ثياب رثة غير أنها / نظاف فَلَم تدنس لهن جيوبُ
تدلّ غضونٌ في وَسيع جبينه / عَلى أنه بين الشيوخ كَئيبُ
يَسير الهُوَينا وَالجماهير خلفه / يسبونه وَالشيخ لَيسَ يجيبُ
له وقفة يقوى بها ثم شهقة / تكادَ لها نفس الشَفيق تذوبُ
فَساءَلت من هَذا فَقالَ مجاوب / هوَ الحق جاءَ اليوم فهو غَريبُ
فجئت إليه ناصراً ومؤازراً / وَدَمعي لإشفاقي عليه صَبيبُ
وَقلت له إنا غَريبان ههنا / وكل غَريب للغريب نَسيبُ
لَقَد طابَ لبنان وَطابَ هواؤه
لَقَد طابَ لبنان وَطابَ هواؤه / وَطاب به أهل وَطابَ ربوعُ
إذا كان في بَيروت صيف هجيره / يعاف فإن الفصل فيه رَبيع
عيون وجنات قد التف دوحها / وَعانق منهن الفروع فروع
وَطير عَلى الأغصان تَشدو بلحنها / وَزهر عَلى حسن الرواء يضوع
وَتحسب أَن النرجس الغض أَعين / من الطل في أَجفانهن دموع
كأَنَّ نسيم الصبح إذ هبَّ وامق / له بأفانين الأراك ولوع
وبين غَدير الماء وَالروض هضبة / يلاحظ منها الأفق وَهوَ وَسيع
وَفي الجانب الغَربي من سرواتها / أَشم يكل الطرف منه رَفيع
وَفيه غياض إن ولجت بها وَلَم / يدلك دارٍ بالطَريق تضيع
وَللناس في لبنان عزم وَفِطنة / وَمشيٌ لإدراك الرقيِّ سَريع
بنوا لِلمَعالي كل صرح ممرد / وإن بناء المقدمين منيع
وَكَم في قرى لبنان من فتية زهوا / وَمن فَتَيات حسنهن بَديع
يسرن زرافات إلى مسرح الهَوى / كَما سارَ للمَرعى الخَصيب قَطيع
وَيَرمين بالألحاظ من يبتدرنه / وإن الَّذي يَرمينه لصريع
لَقَد صدحت تَشكو بليل حمامةٌ / عَلى فنن من ذي الأراك سجوع
تَنوح عَلى إلف تَرامَت به النَوى / وَفي القَلب من ذاك النواح صدوع
تَنوح عَلى ما ضيعت من سعادة / وَقَد مرَّ من ليل الشَقاء هَزيع
فَقلت لها كفي حمامة واهدئي / وإن كانَ أَدنى ما عراك يَروع
دعَتنيَ من لبنان لُبنى لخفرها / وإني للبنى ما حييت مطيع
فقلت لها لبيك لبيك إنَّني / لأمر له تدعينني لسميع
وَلكن دون الخفر لَو أَستَطيعه / جموعاً ومن خلف الجموع جموع
لَئِن أَخذت شمس السَعادة تَختَفي / فَللشمس من بعد الغروب طلوع
وَللأرض من بعد الخَراب عمارة / وَللراحلين المبعدين رجوع
ذكرت زَماناً فيه لبنان جنة / وَشمل بَني لبنان فيه جَميع
لَقَد عشت عمراً أَنتَ فيه ظهيرُ
لَقَد عشت عمراً أَنتَ فيه ظهيرُ / لمن عاشَ بين الناس وَهوَ فَقيرُ
بكفك مصباحٌ من العلم ساطعٌ / به لعقول الناشئين تنير
وَقَد كنت حراً في حَياتك مصلحاً / تَدور مَع الإنصاف حيث يَدور
وَكنت لأصحاب الزعامَة واعظاً / تذكرهم أن الحَياة غرور
وَقفت أَمام الظلم ترغم أَنفه / وأنتَ على الإرغام أنتَ قَدير
دَعاكَ الردى أن صِر فصرت إلى الردى / إلى حيث كل العالمين يصير
فأطبقت منك العين إطباق راقد / تَثور شَظاياه وَلَيسَ يَثور
كانك لم تغضب عَلى الغاضِب الَّذي / يَطول عَلى إخوانه وَيَجور
