المجموع : 23
عندما ظلَّلني الوادي مساءَ
عندما ظلَّلني الوادي مساءَ / كان طيفٌ في الدجى يجلس قربي
في يديه زهرةٌ تقطرُ ماءَ / عَرفتْ عيني بها أدمعَ قلبي
قلتُ من أنتَ فلبَّاني مجيبا / نحن يا صاحِ غريبانِ هنا
قد نزلنا السهلَ والليلَ الرهيبا / حيث ترعاني وأرعاكَ أنا
قلت يا طيفُ أثرتَ النفس شَكا / كيف أقبلتَ وقُلْ لي من دعاكَا
قال أشفقتُ من الليلِ عليكا / فتتبَّعْتُ إلى الوادي خُطاكا
ودنا مني وغنَّاني النشيدا / فعرفتُ اللحنَ والصوتَ الوديعا
هو حُبِّي هامَ في الليل شريدا / مثلما هِمْتُ لنلقاكَ جميعا
وتعانقنا وأجهشنا بكاءَ / وانطلقنا في حديثٍ وشجونْ
ودنا الموعدُ فاهتجنا غناءَ / وتنظّرناكَ والليلُ عيونْ
أقبلَ الليلُ فأقبِلْ موهنا / والتمسْ مجلسنا تحتَ الظلالِ
وافِني نصدحْ بألحانِ المنى / ونعب الكأسَ من خمر الخيالِ
أقبلِ الليلةَ وانظر واسمعِ / كلُّ ما في الكونِ يشدو بمزارِكْ
جئتُ بالأحلامِ والذكرى معي / وجلسنا في الدجى رهنَ انتظاركْ
سترى يا حسنُ ما أعددتُه / لكَ من ذخرٍ وحسن ومتاعِ
هو قلبي في الهوى ذوَّبته / لكَ في رفَّافِ لحنٍ وشعاعِ
وهو شعرٌ صَورتْ ألوانُه / بهجةَ الفجرِ وأحزان الشفقْ
ونشيدٌ مثَّلتْ ألحانُهُ / همساتِ النجم في أُذْن الغسقْ
ذاك قلبي عارياً بين يديكْ / أخذتْهُ منك روْعاتُ الإله
فتأملْه دماً في راحتيكْ / وذَماءً منكَ يستوحي الحياهْ
باكيَ الأحلامِ محزونَ المنى / ضاحكَ الآلام بسّامَ الجراحْ
لم يكن إلَّا تقياً مؤمنا / بالذي أغرى بحبيكَ الطماحْ
يتمنَّى فيكَ لو يَفْنى كما / يتفانى الغيمُ في البحرِ العُبابْ
أو يُلاشي فيك حَيّا مثلما / يتلاشى في الضحى لُمح الشهابْ
زهرةٌ أطلعها فردوسُ حُبِّكْ / استشفَّتْ فجرَها من ناظريكْ
خفقت أوراقُها في ظلِّ قربِكْ / وسَرَتْ أنفاسها من شفتيكْ
هيَ من حسنكَ تحيا وتمونْ / فاحمِها يا حسنُ إعصارَ المنونْ
أوْلها الدفءَ من الصدرِ الحنونْ / أو فهبْها النورَ من هذي العيونْ
دمعُها الأنداءُ والعطرُ الشَّجا / وصدى أنَّاتِها همسُ النسيمْ
فاحبُها منكَ الربيعَ المرتجى / تصدحِ الأيامُ باللحنِ الرخيمْ
أيها الملَّاحُ قمْ واطوِ الشراعا
أيها الملَّاحُ قمْ واطوِ الشراعا / لِمَ نطوي لُجَّةَ الليل سراعا
جَدِّفِ الآن بنا في هِينةٍ / وجهة الشاطىء سيراً واتباعا
فغداً يا صاحبي تأخذنا / موجةُ الأيام قذفاً واندفاعا
عبثاً تقفو خُطى الماضي الذي / خلْتَ أنَّ البحرَ واراهُ ابتلاعا
لم يكنْ غيرَ أويقاتِ هوىً / وقفتْ عن دورةِ الدهر انقطاعا
فتَمَهَّلْ تسعدِ الرُّوحُ بما / وَهِمَتْ أو تطربِ النفسُ سماعا
وَدَعِ الليلةَ تمضي إنها / لم تكنْ أولَ ما ولَّى وضاعا
سوف يبدو الفجرُ في آثارها / ثم يمضي ودواليكَ تباعا
هذه الأرضُ انتشتْ مما بها / فغفتْ تحلم بالخلدِ خداعا
قد طواها الليلُ حتى أوشكتْ / من عميقِ الصمتِ فيه أنْ تُراعا
إنَّهُ الصمتُ الذي في طيِّه / أسفرَ المجهولُ والمستورُ ذاعا
سَمِعَتْ فيه هُتافَ المنتهَى / من وراءِ الغيب يُقريها الوداعا
أيها الأحياءُ غنُّوا واطربوا / وانهبوا من غفلاتِ الدهرِ ساعا
آهِ ما أروعَها من ليلةٍ / فاضَ في أرجائها السحرُ وشاعا
نَفَخَ الحبُّ بها من روحِه / ورَمى عن سرِّها الخافي القناعا
وجلا من صُوَرِ الحسنِ لنا / عبقرياً لَبِقَ الفنِّ صنَاعا
نفحاتٌ رقَصَ البحرُ لها / وهفَا النجمُ خُفوقاً والتماعا
وسَرى من جانب الأرض صدىً / حَرَّكَ العُشبَ حناناً واليراعا
بَعَثَ الأحلامَ من هجعتِها / كسرايا الطير نُفِّرْنَ ارتياعا
قُمْنَ بالشاطئِ من وادي الهوى / بنشيدِ الحبِّ يهتفنَ ابتداعا
أيها الهاجرُ عزَّ الملتقى / وأذبتَ القلبَ صداً وامتناعا
أدركِ التائهَ في بحر الهوى / قبل أن يقتلهُ الموجُ صراعا
وارعَ في الدنيا طريداً شارداً / عنه ضاقتْ رقعةُ الأرض اتساعا
ضلَّ في الليل سُراهُ ومَضَى / لا يَرى في أفقٍ منه شعاعا
يجتوي اللافحَ من حرقته / وعذابٍ يشعلُ الرُّوحَ التياعا
والأسى الخالدَ من ماضٍ عفا / والهوى الثائرَ في قلبٍ تداعى
فاجعلِ البحرَ أماناً حوله / واملأ السهلَ سلاماً واليفاعا
وامسحِ الآنَ على آلامِهِ / بيدِ الرفقِ التي تمحو الدماعا
وقُدِ الفلكَ إلى بَرِّ الرِّضى / وانشر الحبَّ على الفلكِ شراعا
قبلةٌ من ثغركِ الباسمِ دنيا وحياةُ
قبلةٌ من ثغركِ الباسمِ دنيا وحياةُ /
تلتقي الروحانِ فيها والمُنَى والصَّبواتُ /
لُغَةٌ وُحِّدَتْ الألسنُ فيها واللغاتُ /
نبعها القلب ومجراها الشفاه النضراتُ /
لغة قرَّ الشتيتُ الشملِ فيها وتواءَمْ /
وبها الأعينُ في غير حديثٍ تتفاهمْ /
مَنْ تُرى علّمها بالأمسِ حواءَ وآدمْ /
لمْ تَزُلْ جِدَّتُها وهيَ حديثٌ يتقادمْ /
قبلةٌ من ثغرِك الباسمِ رفَّتْ شفتاهُ /
من رحيقٍ لم يُحرِّمه على الناسِ الإلهُ /
كلما أُترِعَ منه القلبُ ضجَّتْ رئتاهُ /
مستزيداً وهوَ إن علَّ به زادَ صداهُ /
قبلةٌ من ثغركِ الباسمِ تمحو كلَّ ما بي /
وتواريني عن الناسِ وعن دنيا العذابِ /
وتُنَسِّي القلبَ ما جرَّعَ من سمٍ وصابِ /
