بربّك ذَكّرهم عَسى تنفعُ الذِكرى
بربّك ذَكّرهم عَسى تنفعُ الذِكرى / فَكَم نِعم أَجدى وكَم مِنَن أَجرى
وَأَعظَمُها دينُ النبيّ محمّدٍ / هوَ النِعمةُ العُظمى هو المنّةُ الكُبرى
فَأَشهدُ أنّ اللَّه لا ربّ غيره / تَوحّدَ في الدُنيا توحّدَ في الأخرى
وَقد كانَ مِن قبل الحوادث واحداً / بِلا حاجةٍ للخلقِ أوجدَهم طرّا
تَقدَّس عن كلِّ الجهاتِ وإنّه / معَ الخلقِ لكنَّ الحقيقة لا تُدرى
فَلا جِهةٌ تحويهِ لا جهةٌ له / تَنزّهَ ربّي عَنهما وَعلا قدرا
فَليسَ مِنَ الخلفِ الأمامُ بقربهِ / أحقُّ ولا اليُمنى أحقّ من اليسرى
وَلا الفوقُ مِن تحتٍ وإن كان وارداً / لهُ الفوقُ لكن ليس يحصره حصرا
بهِ قامَ كلُّ الخلقِ لو كان لحظةً / تَخلّى عنِ الأكوانِ لاِنعدمت فورا
له البصرُ السمعُ الإرادة قدرةٌ / حياةٌ كلامُ العلمِ عن ضدّها يعرى
وَليسَ لهُ سُبحانهُ اِبنٌ ولا أبٌ / وَليسَ له بدءٌ ولا عدمٌ يطرا
وَلا مثلهُ خلقٌ ولا هوَ مثلهم / كَمالاتُهم منهُ وعَن نَقصِهم يَبرا
وَلو شاءَ أَرداهُم ولَم يخشَ ثَأرهم / وهَل أَحدٌ يَخشى منَ العدمِ الثَأرا
وَسوفَ إِلى بدءِ الفَناء يُعيدهم / وَيَبقى كَما قَد كانَ في ملكهِ وِترا
وَيَبعثهُم حتّى يُثيبَ بعدلهِ / عَلى الخيرِ خَيراً أو على شرّهم شرّا
أَعدَّ لَهُم دارَينِ لِلسخطِ وَالرِضا / وَأَعطى لكلّ مِنهُما منهمُ قدرا
لِمَن آمَنوا دارُ الكرامةِ جنّةٌ / بِها رِزقهُم مِن فيض إحسانه درّا
وَرُؤيَتهم للَّه خيرُ نَعيمهم / وُجوههمُ مِن حُسنِها نضرت نضرا
وَدارُ هوانِ الكافرين جهنّمٌ / بِها سعرَ النيران مِن أجلهم سعرا
وَشرٌّ عذابٍ عذَّبوهُ حجابهم / عنِ اللَّه مَقصورين عَن لُطفهِ قصرا
لأحبابهِ الجنّاتُ مَجلى جمالهِ / وَفي النارِ للأعداءِ قَد أظهرَ القهرا
وَلَو شاءَ عكسَ الأمرِ لَم يعُد عدله / وَلكن بِفضلٍ منهُ لا يعكسُ الأمرا
وَيفعلُ ما يختارُ في الخلقِ مُطلقاً / وَلا حرَجٌ يأتي عليهِ ولا حجرا
وَيغفِرُ دونَ الشركِ ما شاء منّةً / وَلا يجدُ الكفّارُ مِن فضلهِ غفرا
بَراهُم لهُ كَي يَعبدوهُ ويَعرفوا / فَباؤوا بِسخطٍ منهُ إذ عَبدوا الغيرا
وَكَم نِعَمٍ أسدى لهم غيرَ أَنّهم / لِخِذلانهم قَد أَبدلوا شُكرها كفرا
وَكلُّ كَمالٍ في الوجودِ كمالهُ / أَفاضَ على الدارينِ مِن بحرهِ قَطرا
وَمِن نورهِ كلُّ العوالمِ أَشرقت / وَلَو شاءَ لَم تُشرق ولا فجَرَ الفجرا
وَما الشمسُ والزهرُ الدراري وبدرُها / سِوى لمَحاتٍ نورهُ ذرّها ذرّا
وَكلُّ البَرايا نفحةٌ من هباتهِ / فَسُبحانهُ ربّاً وسبحانهُ برّا
وَلا فاعلٌ للخيرِ والشرّ غيره / وَمِن أدَبٍ لَسنا له ننسبُ الشرّا
وَمنهُ القُوى فينا وقد يستردّها / وَكلُّ اِمرئٍ منّا بحالته أدرى
وَمِن أينَ تَأتينا الخواطرُ هل لها / سَحابٌ على الأفكارِ تمطرُها مطرا
وَأكثرُها يَبقى عَقيماً وبعضها / يُرى مُنتجاً ينمو كما تبذرُ البذرا
وَمِن أَين تأتي المرءَ رُؤيا منامه / وَلا عقلَ يُبديها هناك ولا فكرا
وَنَعلمُ أنّ الروحَ في الجسم غيره / وَما الجسمُ إلّا بيتهُ فيه قد قرّا
فَمِن أينَ يَأتيه وعند فراقهِ / إِلى أيّ مأوىً فارقَ الجسم مضطرّا
فَذلكَ أمرٌ ظاهرٌ أنّ ربّنا / هوَ الفاعلُ المختارُ في الخلق ما أجرى
وَجازى الوَرى عَن كَسبهم باِختيارهم / وَلا قُدرةٌ مِنهم تؤثّر لا جبرا
بِتَيسيره كلٌّ أتى ما قضى له / وَليسَ بِمسؤولٍ ويَسألهُم طرّا
وَدونكَ فاِنظُر في الأمامِ وعكسه / وَعُلواً وسفلاً لليمين ولِليسرى
فَمَهما شغلتَ الفكرَ في كلّ وجهةٍ / إِلى أبدِ الآبادِ لا غايةٌ تُدرى
وَذلكَ مَخلوقٌ لهُ فهو دونهُ / تَعالى وجلَّ اللَّه عَن خلقهِ قدرا
إِذا كانَ هذا كلّه باِتّساعهِ / يَضيقُ وَلا يَقوى على ربِّه حَصرا
فَكيفَ اِنحَشى حاشاهُ في ضيّقِ الحشا / وَكيفَ ثَوى فِتراً منَ البطنِ أو شبرا
فَمَن يَعتقِد أنَّ النساءَ يلدنهُ / فَقولوا لهُ مِن أمّه يمصصِ البظرا
تَقدّس عَن أن يقدرَ الخلقُ قدره / وَأَن يَبلُغوا في حقّهِ النفعَ والضرّا
تَقدّس عَن أَن يعلمَ الخلقُ كنههُ / وَأَن يُدركوا من علمهِ غير ما أجرى
وَلا العرشُ يدريهِ ولا هو حلّهُ / وَلَكن براهُ مِثلما برأَ الذرّا
عَليهِ اِستوى كيفَ اِستَوى ليسَ عرشهُ / بِهذا دَرى فيهِ خليقتهُ حَيرى
وَهل قطُّ مَصنوعٌ بصانعهِ دَرى / لَقَد ضلّ عَبدٌ يدّعيه وما برّا
وَسَل إِن تَشأ عن ناسجٍ من نسيجهِ / وَعمّن بنى قَصراً فَسل ذلكَ القَصرا
إِذا كانَ كلٌّ حادثاً كصنيعهِ / وَلم يَدرهِ فاللَّه أعظمُ أَن يُدرى
وَلِلعقلِ حدٌّ لا يجاوزهُ كَما / لأبصارِنا حَدٌّ تُرى بعده حسرى
وَكَم فَوق طورِ العقلِ طوراً وفوقه / سواهُ وَزِد ما شئتَ طوراً علا طورا
وَما ثمَّ مَن يَدري حقيقةَ رَبّهِ / وَفي العجزِ مثلُ العقلِ أرفعُها قدرا
بِأسمائهِ الحُسنى وَأوصافهِ العلا / وَآثارهِ في خلقهِ عرّفَ الأمرا
وَقَد نصَب الأكوانَ في كلِّ ذرَّةٍ / بَراهين لا تُحصى قَراها منِ اِستَقرا
وَلَكنّه يَهدي لهُ من يريدهُ / وَإِن كانَ أَغبى الناسِ أَبلدهُم فِكرا
وَإِن شاءَ إِضلالاً لعبدٍ أضلّهُ / وَإِن كانَ ذا علمٍ غدا علمهُ سِترا
أَلَم ترَ كفّارَ الفرنجِ وكيفَ هم / معَ العلمِ بِالأكوان شرّ الورى كفرا
وَمَهما زَوى الأفكارَ عَن كنهِ ذاتهِ / فَأَنوارهُ بالعلمِ قَد سفَرت سفرا
فَلا عذرَ للكفّارِ في جهلِهم به / وَهذي البَرايا كلُّها صُحفٌ تقرا
قَدِ اِختارَ مِن كلِّ الخَلائقِ رسلهُ / لِتَعريفِهم ما كفَّ عَن علمهِ الفِكرا
