صيّركَ الحسن أميرَ الوجود
صيّركَ الحسن أميرَ الوجود / والشعر من درّاته كَلَّلَك
مستلهماً منك معاني الخلود / فكل تاجٍ في العلى منك لك
فَنَاهِبٌ برق الثنايا العذاب / وسارقٌ ياقوتةً من فمك
وكل تغريد الهوى والشباب / أغنيّةٌ حامت على مبسمك
وذلك الماس الرفيع السنا / والجوهر الغالي الذي صِدتُهُ
أرفع من فكر الورى مَعدِنا / وكل فضلي أنني صُغتُهُ
لا فكر لي عشتُ على فكرتك / أقبس ما أقبس من غُرَّتك
ودمعتي تقتات من عبرتك / فانظر بمرآتي إلى صورتك
أشقانيَ الحبُّ وقلبي سعيد / يَعُدُّ هذا الدمع من أنعمك
أجزلُ ما كافأ هذا الشهيد / بلوغُه المجد على سُلَّمك
لا شيء من يوم النَّوى منقذي / إني امرؤٌ عنك وشيك المسير
وأنت باقٍ والجمال الذي / غنّى به شعري ليومي الأخير
انظر إلى آيات هذا الجمال / ترتدُّ عنها عاديات البلى
عاجزةَ الباع ويأبى الزوال / لوردةٍ من عَدن أن تذبلا
للأنفس الظمأى إِليك التفات / ولهفةٌ ملءَ اللّحاظ الجياع
ولي التفاتٌ لسري الصّفات / واللؤلؤِ اللّماح خلف القناع
قلبي مع الناس وفكري شَرود / في عالمٍ رَحب بعيد الشِّعاب
عيني على سرٍّ وراء الوجود / وبغيتي عرشٌ وراء السحاب
كم طرت بي واجتزت سور الضباب / والضوء ملء القلب مِلء الرحاب
وعدت بي للأرض أرض السَّراب / والليل جهمٌ كجناح الغراب
أريتَني الغيب الذي لا يُرى / كشفتَ لي ما لا يراه البصر
ثم انحدرنا نستشفُّ الثرى / علّ وراء التُّرب سرَّ السفر
صدري وسادٌ زاخرٌ بالحنان / تصوُّري أعجب ما في الزمان
موج على لُجَّته خافقان / قَرَّا على أرجوحةٍ من أمان
كمركب في البحر يومَ اغتراب / ما أبعد المحنة بعد اقتراب
هيهات يُنجِي من شطوط العذاب / إلا عبابٌ دافقٌ في عباب
ملأتُ كأسي وانتظرت النديم / فما لساقي الرُّوح لا يُقبل
شوقي جحيمٌ وانتظاري جحيم / أقلُّ ما في لفحِهِ يقتل
أنت كريم الودّ حُلو الوفاء / فما الذي عَاقَكَ هذا المساء
وما الذي أخَّر هذا اللقاء / وحرَّم النبع وصدَّ الظِماء
أذمّ هذا الوقت في بُطئِهِ / آخرهُ يعثُر في بَدئِهِ
لله ما أحمل من عِبئِهِ / وما يُعاني القلب من رُزئِهِ
تدقُّ فيه ساعةٌ لا تدور / وإن تَدُر فهو صراعُ اللُّغوب
رنينُها يُقلق صُمَّ الصدور / وطَرقُها يقرع باب القلوب
يا ذاهباً لم يَشفِ مني الغليل / ما أسرع العقربَ عند الرحيل
هتفتُ قف لم يبق إلا القليل / وكل حيٍّ سائرٌ في سبيل
يومٌ تولّى أو ظلامٌ سجا / كلاهما بالقرب منك انتصار
أأحمد اليوم تلاه الدُّجى / أم أحمد الليل تلاه النهار
إن نَوَّر النجم به مرَّةً / فإن إشراقَك لي مرّتان
وكيف يُبقى الشكُّ لي حيرةً / ولي على برج المنى نجمتان
فهذه تلمع في خاطري / مِلءُ دمي إشراقُها والبهاء
وهذه تُومِئُ للساهر / والليلُ صافٍ وأديم السماء
وهذه تجلو كثيف الغيوم / وهذه تَدرَأُ عني الهموم
وتَمحق الحزن وتَأسُو الكلوم / فما الذي أجرَى دموع النجوم
هيهات أنسى دُرَّة الأنجم / إِليَّ من آفاقها ترتمي
وفي جريحٍ أعزلٍ تحتمي / من أي هولٍ هي لم تعلمِ
إنَّ ضلوعاً تحتمي في ضلوع / مقادرٌ ليس بها من رجوع
أخلدُ أصفاد الجوى والنزوع / هوى الحزانى وعناق الدموع
رضيت بالدهر على ما جَنَى / وأُبتُ بالحكمة بعد الجنون
ومرّ يومي هادئاً ساكناً / وأيُّ شيءٍ خادع كالسكون
