لا تفزعي يا أرضُ لا تفرَقي
لا تفزعي يا أرضُ لا تفرَقي / من شَبَحٍ تحت الدُّجى عابرِ
ما هو إلَّا آدميٌّ شقي / سمَّوْهُ بين الناسِ بالشاعرِ
حنانَكِ الآن فلا تُنكري / سبيلَهُ في ليلكِ العابسِ
ولا تُضلّيهِ ولا تنْفري / من ذلك المستصرخ البائسِ
مُدِّي لعينيهِ الرّحابَ الفِساحْ / ورقرقي الأضواءَ في جفنهِ
وامسكي يا أرضُ عصْفَ الرياحْ / والرّاعدَ المنصبَّ في أذنِه
أتسمعينَ الآن في صوتهِ / تَهَدُّجَ الأنَّاتِ من قلبهِ
وتقرأينَ الآنَ في صمتِهِ / تَمرُّدَ الرُّوحِ على ربهِ
في وقفةِ الذّاهلِ ألقى عصاهْ / مُولّيَ الجبهةِ شطرَ الفضاءْ
كأنما يَرْقى الدجى ناظراهْ / ليستَشِفّا ما وراءَ السماءْ
يَسقُطُ ضوءُ البرقِ في لمحهِ / على جبينٍ باردٍ شاحِبِ
ويستثيرُ البردُ في لفحهِ / ناراً تَلظَّى من فمٍ ناضبِ
أنتِ له يا أرضُ أمٌ رؤومْ / فأشهدي الكون على شِقوَتهْ
وردِّدي شكواهُ بين النجومْ / فهوَ ابنُكِ الإنسانُ في حيرتهْ
ما هو إلا صوتُكِ المرسلُ / وروحُكِ المستعبَدُ المرهَقُ
قد آدَهُ الدهرُ بما يحملُ / فجاءَ عن آلامِهِ ينطقُ
طغَى الأسى الدّاوي على صوتهِ / يا للصَدَى من قلبهِ النَّاطقِ
مضى يبثُّ الدهرَ في خفْتهِ / شكايةَ الخلقِ إلى الخالقِ
لا تَعْدُني يا ربِّ في محنتي / ما أنا إلَّا آدميٌّ شقي
طَرَدْتَني بالأمس من جنتي / فاغفرْ لهذا الغاصبِ المحنَقِ
حنانكَ اللهمَّ لا تغضبِ / أنتَ الجميلُ الصفحِ جمُّ الحنانْ
ما كنتُ في شكوايَ بالمذنبِ / ومنكَ يا ربِّ أخذتُ الأمانْ
ما أنا بالزاري ولا الحاقدِ / لكنني الشَّاكي شقاءَ البشَرْ
أفنيتُ عمري في الأسى الخالدِ / فجئتُ أستوحيكَ لطفَ القدَرْ
تمرَّدت روحي على هيكلي / وهيكلُ الجسمِ كما تعلمُ
ذاك الضعيفُ الرأيِ لم يفعلِ / إلَّا بما يوحي إليه الدمُ
يَعرُقُ حدُّ السيفِ من لحمه / ويحطمُ الصّفوانُ بنيانَهُ
وينخَرُ الجرثومُ في عظمهِ / ومنهُ يُنْمي القبرُ ديدانُه
ما هوَ إلَّا كومةٌ من هباء / تمحقهُ اللمسةُ من غضبتِكْ
فكيف يشني الروحَ عما تشاء / وكيف يقوى وهي من قدرتكْ
روحُكَ في روحي تبثُّ الحياهْ / نزلتُ دنيايَ على فجرِها
فإنْ جفاها ذاتَ يومٍ سناهْ / لاذتْ بليلِ الموتِ في قبرِها
ومثلما قدَّرْتَ صوَّرتَها / فروحكَ الصوتُ وروحي الصدَى
طبيعةٌ في الخلْقِ ركَّبتها / وما أرى لي في بِناها يدا
لكنّما روحُكَ من جوهرِ / صافٍ وروحي ما صَفتْ جوهرا
أوْ لا فما للخيرِ لم يُثمرِ / فيها وما للشرِّ قد أثمرا