وَمِنهم قدِ اِختارَ الحبيبَ مُحمّداً / نَبيَّ الهُدى روحَ الوجودِ أبا الزهرا
نَبيُّ جميعِ الأنبياءِ مَليكُهم / وَفي قَومِهم عن حكمهِ نَفّذوا الأمرا
وَلَو جاءَ في أعصارِهم آمنوا به / وَكانوا لهُ مِن خيرِ أجناده نصرا
مآثرهُ في كُتبهم يأثرونها / وَلَو وجدوا في عصرهِ تَبِعوا الإثرا
إِمامُ جميعِ الرسلِ جامعُ فضلهم / خَطيبهمُ في الخَطبِ إن حُشِروا حشرا
وَيَجمعهُم في الحشرِ تحت لوائهِ / وَكلٌّ يقولُ اِشفَع فأنتَ بِها أَحرى
لِكُلِّ نَبيٍّ إمرةٌ فوقَ قومهِ / وَهُم وَذووهم تحتَ إمرتهِ الكُبرى
مَلائكةُ الرَحمنِ مِن خير جندهِ / كَأصحابهِ حازوا بِصُحبتهِ الفَخرا
وَجبريلُ نعمَ العونُ وَالصاحب الّذي / زِياراتهُ بالوحيِ للمُصطفى تترى
وَقَد كانَ من قوّاده يوم بدرهِ / ولَم يتَجاوَز حدّه ليلة الإسرا
وَكانَ لدى الحاجاتِ يدعوه يا أخي / يُلاطفهُ إِن راحَ يسأله أمرا
وَلو كانَ أعلى منهُ جبريل لم يكن / مُلاطفةً بل كانَ في حقِّه إزرا
وَساعدهُ ميكالُ في حمل طشتهِ / لَدى شقِّهم روحي فداهُ له الصدرا
وَقَد كانَ إِسرافيلُ في بدءِ بعثهِ / ثلاثَ سنينٍ في كلاءَته سرّا
فَقُل هوَ عبدُ اللَّه سيّد خلقهِ / وَدَع ما طَرا في حقّ عيسى من الإطرا
وَقُل هوَ بحرُ اللَّه بالفضلِ زاخرٌ / وَفي مدحهِ فاِستغرقِ النظمَ والنثرا
فَقَد أطرَب الأرواحَ مُنشدُ مدحهِ / وَمادحهُ مَهما أطالَ فَما أطرا
تَنقّلَ نوراً في جباهِ جدودهِ / فَنالوا بهِ عزّاً وصاروا بهِ غُرّا
عنِ البيتِ ردَّ اللَّهُ فيلَ عدوّه / وَأَرسلَ في تدميرِ أَصحابهِ طَيرا
وَمِن أُمّه نورٌ بدا عند وضعهِ / بهِ عينُها من مكّةٍ أبصرت بصرى
وَكَم شوهدَت من آيةٍ في رضاعهِ / فَأحيَت شياهَ الظئرِ في المحلِ والظئرا
وَأَشبهَ منهُ الشهرُ عاماً لغيرهِ / نُموّاً ومنه اليوم قد أشبهَ الشهرا
وَما زالَ يَرقى في الكمالِ هلالهُ / رُويداً وعندَ الأربعينَ غَدا بدرا
فَأَرسلهُ بالحقِّ لِلخلقِ رحمةً / لِمُؤمِنهم كُبرى وكافرِهم صغرى
جَزى اللَّه عنّا خيرَ ما كانَ جازياً / أَبا القاسمِ المختار خيرَ الورى طرّا
فَلولاهُ لَم تَبرَح عقائدُ ديننا / ملوّثةً شِركاً ملطّخةً كفرا
هَدانا بهِ وَالجاهليّةُ قد طَغت / وَقَد غمَر الأقطارَ طوفانُها غمرا
هَدانا بهِ وَالناسُ في ليلِ شِركهم / فَأَطلعَ دينَ اللَّه ما بينُهم فجرا
هَدانا بهِ والناسُ ما بين عابدٍ / لِشمسٍ ومَن دانوا الكواكبَ والدهرا
هَدانا بهِ وَالسودُ كالبيض كلّهم / وُحوشٌ نعم والصفرُ قد أشبهوا الحمرا
هَدانا بهِ والعربُ ما بين شاعرٍ / وَمَن عبدَ الأصنامَ أو عَبَد الشِعرى
هَدانا بهِ والفرسُ بالنور قد غووا / لهُ نسَبوا خيراً وللظلمةِ الشرّا
وَكَم عَبدوا كالهندِ ناراً تأجّجت / وَكَم عَبدوا عِجلاً وكَم عَبدوا ثورا
هَدانا وَأحبارُ اليهودِ تَلاعبوا / بِملّةِ موسى أبدَلوا شُكرَها كفرا
هَدانا بهِ وَالرومُ ما بينَ عابدٍ / لِعيسى بلا عذرٍ ومَن عَبَدَ العَذرا
هَدانا بهِ المَولى لجنّة خلدهِ / ولولاهُ كنّا مِثلهم للّظى جَمرا
بهِ اللَّه أَحيا الفضلَ والعدل والهدى / وَأَجرى من التوحيدِ بين الورى بحرا
وَأَعطاهُ مِن أسرارِ مكنون علمهِ / بِحارَ علومٍ فيهِ قَد زَخرت زخرا
وَكَم مُعجِزاتٍ منهُ شاهدَها الورى / بِكَثترتِها قَد جازتِ الحصرَ والحِزرا
قَدِ اِنتَشرت في الأرضِ عمّت جَمادها / وَإِنسانَها والجنَّ وَالوحشَ والطيرا
وَمِن مُعجزاتِ الأفقِ مَولاه خصّه / بِدَعوة حقٍّ سهمُها شقَّقَ البدرا
وَأَسرى بهِ للقُدسِ في بعض ليلةٍ / وَمِنها إلى السبعِ العُلا حبّذا المسرى
عَلا حيثُ لا عقلٌ هنالك واصلٌ / وَحيثُ العُلا قد صدّتِ الوهمَ والفكرا
وَحيثُ حَبا الرحمنُ سرّاً لعبدهِ / جَميعُ الوَرى لم يُمنَحوا ذلكَ السرّا
ولمّا غَدا في القربِ وَالحبِّ مُفرداً / رَأى ربَّه لا كيفَ لا كمَّ لا حصرا
وَأولاهُ مِن آلائهِ كلّ نعمةٍ / بِها خصّهُ تستغرقُ الحمدَ وَالشكرا
وَعادَ إِلى مثواهُ بعد عروجهِ / بِليلةِ مَسراهُ فَسُبحانَ مَن أَسرى
وَأَولاهُ بِالقرآنِ مِن فيضِ فضلهِ / بِحارَ عُلومٍ كلُّ لفظٍ حَوى بحرا
وَأَعجزَ كلَّ الخلقِ عَن مثل سورةٍ / فَلَم يَنسُجوا طرّاً بمنواله سطرا
وَلَو أمكنَ الكفّارَ مثلٌ أتَوا به / وَمَن يدّعي للشمسِ بينَ الورى أُخرى
وَسُنّتهُ جاءَت بكلِّ فَضيلةٍ / منَ الوحيِ لم يُعمل بأَحكامِها فكرا
بِبَحرينِ قَد وافى كتابٍ وسنّةٍ / جَرَت مِنهما حقّاً شريعته الغرّا
بِمَجمعِ بحرَيها أئمّتنا اِلتقَوا / وَما خَرجوا عَنها بل اِستَخرجوا الدرّا
وَفاضَت عَلى الدُنيا فأحيَت بلادَها / فَما ترَكت عَصراً ولا ترَكت مِصرا
لَقَد عَرّفتنا اللَّهَ وَالبعثَ والجزا / وَبِاليسرِ في الأحكامِ أبدلتِ العسرا
أَتَت بعلومِ الرسلِ مع أنبيائهم / فَما تَرَكت موسى الكليم ولا الخضرا
وَجاءَت بِتاريخِ الزمانِ وأهلهِ / وَما كانَ في الغَبرا وما كانَ في الخضرا
وَأَحكامُها قد ضمّنت كلّ حكمةٍ / وَما اِحتَكرت عن طالبٍ فضلها حكرا
وَأَجرَت عُلوماً كلُّ حبرٍ وراهبٍ / لو اجتمعوا لا يحسنون لها عبرا
وَلا عالِمٌ في الكونِ يمكنُ أنّه / يُحيطُ بِها مِن كلِّ أَطرافِها دورا
بِها قَد أَتى الأمّيُّ في جاهليّةٍ / أقلِّ الوَرى علماً وأكثرِهم فقرا
بِأقربِ وَقتٍ أصبحت خير أُمّةٍ / فَضائلَ واِستَولت على غيرها قَهرا
وَكَم عاقلٍ لمّا أصاخَ لقولهِ / وَشامَ المُحيّا بالسجودِ له خرّا
فَكافاهُ عن إِيمانهِ بأمانهِ / وَجازاهُ عَن فعلِ السجودِ له زجرا
وَكَم ذا منَ الأعرابِ وافاه جاهلٌ / كَوحشِ الفَلا قد أشبهَ الذئبَ والنِمرا