قبلةٌ تمزجُ أنفاسَكِ بالقلبِ المُذابِ /
رُبَّ ليلٍ مرَّ أفنيناهُ ضماً وعناقا /
وأدرنا من حديثِ الحبِّ خمراً نتساقى /
في طريقٍ ضرَبَ الزَّهرُ حواليه نطاقا /
وتجلَّى البدرُ فيه وصفا الجوُّ وراقا /
ولزمنا الصمتَ إلَّا نظراتٍ تتكلمْ /
وشفاهاً عن جراحِ القلب راحتْ تتبسمْ /
صِحْتِ بي رعباً وما راعكِ قلبٌ يتحطّمْ /
نبأتني النفسُ بالبينِ غداً والنفسُ تُلهمْ /
ثم كان الغدُ ما نُبِّئتِ هجراً وفراقا /
ونسينا قبلةً ساغتْ على الأمسِ مذاقا /
غيرَ أناتٍ صحا القلبُ عليها وأفاقا /
فالتقينا وافترقنا وكأنْ لمْ نتلاقا /
ضَجَّت الأنجمُ في آفاقها
ضَجَّت الأنجمُ في آفاقها / ذاتَ ليلٍ تشتكي طولَ الأبَدْ
فمضتْ تصرخُ من أعماقها / أيُّهذا الليلُ نبِّهْ من رقدْ
أطلِقِ الجنّ يرفرفْ لائذا / بالرُّبى يصرخُ من خلفِ الرموسْ
أيها الأحياءُ ما الكونُ إذا / تنثرُ الشُّهْبُ وتندكُّ الشموسْ
أحياةٌ سمْتُها صخرٌ ونارْ / حَفَّتِ الأشواكُ من يسلكهُ
تنقضي الآجالُ فيه والسِّفارْ / أبديٌّ ويحَ من تُهلكهُ
إحملوا أمسِ إلى حفرتهِ / وتخطوا هوَّةَ الوادي السحيقْ
واحفزوا النجمَ إلى ثورتهِ / واحطموا أنوالَ ليلٍ لا يُفيقْ
أيقظوا في الليلِ ثاراتِ الرعودْ / إنَّها ثاراتُ جبّارِ السماءْ
إن يَشأ أرسلها فوق الوجودْ / فإذا الكونُ هشيمٌ وهباءْ
لو تمشَّتْ بمناياها الرجومْ / لاستحال الخلقُ والكونُ سُدى
ورأيتَ الأرض حيْرى والنجومْ / تذرع الجوَّ على غير هدى
أيها الأحياءُ يا أسرى القضاء / كيف أمسيتم بدنيا الحدَدِ
وعليكم في غياباتِ الشقاء / ضرَبَتْ آفاقُها بالسَددِ
صرخةٌ في الكون دوَّت يا لها / خَلعَت أصداؤُها قلبَ الزمنْ
قف منها الشوكُ وارتجَّ لها / معبَدُ الليلِ على شُمِّ القُننْ
صرخةٌ منها السمواتُ انثنتْ / وقد استعصت على طارِقها
صاحَ منها الوحش ذعراً والتفتْ / يسألُ الوديانَ عن خالقها
وإذا الموتى يَشقَونَ الوهادْ / كالضواري كلُّهم عاري البدَن
رحمةَ الله أذا يومُ المعادْ / فنسوا من هولِه حتى الكفنْ
أين منكَ الشمسُ يا مشرقها / أتُراها خلف أسوارِ الأبدْ
حجبتها فهيَ لن تطلقَها / يومَ لا يبقى على الأرضِ أحدْ
هبَّتْ الجنُّ تنادي بالثبورْ / في كهوف الأرضِ يا أهلَ الكهوفْ
احشدوا الريحَ على ظهر الصخورْ / وابعثوها ذاتَ نقشٍ وزفيفْ
انزعوا الصخرَ من الطودِ المنيعْ / واجعلوه زادَكم عند الكفاحْ
واصعقوا قُنَّةَ واديه الرفيعْ / تتهدمْ تحت أقدامِ الرياحْ
لا تُصيخوا دق ناقوسُ القضاءْ / فاحملوا أشلاءَ هذا العالمِ
احملوها واعبروا جسرَ الفناءْ / واسبحوا فوق العماء الحالمِ
أينَ منْ عَينيَّ هاتيكَ المجالي
أينَ منْ عَينيَّ هاتيكَ المجالي / يا عروسَ البحرِ يا حُلْمَ الخيالِ
أينَ عُشاقُك سُمَّار الليَالي / أينَ من واديكِ يا مهدَ الجمالِ
موكبُ الغيدِ وعيدُ الكرنفالِ / وَسُرَى الجُنْدولِ في عرض القنالِ
بين كأسٍ يتشهى الكرمُ خمرَهْ /
وحبيبٍ يتمنَّى الكأسُ ثَغْرَهْ /
إلتقتْ عيني بهِ أوَّلَ مرَّهْ /
فعرفتُ الحبَّ من أوَّلِ نظرَهْ /
أينَ منْ عَينيَّ هاتيكَ المجالي / يا عروسَ البحرِ يا حُلْمَ الخيالِ
مرَّ بي مُستضحكاً في قربِ ساقي / يمْزُجُ الراحَ بأقداحٍ رِقاقِ
قد قصدناهُ على غيرِ اتفاقِ / فنَظرنا وابتسمنا للتَّلاقي
وهوَ يَستهدِي على المفْرِقِ زهرَهْ /
ويُسوِّي بيدِ الفتنةِ شَعْرَهْ /
حين مسَّتْ شَفتي أوَّل قطرَهْ /
خِلْتُهُ ذوَّبَ في كأسيَ عِطرَهْ /
أينَ منْ عَينيَّ هاتيكَ المجالي / يا عروسَ البحرِ يا حُلْمَ الخيالِ
ذَهبيُّ الشَّعرِ شَرقيُّ السِّماتِ / مرِحُ الأعْطافِ حلوُ اللَّفتاتِ
كُلَّما قلتُ لهُ خُذْ قالَ هاتِ / يا حبيبَ الرُّوحِ يا أُنسَ الحياةِ
أنا من ضيَّعَ في الأوهامِ عُمْرَهْ /
نسيَ التاريخَ أو أُنسيَ ذِكرَهْ /
غيرَ يومٍ لم يَعُدْ يذكرُ غيرَهْ /
يومَ أنْ قابلته أوَّلَ مرَّهْ /
أينَ منْ عَينيَّ هاتيكَ المجالي / يا عروسَ البحرِ يا حُلْمَ الخيالِ
قالَ من أينَ وأصغى ورَنا / قلتُ من مصرَ غريبٌ ههُنا
قالَ إن كنتَ غريباً فأنا / لم تكنْ فينيسيا لي مَوْطنا
أينَ منِّي الآن أحلامُ البُحَيْرَهْ /
وسماءٌ كَستِ الشطآنَ نضْرَهْ /
منزلي منها على قمةِ صَخْرَهْ /
ذاتِ عينٍ من مَعينِ الماء ثرَّهْ /
أينَ من فارسوفيا تلكَ المَجالي / يا عروسَ البحرِ يا حُلْمَ الخيالِ
قلتُ والنشوةُ تسري في لساني / هاجتِ الذكرى فأينَ الهَرمان
أين وادي السِّحرِ صدَّاحَ المغاني / أين ماءُ النيل أين الضِّفَّتان
آه لو كنتَ معي نختالُ عَبْرَهْ /
بشراعٍ تَسبحُ الأنجمُ إثرَهْ /
حيث يَروي الموجُ في أرخم نَبْرَهْ /
حُلْمَ ليلٍ من ليالي كليوبترَهْ /
أينَ منْ عَينيَّ هاتيكَ المجالي / يا عروسَ البحرِ يا حُلْمَ الخيالِ
أيُّها الملَّاحُ قِفْ بينَ الجسورِ / فتنةِ الدنيا وأحلامِ الدهورِ
صفَّق الموجُ لولدانٍ وحورِ / يُغرقون الليلَ في يَنبوع نورِ
ما ترى الأغيدَ وضَّاء الأسِرَّهْ /
دقَّ بالساق وقد أسلَم صدْرَهْ /
لمحبٍّ لفَّ بالساعد خَصْرَهْ /
ليتَ هذا الليلَ لا يُطْلِعُ فجرَهْ /