تقولُ روحي إنها مُلهَمهْ / فهيَ لما قدَّرْتُه مُتبِعهْ
مقودةٌ في سيرها مُرْغمَهْ / وإنْ تراءَتْ حرَّةً طيِّعهْ
قيّدتها بالجسم في عالمِ / تضجُّ بالشهوة فيهِ الجسومْ
كلاهما في حبّهِ الآثمِ / لم يصْحُ من سُكراهُ وهو الملومْ
تُبدي بهِ الأجسامُ سحرَ الحياهْ / في معرضٍ يجلو غريبَ الفنونْ
نواعسَ الأجفانِ حُوَّ الشفاهْ / شديدةَ الإِغراءِ شتَّى الفتونْ
ولم أكنْ أولَ مُغرَى بما / أغرَتْ بهِ حواءَ أو آدما
إرثٌ تمشَّى في دمي منهما / ميراثهُ ينتظمُ العالما
فأنتَ قدَّرتَ عليَّ الشقاء / من حيثُ قدَّرتَ عليّ النعيمْ
وما أرى هل في غدٍ لي ثواء / بالخلدِ أمْ مثوايَ نارُ الجحيمْ
ما أثِمتْ روحي ولا أجرمتْ / ولا طغى جسمي ولا استهترا
عناصرُ الروح بما أُلهِمَتْ / أوحت إلى الجسمِ فما قصَّرا
كلاهما لم يَعْدُ تصويرَهُ / ما كان إلَّا مِثلما كُوِّنا
كم حاولا بالأمسِ تغييرَهُ / فاستكبرَ الطبعُ وما أذعنا
أمنذِري أنت بيومِ الحسابْ / ولائمي أنتَ على ما جرى
رُحماك ما يرضيكَ هذا العذَابْ / لطيّعٍ لم يَعْصِ ما قُدِّرا
ما كنتُ إلا مثلما رُكِّبَتْ / غرائزي ما شئتَ لا ما أشاء
فلتجزِها اليوم بما قدَّمتْ / وإن تكنْ مما جَنتهُ براء
وفيمَ تُجزى وهيَ لم تأثمِ / ألستَ أنت الصائغَ الطابعا
ألمْ تسِمْها قبلُ بالميسمِ / ألمْ تصُغْ قالبها الرائعا
ألم تصُغْها عنصراً عنصرا / من أين ما علمي وأنت العليمْ
جَبَلتها يومَ جبلتَ الثرى / من عالم الذرِّ ودنيا السَّديمْ
الخيرُ والشرُّ بها توأمانْ / والحبُّ والشهوة في طبعِها
حوّاءُ والشيطانُ لا يبرحانْ / يُساقِطان السّحرَ في سمعِها
تشكّكتْ نفسي بما تنتهي / إليهِ دنياها وماذا يكونْ
مضتْ فما آبتْ بما تشتهي / من حيرة الفكر وهجس الظنونْ
رأتْ إساري في قيودٍ ثقالْ / بين يدَيْ ذي مِرّةٍ يبسمونْ
يسوقهم في فلواتِ الليالْ / في بطشِ جَبَّارينَ لا يرحمونْ
إنْ ضجَّ في الأغلالِ منهم طليحْ / أخرسهُ السوطُ الذي يُرهفُ
وإنْ هوى للأرضِ منهمْ جريحْ / أنهضهُ في قيدهِ يَرْسُفُ
يا ويحهم ما عرفوا مَوئِلا / من قسوةِ الدهرِ وجورِ القضاء
يا أرضُ ما كنتِ لنا منزلا / ما أنتِ إلا موبقُ الأبرياء
أفي سبيل العيشِ هذا الصراعْ / أم في سبيل الخلدِ والآخرهْ
وهؤلاء البائسونَ الجياعْ / تطحنهم تلك الرَّحى الدائرهْ
ما ذنبُ هذا العالم الثَّائِرِ / إنْ حاولَ الإفلاتَ من آسره
ما كانَ في ميلادهِ الغابرِ / أسعدَ حالاً منهُ في حاضره