أرنو إلى الصحراء حيث الرمال / نامت كأنَّ اللفح فيها ظلال
يا ليت لي والدهر حالٌ وحال / من وقدة الإِحساس بعض الكلال
فأقبلُ الدنيا على حالها / مسلِّماً بالغدر في آلها
وراضياً عنها بأغلالها / محتملاً وطأة أثقالها
الرُّعبُ سيَّان بها والأمان / والحسن زادٌ سائغٌ للزمان
والوهم في حالاتها كالعِيان / والحبُّ والكره بها توأمان
وَدِدتُ لو قلبي كهذي القفار / أصمُّ لا يسمع ما في الديار
أعمى عن الليل بها والنهار / وددت لو قلبي كهذي القفار
وددتُ لو عنديَ جهل الثرى / تَعمُر أو تُقفر هذي البيوت
غفلان لا يعنيه أمرٌ جرى / أيُولَد الحيُّ بها أم يموت
وليلةٍ تمضي وأخرى وما / جئتَ فهل ألهاك عني أحد
ما ضاء من ليلاتنا أظلما / والسبت خَدَّاعٌ بها كالأحد
يمتلئ السطح على ضيقه / والوقت عندي كانفساح الأبد
حسدته والقلبُ في ضيقه / أنا الذي لم أدرِ طعم الحسد
وذلك الجاز وهذا النغم / منتقلاً بين الرضا والألم
يحمل لي طيف خيالٍ قَدِم / تراه عيني في ثنايا حُلُم
في واحةٍِ يرسو عليها الغريب / فكلُّ ما فيها لديه غريب
وهكذا الدنيا خداعٌ عجيب / إذا خلت أيامها من حبيب
وهكذا يومٌ ويومٌ سواه / ينكرها القلب الصَّبور الحمول
وهكذا يذهب طِيب الحياه / بين التمنّي واعتذار الرسول
هنا مِهاد الحب هل تذكرين / وها هنا بالأمس طاب السمر
وتلك أحلام الهوى والسنين / يحملها التَّيار فوق النَّهَر
والقمر الفضيُّ بين الغيوم / يخفق كالمنديل عند الوداع
يا حسرتا هل صوَّرته الهموم / كالزورق الغارق إلا شراع
قد جلَّلته غيمةٌ عابرة / تسحب أذيال الأسى والندم
وأغرقته موجةٌ غامرة / فأطبق الصمت وَرَانَ العدم
ضممت أضلاعي على نعشه / فلم يزل فيها لهاوٍ شعاع
لأي غورٍ زال عن عرشه / وغاص في اللجِّ إلى أيِّ قاع
أرثي لحظّ الأُفق وهو الذي / يرمقني بالنظرة الساخره
وتهرب الأنجم هذي وَذِي / ويجثم الليل على القاهره
ويزحف الكون على خاطري / كأنه في مقلة الساهر
سَدٌّ من الرُّعب بلا آخر / يعبُّ عبَّ الأبد الزاخر
وفي ظلال الموت موتِ الوجود / وخلفَ أطلال البِلى والهمود
وبين أنفاس الرَّدى والخمود / وتحت سُحبٍ عابساتٍ وسود
تدفعني عاصفةٌ عاتيه / تقصف من خلفي وقُدَّاميه
قد مزّقت روحي وآماليه / وقرَّبت لي طرَف الهاويه
تلمع في الظلمة أحداقها / قد رحَّبَت باليأس أعماقها
شافيةُ النفس وترياقها / مشتاقةٌ أقبل مشتاقها
قد كان لي عندك عزُّ الذليل / وكان للآمال ومضٌ ضئيل
يلمع في ظَنِّيَ قبل الرحيل / فانطفأ النور ومات القليل
فداك يا جاهلةً ما بيه / قلبي وأنفاسي الحِرار الظِّماء
وكيف أنسى ليلتي الداميه / ولهفتي أَلهَثُ خلف القطار
وعودتي أجرع كأس الحياة / مُعاقِراً سُمَّ الفناء البطيء
أُنكِرُ أو أفزع ممن أراه / سيان من يذهب أو من يجيء
وليلةٍ فاضت بوسواسها / تعجب من إلفَين بين البَشَر
ذلك يعدو خلف أنفاسها / وهذه تتبع سير القمر
تتبعه بين الرُّبى والشِّعاب / تتبعه يسري خلال السحاب
كم هلَّلت وهو يضيء الرِّحاب / والتفتَت محسورةً حين غاب
وذلك الطفل اللهيف الغيور / في فَلَكٍ من ضوء ليلى يدور
يقفو خطاها وهي بين الطيور / لها جناحان مراحٌ ونور
كزورقٍ يعبر بحر الوجود / له شراعان ولحظٌ شَرُود
كم شرَّقا أو غرَّبا في صعود / وارتفعا حتى كأن لن يعود