فَصارَ بهِ في العلم والحلم قدوةً / يُرتّلُ في المِحرابِ وَالمنبرِ الذِكرا
وَيا ربُّ عبدٍ كالبهيمةِ طبعه / قَضى عمرهُ في الشرِّ لا يعرف الخيرا
بإِكسيرِ خيرِ الخلقِ صحّت طباعه / فصارَت نُضاراً بعد أن طُبعت صفرا
وَصارَ بهِ مِن سادةِ القومِ سيّداً / فَفي جَحفلٍ قلباً وفي محفلٍ صدرا
فَقُل لي أغير اللَّه يفعل هكذا / وَهل أحدٌ يقضي على ربِّهِ جبرا
فَإِن لَم يَكُن خيرُ النبيّينَ صادقاً / إِذن فإِله العرش قد شرع الكفرا
أَتى داعِياً في الأرضِ للَّه وحده / وَقَد مُلِئت شِركاً وَقد طفحت شرّا
فَأيّده بالنصرِ مَع كثرةِ العدا / وَقَد سجروا نيرانَ بَغضائهم سجرا
وَعارضهُ في الحقِّ كفّارُ قومهِ / وَحثّوا إِلى تدميرِ دعوته السيرا
وَصاحوا بهِ وهوَ الهزبرُ فَما اِنثنى / وَهُم بقَرٌ مِن خوفهم جأَروا جأرا
وَقَد عَرفوهُ صادقاً غيرَ أنّهم / أصرّوا عَلى أديان آبائِهم كبرا
وَلَم يَبرحوا في ظُلمِهم وَظلامِهم / إِلى أَن رأوا منهُ بأفقِ الوغا بدرا
وَآمنَ مِنهم سادةٌ سبقوا الورى / بِصُحبتهِ أكرِم بهِم سادةً غرّا
أَجَلّ بَني الإسلامِ كانوا وإنّما / أَبو بكرٍ الصدّيقُ كان اِبنهُ البكرا
فَفي حلبةِ الإيمان جاء مُجلّياً / وَعُثمان صلّى خلفه مع ذَوي البُشرى
بِنوريهِ ذو النورينِ ضاءَت شؤونهُ / وَحازَ عَلى كلِّ الوَرى بِهِما الفَخرا
ولمّا دَعا الهادي لإعرازِ دينهِ / أَتى عُمَرٌ يَسعى لِحَضرته حضرا
وَسمّاهُ بِالفاروقِ إذ فرَق الهُدى / مِنَ الشركِ والشيطانُ من بأسهِ فرّا
وَأمّا عليٌّ فهو عند اِبنِ عمّهِ / تربّى صَغير السنِّ لم يَعرفِ الكفرا
فَلا عَجبٌ أَن كان باباً لعلمهِ / وَفي الحربِ ذِمراً لَم نَجِد مثله ذمرا
وَأَحرزَ خضلَ السبقِ منهم عتيقهم / وَلا عَجبٌ أن يَسبقَ القارحُ المهرا
وَقَد سَبَقت كلَّ الجيادِ خديجةٌ / وَأَلحِق بِها أولادهُ السادةَ الغرّا
وَمَهما علَت كلّ النساء بفضلها / فَقَد فضَلَتها في العلا بنتُها الزهرا
وَآلُ أبي بكرٍ خيارٌ وخيرهم / حَبيبةُ خيرِ الخلقِ عائشة الحمرا
كَفاها سلامُ الروحِ في الدين رفعةً / وَقولُ رسولِ اللَّه عنها خُذوا الشطرا
وَكَم فتيات سابقاتٍ وفتيةٍ / هداةٍ وكم عبدٍ أتى سابقاً حرّا
وَفاضَ عليهم بالأذى بحرُ فتنةٍ / فَآونةً مدّاً وآونةً جزرا
فَكَم عذّبوهم كَي يَعودوا لشِركهم / فَما رَجَعوا وَالبعضُ قَد قُتلوا صبرا
وَكَم ذا على الرَمضاءِ ألقَوا ضعافهم / عَلى الظهرِ ظُهراً واصلَ الفجر والعصرا
وَكَم أَلبَسوهم مِن حديدٍ مدارعاً / وألقَوهمُ في الشمسِ قد صُهروا صهرا
وَما كانَ مِن صخرٍ علاهم فإنّه / قلوبُ العدا لكنّها مُسِخت صخرا
وَمَهما اِستغاثوا لم يُغاثوا ودمعهم / حَكى الغيثَ مِن سقياه عشب الثرى أثرى
فَلا يمكنُ التعبيرُ عَن عبَراتهم / وَلا عينَ إلّا مِن عباراتهم عبرى
مَصائبُهم لو قطرةٌ من سحابها / تُمازجُ ماءَ البحرِ أفسدتِ البحرا
وَأثقالهُم لو ذرّةٌ من جبالها / عَلى الدهرِ قَد خرّت لأثقلتِ الدهرا
وَمَع هذهِ الأهوالِ طابَت نفوسهم / بِطيّبِ دين اللَّه فاِستَسهلوا الوعرا
حَلاوةُ حبّ اللَّه حلّت قلوبهم / فَحلّت لَهُم كَرباً وحلّت لهم صبرا
وَهاجرَ للأحباشِ منهم جماعةٌ / وَقَد هَجروا للَّه أوطانَهم هجرا
وَخافَت قُريشٌ من عواقبِ أمرهم / عَلَيها ففي أعقابهم عقّبت عَمرا
وَكانَ النجاشي مِن أئمّة دينهِ / وَكَم لرسولِ اللَّه شاهدَ مِن بشرى
فَفَازَ بإسلامٍ وأرواهُ جعفرٌ / وَأَجرى على عمرٍو بتوبيخه نهرا
قَدِ اِمتُحنوا حتّى تخلَّص صفوُهم / بِتَعذيبهم طوراً وتغريبهم طورا
ليظهرَ كونُ الفضلِ في الناس كلّهم / بِنسبةِ جزءِ الجزءِ من فضلهم نزرا
وَلمّا أرادَ اللَّه نُصرةَ دينهِ / أَتاحَ لهُ مِن نحوِ أنصاره نصرا
فَهاجرَ من أمّ القُرى نحو طيبةٍ / نبيُّ الهُدى والصحبُ قد هجروا الهُجرا
فَسُرّ بهِ الأنصارُ حتّى نساؤُهم / وَصِبيانُهم في مدحهِ أَنشدوا الشعرا
وَيا حبّذا منهم سعودٌ ثلاثةٌ / وَمثلهمُ الباقي فأكرِم بِهِم طرّا
فَسَعدُ معاذٍ سيّد الكلّ مَن له / قَدِ اِهتزَّ عرشُ اللَّهِ أَرفعهُم قدرا
وَسَعدٌ أبو قيسٍ أخو الجودِ لم تزل / تدورُ معَ المختارِ جفنتهُ الغرّا
وَكانَت لسعد بن الربيعِ وصيّةٌ / أَراها لقَلبي كلَّما ذُكِرت ذكرى
فَفي أُحدٍ أَوصى يقول لقومهِ / عَلى حين وافتهُ شهادتهُ الكُبرى
إِذا خَلصوا للمُصطفى وبواحدٍ / حَياةٌ فعندَ اللَّه لن تجدوا عذرا
وَلمّا اِلتقى الصَحبان واِشتدّ أمرهُ / تَلقّى منَ المَولى بحربِ العدا أَمرا
فَباعوا لهُ للَّه أنفسَ أنفسٍ / وَلَم يَجعلوا إلّا رِضاه لها سعرا
وَلمّا اِشتَرى الرحمنُ منه ومنهمُ / بِجنّته هاتيكمُ الأنفسَ الطهرا
غَدا رِبحُهم أَعلى وَأغلى تجارةٍ / فأعظِم بهِ رِبحاً وأكرِم بهم تجرا
فَكَم جاهَدوا في نصرةِ الدين كافراً / وَخاضوا إليهِ الحربَ والحرّ والقرّا
وَما نفَروا يومَ الوَغا من عدوِّهم / بَلى في سبيلِ اللَّه قد نَفَروا نفرا
وَبرّوا بِغزوِ البرّ في كلّ وجهةٍ / وَبالحربِ خاضوا البحرَ واِستغرقوا العُمرا
رَبيعٌ خريفٌ صيفُهم كشتائهم / فَلَم يَرهبوا بَرداً ولم يَرهبوا حرّا
وَكَم رمضانٍ جاءَهم ما تسحّروا / وَقَد أطعموا سمرَ القَنا النحرَ والسحرا
وَصاموا وَما صاموا عنِ الطعنِ في العِدا / وَلكِن عَلى أرواحهِم جَعلوا الفطرا
وَأصبحَ فطرُ الشركِ عيداً لفطرهم / سَعيداً ونحرُ المُشركينَ غدا نحرا
وَقَد زَهِدوا في مالِهم وجمالهم / فَما عَشِقوا بَيضا ولا عشقوا صفرا