كانك من أَجل المحاماة لم تقف / شجاعاً بحيث النائبات تَدور
أَفِدنا بأسرار الحياة درايةً / فأنت بأسرار الحَياة خَبير
كأني بالأيام بعدك أَثمرت / صلاحاً إليه أَنتَ كنت تشير
تنبهت الأذهان غبّ هجوعها / وَقَد حدثت بعد الأمور أُمور
كأني بصرح الأمن شِيد بربوة / إلى جانبيها روضة وَغَدير
كأني بحسناء المساواة قَد بَدَت / وَلَيسَ عَلَيها برقع وَستور
وَددت لَو اَنِّي اليَوم مثلك ميت / فَلَم ترَ عيني من يضير يضير
فإن يك أَمر قد تحسَّن مرة / فَقَد قبحت من بعد ذاكَ أُمور
أَتَت دون فعل الخير حتى أَزحنه / شرورٌ عَلى آثارهن شرور
لَقَد مَرَّ من لَيلي الطَويل هَزيعُ
لَقَد مَرَّ من لَيلي الطَويل هَزيعُ / وَطَرفي بأعجاز النجوم وَلوعُ
سأَحبس مني الطرف في أخرياتها / لأعلم هَل للآفلات طلوع
شَجاني فأبكاني بشاطيء دجلةٍ / حمام عَلى غصن الأراك سجوع
سمعت من ابن الطير إذ ظَلَّ ساجعاً / أَغاريد تَخفى مرة وَتشيع
يردد فوقَ الغصن في اللَيل سجعه / فيملأ جوف اللَيل وَهوَ وَسيع
فَيا شاعِر الأطيار زدني ترنماً / فإني لما أَنشدتنيه سَميع
جزعت لعبد اللَه إذ ماتَ إنني / عَلى كل ذي فضل يَموت جزوع
فَتى مثلما تَرجوه أما لسانُهُ / فرطبٌ وأما كفه فَرَبيع
قَضى فبكته عند ذاكَ بناته / وأَكثر دمع الباكيات نجيع
وأبَّنه أَبناؤُهُ فوق قبره / وأَكثرُ تأبين البَنين دموع
أَريقت دماءٌ من رجال أَعزة
أَريقت دماءٌ من رجال أَعزة / بأَوطانهم فاحمرَّ منها صعيدها
يُدَسّون في أَرماسهم فكأنهم / صوارم بيض وَالقبور غمودها
لحود لها ضمت جسوماً كريمة / فلله ما ضمت هناك لحودها
أَلا يوقظ الشبانَ يا قوم موقظٌ / فَقَد طالَ في جوف التراب رقودها
ستنضخ في الأكفان يوم حسابها / دماء أَمام اللَه منها شهودها
فَكَم زوجة لما دَهى الظلم بعلها / بَكَت فَبَكى في الحجر منها وَليدها
وَمَفجوعة أَودى أَخوها بعسفهم / ووالدة قد بانَ عنها وَحيدها
مغانٍ تظل الغانيات بأَرضها / وَقَد غيل حاموها تُفَرَّى كبودها
وَتلتدم البيض الحسان من الأسى / فترفضُّ في اللبات منها عقودها
وَترجف بالنوح السماء ملاحها / وَتَبكي وَتَستَبكي المَلائكَ غيدها
وَتُنشد في تأبينهم شعراؤها / مراثيَ يُشجي السامعين نشيدها
وقوفاً عَلى الأجداث تَتلو قصائداً / فَتَبكي وَتُبكي السامعين قصيدها
قصائد تحكى وصف من غيِّب الثرى / إذا ختمته فالأسى يستعيدها
ديار بهن الامر صوح دوحه / سقاها ملث العدل فاخصرَّ عودُها
وما في بلاد اللَه كالظلم هادمٍ / ولا مثل حكم العدل بانٍ يشيدها
ويسعد نفسي أن ترى العدل حاضراً / فإن غاب عنها غاب عنها سعودها
وَما العدل إِلّا غادة ملكية / هوى النَفس مني مقلتاها وَجيدها
أَلا نهضة تدني الرجال من العلى / فَقَد طالَ في دار الهوان قعودها
بِنَفسي كَماة تحسب الموت أَن يرى / عَن المَوت يوماً روغها وَمحيدها