ليلى ارجعي إني شقيّ كئيب / أهتف مفقودَ الهُدَى والقرار
يا هاته الأوطان إني غريب / وعالمي ليس هنا يا ديار
تركتني وحدي وخلَّفتني / أرزح تحت المُبكيات الثِّقال
أنكرتِ ميثاقي وأنكرتني / أَكُلُّ ماضينا وليد الخيال
فرغت من أحلامه وانطوى / بِمُرِّهِ وارتحتُ من عذبه
الأمرُ ما شئت فذنب الهوى / على الذي يكفر يوماً به
كان إلى الله سبيلي وما / كان إلى الإِيمان دَربٌ سواه
وكان في جُرح الهوى بلسما / وكان عندي منحة من إله
مهما تكن ناري فإنّ الجحيم / أرأفُ بي من ظلم هذا البعاد
وربّ همّ مُقعِدٍ أو مقيم / قد لطَّفَته نسمات الوداد
فخفَّت النار وقرَّ الهشيم / وعاودتني الذِّكَرُ الغابره
والنيل يجري هادئاً والنسيم / معربدٌ في الخُصَل الثائره
كم تهتف الأيام خانت فَخُن / ويح حياتي إن تَخُن أمسها
إن هنتُ هذا عهدها لم يَهُن / ولا لياليها وإن تنسها
تُهيبُ بي الفرصةُ قبل الفوات / ويعرض الصَّيد فلا أقنصُ
إني امرؤ زادي على الذكريات / وما غلا عندي لا يرخصُ
ومطلب في العمر ولَّى وفات / وكان همِّي أنه لا يفوت
كأن فجراً ضاحكاً فيَّ مات / وملءُ نفسي مغربٌ لا يموت
في السَّأم الحيِّ الذي لا يَبيد / والأملِ الطاغي بأن ترجعي
أجدِّدُ العيش وما من جديد / وأدّعي السّلوان ما أدّعي
كم خانني الحظ ولا أنثني / أقضي زماني كلَّه في لعل
وتُقسم المرآة لي أنني / رَقَّعتُ بالآمال ثوب الأجل
قد فاتني الصيف وخان الربيع / وكان همّي كلًُّه في الخريف
وما شكاتي حين شملي جميع / وأنت لي أيكٌ وظلٌّ وريف
والآن قد مزّق عندي القناع / موتُ الأباطيل وزحف الشتاء
وبدَّد الوهم وفضَّ الخداع / بَردُ المنايا وشحوب الفناء
وَأسِفَ القلبُ لكنزي الذي / غَصَّت به أفئدة الحُسَّدِ
صحوت من وهمي ولا كنز لي / قد صَفِرت منها ومنه يدي
أين زمانٌ مُكتسٍ يومُه / بالحبِّ مَوشِيٌّ بحُلم الغد
من هاته الأيام محرومةً / عريانةَ الآمال والموعد
قد قتل الدهرُ هنائي كما / ماتت بثغري ضحكات السعيد
وربما رقَّ زمانٌ قسا / فانعطف الجافي ولان الحديد
محقّق الآمال أو واعدٌ / بفرحةٍ يوم لقاء وعيد
فإن يَعدِني ثار شكِّي به / كأنما وعد الليالي وعيد
واأسفاً هذا سجلٌّ كُتِب / خَطَّتهُ كفُّ القدَر المحتجب
ففيم عَودِي لقديم الحِقَب / وفيم تَسألي عمَّا ذهب
ضاقت بنا مصرُ وضقنا بها / وكلُّ سهلٍ فوقها اليوم ضاق
وضاقت الدنيا على رحبها / أين نداماي وأين الرفاق
كفٌّ تَلُمُّ العمر والعُمر راح / وقبضةٌ تجمع شمل الرياح
لا حَبَبٌ باقٍ ولا ظل راح / ليلٌ تولَّى وتولَّى صباح
هذا نهار مات يا لَلنَّهار / كل مساءٍ مصرعٌ وانهيار
مال جدار النون بعد انحدار / وغابت الشمس وراء الجدار
وذا مساءٌ صبغته الهموم / بلونها القاني وهذي غيوم
تحوم والظلمة فيها تحوم / تبسط مهداً ليّناً للنجوم
كأن ثوباً في السماء احترق / فلم يزل حتى استحال الأفق
ظلّ دخان أو بقايا رمق / ولم يعُد إلا ذيولُ الشفق
وتزحف الظلماء زحف المُغير / حاجبة ما دونها كالسِّتار
وكل حيٍّ وادعٌ أو قرير / ما اختلف الشأن ولا الحظ دار
العيش أمرٌ تافهٌ والمنون / والحكمةُ الكبرى بها كالجنون
وهكذا نمضي وتمضي السنون / وهكذا دارت رحاها الطحون
في شَجِّها حيناً وفي طَعنِها / سينقضي العمرُ وأين الفرار
وثورةُ الشاكين من طحنها / نوحُ الشظايا وعتابُ الغُبار