أَحبُّ إِليهم لثم سيفٍ مورّدٍ / بِحمرِ الدِما من لثمِ وَجنَتها الحمرا
سلِ البيضَ والسمرَ العوالي عنهمُ / وَسل عَنهُمُ الحمرَ المذاكيَ والشقرا
فَكَم خَفضوا بالكسرِ رأساً لمشركٍ / وَكَم لِلعدا جرّوا كتائبهم جرّا
وَكَم رَفعوا رُمحاً وضمّوا مهنّداً / وَكَم نَصبوا حَرباً وكَم فَتحوا ثَغرا
وَمِن بعدهِ في الرومِ والفرس قصّرت / قياصرُ عنهم حينَما كَسَروا كِسرى
وَقَد مَلكوا الدُنيا بأيسرِ مدّةٍ / فَما فَقَدوا يُسرا ولا وجدوا عسرا
حَكى سفَراً في السلمِ سيرُ حروبهم / كأنّهمُ كانوا على عَجَلٍ سَفرا
لَقَد أَثبتوا بالنصِّ والنصرِ حقّهم / وَللدينِ بعدَ النشءِ قَد عمّموا النَشرا
بِقولٍ وفِعلٍ أيّد اللَّه دينهُ / بِهم حينَما أعطاهمُ النصَّ والنصرا
فَأَطلعهُ كالشمسِ في كلِّ بلدةٍ / وَبثَّ بكلِّ الأرضِ مِن نشرهِ عطرا
فَأكرِم بِصحبِ المُصطفى مَعشراً فما / أُنيلَ الحواريّونَ مِن فَضلهم عشرا
بِمَدحي لَهُم كالآلِ تبريدُ غلّتي / وَلي كَبِدٌ من حبهّم أبداً حرّى
جَعلتُ وَلائي للفريقينِ حجّتي / فَمِن بعدِ إيماني أرى كنزهُ ذخرا
فَأحبب بهم قوماً إذا ذكرهُم جَرى / أُحسُّ لجريِ الحبِّ في مهجتي مجرى
وَإِن عابَهم ذو ضِلّةٍ فكأنّهُ / بأَلفاظهِ أَلقى على مَسمَعي صَخرا
فَخيرُ الوَرى بعدَ النبيّينَ آلهُ / وَلا سيّما أبناءُ فاطمةَ الزهرا
فَبالحقِّ فاقوا الخلقَ إِذ كانَ نجرُهم / لِسيّد خلقِ اللّه قاطبةً نجرا
همُ الطيّبون الطاهرونَ فربّنا / مَحا الرجسَ عَنهم حين طهّرهم طهرا
وَلَم يسألِ المُختار من كلّ مؤمنٍ / على الدينِ إلّا أَن يودّهمُ أجرا
وَأَصحابهُ لا يبلغ الناسُ مدَّهم / وَلا نِصفهُ لو أنفقوا أُحداً تبرا
نُجومُ هدىً من شمسهِ اِقتبسوا الضيا / وَقَد نَشروا في الناس أنوارَه نشرا
وَإِن ذُكِرَت بينَ الورى غزواتهُ / فَقدِّم عليها في سماءِ العُلا بدرا
فللَّه مِنها غزوةٌ كلُّ مؤمن / تَحمّلَ مِن نعماءِ أَصحابها وِقرا
وَكانَ عليٌّ حمزةٌ وعبيدةٌ / أَثافيَها إِن كنتَ شبّهتها قدرا
فَسَل عن عُتاةٍ من قريشٍ قليبهم / فَقَد نجّسَت أَشلاؤُهم ذلكَ السرّا
وفي أُحُدٍ رُؤيا النبيِّ تعبّرت / رَأى بَقراً فيها فعبَّرَها بقرا
وَلَو ثبتَت فُرسانهُ عند أمرهِ / لتمّت لهُ لكنّهم خالَفوا الأمرا
وَيا خيبةَ الأحزابِ حينَ تَشتّتوا / وَكانَ عَليهم ريحُ نُصرتهِ صِرّا
وَأَظهرَ دينَ اللَّه في فتحِ مكّةٍ / وَقوّمَ مِن يومِ الحُديبيةِ الظهرا
وَكانَ لهُ فتح الفتوحِ لأنّه / بهِ نصَبَ الإسلامُ رايتهُ الكُبرى
قَدِ اِنكَسَرت فيهِ قُريشٌ وإنّما / بإِسلامها فيهِ غَدا كسرُها جَبرا
وَيومَ حُنينٍ قَد حَباهم بفضلهِ / مَواهبَ مِن غورِ الحَشا سلّتِ الوغرا
وَصاروا لهُ مِن بعدُ من خيرِ جندهِ / وَقَد عَثَروا لكن أقالَ لهُم عثرا
وَفي نُصرةِ الإسلامِ لمّا تَصدّروا / تَبوّأ كلٌّ من محافلهِ الصدرا
وَعادَت ثَقيفٌ أسلَمت باِختيارها / وَمِن قَبلِها عادَت وقَد حُصِرت حصرا
وَأطلقَ في يومِ المُريسيعِ أُسرةً / أسارى وقَد أَمسى لسيّدِهم صِهرا
وَكَم همّ كفّارُ اليهودِ بغدرهِ / فَخابوا وَما نالوا منَ الظفَرِ الظُفرا
وَعامَلَهم بالرِفقِ والحلم صابرا / فَمِن لُؤمهم لم يتركوا الختلَ والخترا
وَمَهما رَأوا منه وفاءً بذمّةٍ / يَرى كلَّ يومٍ مِن خِيانَتهم خفرا
فَلمّا رَآهم هَكذا شرَّ مَعشرٍ / رَأى الحزمَ أَن يَستعمل الحرب والحذرا
فَقنّعَ خِزياً قينقاعَ بنفيهم / وَزوّدهم فَقراً وأسلمهم قفرا
وَأَجلى نَضيراً بعدَ قطعِ نخيلهم / وَأَحرَمهم من لينهِ التمرَ والبُسرا
وَلمّا اِعتَدَت بَغياً قُريظةُ ساقها / إِلى حَتفها للموتِ قَد حُشِرَت حشرا
وَفي نَشرها بالسيفِ نالت جزاءَها / فَما حَمِدت مِن كُفرها الحشرَ والنشرا
وَخَيبَرُ قَد أَلقَت إِليه حصونها / ذَخائرَها وَالنخلُ سلّمه التَمرا
وَشُجعانُها داموا عَبيداً له بها / مَساحيهمُ أنستهمُ البيضَ والسمرا
وَكانوا ذَوي كرٍّ وفَرٍّ لدى الوغا / فعوّضَهم في حقلهِ الكرَّ والفرّا
وَكانوا بِأعلى مَنعةٍ مِن حُصونِهم / وَلَم يرهَبوا مِن حِرزِها الليثَ والنَسرا
فَلمّا غَزاهم لَم تُفِدهم وأَشبهوا / أَرانبَ مِن خَوفٍ بها لَزِمت وكرا
وَسالَ عَلى وادي القرى سيلُ جيشهِ / فَأجرى بِها ما كانَ في خيبر أجرى
وَساقَ السَرايا للأعاربِ حولهُ / فَما تَركوا لِلشركِ في أرضِهم سورا
وَأَرسلَ مِن أصحابهِ يوم مؤتةٍ / أُسوداً بأرضِ الشامِ قَد زَأَروا زأرا
فَجرّوا عَلى الجيشِ العرمرمِ ثلّةً / بِها قَصروا من قيصرَ العسكر المجرا
وَكَم أَسلمَت مِن غيرِ حربٍ قبيلةٌ / وَما سَمِعَت إلّا التلاوة والذكرا
بِدونِ قتالٍ آمنت يمنٌ وإذ / غَزا بتبوكَ الروم فرّوا وما فرّا
وَما النَصرُ إلّا اللَّه مانحهُ له / ومِن فوقهِ الأسبابُ أَسبَلَها سترا
وَكَم غمَرت قَوماً غمارُ هباتهِ / وَنالَت وفودُ العربِ نائلهُ الغمرا
وَحَجَّ بعامِ العشرِ أفضلَ حجّةٍ / بِها ودّعَ الأصحابَ وَالبيتَ وَالحِجرا
وَعادَ كبدرِ التمِّ تمَّ كمالهُ / وَفي طيبةٍ صارت سحابتهُ قَبرا
وَما حَجَبت عَن قومهِ غير شخصهِ / وَأَنوارهُ قَد عمّتِ البرّ والبحرا
وَخلّفَ شَرعاً مثله ظلّ هادياً / تَبوّأَ مِنهم في مكانتهِ الصدرا
وَمن قبرهِ خيرِ القبورِ أمدّهم / بِنورٍ وطيبٍ أَخجَلا الزهر والزهرا
فَأعظِم بهِ أفقاً به خير نيّرٍ / بهِ ثغرُ دين اللَّه ما زال مفترّا
أَيا صفوةَ الرحمنِ يا خيرَ خلقهِ / وَأَعظَمهُم فَضلاً وأرفعهم قدرا
لكَ الفخرُ كلُّ الفخرِ إذ كنت عبدهُ / وَسدتَ عَلى كلِّ الأنامِ ولا فخرا