أباة تَرى أَنَّ الحياة حقيرة / وَما حب نفس لا يَجوز خلودها
فَتَعلَم أَنَّ الموت حق وأنها / إذا لَم تَرِدْه فَهو سوف يرودها
إذا لَم تَبِدْ بالسيف يومَ كَريهةٍ / فمرُّ اللَيالي بعد حين يُبيدها
أولئك أشراف البلاد وفخرها / أولئك لا غير أولئك صيدها
تضمن منك القبر لَو يَعلَم القَبرُ
تضمن منك القبر لَو يَعلَم القَبرُ / أَديباً بكاه الناس وَالعلمُ وَالشعرُ
بكاه الندى لما أصيب به الندى / بكاه الحجى والمجد والحسب الوفر
وَقفت عَلى قبر طوى أَقربَ الورى / إِليَّ وَدمع الحزن من أَعيني نثر
على جدث موفٍ جديد ترابه / هناك هناك الجود والنائل الغمر
هناك هناك العلم والفهم والنهى / هناك هناك الفضل والصدق والبشر
هناك أخي عبد الغنيّ مغيَّب / هناك شقيقي مؤنسي صاحبي البَر
فَيا قَبر أَنتَ اليوم أَكرم بقعة / من الأرض ذاتَ العرض فيها اِنطوى حر
ليَ الويل من رزء عظيم أصابني / وكسرٍ على الأيام ليس له جبر
فيا لهوَ أفراح الليالي وطيبها / ويا سلوة الأيام موعدك الحشر
لعمري قد اِجتثت يَدُ المَوت دوحةً / تَسامَت الى العلياء أغصانها الخضر
مضى من بهِ قد كان يسترُّ صحبُه / فهل بعده يسترُّ من كان يسترُّ
لقد مات من قد كان للجود موئلا / لقد مات من قد كان يحيا بهِ البر
لَقَد ماتَ مَن قَد ماتَ عزي لموته / وَماتَ عزائي وَالسَكينة وَالصبر
لِنَفسي إذا ناجيت نَفسي ضراعة / وأَوجه آمالي الَّتي بطلت غبر
وفي القلب حرٌّ فاض دمعي لأجلهِ / على أن دمعي لا يبوح بهِ الحرّ
ذخرت لهذا أدمعي ولمثله / فواخجلي في الرزء إن نفد الذخر
لعمرك ما موت اللئام خسارة / ولكن موت الأكرمين هو الخُسر
يقتّلنا ريب المنون وما له / سلاح ولا ناب هناك ولا ظفر
أتعلم هذي الناس أن حياتهم / إلى الموت مهما التذ صاحبها جسر
وأن رضا الأيام عنهم خديعة / وأن مصافاة الليالي لهم مكر
نعم جهلوا والجهل عذر مصيرهم / ولو علموا ما اغتر من كان يغتر
أَعبد الغنيّ اسمع إذا كنتَ سامعاً / نداء أَخٍ قد نابه بعدك الضر
نداءَ أخ ذم الحياة لأنها / إذا لم تكن يسراً لحاملها عسر
نداء أَخ قد زارَ قبرك سائِلاً / لتخبره هَل صان أَوصالك القبر
أَم القبرِ لَم يحفظك حتى مشى البلى / إلى ذلك الخد الَّذي دونه الزهر
بِنَفسيَ يا عبد الغنيّ وأسرتي / وَفاؤُك وَالحسنى عفافك وَالطهر
على بُرحاءَ الشوق منا هجرتنا / وزدت على ما ليس يبلغه الهجر
يعز عَلَينا أَن يلم بك الرَدى / وَيذبل ذاكَ الزهر وَالورق النضر
لقد طفت عشراً حول قبرك لاثماً / تراباً عليهِ ما له قبل ذا قدرُ
وأجريت من عيني دموعاً مصونة / بها ابتل مني الخد والجيد والنحر
فأعززت تُرباً كان قبلك صاغرا / وأذللت دمعاً من خلائقه الكبر
قضى اللَه رب الناس فينا بفرقة / ولِلّه رب الناس فيما قضى الأمر
رحلت عَن الدُنيا وَخلفت للأسى / أَخاً لك حلو العيش في فمه مر