ما كانَ لو لم تنزُ آلامُهُ / بالماجنِ الرُّوحِ ولا الهائمِ
ولو جرَتْ بالصفوِ أيامهُ / ما كانَ بالرَّازي ولا الناقمِ
رأى بعينيه المصيرَ الرهيبْ / وكيف غالَ الناسَ من قبْلِه
وكلَّ يومٍ للمنايا عصيبْ / يسوقُهم للموتِ من حولِهِ
فحقَّرَ الدُّنيا وأزرى بها / وقالَ ما لي أنكرُ الواقعا
فلتَسْعَدِ النفسُ بأنخابها / من قبْلِ أن تلقى الغدَ الرائعا
أيصبحُ الإنسانُ هذا الرميمْ / والجيفةَ الملقاةَ نهبَ الترابْ
أيستحيلُ الكونُ هذا الهشيم / والظلمة الجاثمُ فيها الخراب
لمنْ إذاً تبدعُ تلك العقولْ / أفي الرَّدى تدرك ما فاتها
أم في غدٍ تثوي بتلك الطلولْ / ويسحقُ الدهرُ يواقيتَها
وآسفا للعالَمِ البائدِ / ليس له مما يرى مهربُ
على رنينِ المنجَلِ الحاصدِ / مضى يُغنِّي وهوَ لا يطربُ
فَدَعهُ ينسى بعضَ ما حُمِّلا / من نكد الدنيا وضنكِ الحياهْ
وأوْلِهِ العطفَ الذي أمَّلا / فإنهُ أولى بعطفِ الإلهْ
ما هي إلَّا لحظاتٌ قصارْ / تَمُرُّ مِثْلَ الومضِ في عينهِ
فإن مضى الليلُ وجاءَ النهارْ / عاودَهُ الخالدُ من حزنهِ
وما أتى الغَيَّ ليعصى الإلهْ / يوماً ولا كان بهِ مُغرَما
لكنْ لينسى شقواتِ الحياهْ / وسرَّها المستغلقَ المبهما
يا للشقيّ القلبِ كم سامهُ / توهُّم النعمةِ ما لا يُطيقْ
يُريدُ أن يُقنعَ أوهامهُ / بأنّهُ ذاك الخليُّ الطليقْ
هأنذا أرفعُ آلامَهُ / إلى سماءِ المنقذِ الأعظمِ
أنا الذي ترسلُ أنغامَهُ / قيثارةُ القلبِ ونايُ الفمِ
من عبراتي صُغتُ هذا المقالْ / ومن لهيب الروحِ هذا القلمْ
ملأتُ منهُ صفحاتِ الليالْ / فضمِّنَتْ كلَّ معاني الألمْ
أنا الذي قدَّسْتَ أحزانَهُ / الشَّاعرُ الباكي شقاءَ البشرْ
فَجَّرْتَ بالرحمةِ ألحانَهُ / فاملأْ بها يا ربِّ قلبَ القدرْ
ما الشاعرُ الفنّانُ في كونهِ / إلَّا يدَ الرحمة من ربّهِ
مُعَزِّيَ العالمِ في حزنِهِ / وحاملَ الآلامِ عن قلبهِ
عزاؤهُ شعرٌ بهِ أهزجُ / في نغمٍ مستعذَبٍ ساحرِ
ما يحزنُ العالم أو يبهجُ / إلَّا على قيثارةِ الشاعرِ
يا ربِّ ما أشقيتني في الوجودْ / إلَّا بقلبي ليتهُ لم يكنْ
في المثل الأعلى وحبِّ الخلودْ / حمّلتهُ العبءَ الذي لم يَهُنْ
خلقتهُ قلباً رقيقَ الشغافْ / يهيمُ بالنورِ ويهوى الجمالْ
حَلَتْ له النجوى ولذَّ الطوافْ / بعالم الحسنِ ودنيا الخيالْ
بعثتهُ طيراً خفوقَ الجناحْ / على جِنانٍ ذاتِ ظلٍّ وماءْ
أطلقتهُ فيها قُبَيْلَ الصباحْ / وقلتَ غنّ الأرضَ لحنَ السماءْ