وَكلُّ كَمالٍ في الخلائقِ كلّهم / فَأنتَ لهُ أصلٌ وأنت به أحرى
نَعَم أنتَ مخلوقٌ ولست بخالقٍ / ولكِن لكَ الرَحمنُ قَد وكّل الأمرا
وَسوّاكَ شمسَ العالمينَ مُمدّهم / فلَو فَقَدوا إِمدادها أظلَموا فورا
وَإِنّك عبدُ اللَّه قاسمُ فَضلهِ / عَلى خلقهِ تُعطيهمُ القُلَّ والكثرا
أَقبحُ كلِّ العالمينَ جَهالةً / جَهولٌ لمَن لَم يلفِ مِن غيرهِ خيرا
وَمَهما يَكُن في جَهلهِم بكَ مُنكرٌ / فَأعظَمُ منهُ جهلُهم ربّهم نكرا
قَريباً يزولُ الجهلُ عَنهم مَتى رأوا / لِواءكَ تَتلوهُ شفاعتكَ الكبرى
عَليكَ صَلاةُ اللَّهِ مقدار فضلهِ / تَدومُ تَفوقُ الكمّ والكيف والحصرا
وَمِن عَجبٍ أنّ الخلائقَ كلّهم / وَقَد ظهرَ الإِسلامُ لَم يُسلِموا طرّا
وَكيفَ اِختيارُ العاقِلين لغيرهِ / وَلَو عَلِموا أَسرارهُ رَفضوا الغيرا
فَما عاقِلٌ مَن لَم يُصدّق مُحمّداً / وَبُرهانهُ كالشمسِ قَد ظَهَرت ظُهرا
وَلا سِيّما أهلُ الكتابِ فَكَم رأوا / بَشائرَ مِنها طابقَ الخبرُ الخُبرا
بهِ وَرَدت كتبُ المليكِ لرسلهِ / عَلامةُ صدقِ المُصطَفى فوقَها طرّا
بِخاتمِ رسلِ اللَّه مَختومةً أَتت / فَما تَرَكت لِلجاحِدين له عُذرا
لَقَد عَلِموهُ خاتِماً ذا جواهرٍ / وَلَكنّها في كُتبِهم طُمِرَت طمرا
بِها هو أَغنى المُرسلينَ لأنّها / كُنوزٌ بنَت أسلافُهم فوقَها جدرا
أَتى بعضُها نصّاً صَريحاً وبعضُها / أَتى برموزٍ مِثلَما تقرأُ الجفرا
لَقَد علِموه صادقاً غيرَ أنّهم / لحقدٍ بهم مدّوا له النظرَ الشزرا
وَقَد درّبوا مِن شدّةِ الكفرِ وُلدَهَم / على بُغضهِ مِن حينِ شُربهمُ الدرّا
لِما عَلِموهُ مِن تبلُّجِ دينهِ / فَلا أحدٌ إلّا يراهُ هو الأحرى
وَكَم عاقلٍ منهم تحقّق صدقهُ / ولكِن قضاءُ اللَّه قَد حجَرَ الحجرا
سَلاسلُ أقدارٍ منَ اللَّه حُكّمت / بِأعناقِهم قادَتهم للرَدى قَسرا
عَداوَتهم مَوروثةٌ فَقُلوبهم / حياضٌ منَ النيرانِ قد مُلِئت جمرا
وَكَم مِن فَتىً يَدري بفضلِ عدوّهِ / وَيُبعدهُ الضغنُ الّذي ملأ الصدرا
وَيَصعبُ تغييرُ العقيدةِ بعدما / يَعيشُ عَليها المرءُ في قومهِ عمرا
وَكَم ذا رَأينا عاقلاً منهمُ صحا / وَكانَ بخمرِ الكُفرِ مُمتلئاً سكرا
تَشرّفَ بِالدينِ الحنيفيِّ مُسلماً / وَعاشَ بِفضل اللَّه مُمتلئاً شكرا
وَيا قاتلَ اللَّهُ اليهودَ فَإنّهم / أَشدُّ الوَرى كُفراً وَأَخبثُهم مَكرا
عَقيدَتُهم في اللَّه شرُّ عَقيدةٍ / تَنزّهَ عَنها ربّنا وعلا قدرا
وَقَد حرّفوا مثلَ النَصارى كِتابهم / وَزادوا حُروفاً حِبرُها لعنَ الحبرا
وَأَفحشُها يعقوبُ صارعَ ربّه / فَيا بِئسَ هَذا القول مِن فريةٍ تُفرى
عَقيدتُهم تَجسيمُ ما يعبدونهُ / فَكَم عَبدوا جِسماً وَكَم كَفروا كفرا
سَجيّتهم فعلُ الخناءِ وَدينهم / كَأنفسِهم خُبثاً حَوى العارَ والعُرّا
فَلا تَعجَبَن مِن قرفهم أنبياءَهم / وَهُم خيرُهم نَفساً وأطهرهم أزرا
فَفي طَبعهم بغضُ الخيارِ لأنّهم / على الشرِّ والشنّار قد فُطِروا فطرا
وَلا عجَبٌ إِنكارهم لمحمّدٍ / وَقَد فَعلوا من قبلُ في الأنبيا النُكرا
وَكَم أَسفَرت فيهِ بأسفارِ دينهم / بَشائرُ لَكن لَم تجِد عندَهم بِشرا
وَكَم شاهَدوا منهُ شواهدَ جمّةً / زَواهرَ يَعلو نورُها الأنجمُ الزُهرا
وَمَهما يَزِدهُم مِن محاسنِ خيرهِ / يزيدونهُ مِن قُبح إِنكارِهم شرّا
وَكَم أَظهَروا بِالجهرِ حفظَ عهودهِ / منَ الخَوفِ واِختاروا خيانتهُ سرّا
فَأَفناهُمُ بِالقتلِ والنفيِ آخِذاً / لِعيسى وباقي الأنبيا منهم الثأرا
فَكَم مِن نَبيٍّ منهمُ فَتكوا بهِ / فَكانوا وَما زالوا أشدَّ الورى خسرا
وَمِن سادةِ الأحبارِ قد حلّ حبُّهُ / قُلوباً بنورِ العلمِ قَد عُمِرَت عمرا
فَجاؤوا إِليهِ مُسلمينَ لمَا رأوا / بَشائرهُ في كُتبِهم بهَرَت بَهرا
مُخيريقُ بحرِ الجودِ مِنهم وَحبرُهم / فَتى العلمِ عبدُ اللَّه أكرِم به حبرا
وَكَم مِن يَهودٍ صدّقوا سيّدَ الورى / وَلكنّهم كانوا بِنسبتهم نزرا
وَمُؤمنهُم إِيمانهُ ضدّ طبعهِ / وَكافِرُهم بالطبعِ قد ناسبَ الكفرا
خَبائثُهم لا يَنتَهي وصفُ رِجسها / فَكم لوّثوا عَصراً وكم لوّثوا مِصرا
وَقَد مُسِخَت مِنهم خنازيرُ جمّةٌ / وَبَعضٌ غدا قرداً وبعضٌ غدا فأرا
لَقَد شَمِلتهم لعنةٌ بعد لعنةٍ / منَ اللَّه مَغضوبين قَد دُحِروا دحرا
فَدَعهم فإنَّ اللعنَ أَعمى قلوبهم / بهِ عَن شهودِ الحقِّ قَد قُصِروا قصرا
وَقُل للنَصارى ما لكم مع عُقولكم / وَقَد ظهرَ الإسلامُ ولّيتمُ الظَهرا
فَأَنتُم إذاً مثلُ اليهودِ بِجَحدكم / كِلاكُم عنِ الحقِّ المُبينِ قد اِزورّا
أَما عجَبٌ منكُم جحودُ محمّدٍ / وَقَد بَهَرت آياتهُ الشمسَ والبدرا
وَقَد قالَ إنّي مُرسلٌ مِن إِلهكم / فَصدّقه لمّا أتاحَ له النصرا
وَأَنتُم رَأيتُم نصرهُ وسمعتمُ / وَآثارهُ قد عمّتِ البحرَ والبرّا
أَتى الخلقُ بالدينِ القويمِ مُهذّباً / منَ اللَّه إنّ اللَّه لا يشرعُ الهذرا
وَليسَ لَكُم عذرٌ بتركِ اِتّباعهِ / فَإِنجيلُ عيسى عنه صرّحَ بالبشرى
وَتوراةُ موسى قَد تحلّت بذكرهِ / فَكَم زيّنت رُؤيا له عُبرت عبرا
وَدَعوةُ دينٍ ليس تبقى لكاذبٍ / ثلاثينَ عاماً قَد جرى ذلك المجرى
وَدَعوتهُ دامَت وَعمّ اِنتِشارها / سنينَ مئاتٍ أربعاً تتبع العشرا
وَبشّرَ نَسطوراً بهِ ونظيرهُ / بَحيرا وكلٌّ كان في علمه بحرا
وَمِن بيّناتِ الصدق أَعطاهُ ربّهُ / دَلائلَ يَعلو نورُها الأنجمَ الزهرا
وَكَم مِن نَبيٍّ تُؤمنون ببعثهِ / وَما نالَ مِن مِعشارِ آياتهِ العُشرا
وَملّتهُ كالشمسِ في الكونِ أَشرَقت / وَقَد نَسَخت أنوارُها المللَ الأخرى