أَخاً لك أَبكي الدهر بعدك عينَه / وَقَد كانَ قبلاً فيك يضحكه الدهر
أَخاً لك لا شمس الضحى في نهاره / تضيء وَلا في لَيله الأنجم الزهر
إذا ما نهارى جاء ساورني الأسى / وإن جنَّ ليلي فالأسى عسكر مجر
وَما كانَ منك العمر قد بلغ المدى / وَلكنما الأيام شيمتها الغدر
تعاقب أيامي برغم فتمِّحي / ولا ينمحي من لوح فكري لك الذكر
قسمت الأسى بين المساء وصبحها / فهذا له شطر وهذا له شطر
لذكراك في قَلبي ومن يأْسَ يدّكرْ / جوىً هُوَ مثل الجمر أَو دونه الجمر
يَذوب بِصَدري القَلب من حرّ ما به / وَذلك دَمعي لا بكيّ وَلا نزر
بكيتك حتى صار يرحمني البكا / وترحمني البلوى ويرحمني الضر
يَقولون صبراً يا جَميل عَلى الَّذي / أَصابك من رزء وأنى لي الصبر
ولو أن أحزاني بدجلة ما جرت / ولو أنها بالصخر لانفطر الصخر
ولو أنها بالبر زلزل عرضه / ولو أنها بالبحر لاضطرب البحر
وما أنس لا أنس اجتماعاتنا التي / بها العيش قرت عينه فهي العمر
وَكُنّا غصوناً أَنتَ زهرة روضها / وَكُنّا نجوماً أَنتَ من بينها البدر
لقد كنت للقطر العراقي سؤدداً / وفخراً لو ان القطر دام له الفخر
وإذ صرَّح الناعي له بوفاته / وقد راعني من أجل ما قاله الذعر
خررت مكباً وانتفضت بجملتي / كما انتفض العصفور بلله القطر
وقلت كما الطائيُّ قال بعصره / كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر
عذرت عيوناً فاض للرزءِ ماؤها / وليس لعين لم يفض ماؤها عذر
فيا لك من خطب يضل له الهدى / ويا لك من كرب يضيق به الصدر
ويا لك من رزءٍ له بتُّ واجما / وبات فؤادي فيه يعروه ما يعرو
ثقيل على روحي سماع نعيه / فيا لت سمعي كان عنه به وقر
وحين أتوا بالنعش من ضيعة له / توُفىَ فيها صدَّق الخبرَ الخبر
فقام عويلٌ للنساءِ وضجة / لها ارتجفت أرض المنازل والجدر
وصكت وجوه لم تكن قبلُ لطمت / وأُرخى منها في مناكبها الشعر
فقمنا حوالي نعشه نندب العلى / ونبكيه طول الليل حتى بدا الفجر
ولما غسلناه وتمَّ جهازه / وأُودع تابوتاً يجلله ستر
رفعناه بالأيدي وفوق خدودنا / وفوق تراقينا مدامعنا نثر
مشى من صنوف الناس إذ ذاك خلفه / بكاةً ألوفٌ ليس يحصيهم الحصر
ولما وصلنا الأعظمية ضحوة / دفناه في قبر أتم له الحفر
نظرت بإمعان إلى قعر قبره / إذا عرضه شبران بعدهما فتر
وأبنا إلى بغداد والناس ألسن / تكرّر أوصافاً له كلها غرُّ
وقمنا بمرسوم العزاء لأجلهِ / ثلاثة أيام بها يقرأ الذكر
فجاء إلينا الناس من كل وجهة / يعزوننا في قولهم لكم الصبر
ويتلون الروح التي أمس قد نأت / فواتح يهدى في تلاوتها الأجر
أيأمرني بالصبر قوم على الأسى / وقد أهلكت أهل الليالي وهم كثر
وقد غالت الإخوان إلا أقلهم / كأنهمُ ما ساعدوني ولا سروا
دهتهم فرادى واحداً بعد واحدٍ / كأن الليالي عند أهلي لها وتر
أرى الموت وثاباً عَلَى كل موسر / وكل فقير فات مجهوده اليسر