أينَ منْ عَينيَّ هاتيكَ المجالي / يا عروسَ البحرِ يا حُلْمَ الخيالِ
رَقَصَ الجُندولُ كالنجم الوضيِّ / فاشْدُ يا ملَّاح بالصوتِ الشجيِّ
وترَنَّمْ بالنشيدِ الوثَنيّ / هذه الليلةُ حُلْمُ العَبقريِّ
شاعتِ الفرحةُ فيها والمسرَّهْ /
وجَلا الحبُّ على العُشّاق سرَّهْ /
يَمنةً مِلْ بي على الماء ويَسرَهْ /
إنَّ للجندول تحت الليل سِحرَهْ /
أين يا فينيسيا تلك المجالي / أين عُشاقُك سُمَّار الليالي
أين من عينيَّ يا مهدَ الجمالِ / موكبُ الغيد وعيدُ الكرنفالِ
يا عروسَ البحرِ يا حُلْمَ الخيالِ /
هاتفُ الفجر الذي راعَ النجومْ
هاتفُ الفجر الذي راعَ النجومْ /
وأطارَ الليلَ عن آفاقِها /
لم يَزَلْ يُغري بنا بنتَ الكرومْ /
ويُثيرُ الوجدَ في عشاقها /
صَيْدَحٌ جُنَّ غراماً بالسَّحَرْ /
أنطقتْهُ لهفةُ الروحِ المشوقْ /
مَوثِقُ القلب وميعادُ النَّظرْ /
مهرجانُ النُّور في عُرس الشروقْ /
فَرَحُ الجَنَّة في ألحانِهِ /
وصداهُ في السَّحاب العابرِ /
أرسَلَ السِّحْرَ على ألوانِه /
من فَمٍ شادٍ وقلبٍ شاعرِ /
يا لهُ صوتاً من الماضي البعيدْ /
رائعَ الإيقاعِ فتَّان النغمْ /
جدَّدَ الأشواقَ باللحن الجديدْ /
وهو كالدنيا عَريقٌ في القِدَمْ /
كم عيونٍ نفَضَتْ أحلامَها /
حينَ نادى غيرَ حُلمٍ واحدِ /
سلسلتْ فيه المُنى أنغامَها /
وهي تشدو بالرحيقِ الخالدِ /
كلَّما لألأ في الشرق السَّنا /
دقَّتِ البابَ الأكُفُّ الناحلهْ /
أيُّها الخمَّارُ قمْ وافتح لنا /
واسقِنا قبلَ رحيلِ القافلهْ /
خَمرةُ العشاقِ لا زالتْ ولا /
جَفَّ من ينبوعها نهرُ الحياهْ /
نضبتْ في قدَحِ العمرِ الطِّلا /
وهيَ في الأرواح تستهوي الشِّفاهْ /
كم شموسٍ عَبرَتْ هذا الفضاء /
وألوفٍ من بدورٍ ونجومْ /
والثرى بين ربيعٍ وشتاء /
ضاحكُ النَّوَّارِ وهَّاجُ الكرومْ /
كلُّ عنقودٍ دموعٌ جَمَدَتْ /
وقلوبٌ فَنيتْ فيها شعاعا /
ما احتواها الفجرُ إلَّا اتّقَدَتْ /
جمرةً تذكو حنيناً والتياعا /
لو أصابَتْ ريشتيها وثَبتْ /
بجناحين من الشَّوق القديمْ /
فاعذرِ الكأسَ إذا ما اضطربتْ /
حَبَباً يخْفِق في كفِّ النديمْ /
أيها الخالدُ في الدنيا غراما /
أينَ نيْسابورُ والروضُ الأنيقْ /
أين معشوقكَ إبريقا وجاما /
هلْ حَطَمْتَ الكأس أم جفَّ الرحيق /
هذه الكَرمةُ والوادي الظليلْ /
مثلما كانا وهذا البلبلُ /
حاضرٌ أشبهُ بالماضي الجميلْ /
لو يُغَنِّيهِ المغني الأولُ /
اليدُ البيضاءُ في كلِّ الغصونْ /
زهرةٌ تَنْدَى ونوْرٌ يُشرقُ /
والثرى من نَفَسِ الرُّوحِ الحنونْ /
مهجةٌ تهفو وقلبٌ يخفقُ /
كم تشهَّيتَ الحبيبَ المُحسِنا /
لو سقى مثواكَ بالكأسِ الصبيب /
وتمنَّيتَ وما أحلى المنى /
خطواتٍ منه والمثوى قريبْ /
أتُرى أعطيتَه سِرَّ الخلودْ /
أم حبوتَ الحسنَ سلطاناً يدومْ /
عجباً تخطئ أسرارَ الوجودْ /
أيها الحاسبُ أعمارَ النجومْ /
شَفَةُ الكأسِ التي أنطقتَها /
لم تَدَعْ للسائلِ الصادي جوابا /
حُجُبٌ عن ناظري مَزَّقْتها /
فرأيتُ العيش برقاً وسرابا /
ولمستُ الخافقَ الحيَّ المنى /
طينةً تبكي بكفِّ الجابلِ /
تشتهي الرَّشْفَةَ مما عَلَّنَا /
وهي ملأى تحت ثغرِ الناهلِ /
نسِيَ الأنخابَ من تهوى وأمسى /
مثلما أمسيتَ يستسقي الغماما /
واشتكتْ رقَّتهُ في الأرض يُبسا /
وغدا الإبريقُ والكأسُ حطاما /
لا فما زالا ولا زال الحبيبْ /
أيها المفْعِمُ بالحبِّ الوجودا /
إنَّ من غنّيْت بالأمس القريبْ /
مَنَحَتْهُ ربَّةُ الشِّعْرِ الخلُودا /
مرَّ بي طيفُكما ذاتَ مساء /
وأنا ما بينَ أحلامي وكأسي /
استبدَّت بيَ أطيافُ الخفاء /
وتغرَّبتُ عن الدنيا بنفسي /
صِحْتُ بالليلِ إلى أن أشفقا /
فليَقفْ نجمُكَ وليَنأ السَّحَرْ /
جَدَّدَ العشاقُ فيكَ الملتقى /
وحَلا الهمسُ على ضوءِ القمَرْ /
فادخلا بين ضياءٍ وغمامْ /
حانةَ الأقدار والليلِ القديمْ /
مجلساً يهفو به رُوحُ الغرامْ /
كلُّ نجمٍ فيه ساقٍ ونديمْ /
وانهلا من سَلْسَلِ النُّورِ المذابْ /
خمرةً ليس لها من عاصرِ /
قَنَعَ الصوفيُّ منها بالحَبابْ /
وهيَ تنهلُّ بكأسِ الشاعرِ /
فاروِ يا شاعرُ عن إشراقِها /
إنَّما كأسُك نورٌ وصفاءْ /
كيفَ طالعتَ على آفاقها /
روعةَ الغيبِ وأسرارَ السماءْ /
كيف أبصرتَ الجمالَ المشرِقا /
بَصَرَ الفانينَ في حُبِّ الإلهْ /
وفتحتَ الأبدَ المستغلِقا /
عن ضمير الكونِ أو سرِّ الحياهْ /
أبروحانيةِ الشَّرقِ العريقْ /
أمْ ببوهيميَّةِ الفنِّ الطَّليقْ /
سَبَحَتْ رُوحُك في الكون السحيقْ /
حيث لا يَسْمعُ طافٍ لغريقْ /
حيث أبصرتَ الذي لم تُبْصِرِ /
أعينٌ مَرَّتْ بهذا العالَمِ /
ذاك سرُّ الشاعرِ المستهترِ /
وفتونِ الفيلسوفِ العالمِ /
ذاك سرُّ النَّغْم المسترسلِ /
والصفاءِ السلسلِ المطَّردِ /
رُوحُ شادٍ فَنِيَتْ في الأزَلِ /
وتحدَّثْ شهوةَ المنتقدِ /
صرَخَتْ آلامُهُ في كُوبهِ /
فهوى يثأرُ من آلامهِ /
إنما البعثُ الذي تشدُو بهِ /
يقظةُ المفجوعِ في أحلامِهِ /
إنما البعثُ المُرَجَّى للوَرَى /
غاية الحيِّ التي لا تُحمَدُ /