فهامَ في آفاقها الواسعهْ / النُّورُ يهفو حولَهُ والنَّدى
مُصفِّقاً للضحوةِ الساطعهْ / ومنشداً ما شاءَ أن يُنشدا
إنْ جاءَ صيفٌ أو تجلَّى ربيعْ / حيَّاهُ منهُ عبقريُّ الغِناءْ
وكم خريفٍ في نشيدٍ بديعْ / تظلُّ ترويه ليالي الشتاءْ
قيثارةٌ تصدرُ في فنِّها / عن عالم السِّحر ودنيا الخفاءْ
على الصَّدَى الحائِر من لحنها / يستيقظُ الفجرُ ويغفو المساء
مَشتْ على الأمواجِ أنغامُها / والأرضُ قيدَ النشوة المسكِرهْ
كأنما ترقصُ أحلامُها / في ليلةٍ شرقيةٍ مُقمرهْ
من قلبهِ أسلَسْتَ أوتارَها / فقلبُهُ يخفقُ في كفِّه
يشدو فتُملي النفسُ أسرارها / عليهِ فهيَ اللحنُ من عزفهِ
ذاتَ صباحٍ طار لا يُمهِلُ / والأرضُ سَكرى من عبيرِ الزهورْ
على حصاها رنَّمَ الجدولُ / وفي روابيها تُغنّي الطيورْ
ما كان يدري قبلَ أن ينظرا / ما خَبأتْهُ النظرةُ العاجلهْ
ما أبدعَ الحلم الذي صوَّرا / لوْ لم تَشبْهُ اليقظةُ القاتلهْ
مرَّ بنهرٍ دافقٍ سلسبيلْ / تهفو القمارى حوله شاديَهْ
في ضفتيهِ باسقاتُ النخيلْ / ترعى الشياهُ تحتها ثاغيهْ
فهاجت النظرةُ مما رأى / في قلبهِ الحسرَ وفي عينهِ
الكونُ يبدو وادعاً هانئا / كأنهُ الفردوسُ في أمنِه
فظلَّ في التفكير مستغرقا / من فتنة الدنيا ومن سحرِها
ما كان إلَّا ريثما حدَّقا / حتى جَلَتْ دنياهُ عن سرِّها
رأى بعينيهِ الذي لم يَرهْ / الذئبَ والشاةَ وحربَ البقاءْ
ما عَرفَ القتلَ ولا أبصرهْ / ولا رأى من قبلُ لونَ الدماءْ
ما هي إلا صرخاتُ الفزعْ / وصيحةُ المقتولِ والقاتلِ
قد انقضى الأمرُ كأنْ لم يقعْ / وضاع صوتُ الحقّ في الباطلِ
وبعدَ ساعاتٍ يُوَلّي النهارْ / ويقبلُ الليلُ وما يعلمُ
سيلبثُ السرُّ وراءَ الستارْ / ويختفي الشلوُ ويُمحى الدمُ
فرُوّع الشاعرُ مما رآهُ / وهامَ في الأرض على وجههِ
أين ترى يا أرضُ يُلقي عصاهُ / وأيُّ وادٍ ضلَّ في تيههِ
حتى إذا شارفَ ظلَّ الشجرْ / في روضةٍ غناءَ ريَّا الأديمْ
قد ضَحِكتْ للنور فيها الزَّهرْ / وصفَّقَتْ أوراقُها للنسيمْ
إختار في الظلِّ له مقعدا / في ربوةٍ فاتنةٍ ساحرَهْ
أذاب فيها الشفقُ العسجدا / وناسمتها النفحةُ العاطرهْ
بينا يُمَلِّي العينَ من سحرها / إذ أبصر الصَلَّ بها مُطرقا
قد انتحى الأطيارَ في وكرِها / فسامَها من نابهِ موبقا
هل سمِعَتْ أذناك قصفَ الرعودْ / في صخَبِ البحرِ وعصفِ الرياحْ
هل أبصرتْ عيناك ركضَ الجنودْ / في فزعِ الموتِ وهولِ الكفاحْ