فقد نزع المثرين من عقرِ مالهم / كأنهمُ من قبل ذلك لم يثروا
وغال أناساً مدقعين فلم يكن / ثقيلاً وإن الموت يحمده الفقر
فيا موت زر أهل التعاسة إنه / عظيم لدى من زرت منهم لك الشكر
لنا من حياة في تضاعيفها الأذى / طريق إلى الراحات مسلكه وعر
عَلى كل عود صاحب وَخَليلُ
عَلى كل عود صاحب وَخَليلُ / وَفي كل بيتٍ رنةٌ وَعويلُ
وَفي كل عين عبرة مهراقة / وَفي كل قلب حسرة وَغَليل
علاها وَما غير الفتوَّة سُلَّمٌ / شباب تسامى للعلى وَكهول
كأَنَّ وجوه القوم فوقَ جذوعهم / نجوم سماء في الصباح أُفول
كأَنَّ الجذوع القائمات منابر / علت خطباء عودَهنَّ تَقول
لَقَد ركبوا كور المَطايا يحثّهم / إلى الموت من وادي الحَياة رَحيل
أَجالوا بهاتيك المشانق نظرةً / يَلوح عليها اليأس حين تَجول
وَبالناس إذ حفوا بهم يخفرونهم / وقوفاً وَفي أَيدي الوقوف نصول
يرومون أن يلقوا عدولاً فينطقوا / وَهيهات ما في الحاضرين عدول
دنوا فرقوها واحداً بعد واحد / وَقالوا وَجيزاً لَيسَ فيه فضول
فمن سابقٍ كيلا يقال محاذرٌ / وَمستعجلٍ كيلا يقال كسول
وَلِلَّه ما كانو يحسون من أَذى / إذ الأرض تنأى تحتهم وَتَزول
وإذ قربوا منها وإذ صعدوا بها / وإذ مس هاتيك الرقاب حبول
وَما هي إلا رجفة تعتري الفتى / مفاجأةً وَالرأس منه يميل
مشوا في سَبيل الحق يحدوهم الرَدى / وَللحق بين الصالحين سَبيل
سَتَبكي عَلى تلك الوجوه منازل / وَتَبكي ربوع للعلى وَطلول
وأعظم بخطب فيه للمجد شقوة / وَفي جسد العلياء منه نحول
سرت روحهم تطوي السماء لربها / وَما غير ضوء الفرقدين دَليل
وَلِلَّه عيدان من الليل أَثمرت / رجالاً عليهم هيبة وَقبول
وَيالَك من رزء حمدت له البكا / وَقبحت فيه الصبر وَهوَ جَميل
قبور كأَنَّ القوم إذ رقدوا بها / عباديد سفر بالتلاع نزول
هوت أمهم ماذا بهم يوم صُلّبوا / عَلى غير ذنب كي يُقال ذحول
سوى أنهم قد طالبوا لبلادهم / بأمر إليهم فخره سيؤول
وَنادوا بإصلاح يَكون إلى العلى / وَللنجح وَالعمران فيه وصول
فَما رد عنهم بالشفاعة عصبةٌ / وَلا ذبَّ عنهم بالسلاح قَبيل
وَلا نفع السيف الصَقيل حديده / مضاء وَلا الرمح الطَويل عسول
لعمرك لَيسَ الأمر ذنباً أَصابه / قصاص وَلكن يعرب وَمغول
أَناخوا المَطايا حين أدرك لَيلها / بمأسدة فيها الحماة قَليل
وإني عَلى ما بي من الحر وَالصدى / لأنظر ماءً ما إِليه سَبيل
أفكر في الماضي فيأتي خياله / جَميلاً أَمام العين ثم يَزول
وإن بُكائي اليوم لَو نفع البكا / عليهم وَفي مستقبلي سَيَطول
أَبعد بني قومي أنهنه عبرتي / وأَمنعها إني اذا لَبَخيل
أَقبُّرة الحقل اغنمي الوقت واصفري / فَما بعد أَيام تمر حقول
يبرّحني أن الصروح تقوضت / وَيُحزنني أَنَّ القصور طلول
فَلَيتَ الَّذين اِستَحسَنوا الأمر فكروا / فكان عَن الرأي السَخيف عدول