إنما تُبْعَثُ في هذا الثَّرى /
بعضَ ما يُقطَفُ أو ما يُحصَدُ /
حَسبُها تعزيةً أنَّا سَنَحْيَا /
في غدٍ مثلَ حياةِ الزَّهَرِ /
وسنطوي الأبدَ المجهولَ طيَّا /
جُدَدَ الأطياف شتَّى الصُّوَرِ /
حسبُها تعزية أن نحلُما /
بأناشيدِ الصَّباحِ المنتظرْ /
ونشقُّ الأرض عن وجهِ السَّما /
حيث نورُ الشمسِ أو ضوءُ القمرْ /
ربما جَدَّدَ أو هاجَ لنَا /
نبأً أو قِصةً مِنْ حُبِّنَا /
نوْحُ ورقاءَ أرنَّتْ حَوْلنا /
أو شجَى قُبّرةٍ مرَّتْ بنا /
أو خُطَى إلفينِ في فجرِ الصِّبا /
أترَعا كأسَيهما مِنْ ذوبهِ /
أو صدَى رَاعٍ على تلكَ الرُّبى /
صَبَّ في النَّاي أغاني حُبِّهِ /
حُلُمٌ مَثَّلتُهُ في خاطري /
فعشقتُ الخُلدَ في هذا الرُّواءْ /
أنكرُوهُ فَحَكَوا عن شاعرِ /
جُنَّ بالخمر وأغوتْه النساءْ /
ولقد قالوا شذوذٌ مُغرِبُ /
وإباحيَّة لاهٍ لا يُفيقْ /
آهِ لو يَدْرونَ ما يضطربُ /
بين جنبيْكَ من الحزن العميقْ /
أوَلا يغْدو الخليعَ الماجِنا /
من رأى عُقْبَى الصباحِ الباسِمِ /
ورأى الحيَّ جماداً ساكنا /
بعد ذيَّاك الحراك الدائمِ /
أوَلا يُغْرِبُ في نشوتِه /
شاربُ الغُصَّةِ في اليومِ الأخيرْ /
أوَلا يُمْعنُ في شهوتهِ /
مُسْلِمُ الجسمِ إلى الدودِ الحقيرْ /
قصةُ الزُّهدِ التي غَنَّوْا لها /
علَّلتهمْ بالسرابِ الخادعِ /
نشوةُ الشاعر ما أجملها /
هيَ مفتاحُ الخلودِ الضّائعِ /
لو أصابوا حكمةً ما اتَّهموا /
وبكى لاحيكَ والمسْتهجنُ /
فهو من دنياهمُ لو عَلموا /
عَبَثٌ مُرٌّ ولَهْوٌ مُحزنُ /
كنزُ أحلامِكَ يا شاعرُ في هذا المكانِ
كنزُ أحلامِكَ يا شاعرُ في هذا المكانِ /
سحرُ أنغامِكَ طوَّافٌ بهاتيكَ المغاني /
فجرُ أيامِكَ رفَّافٌ على هذي المحاني /
أيها الشاعرُ هذا الرَّيْنُ فاصدحْ بالأغاني /
كلُّ حيٍّ وجمادٍ ههنا / هاتفٌ يدعو الحبيبَ المحسِنا
يا أخا الرُّوحِ دعا الشوقُ بنا / فاسْقِنا من خمرةِ الرَّيْن اسقنا
عالَمُ الفتنةِ يا شاعرُ أم دنيا الخيالِ /
أمروجٌ عُلِّقتْ بين سحابٍ وجبالِ /
ضحكتْ بين قصورٍ كأساطيرِ الليالي /
هذه الجنةُ فانظرْ أيَّ سحرٍ وجمالِ /
يا حبيبَ الروحِ يا حُلمَ السَّنا / هذه ساعتُنا قم غنِّنا
سَكِرَ العشاقُ إلَّا أننا / فاسقنا من خمرةِ الرّينِ اسقنا
ليلةٌ فوق ضِفافِ الرينِ حُلْمُ الشعراءِ /
أليالي الشرقِ يا شاعرُ أم عرس السماءِ /
الدُّجى سكرانُ والأنجمُ بعضُ الندماءِ /
أنصتَ الغابُ وأصغى النهرُ من صخرٍ وماءِ /
فاسمعِ الآن البشيرَ المعلِنا / حانتِ الليلةُ والفجرُ دنا
فاملإِ الأقداحَ من هذا الجنى / واسْقنا من خمرة الرينِ اسقنا
ها هم العشاقُ قد هبُّوا إلى الوادي خفافا /
أقبلوا كالضوءِ أطيافاً وأحلاماً لطافا /
ملأوا الشاطئَ همساً والبساتينَ هُتافا /
أيها الشاعرُ هذا الرَّيْنُ فاستوحِ الضِّفافا /
الصِّبا والحسنُ والحبُّ هنا / يا حبيبي هذه الدنيا لنا
فاملإِ الكأس على شدوِ المنى / واسقنا من خمرةِ الرينِ اسقنا
يا ابنة الأرِ حديثُ الأمس ما أعذب ذكرَهْ /
كان حلما أن نرى الرين وأن نشرب خمرَهْ /
وشربنا فسكرنا وأفقنا بعد سَكرَهْ /
ووقفنا لوداعٍ وافترقنا بعد نظرَهْ /
أين أنت الآن أم أين أنا / ضربتْ أيدي الليالي بيننا
غيرَ صوتٍ طاف كالحلمِ بنا / إسقنا من خمرة الرَّينِ اسقنا
كليوبترا أيُّ حُلمٍ من لياليكِ الحسانِ
كليوبترا أيُّ حُلمٍ من لياليكِ الحسانِ /
طافَ بالموجِ فغنَّى وتغَنَّى الشاطئانِ /
وهفَا كلُّ فؤادٍ وشدا كلُّ لسانِ /
هذه فاتنةُ الدُّنيا وحسناءُ الزمانِ /
بُعِثتْ في زورقٍ مُسْتَلهمٍ من كلِّ فنِّ /
مَرِحِ المجدافِ يختالُ بحوراءَ تُغنِّي /
يا حبيبي هذه ليلةُ حُبِّي /
آه لو شاركتَني أفراحَ قلبي /
نبأةٌ كالكأس دارتْ بين عُشَّاق سُكارى /
سَبَقَتْ كلَّ جناحٍ في سماءِ النيل طارا /
تحملُ الفتنةَ والفرحةَ والوجدَ المثارا /
حلوةً صافيةَ اللحن كأحلام العذارى /
حُلُم عذراءَ دعاها حبُّها ذات مساءِ /
فتغنَّتْ بشراعٍ من خيالِ الشعراءِ /
يا حبيبي هذه ليلةُ حُبِّي /
آهِ لو شاركتَني أفراحَ قلبي /
وتجلَّى الزورقُ الصاعدُ نشوانَ يَميدُ /
يَتهدَّاهُ على الموج نَواتيُّ عبيدُ /
المجاديفُ بأيديهمْ هتافٌ ونشيدُ /
ومُصَلُّونَ لهم في النهرِ محرابٌ عتيدُ /
سَحرَتهم روْعةُ الليلِ فهُمْ خلْقٌ جديدُ /
كلهم ربٌّ يُغنِّي وإلهٌ يستعيدُ /
يا حبيبي هذه ليلةُ حُبِّي /
آهِ لو شاركتَني أفراحَ قلبي /
إصدَحي أيتها الأرواحُ باللْحنِ البديعِ /
إمرَحي يا راقصات الضوءِ بالموج الخليعِ /
قَبِّلي تحت شراعي حُلُمَ الفنِّ الرفيعِ /
زورقاً بين ضفاف النيلِ في ليلِ الرَّبيعِ /
رنَّحته موجةٌ تلعبُ في ضوءِ النجومِ /
وتُنادي بشعاعٍ راقصٍ فوقَ الغيومِ /
يا حبيبي هذه ليلةُ حُبِّي /
آهِ لو شاركتَني أفراحَ قلبي /
ليلُنا خمرٌ وأشواقٌ تُغنِّي حولنا /
وشراعٌ سابحٌ في النُّور يَرْعى ظِلّنا /
كان في الليل سُكارى وأفاقوا قبلنا /
ليتهم قد عرفوا الحبَّ فباتوا مثلنا /
كلما غرَّد كأسٌ شربوا الخمرةَ لحنا /
يا حبيبي كلُّ ما في الليل روحٌ يتغنَّى /