إن كنتَ لم تبصرْ ولم تسمعِ / فقِفْ إلى ميدانها الأعظمِ
ما بين ميلادكَ والمصرعِ / ما بين نابي ذلك الأرقمِ
جريمةُ الغدرِ وسفكِ الدمِ / جريمةٌ لم يخلُ منها مكانْ
يا لُجةً كلٌّ إليها ظمي / قد جاز طوفانُكِ شمَّ القنانْ
من علّم الوحشَ الأذى والقتالْ / من بثَّ فيهِ الشرَّ أو ألهمهْ
من علّم الثعبانَ هذا الختالْ / والحيوانَ الغدرَ من علّمهْ
يا أرضُ هذا الوحيُ من عالمِكْ / الماءُ والطينُ به يشهدانْ
جنيتِ يا أرضُ على آدمِكْ / إذ سمته بالأمسِ هجرَ الجنانْ
يا ضلّة الشاعر أين النجاهْ / وأين أينَ المنزلُ الآمنُ
أكلَّ وادٍ طرقته خُطاهْ / طالعهُ منهُ الرَّدى الكامنُ
حتى إذا ضاقتْ عليهِ السُّبُلْ / وعزَّ في الأرض عليهِ المقامْ
أوى إلى كهفٍ بسفح الجبلْ / عساهُ يقضي ليله في سلامْ
ما كان إلَّا حُلُماً كاذبا / أفاقَ منهُ مستطيرَ الجَنانْ
البحرُ يُرغي تحتهُ صاخبا / والشّهبُ نارٌ والدياجي دخان
الأرضُ من أقطارها راجفه / كأنما طافَ عليها المنونْ
تضجُّ في أرجائها العاصفه / كأنما الناسُ بها يُحشرونْ
ثم استقرَّ العالمُ الثائرُ / وأقبلَ النورُ وولّى الظلامْ
واعَجباً مما يرى الشاعرُ / كأنما أمسى بوادي الحِمامْ
بدتْ لهُ الأرضُ كقبرٍ عفا / إِلّا بَقايا رِمَّةٍ أو حجر
قد أصبح القاعُ بها صفصفا / فما عليها من حياةٍ أثرْ
مرَرْتُ بالبُلدانِ مُستعبرا / أبكي الحضاراتِ وأرثي الفنونْ
أنقاضُها تملأ وجه الثرى / وكنَّ بالأمس مثارَ الفتون
أتى على اليابسِ والأخضرِ / الموجُ والنوءُ وسيلُ الحُمَمْ
يا رحمةَ اللَّهِ اهبطي وانظري / ما حصدَ الموتُ ودكَّ العَدَمْ
أيستحقُّ الناسُ هذا العقاب / أم حانت الساعةُ من نقمتكْ
ما احتملوا يا ربّ هذا العذابْ / إلَّا رجاءَ الغوثِ من رحمتكْ
أما ترى منفرجاتِ الشفاهْ / عن آخر الصيحات من رعبها
ما زال فيها من معاني الحياهْ / إيماءةُ الشكوى إلى ربها
وهذه الأعينُ نهبَ العفاءْ / في رقدةِ الموتِ كأنْ لم تَنَمْ
مُحدَّقاتٍ في نواحي السماءْ / تُشهدها هذا الأسى والألمْ
وهذه الأيدي تحوطُ الصدورْ / كأنها في موقفٍ للصلاهْ
لم تَنْسَ في نزْع الحياةِ الغرورْ / ضراعةً ترسمها للإلهْ
ما عرَفوا في صَعقاتِ الردى / إلَّاكَ من غوثٍ ومن منجدِ
ولا سرى في الأرض منهم صدى / إلَّا ودوّى باسمِكَ الأمجدِ
أعبرةً تذكرها كلَّ حينْ / للعالم الذَّاكرِ إمَّا نسِي
أمْ ضرباتٍ قاسياتٍ تُلينْ / بهنَّ قلبَ الفظِّ والأشرسِ