قَد اسود لَيل الظلم حتى كأَنَّه / ستار عَلى الأرض الفضاء سَديل
وَيا لَك من لَيل يَروع كأَنَّما / بكل مَكان منه يرقب غول
وَقَد قر حتى قلت قد جمد الدُجى / وَخلت بياض الصبح لَيسَ يَسيل
وَعَسعَسَ يَرتاع الكرى من ظلامه / وَطالَ وَليل الخائفين يَطول
إذ الوطن المأسور ينهض قائماً / فتقعد أَغلال به وَكبول
مَضى ما مَضى لا عادَ وَاليَوم فاِستمع / إلى لهجة التاريخ كيفَ يَقول
ستكتب فيه بالدماء حوادِث / وَتُقرأ لِلوَيلات فيه فصول
وَيَذهَبُ هَذا الجيل نضو شقائه / وَيأَتي سعيداً بالسَلامة جيل
أَفي أَول الأيام مسكنك القَصرُ
أَفي أَول الأيام مسكنك القَصرُ / وَفي آخر الأيام منزلك القبرُ
عداك البلى يا من مَشى يطلب البلى / وَحيا محياك الوضاءة وَالبشر
يَقولون صبراً يا جَميل عَلى الَّذي / دهاكَ وَما لا أَستَطيع هُوَ الصبر
ذممت نهاري بعد صحبي وَلَيلَتي / فَلا أوجهٌ غرٌّ وَلا أَنجمٌ زهر
وَلا خير في لَيل توارَت نجومه / وَلا في نهار ما به أَوجه غر
لَقَد كانَ وجه الورد عند اِنفتاحه / جَميلاً كَما نَهوى وَطابَ له النشر
قد افترّ ثغر الروض يبسم للحيا / إذا ما بكى وَالأقحوان هُوَ الثغر
فَيا لَيتَني قد كنت أَعرف جيداً / بأي مَكان بعدهم ينبت الزهر
وَما أنضر العشب الَّذي كان نابتاً / بروضته لَو كانَ يعهده القطر
حملت ثقيلات الهُموم عَلى ضعفي
حملت ثقيلات الهُموم عَلى ضعفي / وَلمّا أَقل أَوهٍ وَلما أَقل أفِّ
فَلِلَّه صَبري في حَياتي عَلى الأذى / وَلِلَّه غمضي في بِلادي عَلى العسف
وَما أَنا مِمَّن يغمضون عَلى القذى / وَلا أَنا مِمَّن يصبرون عَلى الخسف
وَما كانَ ظَني أَن قومي يهينني / إلى أَن رأَت عيناي بالرَغم من أَنفي
رأَت أَعينى من كنت أُصفِي مودتي / له يَبتَغي ضيمي وَيَسعى إلى حَتفي
فَلمّا تبينتُ الَّذي لم أَظنه / ضربت كمن يستاء كفاً عَلى كف
وإني لأبدي الحزن في الشعر شاكياً / وَهَذا الَّذي أَبديه بعض الَّذي أَخفي
تعلمت من درسي الطباع وَصحبتي / لِقَوميَ أَن اللين خير من العنف
سعيت وَلكن ما وصلت إلى المَدى
سعيت وَلكن ما وصلت إلى المَدى / فَلِلَّه أَتعابي الَّتي ذهبت سدى
بقيتُ برغم السَعي وَالعلم وَالنُهى / بمنزلة بين الضلالة وَالهدى
كسبت من الأيام بعد تجاربي / يَقيناً بأن الأصدقاء هم العدى
لحى اللَه دَهراً ما اِتخذنا وَسائلاً / لمنفعة إلا تصدى فأفسدا
وبعّد ما بين الخصاصة وَالغنى / وَقرّب ما بين السلامة وَالردى
رَجاءٌ لهونا برهةً بابتسامه
رَجاءٌ لهونا برهةً بابتسامه / وَيأسٌ عبوس فاِنقضى هَكَذا العمرُ
ركبت عباب البحر وَالريح زعزع / عَلى زورق في اللَيل فاِضطرب البحر
حياة الفَتى جسر إلى ميتة الفَتى / وَلا بد من يوم به يعبر الجسر
وَللناس في دار البلى كل راحة / وَقَد عاقهم عنها الحَياة وَلَم يدروا