هات كأسي إنّها ليلة حُبِّي /
آهِ لو شاركتني أفراحَ قلبي /
يا ضِفافَ النيلِ باللّهِ ويا خُضرَ الروابي /
هل رأيتنَّ على النهر فتىً غضَّ الإهابِ /
أسمرَ الجبهةِ كالخمرةِ في النُّورِ المذابِ /
سابحاً في زورق من صُنع أحلامِ الشبابِ /
إن يكُنْ مَرّ وحيَّا من بعيدٍ أو قريبِ /
فصفيهِ وأعيدي وصفَهُ فهو حبيبي /
يا حبيبي هذه ليلةُ حُبِّي /
آهِ لو شاركتَني أفراحَ قلبي /
أنتِ يا من عُدْتِ بالذكرى وأحلام الليالي /
يا ابنةَ النَّهر الذي غنّاهُ أربابُ الخيالِ /
وتمنَّت فيه لو تسبحُ ربَّاتُ الجمالِ /
موجهُ الشّادي عشيقُ النُّورِ معبودُ الظلالِ /
لم يَزَلْ يروي وتُصغي للرواياتِ الدهورُ /
والضفافُ الخضر سكرى والسَّنى كاسٌ تدورُ /
حُلمٌ لم تروهِ ليلةُ حُبِّ /
فاذكريه واسمعي أفراحَ قلبي /
عَبَرَتْ بي في صباحٍ باكرِ
عَبَرَتْ بي في صباحٍ باكرِ / فتنةَ العين وشُغلَ الخاطرِ
شعرُها الأشقرُ فيه وردةٌ / لونها من شهوات الشاعرِ
ورشيقاتُ الخطى في وقعها / مُنبئاتي بشبابٍ ساحرِ
وبعينيها رُؤىً حائرة / بين أسرارِ مساءٍ غابرِ
صوَّرَت من حاضر العيش ومن / أمسِها قصةَ حبٍّ عاثرِ
قلتُ والفجرُ سنى ياقوتةٍ / لألأت خلفَ السحاب الماطرِ
هذه الساعةَ تسعى امرأةٌ / حين لم يخفقْ جناحُ الطائرِ
مَن تراها وإلى أين ومِن / أيِّ خدرٍ طلعتْ أو سامرِ
تقطع الإفريز من ناحيتي / كأسيرٍ هاربٍ من آسرِ
تتَّقي الأعينَ أن تبصرها / وهي لا تألو التفاتَ الحائرِ
لا تبالي بلَلَ الثوبِ ولا / لفحةَ البردِ الشفيفِ الثائرِ
أو تبالي قدماها خاضتا / مسربَ الماءِ الدفوق الهامرِ
أنتِ يا ساريةَ الفجر اسمعي / دعوةَ الروح البريء الطاهرِ
مرَّ بي مثلُكِ لم يُشْعِرنني / غيرَ إشفاقِ الحفيِّ الناصرِ
وأنا الشاعرُ قلبي رحمةٌ / لفريساتِ القضاءِ الجائرِ
إنْ نأتْ دارُك يا أختُ فما / بَعُدَتْ دارُ الغريبِ العابرِ
شاطريني ذلك المأوى فما / أتقاضاكِ وفاءَ الشاكرِ
غرفةٌ آلهةُ الفنِّ بها / تتلقّاكِ لقاءَ الظافرِ
وتُغنّيكِ نشيداً مثلَهُ / ما تغنَّتْ لحبيبٍ زائرِ
هاتِ كفّيكِ ولا تضطربي / لا تخالي ريبةً في ناظري
سوف يؤويكِ جدارٌ ساخرٌ / من أباطيلِ الزمان الساخرِ
سوف يحويكِ فِراشٌ صامتٌ / لكِ فيه همساتُ الذّاكرِ
سوف يطويك سكونٌ لم يَشُبْ / صَفوَهُ لغْوُ مُحبٍّ غادرِ
وأناديكِ وأستدني يداً / لمستْ روحي وهزَّت خاطري
وأحيّيكِ وأستحْيِي فماً / حَقُّهُ قُبْلَةُ رَبٍّ غافرِ
يا رفاقي هذه السَّاعةُ من حُلمِ الزَّمانِ
يا رفاقي هذه السَّاعةُ من حُلمِ الزَّمانِ /
إنَّ هذا زَمَنُ الحبِّ فضِجُّوا بالأغاني /
إرفعوا الأقداحَ ملأى واشربوا نخْبَ الحسانِ /
فالربيعُ السَّمْحُ يدعوكم إلى أقربِ حانِ /
الربيعُ المرِحُ الجذلانُ يختالُ فخورا /
إنَّهُ الحسنُ الذي يملأُ بالحبِّ الصدورا /
كيف لا نقطفُ منه الثَّمرَ الحلوَ النضيرا /
أتِ يا أيتها الشمسُ املأي الآفاق نورا /
يا رفاقي قد دعانا زمن الحبِّ فهيَّا /
أطْلَعَ الروضُ جنَى الكرمةِ والزَّهرَ النديّا /
أقطفوا الأزهارَ منه واعصروا الكرْمَ الجنِيّا /
يا رفاقي قد دعانا زمَنُ الحبِّ فهيّا /
ربَّتي ربَّةُ أشعاري وحُبِّي وغنائي
ربَّتي ربَّةُ أشعاري وحُبِّي وغنائي /
هي حوريَّةُ غابٍ لم تَبنْ للشعراءِ /
وعروسٌ من بنات الجنِّ لم تبْدُ لرائي /
مثلَها لم يَرَ صَيَّادٌ على صفحةِ ماءِ /
فِتنةُ الشاعر في وحدتهِ كلَّ مساءِ /
غنَّتِ الأحلامُ في غرفتهِ لحنَ اللِّقاءِ /
وسرَتْ ترْقُصُ حوليْهِ على خَفق الهواءِ /
ورفيفِ السُّحبِ والأنجم والشهبِ الوضاءِ /
ولغيري لم تكنْ تخطرُ في هذا الرواءِ /
لا ولم تروِ كهذا اللحنِ في هذا الصّفاءِ /
وليالي الصيفِ منها كأماسيِّ الشتاءِ /
بِتُّ أسقيها وتسقيني على محض الوفاءِ /
خمرةً ما قبَّلتْ غير شفاهِ الأنبياءِ /
خمرةً في الغيبِ كانت قطراتٍ من ضياءِ /
خُتِمَتْ بالشفَق الورديِّ في أصفى إناءِ /
جُبلتْ فخّارتاهُ من صفاءٍ ونقاءِ /
حدَّثوا عنها وما أحلى حديثَ الندماءِ /
قال منهم واحدٌ في غير زهوٍ وادِّعاءِ /
هذه الخمرةُ كانتْ لملوكٍ أتقياءِ /
عصروها من جنى الربَّاتِ في فجر شتاءِ /
ثم آلتْ لغلامٍ رائعٍ جمِّ الذكاءِ /
شرِهِ النظرة عربيدٍ شديدِ الغُلواءِ /
عشقَ البحرَ وعافَ القصرَ مرفوعَ البناءِ /
ومضى يضربُ في الكون على غير اهتداءِ /
عاش كالقرصانِ يطوي كلَّ بحرٍ وفضاءِ /
بشراعٍ صُنْعُهُ إحدى أعاجيبِ الخفاءِ /
غَزلاً يملك بالشعر مقاليدَ النساءِ /
كلما هام بأُنثى أو صَبا بعد اشتهاءِ /
وشكا الكأسُ إليهِ طولَ هجرٍ وجفاءِ /
همَّ أن يشربَ فارتدَّ فأغضى في حياءِ /
ضَنَّ بالقطرة منها وكذا شرعُ الولاءِ /
ومضى جيلٌ وجيلٌ وهو مشبوبُ الدماءِ /
ضارباً في العاصفِ الثائرِ والرِّيح الرُّخاءِ /
وأتاهُ القدرُ الساخرُ أو حكم القضاءِ /
فدعا الرَّباتِ واستصرخَ من فرطِ عياءِ /
فأتَتْهُ ربَّة الشعر على رغم التنائي /
قال إنْ متُّ فما أجدرُ مثلي بالرثاءِ /
ورثاءٌ منك يُحييني على رغم الفناءِ /