بِها جمعَ اللَّه المَحاسنَ كلّها / وَقدّسَها القدّوسُ عَن كلّ ما أزرى
وَها أَنا قَد أَوضحتُ ما هو واضحٌ / لَكُم مِن هُدى الهادي وملّته الغرّا
وَبيّنتُ مِن آفاتِ ملّتكم لكم / عجائبَ لا تُبقي لِتابعها عذرا
بَذلتُ لكُم منّي نَصيحةَ مُشفقٍ / وَلا أَبتَغي شُكراً لديكم ولا أجرا
وَلَكن بودّي أنّ دين محمّدٍ / تعمُّ جميعَ الناسِ نعمتهُ الكُبرا
أَجيراننا واللَّه إنّي لَخيركم / مُحبٌّ كنفسي إِذ أُحبُّ لَها الخيرا
أَلا اِنتبِهوا مِن قبل أن تَتَنبّهوا / بِموتٍ ترَونَ الأمرَ مِن بعدهِ مرّا
نَراكُم أدقّ الناسِ فِكراً بصنعةٍ / وَأبلدَ خلقِ اللَّه في ربّكم فكرا
نَرى لكمُ عَقلين عَقلاً لدينكم / وَعَقلاً لِدُنياكم بها زندهُ أورى
وَأمّا الّذي لِلدين فهوَ عِقالكم / عَنِ الحقِّ مَأسورين في قيدهِ أسرا
وَقَد كنتمُ مِن قبل تخفونَ دينكم / حَياءً فلا أدرى لمَ اِخترتمُ النَشرا
وَيا لَيتَكُم أبقيتموهُ مُحجّباً / فَمِن فطنةِ الشوهاءِ أَن تلزمَ الخِدرا
وَواللَّه لَولا أنّكم تَنشورنهُ / لَنا وَكَشفتُم عَن مَعايِبه السِترا
لَما كانَ ذو عقلٍ يَرى أنّ عاقلاً / يَدينُ بهِ مَهما غَدا عقلهُ نزرا
إِذا كانَ فضلُ السبقِ يَحمِلكم على / بَقاءٍ على الدين القديم وإن أزرى
فَكونوا يَهوداً واِعملوا باِعتقادهم / بِعيسى وإلّا فاِتبعوا الملّة الغرّا
أَلَم تَنظروا يا قوم دينَ محمّدٍ / وَفي أُفقهِ شمسُ الهُدى سفَرت سفرا
جَعَلتُم إلهَ العالمينَ ثلاثةً / غَلِطتُم فإنّ اللَّه لا يقبلُ الكُثرا
وَإِذ قلتم كَي تُصلِحوا فحشَ غيّكم / ثَلاثَتها فردٌ غدا أمركم إمرا
ثَلاثتُها فردٌ وفردٌ ثلاثةٌ / فَيا لك زوراً صيّر العقلَ مُزورّا
وَلا عذرَ عندَ اللَّه والعقلِ لاِمرئٍ / يَدينُ بأنّ اللَّه قَد حلّ في العذرا
وَلكنّ روحَ القدسِ إذ جاء نافخاً / بِها حَمَلت عيسى وما بَرِحت بكرا
وَأَلقتهُ طِفلاً مثل أبناء آدمٍ / وَما زادَ شَيئاً عن سواه ولا ظفرا
وَبالدرِّ غذّتهُ فللَّه درّهُ / نَبيّاً كَريماً كان في أمِّهِ برّا
وَقَد كانَ مثلَ الناسِ في كلِّ حاجةٍ / فَيأكلُ مُضطرّاً ويخرجُ مُضطرّا
وَإِن كانَ مِن أمٍّ أَتى دون والدٍ / فَآدمُ من فخّارةٍ أحرزَ الفخرا
وَحوّاءُ في عكسِ المسيحِ تخلّقت / فَلا أمَّ بَل من ضلعِ آدَمها اليُسرى
ثَلاثةُ أَقسامٍ ورابعُها الّذي / بَرا اللَّه مِن أبناءِ آدمَ أو يبرا
وَلَو لَم يَكُن عيسى بَرا اللَّه غيرهُ / لِتكملةِ الأقسامِ أربعةً حصرا
وَذاك دليلٌ أنّه قادرٌ على / خلافِ الّذي فيه عوائدَهُ أجرى
ولمّا حباهُ اللَّه منه نبوّةً / بِها فاقَ كلَّ الخلقِ في عصره خيرا
أَرادتهُ لِلقتلِ اليهودُ فحافهم / عَلى نفسهِ تلكَ النفيسة أن تُزرى
فَصارَ يُنادي مُستَغيثاً بِربّه / وَقادوهُ رَغماً عَن إِرادتهِ جَبرا
وَقَد وَضعوا إِكليل شَوكٍ برأسهِ / شرارُ الوَرى حتّى بهِ سَخروا سخرا
وكانَ له حزبٌ ضعيفٌ فعندما / أَحاطَ بهِ أعداؤهُ للرَدى فرّا
وَساقوهُ مَكتوفاً عليه صليبهُ / إِلى أَن علا في زَعمهم فوقَهُ قَسرا
وَقَد حاوَلت فيهِ النَصارى عقيدةً / لأن يَجعَلوا فوقَ الهوانِ له سِترا
فَقالوا جَرى ما قد جرى باِختيارهِ / لَقَد أَخجلوا وجهَ الحقيقة فاِحمرّا
فَإن كانَ حقّاً ما جَرى باِختيارهِ / فَما بالهُ قد أظهرَ الخوفَ والذُعرا
وَإِن كانَ مَسروراً بقهر عدوّهِ / لهُ فَلِماذا لم يكُن يظهرُ البِشرا
وَقَد كانَ في حزنٍ عظيمٍ فما لنا / نَرى حزبهُ هذا بنكبتهِ سُرّا
وَهبهُ عَلى ناسوتِهِ كان جارياً / فَكيفَ منَ اللاهوت لم يجدِ النَصرا
وَمَع كونِ كلِّ شَطر كلّ بمزجهِ / فَكيفَ بهِ ما حازَ من صلبهِ الشطرا
وَإِن كانَ هذا كلّه كانَ باِبنهِ / فَكيفَ تخلّى عنه أو وجدَ الصبرا
أَما يَستحقُّ الذمَّ يا قوم والدٌ / أَعزُّ بنيهِ لا يشدُّ به أزرا
عَجائِبهم لا تَنقضي فبحزنهِ / لهُم فَرحٌ والكسرُ كان لهم جبرا
وَقَد جَعلوا عيداً لهم يوم صلبهِ / فَكم طَبلوا طبلاً وكم زمروا زمرا
فَيا قومِ هذا يومُ أحزانِكم أما / لَديكم عقولٌ تفرقُ الخير والشرّا
لَعَمري وعمر الحقِّ إنّ فعالكم / دَلائلُ قَطعٍ أنّ في عقلكم عقرا
فَحظّكم حظرٌ لما جوّزَ النُهى / وَجوّزتمُ ما كانَ عندَ النهى حضرا
تَقولونَ ربٌّ ثمّ قلتم عبيدهُ / شرار الوَرى جاروا على صنعته جورا
وَما يَستحقُّ اِسم الإله سِوى الّذي / تَعالى اِقتداراً أن يُهان وأن يُزرى
أَلا أَخبرونا هل سَمِعتم بمعشرٍ / سِواكُم رَأوا في صلبِ ربّهمُ فخرا
فَهذا اِعتقادُ القومِ والحقُّ أنّه / دَعا ربّهُ فَوراً فخلّصهُ فَورا
وَأَلقى عَلى من خانهُ شَبهاً به / فَكانَ هو المصلوبَ إذ دلّهم غدرا
وَأمّا المسيحُ الحقُّ فاللَّه خصّه / بِرفعٍ إليهِ حيثُ بالمُصطفى أسرى
هَنيئاً لهُ مِن مُرسلٍ عند ربّهِ / بِأهنأِ عَيشٍ لا يجوع ولا يعرى
وَأكرمهُ أحلى الكرامة بَعدما / قَضى مرَّ عيشٍ بين أعدائهِ مرّا
وَكَم مِن دَعاوٍ يدّعونَ لصلبهِ / تودُّ لَها الأسماعُ أَنّ بِها وقرا
يَقولونَ كلُّ الناسِ مِن نسل آدمٍ / بِزلّته في سجنِ إبليسَ قد قرّا
إِلى أَن أَتى عيسى فَداهُم بِنفسهِ / وَأَبدَلهم بالعسرِ مِن سِجنهم يُسرا
وَما ذَنبُهم إِن كانَ آدمُ قَد جنى / نَعَم قَد جَنى واللَّهُ قَد جبرَ الكسرا
وَيَحملُ إِن لم ينف مَولاهُ وزرهُ / فَما بالُهم قَد حمّلوا غيرهُ الوِزرا
وَيُمكنُ عفوُ اللَّه عَن كلِّ مُذنبٍ / وَما يَقتَضي أَن يركب المركبَ الوعرا
رَمى نفسَهُ بالصلبِ والضربِ والأذى / وَما أذنَبت يا بئسَ ما مَعها أجرى
