نادِ اِمرءاً غُيّبَ خَلف النَّقا
نادِ اِمرءاً غُيّبَ خَلف النَّقا / فكَم فَتىً نادَيته ما وَعى
وَقُل لمَن لَيس يرى قائلاً / بأيِّ عهدٍ دبّ فيكَ البِلى
وَكَيف دُلّيتَ إِلى حُفرةٍ / يَمحوكَ مَحو الطِّرسِ فيها الثَّرى
كَذِي ضنىً مُلقىً وَلَيتَ الّذي / سيطَ بِهِ جِسمكَ كانَ الضّنى
أَرّقنِي فَقدُك مِن راحلٍ / وَاِستَلَّ مِن عَينَيَّ طعمَ الكَرى
وَبِنتَ لا عَن مَللٍ مِن يَدي / وَغبتَ عَن عَينيَّ لا عن قِلى
فَكَيفَ وَلّيت وَخَلَّفتني / أَكرعُ مِن بَعدك كأسَ الأَسى
كَأَنَّني سارٍ عَلى قَفرةٍ / مَسلوبَةٍ أَعلامُها وَالصُّوى
أَو مُنفِضٍ مِن كلِّ أَزواده / يَحرِقُ القَيظ بِنارِ الصَّدى
وصاحِبٍ لِي كُنتُ صَبَّاً بِهِ / أَخشى عَلَيهِ مِن مُرورِ الصَّبا
تَمَّ وَلَمّا لَم يَجِد مُنتهى / غافَصنِي فيهِ طروق الرَّدى
خُولِستهُ مُحتظراً رابعاً / كالنّجم ولّى أو كغصنٍ ذَوى
فَفي جُفونِي منهُ سَيلُ الزُّبَى / وَفي فُؤادِي مِنهُ نارُ القِرى
وَإنْ تَقلّبتُ عَلى مَضجَعي / كانَ لِجَنبي فيهِ جَمرُ الغَضا
وَكانَ في العَينينِ لي قرّةً / فَصارَ مَيتاً لِجفوني قَذى
قَد قُلتُ لِلمُسلينَ عَن حُزنِه / ما أَنا طَوعاً لِعَذولٍ سَلا
فَإِن رَقا دَمعِي فلم يَبكِهِ / فَلن أُصبِحَ فيمَن بَكى
وَكَيفَ أَسلاهُ وَبي صَبوةٌ / أَم كَيفَ أَنساهُ وفيهِ الهُدى
كَانَ كَنارٍ أُضرمت وَاِنطَفت / أَو بارِقٍ ما لاحَ حتّى اِنجَلى
أَو كَوكَبٍ ما لحظتْ نورَهُ / في أُفقِه العَينانِ حتّى خوى
يَنبو عَنِ الفُحشِ وَلَم يَستطِعْ / مُعرّساً في عَرَصَات الخَنا
وَإنْ تَنُطْ سِرّاً إِلى حفظِهِ / فَهوَ عَلى طولِ المَدى ما فشا
كَم أَخَذَ الدّهر لَنا صاحِباً / وَكَم طَوى في تُربِهِ ما طَوى
وَكَم أَمالَت كفُّهُ صَعْدةً / عالِيةً شاهِقةَ المُرتَقى
إِن شِئتَ أَنْ تَعجَب فَانظُر إِلى / مُرتَبَعٍ بادَ ورَبْعٍ خلا
وَنِعمَةٍ سابغةٍ قَلّصتْ / وَمَنزلٍ بَعَد كَمالٍ عفا
وَمَعشَرٍ حَلّوا وَلَم يَرتَضوا / بَأساً وعزّاً في محلِّ السُّها
مِن دونِ ما أرغم آنافهم / ضَربُ الوَريدَينِ وَطَعنُ الكُلى
أَكفُّهُم لِلمُجتَدين الغِنى / وَدورُهُم في النائِباتِ الحِمى
وَكَم لَهُم مِن مُعجِزٍ باهرٍ / أظهرهُ للناسِ يَوم الوغى
سيقوا إِلى الموتِ كَما سُوِّقتْ / لِلعَقْرِ بِالكُرهِ بِهامُ الفلا
وَطوّحوا في بَرزَخٍ واسعٍ / بَينَ هُوى مظلمَةٍ أو كُدى
كَأَنَّهم ما قسّمتْ برهةً / أَيديهمُ الأَرزاقَ بَينَ الوَرى
وَلا أَقاموا العزَّ ما بَينَهم / بِالبيضِ مَعموداً وسُمر القنا
هوَ الرَّدى لَيسَ لَه مَدفعٌ / وَالمَوتُ لا يَقبلُ بذلَ الرّشا
وَكَم مَضى قبلك أغلوطةً / بِالسّيفِ مِن غَفلته مِن فَتى
إِن ساءَني البينُ فَقَد سَرَّني / أَنّك فارَقتَ شَهيرَ الظبا
تَمضِي إِلى القومِ الأُلى لَم تَزلْ / تَجعلهم في الظّلماتِ الهُدى
فَإِنْ تَبوّأتَ لَهُم مَنزلاً / كُنتَ بِهم في الدرجاتِ العُلى
وَلَم يَزَل قَبركَ تُبلى بهِ / عَليكَ إِن شِئتَ دُموعُ الحَيا
فَلَم يَضِرْ وَهوَ ندٍ تُربه / مِن رَحمةٍ أَن لَم يُصبه النّدى
وَإِنْ تَكُن مُظلمةً حَوله / قُبورُ أَقوامٍ فَفيهِ السَّنا
وَإِنْ يَبِتْ في غَيِر ما رَبوةٍ / فَهوَ لَدَى الرّحمَنِ أَعلى الرُّبى