وحباها سِرَّهُ الخالدَ أو سرَّ البقاءِ /
هامساً والنُّورُ في ناظره وَشْكَ انطفاءِ /
لكِ ما اسُتودِعتُ أو ما صُنتُ في هذا الإناءِ /
لا تذودي عنه معشوقكِ يا بنتَ السماءِ /
إنه مَلاحُ بحرٍ ما لهُ من نُظراءِ /
فيهِ أحيا وبه أنشرُ في البحر لوائي /
هذه خَمرة أشعاري وحُبِّي وغنائي /
في قصيدٍ مُحدَثٍ أو في حديثِ القدماءِ /
يا حبيبي أقبلَ اللَّيلُ وناداني الغَرامْ
يا حبيبي أقبلَ اللَّيلُ وناداني الغَرامْ /
أيُّ سرٍّ لمحبٍّ لم يُصَوِّرهُ الظلامْ /
كلُّ نجم مهجةٌ تهفو وعينٌ لا تنامْ /
وشعاعُ البدر معشوقٌ به جُنَّ الغمامْ /
يا حبيبي كلُّ عيشٍ ما خلا الحبَّ حرامْ /
وحرَامٌ يا حبيبي /
يا حبيبي غنَّت الفرحةُ في كلّ مكانِ /
فهُنا البُلبلُ يشدُو وهناكَ العاشقانِ /
غيرَ أنِّي أشتكي الوحشةَ في ظلّ التداني /
إنما روحُك في الكونِ وروحي توْأمانِ /
لا تدَعني أقطَع الأيامَ وحدي وأُعاني /
فحرَامٌ يا حبيبي /
يا حبيبي سئِمَ اللَّيل سكوتي واكتئابي /
أنا أهواكَ ولكن أنتَ لا تعلمُ ما بي /
لحظةً بين ذراعيكَ فقد طالَ عذابي /
لحظةً أمزجُ أنفاسَك بالقلبِ المذابِ /
وأُغنّي ويُغني لكَ حُبِّي وشبابي /
وسلامٌ يا حبيبي /
إسمعي أيَّتُها الروحُ أفي الكون غِناءُ
إسمعي أيَّتُها الروحُ أفي الكون غِناءُ /
وانظري هل في نواحي الأرض بالليل ضياءُ /
لا تُرَاعي أنْ يكنْ قصَّرَ عنكِ البُشراءُ /
فالنواقيس التي حيَّتكِ أشجاها القضاءُ /
الشَّجَى رَجْعُ صداها والأسى والبُرحاءُ /
والتراتيلُ من البيعَة نوحٌ وبكاءُ /
ردَّدتهنَّ الثكالى واليتامى الشهداءُ /
والمصابيحُ التي كان بها يُزهى المساءُ /
خنقتْها قبضةُ الشرِّ فما فيها ذَماءُ /
صبغوها بسوادٍ فهيَ والليلُ سواءُ /
مأتمٌ للنور قام الويلُ فيه والشقاءُ /
تحت ليلٍ ما له بدءٌ ولا منهُ انتهاءُ /
أيها المبعوث لا ضنَّتْ برُجعاكَ السماءُ /
أُنظرِ الأرضَ فهل في الأرض حُبٌّ وإخاءُ /
نسِيَ القومُ وصاياكَ وضلُّوا وأساءوا /
وكما باعوكَ يا منقذُ بِيعَ الأبرياءُ /
ليلةَ الميلاد والدنيا دموعٌ ودماءُ /
في ربوعٍ كانَ فيها لكِ بالسلم ازدهاءُ /
باسمه يشدو المغنُّون ويشدو الشُّعراءُ /
أين ولَّتْ هذه الفرحةُ أم أين الصَّفاءُ /
لم تصافحكِ من الأطفال أحلامٌ وِضاءُ /
رقدوا غيرَ عيونٍ رِيعَ منهنَّ الفضاءُ /
ترقب الآباءَ هلْ عادوا وهل حان اللقاءُ /
بين أيدي أُمهاتٍ بِتنَ والليل جفاءُ /
في طوايا النفس يبكين وقد عزَّ الرجاءُ /
ويحهم أين تُراهم هؤلاء الأشقياءُ /
هم وراء الليل أجسادٌ وأرواحٌ هباءُ /
ووجوهٌ رسَمَ الرعبُ عليها ما يشاءُ /
خندقوا في مأزقِ الموتِ وما منهُ نجاءُ /
بين موجٍ من سعيرٍ يتوقَّاه الفناءُ /
وجبالٍ من رُكام الثلج يُرسيها الشتاءُ /
وحديدٍ طائرٍ يحذر مسراه الهواءُ /
وعجيبٌ فيمَ للموت يُساق التعساءُ /
في سبيل الخبز والخبز اكتسابٌ ورضاءُ /
في سبيل الحقِّ والحقُّ لدى القوم طلاءُ /
في سبيل المجد والمجدُ من البغي براءُ /
أو في المجزرة الكبرى تنالُ المجدَ شاءُ /
كذب الباغي وللسيف بكفَّيه مَضاءُ /
وخداعٌ كلُّ ما قال وزورٌ وافتراءُ /
أيها الشرق الذي خصَّته بالرُّوح السماءُ /
هذه الروح التي شيدَ بكفَّيها البناءُ /
والتي من نورها العالم يُجْلى ويُضاءُ /
يا أبا الحكمة لا هانَ عليك الحكماءُ /
نادِ أوربا فقد ينفعها منك النداءُ /
حانتِ الساعةُ يا أختاهُ أم حقَّ الجزاءُ /
دِنتِ بالقوَّة حتى صَرَعَتكِ الكبرياءُ /
أرقصي في النَّار أنتِ اليوم للنار غذاءُ /
واشربي في حانة الشيطان ما فاض الإناءُ /
حانةٌ للموتِ فيها من دَمِ القتلى انتشاءُ /
نادِمي مَن شئتِ فيها فالمنايا الندماءُ /
وارفعي الكأس وغنّي وعلى الدنيا العفاءُ /
يا قوياً لم يَهُنْ يوماً عليه الضعفاءُ /
وضعيفاً واسمه يفزعُ منه الأقوياءُ /
وأنا المسلمُ لا يجحَدُ عندي الأنبياءُ /
أنتَ في القرآن حُبٌّ وجمالٌ ونقاءُ /
عَجبٌ فِديتُك المُثلى وفي القول عزاءُ /
ألهذا العالَمِ الشرِّير قد ضاع الفداءُ /
غنِّ بالهجرة عاماً بعد عام
غنِّ بالهجرة عاماً بعد عام / وادْعُ للحقِّ وبشِّر بالسلامِ
وترسَّلْ يا قصيدي نَغَماً / وتنقَّلْ بين مَوْجٍ وغمامِ
صوتُكَ الحقُّ فلا يأخُذْكَ ما / في نواحي الأرض من بغيٍ وذامِ
كنْ بشيرَ الحبّ والنور إلى / مُهَجٍ كلْمى وأكبادٍ دوامي
هجرتْ أوطانها واغتربتْ / في مثاليٍّ من المبدأ سامِ
أنِفَتْ عيشَ الرقيق المجتبى / وأبَتْ ذُلَّ الضَّمير المستضامِ
يا دُعاةَ الحقِّ هذه محنةٌ / تُشْعِلُ الرّوحَ بمشبوب الضرامِ
هذه حربُ حياةٍ أو حِمام / وصراعُ الخيرِ والشَّرِّ العُقامِ
خاضها الإسلامُ فرداً وهَدى / بيراعٍ وتحدَّى بحسامِ
هجرةٌ كانتْ إلى اللّه وفي / خطْوها مولِدُ أحْداثٍ جِسامِ
أخطأ الشيطانُ مسراها فيا / ضَلَّةَ الشيطانِ في تلك الموامي
آبَ بالخيبةِ من غايتهِ / وهو فوق الأرض ملعونُ المقامِ
صفحاتٌ من صراعٍ خالدٍ / ضُمِّنَتْ كلَّ فخارٍ ووسامِ
لم تُتَحْ يوماً لجبَّارٍ طَغَى / أو لباغٍ فاتكِ السيف عُرامِ