وَأَظلم كلّ الناسِ ظالم نفسهِ / بإهلاكها حتّى بها قد وَقى الغيرا
فَإن لَم يَكُن خيرٌ لديه لنفسهِ / فَهل أحَدٌ منه يَرى بَعدها خيرا
وَإِن كانَ شرّ العالمين لنفسهِ / فَمَن ذا الّذي مِن نحوهِ يأمنُ الشرّا
وَلَو صحَّ هَذا لاِقتضى فيهِ أنّهُ / أَقلُّ الوَرى عَقلاً وأضعفُهم فكرا
وَأَفعالهُ مثلُ المَجانين ما لها / لَدى عقلاءِ الناس من حكمة تدرى
فَما لِلنَصارى يثبتونَ اِحتقارهُ / وَقَد زَعموا أَيضاً ألوهتهُ الكُبرى
وَحاشاهُ مِن هذا وذاكَ وكلّ ما / عَلا عنهُ مِن وصف الألوهةِ أو أزرى
كِلا طرفَي حقِّ النبوّة باطلٌ / فَمَن زادهُ قَدراً كمن زادهُ حقرا
أَليسَ إِذا ما قلتَ للعبدِ سيّدٌ / تَكونُ بهِ في حقّهِ ساخِراً سخرا
إِلى اللَّه مِن خفضِ اليهودِ لقدرهِ / بَرئتُ وَمِن رفعِ النَصارى له أَبرا
وَلكنّهُ مِن سادةِ الرسلِ سيّدٌ / وَأَرفعُ خلقِ اللَّه في عصره قدرا
نَبيٌّ رسولٌ مِن أُولي العزمِ كلّنا / نُواليهِ والأَولى به صاحبُ الإسرا
عَليهِ مِن اللَّه السلام يحوطهُ / وَيدفعُ عنهُ ذلكَ الزورَ والإزرا
وَواللَّه إنّي في المنامِ رأيتهُ / كَما وصفَ المُختارُ ذا طلعةٍ حمرا
وَخاطبتهُ في بعضِ شأنٍ قصدتهُ / لَهُ خدمةً منّي له فليَ البشرى
وَقَد عبَدوا شكلَ الصليبِ كأنّه / إِلهٌ وأنّ اللَّه سلّمه الأمرا
وَما هوَ إلّا قِطعتا خشبٍ علت / بِعرضٍ على إحداهُما القطعةُ الأخرى
بِصورةِ إنسانٍ ولكنّ رأسهُ / وَكفّيهِ وَالرجلين قد بُتِرَت بترا
قَدِ اِلتَصَقت فَخذاه والساقُ واحدٌ / وَمدَّ يديهِ باليمينِ وَباليُسرى
فَلا قَدمٌ يَسعى بِها فهو مُقعدٌ / وَأقطع لا شبراً حواه ولا فترا
وَإِنّا نراكُم تنظرونَ عيوبهُ / مَحاسنَ مسحورينَ في شكلهِ سحرا
وَهَب أنّ أوصافَ الألوهة قد سرت / بِعودٍ عليه ذلكَ الجسمُ قد قرّا
فَمِن أينَ جاءَت كلّ شيءٍ مصلّبٍ / وَمِن ذاتهِ ما مسّ بطناً ولا ظهرا
وَمِن أينَ حلّت في إِشارَتكم بهِ / عَلى جِسمِكم تستدفعونَ بهِ الشرّا
أَفي كلِّ شَيءٍ ناقضَ العقلَ دينكم / كأنَّ عليكم في وِفاقِ النُهى حجرا
مَتى أحَدٌ مِنكم رأى قطّ واحداً / رَأى مِن صليبٍ قَد تقلّدهُ خيرا
فُتِنتُم بهِ مِن غيرِ أسبابِ فتنةٍ / يُقالُ لأهليها لعلَّ لَهُم عُذرا
هوَ الوثنُ الأعلى الّذي عمّ شرّهُ / فَما اللات وَالعزّى وثالثةٌ أخرى
فَلَم يُرَ في الأكوانِ شكلٌ كشكلهِ / بِفتنتهِ الشيطانُ قَد نَشرَ الكفرا
وَلَم يُر في الأوثان في كلّ بلدةٍ / بِها عُبِدت ما حازَ من شرّه العشرا
فَلا غروَ أنّ المُصطفى كانَ عندَما / يَرى شكلَهُ في الشيءِ حوّله غَيرا
لَقَد كانَ يَشكو الجورَ لو كانَ عاقلاً / فَقَد حمّلوهُ مِن غَرائِبهم إِصرا
فَطَوراً ترى مثواهُ فوقَ رؤوسهم / وَطَوراً تراهُ تحتَ أَقدامِهم خَصرا
وَكَم عَبدوا وسطَ الكنائسِ شكلهُ / كَصورةِ عيسى وَالحَوارين والعذرا
فَهَذي هيَ الأوثانُ وهيَ بيوتها / وَكَم أَنفقوا تِبراً وكم نَذروا نذرا
فَما بالُهم قَد أَلحقوا الذمّ كلّه / بِمَن عَبدوا الأصنامَ والعجلَ والثورا
أَما يُنصِفونَ القومَ فالأمر واحدٌ / كِلاهم عنِ الدينِ القويم قد اِزورّا
وَسيّدنا عيسى بَريءٌ وأمّه / منَ الشركِ أو أن يَمنحا مُشركاً شكرا
وَكَم فَتياتٍ راهباتٍ وفتيةٍ / رَهابين من زهدٍ بِهم سَكنوا دَيرا
وَيا حبّذا تلكَ الفعالُ لو اِنّها / تَكونُ معَ الإسلامِ نالوا بها أجرا
وَلَكنّهم مَع شِركهم بإِلههم / وَلَم يُؤمِنوا بالمُصطفى ضيّعوا العُمرا
فَوا أسفا من حَبسهم لنفوسهم / لَقَد خَسروا الدُنيا وما ربحوا الأخرى
وَلكنّهم كفّوا عنِ الخلقِ شرّهم / وَما أَوصَلوا للناسِ نفعاً ولا ضرّا
فَلَو كانَ تركُ الشرِّ يَقضي بشكرهم / عَلى ما بِهم أكثرتُ في حقّهم شُكرا
وَشبّه إِذا ما شئتَ بالضبِّ بعضهم / ثَوى لِخداعِ الناس من ديره جحرا
وَمِنهم قسوسٌ خالَفوا الناس للأذى / وَجرّوا علَيهم مِن لَظى غيّهم جمرا
رَموا بِسهامِ الخبثِ في كلّ بلدةٍ / كَسلحِ الحَبارى حينَ ترمي به الصَقرا
وَقَد زَعَموا التبشيرَ لكنَّ ربّنا / يُكذِّبُهم إِذ قالَ في الذكر لا بُشرى
فَيا بئسَ هُم مِن مُجرمينَ جَزاؤُهم / سُجونٌ من النيرانِ تحجرهم حجرا
أَضرّت بِهم أنوارُ دين محمّدٍ / فَهرّت منَ الأنوارِ أكلبهم هرّا
وَكَم نَبحوهُ وَهو في الأفق طالعٌ / وَلكنَّ نبحَ الكلبِ لا يصل البدرا
وَما ساءَني إِغواؤهم لمعاشرٍ / منَ الناسِ ضلّوا أبدلوا كفرَهم كفرا
وَلكنّهم عاثوا وَلاثوا وأفسدوا / وَشنّوا على الإسلامِ من شركهم شرّا
أُولئكَ أقوامٌ إذا قال قائلٌ / همُ شرُّ خلقِ اللَّه قلتُ له جيرا
وَمِن أعجبِ الأشياء خبزٌ وخمرةٌ / إِذا طفقَ القسّيسُ فوقهما يقرا
يَصيرانِ حالاً لحمه ودماً له / فَأعجِب بهِ خُبزاً وأعجب بها خمرا
أَما يَستحيلُ اللَحمُ والدمُ في الحشا / إِلى قَذرٍ لا أَستحبُّ لَه ذكرا
فَهَل أحَدٌ في الكونِ يرضى لنفسهِ / بِهذا فَيرضى الربُّ سُبحانهُ برّا
وَكَم قَد أتى في الأرضِ منهم طوائفٌ / إِلى عصرهِ عصرٌ قَفا قبلهُ عصرا
فَلَو أَكلوا عيسى وَآلافَ مثله / لَما كانَ يَكفيهم عشاءً ولا فطرا
وَلَو شَرِبوا أَضعافَ ما فيه من دمٍ / لَما كانَ يرويهِم وَلو قَد جَرى نَهرا
رَوى لهمُ الراوونَ عنه مقالةً / كُلوا واِشربوا لَحمي دمي الخبزَ والخمرا
فَإن قالَ ذو عقلٍ لهم إنّ قولهُ / مَجازٌ بِمَعنى أَن يُديموا له الذِكرى
وَخَصّص قوتاً ليسَ يُنسى بحالةٍ / لِذكراهُ كلُّ الناسِ لا زال مضطرّا
يَقولونَ بَل هذا الحقيقةُ عينُها / دَماً شَرِبوا منه وقد أكَلوا هبرا