بعين الفَتى ما عاش تحلو حياته / وَلَو أنَّ ذاكَ العيش في فمه مر
سأَرحل عن بَغداد رحلة مزمع / إلى مصر في يوم وإن بعدت مصر
فَلا العلم يا بَغداد فيك مبجَّل / وَلا الشعر يا بَغداد فيك له قدر
ألا ما أَقل الصحب في محنة الفَتى / على أنهم في يوم نعمته كثر
وَما اِخترع الإنسان آلات فتكه / بآخر إلا وَالحياة هي العذر
عليك اللَيالي قد قَضَت أن تبيت في / قَرارة سيل الرزء يعروك ما يَعرو
كأنك في وادي الحوادث صخرة / تصارعها الأمواج وَالريح وَالدهر
تمر عليه صادمات لصدره / وَيثبت صبّاراً عَلى مرها الصخر
لَقَد حلَّقت خَمسون طيارة مَعاً / تزمجر فاِستولى عَلى البلد الذعر
لَقَد سَئمت دنياي نَفسي فإنها
لَقَد سَئمت دنياي نَفسي فإنها / لمنزلة لي دون منزلة القبر
فَما أَنا في قَبري أحس ببعض ما / أحس به في جنب دنياي من شر
لَقَد سامني دَهري بِبَغداد ذلةً
لَقَد سامني دَهري بِبَغداد ذلةً / وَماذا عَسى في مصر أَن يفعل الدهر
وظنيَ أَني سَوفَ ألقى حفاوة / يَطول عَلى الأيام مني لها الشكر
وأَما الألى ما إِن لهم من حَقيقة / فَلا خيرهم خير وَلا شرهم شر
لَقَد ضَرَّ أَعدائي بِمالي وَمَنصبي / وأَما بِعِرضي أَو بجاهي فَما ضروا
وَقفت أَمام السيل ينطح جبهتي / بمنتصف الوادي كَما وقف الصخر
إذا لَم يذد عَن نفسه بلسانه / فَقُل ليَ ماذا يَفعَل الشاعر الحر
هُوَ البحر لا يَبقى عَلى حالة له / فطوراً به مدٌّ وَطوراً به جزر
مَقامك في الزوراء غير حَميدِ
مَقامك في الزوراء غير حَميدِ / وَلينك للأعداء غير مفيدِ
وَظنك حسناً باللَيالي سفاهة / وَرأيك في الأيام غير سَديد
سأَرحل عَن بغداد رحلة عائفٍ / فَقَد طالَ في دار الهوان قعودي
وأخرج من آلي وَمالي وَموطني / وَما كانَ لي من طارف وَتَليد
وَلَم أَر في عمري كَبَغداد منزلاً / به العلم لا يجزى بغير جحود
رَأَيت بها بؤساً وَشاهدت نعمة / فَلَم أسترح من شامت وَحَسود
وَكافحت أَياماً بها وَليالياً / تكرّان من بيض هناك وَسود
وَعشت فَلَم يرغد ليَ العيش عندها / وَما خير عيش لَم يكن بِرَغيد
بِبَغداد ناس راشدون بعلمهم / وَقوم من الجهال غير رَشيد
شباب مريد للتعلم ناهض / وَشيب لنور الشمس غير مريد
وَقوم كرام ساءهم وَشك فرقتي / وَقوم تمنوا أَن يَزول وجودي
هُمُ القَوم ما إِن يَبتَغون لما بهم / من الكسل المَذموم غير قعود
بعصر به الأقوام تنشط للعلى / أَرى البعض لا يَزداد غير جمود
صعاليك سادوا ثم سيدوا بجهلهم / فأذمم بهم من سائد وَمسود
لَقَد عشتُ بين القوم ستين حجةً / وَلَم أَكُ في يوم بها بِسَعيد
أُشاهد غرباناً بأوكار أَنسرٍ / وَأَلقى ذئاباً في عرين أسود
هجودٌ عَن الحسنى فَما أن يرونها / وأَما عَن السوءى فَغير هجود
وَلَيسَ الَّذي في القوم من عنجهية / سوى إِرث آباء لهم وجدود
إذا كانَ مشي المغمضين إلى الردى / وَئيداً فَمَشيُ القوم غير وَئيد