بل لدَاعٍ أعزلٍ في قومهِ / مستباحِ الدَّمِ مهدورِ الذِّمامِ
زلزلَ العالَم من أقطاره / بقُوى الرُّوح على القوم الطغامِ
وبنى أوَّلَ دنيا حُرَّة / بَرِئتْ من كل ظلمٍ وأثامِ
تَسَعُ الناسَ على ألوانهم / لم تفرِّقْ بين آريٍّ وسامي
حاطمَ الأصنامِ هل منكَ يدٌ / تذَرُ الظلمَ صديعاً من حُطامِ
لم تُطِقْها حجَراً أو خشباً / ويُطاق اليوم أصنامُ الأنامِ
وعجيبٌ صُنْعُهم في زمنٍ / أبصر الأعمى به والمتعامي
آدميُّون قَزَامى انتحلوا / منطقَ الآلهةِ الشُّمِّ العظامِ
وتراهم مثلَما تسمعهم / صُوَرَ الوهم وأحلامَ النيامِ
بشَّروا الناس بدنيا ويحهم / أيُّ دنيا من دَمارٍ وحِمامِ
تسلُب الناسَ حِجاهم وتَرى / أُمَم الأرض قطيعاً من سوامِ
قِيلَ للحق وما أعجَبَه / في ادِّعاءٍ لفَّقوهُ واتهامِ
قِيلَ للخُبز فَهل أطعمهمْ / حاتمُ الحرب سوى الموت الزؤامِ
أنتِ يا أيَّتُها الشَّمسُ اطلعي / من وراء الليل والغيم الرُّكامِ
سدِّدي بالنار قوساً واصرعي / مارِدَ الشرِّ بمشبوب السِّهامِ
ضلَّتِ الأرضُ بليلٍ داهِم / يحذر النَّجْمُ دُجاهُ المترامي
دَمِيَتْ أعيُننا في جنحه / واشتَكتْ حتى خفافيشُ الظلامِ
يا قُلوباً ضمَّها الشّرقُ على / موْردٍ للحقِّ والحبِّ التُّؤامِ
وشعوباً جَمَعتْها أمَّةٌ / بينَ مصرٍ وعراقٍ وشآمِ
وبطوناً من بَقايا طارقٍ / في البقاعِ الجردِ والخضرِ النوامي
ما شدا شعري بها إلَّا هَفَتْ / بالقِبابِ البيضِ أو حُمْرِ الخيامِ
كلُّ روح بهُدىً من حُبّها / كلُّ قلبٍ بشعاعٍ من غرامِ
تذكُرُ القُرْبى وتسْتدني بها / مَشرق الآمال في مطلع عامِ
وتُرجّى عودةَ المجد الذي / أعجزَ الباني وأعيا المتسامي
من بيوتٍ هاشميّاتِ البنى / وعُروشٍ أمويَّات الدعامِ
ونتاجٍ من نُهىً جبَّارةٍ / وتراثٍ من حَضاراتٍ ضخامِ
قُلْ لها يا عامُ لا هُنتِ ولا / كنتِ إلَّا مهدَ أحرارٍ كرامِ
ذاك مجدٌ لم يَنلْهُ أهلهُ / بالتمني والتغني والكلامِ
بل بآلامٍ وصبرٍ وضنىً / ودموع ودمٍ حُرٍّ سجامِ
قُلْ لها إنَّ الرَّحى دائرةٌ / والليالي بينَ كرٍ وصدامِ
فاستعدِّي لغدٍ إنَّ غداً / نُهْزَةُ السبَّاق في هذا الزحامِ
واجمعي أمركِ لليَوْمِ الذي / يَحْمِل البشرى لعُشَّاق السلامِ
من لياليَّ التي لم يهدأ الشوق عليها
من لياليَّ التي لم يهدأ الشوق عليها /
من أمانيَّ التي كانتْ رُؤىً في ناظريها /
من أغانيَّ التي استلهمتُها من شفتيها /
من دموع مازجَتْ أدمعَها بين يديها /
كلُّ ما قد رقَّ من شعري وما راق لديها /
وهو ما ضمَّ كتابٌ هو منها وإليها /
أقسمَتْ لا يَعْصِ جبَّارٌ هواها
أقسمَتْ لا يَعْصِ جبَّارٌ هواها / أبَدَ الدهرِ وإنْ كان إلها
لا ولا أفلَتَ منها فاتنٌ / قرَّبَتْهُ واحتوتهُ قبضتاها
قِيلَ عنها إنّها ساحرةٌ / تتحدَّى سطوةَ الجنِّ سُطاها
وعجوزٌ بالصِّبا موعودةٌ / وبعمرِ الدهر موعودٌ صباها
حَذِقَتْ عِلمَ الأوالي ووعتْ / قصصَ الحبِّ ومأثورَ لغاها
قِيلَ لا يُذهِبُ عنها كيدَها / غيرُ شيطانٍ ولا يمحو رُقاها
ورووا عنها أحاديثَ هوىً / آثمٍ يُغرِبُ فيها من رواها
وأساطيرَ ليالٍ صُبِغَتْ / بدماءٍ سفكتهنَّ يداها
يذكرُ الركبانُ عنها أنّها / سرقتْ من كل حسناءَ فتاها
وقتيلٌ بين عينيْ زوجه / كلُّ معشوقٍ دَعتهُ فعصاها
كلما التذّتْ وصالاً من فتىً / سحرَتهُ وهو في حِضنِ هواها
واحتوتهُ في أصيصٍ زهرةً / يسرِقُ الأنفاسَ من طيب شذاها
زهراتٌ مثَّلتْ عشّاقها / بعيونٍ غرِقاتٍ في كراها
فإذا ما الليلُ أرخى سِتره / أطلقَتْ أشباحَهم في منتداها
مُهَجا خفّاقة ملتاعةً / وعيوناً ظامئاتٍ وشفاها
تستعيد الأمسَ في لذاتها / ولياليها وأشواقِ رُؤاها
تتلوّى بينهم مشبوبةً / شهوةً يلتهمُ الليلَ لظاها
عبرَ الشيطانُ يوماً أُفقَها / فرأى ثمَّ فنوناً ما رآها
أيُّ وادٍ رائعٍ أحجارُهُ / تحذر الرّيحُ عليهنّ سُراها
أيُّ قصرٍ باذخٍ في قمّةٍ / تحسَبُ الأنجمَ من بعض ذُراها
ودروبٍ حولها ملتفّةٍ / كأفاعٍ سُمِّرتْ في منحناها
وبروجٍ لحمامٍ زاجلٍ / هو بالأقدارِ يهفو من كُواها
ظنَّها من عبقرٍ ناحيةً / أخطأتْ عيناهُ بالأمس صُواها
فهوى من حالقٍ يرتادُها / طُرقاتٍ زخرفَ الفنُّ حصاها
ورنا حيث رنا فاهتاجه / منظرُ الزَّهر الذي زان رباها
أُصص من ذَهَبٍ تحسبُها / بعثرتْ فيها الدراريُّ سناها
كلما مَسُّتْ يداه زهرةً / عطفَتهُ لقطافٍ شفتاها
فجنَى ما شاءَ حتى لم يَدَعْ / في أصيصٍ زهرةً إلَّا جناها
وانتشى من عطرها فانتثرتْ / مثل حبَّاتٍ من الماس يراها
عجباً ما لمستْ غيرَ الثرى / أيُّ نورٍ شاعَ فيها فزهاها
نظرةٌ أو خطرةٌ واختلجتْ / فعرتهُ هِزّةٌ مما عراها
واستحالت بين عينيه دُمىً / حيَّةً تستبقُ البابَ خطاها
فُكَّ عنها السحرُ فارتدتْ إلى / عالم الحسِّ وخفّتْ قدماها
ورنا الشيطانُ في آثارها / سابحاً في دهشةٍ طال مداها
يا لها كيف استقرت ثم فرّت / لحظة مرت ولكن ما وعاها
ودنا الليلُ ورنّتْ صدحةٌ / نبّهته حين لا يبغي انتباها
فإذا مائدةٌ حافلةٌ / بالأباريقِ ترامى طرفاها
ملؤها الخمرةُ نوراً وشذاً / نَسَمَتْ وائتلقتْ فخَّارتاها