وَمَن لَم يُكذّب حسّه باِعتقادهِ / وَيَرضى بِهذا ينسبونَ لهُ الكُفرا
فَلَم يبقَ مِنهم عاقلٌ غير كافرٍ / وَأصبحَ زِنديقاً إذ اِستقبَح الأمرا
مَتى كانَ شرطُ الدين جنّة أهلهِ / وَإِن أعمَلوا فِكراً به عملوا كُفرا
مَتى كانَ شرطُ الدين إن قالَ قِسُّهم / لِزنجيّةٍ شَقرا يقالُ نعَم شقرا
فَلا تلمِ الدهرين إِن سَخِروا بهم / وَإِن خَسِروا أيضاً فمن جهةٍ أخرى
وَلا تَنسَ خنقَ القسِّ مَن كان مُشرفاً / عَلى موتهِ إِن كان بالظنِّ لا يبرا
يمدُّ يديهِ قابضاً فوق حلقهِ / لِيقبضَ تلكَ الروح يعصرهُ عصرا
يَقولونَ إِن لم يقبضِ القسُّ روحه / يُباشِرُها الشيطانُ يَأخذُها قهرا
وَيَبقى بنيرانِ الجحيم مخلّداً / وَإِن كانَ أَتقاهم وأكثرهم برّا
وَأَخبَرني منهم فتىً فرّ هارباً / فَعاشَ زَماناً طال من بعد أن فرّا
وَيا ليتَ شعري كَم قتيلٍ معلّقٍ / بِرقبةِ ذاكَ القسِّ قَد جرّهُ جرّا
وَهل يُعجِزُ اللَّهَ الشفاءُ وإنّه / لَيُحيي الّذي من ألف عامٍ ثوى قبرا
وَكَم مِن مَريضٍ آيسٍ من حياتهِ / وَبتّ كثيرٌ من أطبّائه العُمرا
شَفى سُقمه الرحمنُ مِن مَحضِ لطفهِ / وَعمَّره من بعدِ أَن يَئِسوا دَهرا
وَإِذ عجَزت عنهُ صناعةُ طبّهم / أَجابوا نَعم فوقَ الصناعةِ قَد يَبرا
وَمِن أَقبحِ الأشياءِ حسناء غداةٌ / كأنَّ بِعَينيها إِذا نَظرت سحرا
مَحاسِنُها تزري بأحورَ مائسٍ / رَنا واِنثَنى كالسيفِ وَالصعدةِ السَمرا
سَبى الناسَ مِنها رِدفُها وَقَوامُها / وَوَجنَتُها الحَمرا وَمُقلتها الحورا
تَجيءُ عَليها الحليُ والحللُ اِنجلت / مُعطّرةً مصقولةً صفّتِ الشعرا
بِها يَختلي قِسّيسُها وهوَ أعزبٌ / شَقاشقهُ مِن توقهِ هدَرت هدرا
فَتَعترفُ الأُنثى له بذنوبها / ولَو بِالزِنا سرّاً ليمنَحها الغفرا
وَلا جائزٌ منهم هجومٌ عليهما / وَلَو بَقِيا في السرِّ وَحدهما شهرا
وَربَّ اِمرئٍ من غير قصدٍ عراهما / فَشاهدَ مَدهوشاً بعروتها الزرّا
وَمَن لَم يَكُن يُجري اِعترافاً كهذه / فَذلكَ أَشقى القومِ أعظمهُم وزرا
فَأفٍّ لدينٍ يهتكُ العرضَ بالرِضا / وَيوهمُ ربَّ العرض أنّ لهُ أجرا
مَساكينُ أهل العقلِ منهُم فكَم رَأوا / مَناكير لكن ما اِستَطاعوا لها نُكرا
وَلَو تُرِكوا فيما أرادوا وَعَقلهم / لَمالَ إِلى الإسلامِ جُمهورُهم جهرا
وَلَكن بحُكمِ الإرثِ للدينِ قلّدوا / رَهابينَهم مَهما رَأوا طعمهُ مرّا
فَعاشوا نَصارى ظاهرينَ بِدينهم / وَليسَ لَهُم دينٌ إذا كوشِفوا سرّا
وَمِنهم نَرى في كلِّ وَقتٍ جماعةً / بِإِسلامِهم نالوا السعادةَ والفخرا
وَكَم بَينَنا مِن مُسلِمين جُدودُهم / نَصارى على الشيطانِ قَد أَحرزوا النصرا
وَقامَ بِهم قَومٌ غَدا كلّ واحدٍ / عَلى نفسهِ في حكمِ مَذهبهِ حبرا
وَقَد قَطعوا ما بينَهم من علائقٍ / وَبينَ رَهابين بها اِستَعبَدوا الحُرّا
وَقَد نَبذوا ما أظهَرَت من زوائدٍ / مَجامِعُهم ممّا بهِ أثقَلوا الظَهرا
وَضمّوا إلى التوراةِ إِنجيلَهُم فقط / بِها وبهِ أحكامُهم حُصِرَت حَصرا
وَتَحريفُ هذي الكتبِ أيضاً محقّقٌ / فَقَد نَسبت للأنبيا الفسقَ والكُفرا
فَيلزمُهم أَن يَحذِفوا كلّ شرّها / وَأَن يَقصُروا في الخيرِ مضمونها قصرا
وَلَو فَعلوا هذا لما كانَ كافياً / إِذا لَم يكُ الرحمنُ في دينِهم وِترا
وَلَو فَعَلوا هَذا وذاكَ لَما نجَوا / إِذا لَم يَدينوا دينَ ملّتنا الغرّا
فَما برحَ التثليث للَّه دينهم / وَصلب الّذي يدعون ربّهم قهرا
وَيا حبّذا لو هُم أتمّوا فأَلحقوا / بِما قَطعوهُ مِن زوائدهِ الخدرا
فَكلُّ بلاءِ الدين باقٍ بحالهِ / وَما حَذفوهُ منه أيسره شرّا
فَما برحَ الإصلاحُ في الدين ناقصاً / كأنّهم لَم يَفعلوا ذلك الخيرا
وَما ثمّ إِصلاح سِوى دين أحمدٍ / وَقَد عَزفوا لكنّهم كابروا كبرا
تَقولونَ فوقَ العقلِ أسّس دينكم / صَدقتُم فماتَ العقلُ من تحته حَصرا
فَعِشتُم بِلا عقلٍ تدينون ربّكم / بهِ وعليهِ دينكم قَد غَدا قَبرا
وَهَذا كلامٌ ديّروهُ لدينهم / يقيهِ لأنّ العقلَ يرمي به دبرا
وَلَو كانَ فوقَ العقل لم تك مدركاً / وقَد أَدركت منهُ النُهى كلّ ما أزرى
نَعَم هوَ ضدُّ العقلِ ما هو فوقه / وَأَحكامهُ في اللَّه أعظمها نكرا
وَأَشكل معناهُ لدى كلّ عاقلٍ / وَشاكلَ في آفاتهِ لبُّهُ القشرا
وَما خيرُ دين ليسَ تُدركه النهى / تَغورُ عَلى أَغوارِ أسراره غورا
وَلَكنّ فضلَ الدينِ يبدو إذا أتت / عليهِ عُقول الناس تسترهُ سترا
كَما أنَّ دينَ اللَّه دين محمّدٍ / لَهُ يسّرَ المَولى أئمّته الغرّا
لَهُ صنّفوا فِقهاً حَديثاً تصوّفاً / عَقائد تفسيراً بإِسنادها تُدرى
وَقَد شَغلوا الأعمارَ في درسهم له / بِآلاتهِ حتّى بهِ اِستغرَقوا الدهرا
وَقَد ضَبطوا بالنقلِ والعقل شرعهُ / فَدامَ عَلى أوصافهِ ذهباً نضرا
وَكيفَ بِلا عقلٍ يكون تديّنٌ / إِذاً كلّفوا المجنون والطفل والعيرا
أَليسَ مدارُ الدين عقلاً مكمّلاً / لِيُدركَ حكمَ اللَّه والنهيَ والأمرا
عِبارة فوقَ العقل سجنٌ مضيّقٌ / لَقَد حَصروهُم في مضايقهِ حصرا
نَعَم ربّنا فوقَ العقول بذاتهِ / حَقيقتهُ غَيبٌ عن الخلقِ لا تُدرى
وَكلُّ الوَرى في كنههِ ذو جهالةٍ / حَيارى فإنّ اللَّه يَدري ولا يُدرى
وَلكنّنا نَدري بتعريفهِ لنا / كَمالاتهِ والكونُ عن نورهِ اِفترّا
وَأَنتُم وَصفتم ربّكم بمعايبٍ / تُلامونَ لو كُنتم وصفتم بها هرّا
وَهل جائِزٌ أَن يجعلَ اللَّه دينه / يَعودُ عليهِ بالحقارةِ والإزرا
فَشتّان دينُ اللَّه دين محمّدٍ / وَما شاركَ القسّيسُ في و?