غداً ينظرون الشر عريان كاشراً / وَلَيسَ غدٌ عَن ناظر بِبَعيد
ذممت من الأيام فقدان عدلها / وَما أَكثرت من سادة وَعَبيد
وأما طَريق الذام فهو إذا بَدا / لِنَفسي محيد عنه أَيّ محيد
وآليت أن لا أَستَكين لمن عتوا / وإن قطعوا بالسيف حبل وَريدي
حييت فَحَقي أَن أُلاقيَ مصرعي / فَما عدمي إلا نتاج وجودي
وإني كَغَيري لست في الأرض خالداً / وإني وإن طال الزَمان لمودي
دَعاني إلى حزب الخنوع رئيسُهُ / وأَكثرَ من وعدٍ له وَوَعيد
فَقلت له أنذر سواي فإنما / وَعيدك مَهما زدت غير مفيد
وإن زَعيم القوم لَيسَ يغرهم / وَلا هُوَ يجزي فضلهم بكنود
تجسس من بعد الزَعامة للعدى / وَما كانَ منهم أَجره بِزَهيد
بنت حدسَها في الشرق وَالغرب ساسةٌ / عَلى نظر فيما يَكون بَعيد
ولكنَّ قَومي فوضوا الأمر كله / إلى قدرٍ من ربِّهم وَجدود
وَثاروا بإغراء العَميد فخانهم / فَكان عَميد القوم غير عَميد
لَقَد خمد الثوار بعد شبوبهم / وَقَد لا تشب النار بعد خمود
قليتك من دار بها الجهل شائع / ومن بلد بين البلاد بَليد
هنالك ناس يمقتون قصائدي / وَتمقتهم طراً كذاك قصيدي
وَكَم درر لي في القَريض نظمتها / فَكانَت بجيد الدهر مثل عقود
وَكَم حكمة فيها بلاغ أذعتها / بِقافية ملء البلاد شرود
يَذمون شعراً لا يقلد غيره / أُولئك أَعداء لكل جَديد
وَلا يحمدون الشعر إلا مكبلاً / بسلسلةٍ يأذى بها وَقيود
وَفي الحق أَن لا يقرب الشعرَ قائلٌ / إذا لَم يكن في شعره بمجيد
يَموت إِذا لَم يُشجِ شعرٌ بشدوِهِ / وَيَحيا إذا أَشجى حَياة خلود
إذا طابق الشعر الحَقيقة لَم يكن / بِذي حاجة في صدقه لشهود
لَقَد أَنشدت بالأمس شعراً حمامة / عَلى فننٍ غضٍّ فقلت أَعيدي
صبرت عَلى ليلي وَقَد جن راجياً / صباحاً وعلّ الصبح غير بَعيد
إلى أَن رأَيت اللَيل يرفع بيته / أَخيراً عَلى صبح بدا كَعَمود
ستبعث هبات النَسيم مسرتي / وَيجمع نور الشمس شمل سعودي
وأَشرب ماء النيل من بعد دجلة / فيخضر في مصر الجديدة عودي
متى ما أَجئ مصر الفتاة فإنني / سآوي إِلى ركن هناك شَديد
إذا فتح القوم المعادون لي قَلبي
إذا فتح القوم المعادون لي قَلبي / رأوه سَليماً لَيسَ فيه سوى الحبِّ
وَما أَنا مِمَّن يحمل الحقدَ قلبهم / فيجزونَ من قد آثروا الثلب بالثلب
أُريد نزوحاً عَن أُناس برحلتي / لألقى بَعيداً عَن مطاعنهم نحبي
وَما أَنا من صدق لهم متألم / ولكن من البهتان وَالزور وَالكذب
وَلست عَلى أَهل العداء بعاتب / وَلكن عَلى الأصحاب وحدهم عتبي
عداي وَصحبي قد أَرادوا إهانَتي / عفا اللَه رَبي عَن عداي وعن صحبي
وَيحزنني أني عَن الدار نازح / عَلى أَن بعد الدار خير من القرب
عَلى أَن بعد الدار لَيسَ بِنافع / إذا دامَ أعدائي يلجّون في سبي
سوى أنني في البعد لا أَسمع الخنى / ليأذى به سمعي وَيأسى له قَلبي