أم موجةُ الطهرِ التي تغْسلُ / مآثمَ الكونِ وتمحو أذاهْ
يا ربِّ ضِقنا بالذي نحملُ / فحسبُنا آلامُنا في الحياهْ
ألمْ تُطهِّرْ ذلك العالما / من كل عاصٍ أو غويٍّ جموحْ
ما غادر الموجُ بهِ قائما / يوم احتوى الأعلامَ طوفانُ نوحْ
إذاً فما للناسِ ضلُّوا الهدى / وأخطأوا اليوم سبيلَ الرشادْ
لعلَّ نوحاً أخطأ المقصدا / فأغرقَ الخيرَ ونجَّى الفسادْ
يا ليتَهُ لمّا دعا بابنهِ / وحالتْ الأمواجُ أنْ يُسْمعا
لجَّ عليهِ القلبُ في حزنهِ / فلم يرَ الجوديَّ لمّا دعا
يا أرضُ ولّى عهدُ نوحٍ وزالْ / فمن لكِ اليومَ بطوفانِهِ
مسكينةً تطوين بحرَ الليالْ / قد عزَّكِ المرسى بشطآنِهِ
إلامَ تطوين عُباب السنينْ / شوقاً إلى فردوسكِ الضائعِ
غُرّرْتِ يا أرضُ بما تحلمينْ / فاستيقظي من حلمكِ الخادعِ
وابقيْ كما أنتِ على موجهِ / تُمزِّقُ الأنواءُ منك الشراعْ
يقذِفُكِ التيَّار في لجِهِ / عشواءَ لا يهديكِ فيهِ شعاعْ
سلي القداساتِ وأربابها / ضراعةً تُصغي إليها السماءْ
أو فاطرقي بالبثِّ أبوابها / لعلّها ترفعُ عنكِ الشقاءْ
يا أيها الغادونَ والرائحونْ / في شعبِ الأرضِ وليل الهمومْ
تُمسون أشتاتاً كما تصبحونْ / والشمس حيرى فوقكم والنجومْ
مُدُّوا لها الأيدي وولُّوا الجباهْ / وأرسلوها صيحةً واحدهْ
قولوا لها يا من شهدتِ الحياهْ / من أينَ تلك النظرةُ الجامدهْ
من أينَ تلك النظرةُ الهادئهْ / والقسماتُ المشرقاتُ الجبينْ
هل أنتِ من آلامنا هازئهْ / أم أنتِ يا أعينُ لا تُبصرينْ
أم هكذا أوحى إليكِ القضاءْ / فما عرفتِ الحزنَ والأدمعا
يا أيُّها الناس اضرعوا للسماءْ / قد آن أن تُصغي وأن تشْفعا
هاتوا الأزاهيرَ وهاتوا الغصونْ / وكلَّ ما يحلو وما يجملُ
قد آن أن تُفْضوا بما تشعرونْ / فأشعلوا النارَ بها أشعلوا
أو فاملأوا من زهرها اليانعِ / مجامرَ النارِ وألقوا البخورْ
وصعِّدوا في ذِلّةِ الضارعِ / أنفاسكم نشْوى بتلك العطورْ
أحببْ بها من أنَّةٍ عاطرهْ / في مسمعِ الأملاكِ إذ تصعدُ
أصداؤُها الرفَّافَةُ الحائره / في وجهها الآفاق لا توصدُ
يا أرض ناديتُ فلم تسمعي / أنكرتِ صوتي وهو من قلبكِ
لا تَفرقي مني ولا تَفزعي / من شاعرٍ شاكٍ إلى ربِّكِ
أيَّتُها المحزونةُ الباكيهْ / لا تيأسي من رحمةِ المنْقِذِ
لعلَّ من آلامِكِ الطاغيهْ / إذا دعوتِ الله من منفَذِ
فابتهلي لله واستغفري / وكفّري عنكِ بنار الألمْ
وقدِّمي التوبةَ واستمطري / بين يَدْيهِ عبراتِ الندمْ