وصحافٍ كتهاويلِ الرؤى / تجد الأنفسُ فيها مُشتهاها
وإذا مقصورةٌ من حوله / خالها تَنبضُ بالرُّوح دُماها
وقفت غانيةٌ في بابها / قد تعرَّت غيرَ فضلٍ من حُلاها
يا لها من فتنةٍ قد صُوّرَتْ / في قوام امرأةٍ راع صباها
طلعتْ في هالةٍ من خُضرةٍ / وعيونٍ يترقرقن مياها
ثم نادتْ يا أحبَّايَ انهضوا / واغنموا الليلةَ حتى منتهاها
وتلاشى الصوتُ لا رجعَ صدىً / لا ولا ثمَّ مُجيبٌ لنداها
فعرتها رِعدةٌ فالتفتتْ / فرأتْهُ فتلقّاها وِجاها
أبصرتْ وجهاً كوجه المسْخِ لم / يَتَقنَّعْ شاهَ هذا الوجهُ شاها
ورأت كفَّيهِ يَندى منهما / أرَجُ الزَّهر فأجَّتْ نظرتاها
عرفتْ ما اجترحتهُ يدُهُ / أو لا يعرفُ من داسَ حماها
يا لهذا المسخ دَوّتْ ومَشَتْ / صيحةٌ ينذر بالويل صداها
فانثنى الشيطانُ عنها صارخاً / أتراها تتحدَّى من تُراها
فبَدتْ في شفتيها آيةٌ / من مُبين السِّحر أو ما فمحاها
فَدَنَتْ ترمقهُ فاختلجتْ / عينهُ حين أشارتْ بعصاها
بُدِّلتْ تلك العصا جمجمةً / رِيعَ لمّا شرَعتها فاتقاها
هيَ من مَلْكةِ جِنٍّ من تُصِبْ / يخترمهُ بالمنايا محجراها
فتنحّى غاضباً مبتئساً / وتنحَّتْ والأسى يُلجِمُ فاها
وسجى بينهما الصمتُ الذي / يتغَشّى الأرضَ إن حان رداها
والتقتْ عيناهما فاستروحا / راحةً من قبلها ما عرفاها
عرفتْ من هو فاستخذتْ له / ورأى من هي فاستحيا قُواها
قال أختاهُ اغفري لي نظرةً / إشتهتْ كلَّ جمالٍ واشتهاها
واغفري لي شِرَّةً عارمةً / في دمي لو أتأبَّى ما أباها
يا لهذا الدم ما عنصرُهُ / كلُّ ما في النار من وَقْدِ لظاها
فأجابتْ زهراتي رُدَّها / إنْ تَقُلْ حقاً ولا تبغ أذاها
قال لا أذكر إلا حُلُماً / لحظةً ضلَّ بها عقلي وتاها
أهيَ جِسمٌ أهي روحٌ إن تكنْ / لا يَردُّ الروحَ إلا من براها
فأحسَّتْ هول ما يجهلهُ / فاستحت منه وأغضَى ناظراها
صاحَ غفرانُكِ لا تبتئسي / أطلبي ما شئتِ منِّي ما خلاها
أأنا من تتخَطّى قدَمي / مَسبحَ الشمس فيربدُّ ضحاها
أأنا من يطفئُ النجمَ فمي / وأردُّ الأرضَ غرقى في دُجاها
وتمسُّ القممَ الشمَّ يدي / فيُرى منحدِراً لي مُرتقاها
وأجيءُ الأرضَ من محورها / فإذا بي يتدانى قطباها
وأصدُّ الريحَ عن وجهتها / فتجوبُ الكونَ لا تدري اتّجاها
أأراني عاجزاً عن دركِ ما / تتمنَّى امرأةٌ عزّت مناها
آهِ ما أضعفَ سلطاني وما / كنتُ إلَّا بغروري أتباهى
قالت الآن سلاماً زائري / ورِضى نفسي إن رُمْتَ رضاها
أيها الشيطانُ ما أعظم ما / قُلْتَهُ ما قُلتَ لغواً أو سفاها
زهراتي تلك ما كانت سوى / شهواتٍ جسميَ الطاغي نماها
قهرتني واستذلّتني بها / غيرَةٌ ينهشُ قلبي عقرباها
وأنانيةُ أنثى لم تُطِقْ / فاتناً تملكهُ أنثى سواها
قد صَنَعْت الحقَّ قد عاقبتني / فارحمِ المرأةَ في ذُلِّ هواها
فدنا منها فألفتْ وجههُ / غير ما كانَ لقد ألفَتْ أخاها
قرّبتْ بينهما روحُ الأسى / فاجتبتهُ بعدَ حِقد واجتباها
واستهلّت دمعةٌ منْ عينها / دمعةٌ رفّتْ وشفّتْ قطرتاها
ضُمِّنتْ كلّ عذاب وضنىً / كلَّ ما في النفس من بثِّ أساها
ورآها فتندّتْ عينهُ / رحمةً فاحتال يُخفي من بُكاها
وبكى الشيطانُ يا لامرأةٍ / أبكتِ الشيطانَ لمَّا أنْ رآها
بعد خمسٍ جِئتنِي يا ذكرياتي
بعد خمسٍ جِئتنِي يا ذكرياتي / والأماني بين موتٍ وحياةِ
بعد خمسٍ يا لها في السنواتِ / حمَلتْ كلَّ ذنوب الكائناتِ
صَاح فيها زُحَلٌ بالظلماتِ / فطوتْ نجمي وسدَّت طُرقاتي
ورمَتْ شملي ببينٍ وشتاتِ / والصِّبا نشوانُ والحبُّ مؤاتي
فاحفظيها في المآسي الخالداتِ / أو دعيها واذكري لي خطراتي
أرجعي لي بعضَ أحلامي وهاتي / صفَو أنغامي وردِّي صدحاتي
حدِّثي ليلة خُضْنا الأبيضا / في سكونٍ خِفْتُه أن ينبضا
ودُجىً كالسُّخط من بعد الرضى / قد دعونا نجمَه أن يُغمضا
جثم الرعبُ عليه فنضا / لججاً سوداً وظلاً مُقبِضا
كلما عودُ ثقابٍ أومضا / دفعَ النيلَ وأرغى ومضى
يُنْذِرُ الركب فماجوا رُكَّضا / وادَّعى منهم خبيثٌ عرَّضا
أنَّ نجماً هتلريا مُغْرِضا / شعَّ ناراً وتوارى في الفضا
ذكرياتي كيف أقبلتِ إليَّا / كيف جُزْتِ البرَّ والبحرَ القصيَّا
كيف خُضْتِ الكون لجّاً دمويّاً / وشُواظاً طاغيَ النار عتيَّا
ذكرياتي جدِّدي هذا الرويَّا / وابعثيهِ نغماً عذباً شجيَّا
ما عجيبٌ أن تردِّيهِ عليَّا / بل عجيبٌ أنني لا زلتُ حيَّا
أتلقَّاكِ وكأسي في يديَّا / ونشيدي ضارعٌ في شفتيَّا
طاف بي شاديكِ يدعوني مَليَّا / أيها الملَّاحُ حان الوقتُ هيَّا
حان أن ننشر خفّاق الشراعِ / يا سفيني ويكِ هيَّا لا تُراعي
قد تدانى البحرُ من بعد امتناعِ / وغَدَتْ فينيسيا قيدَ ذراعِ
هذه الجنّةُ يا ويح الأفاعي / نفثتْ في زهرها سُمَّ الخداعِ
آه دعني من أحاديث الصراعِ / ضاع عمري ويحَ للعمر المضاعِ
فالتمس نَهزَةَ حُبٍّ ومتاعِ / تحت أُفْقٍ صادحٍ صافي الشعاعِ
يا شراعي طُفْ بهاتيك البقاعِ / وتهيَّأ للقاءٍ ووداعِ
أيُّها البحر سفيني ما عَراها / رنَّحتها نبأةٌ رقَّ صداها
أو حقّاً قَرُبتْ من منتهاها / هذه المحنةُ وانجاب دُجاها
أغداً تستقبل الدنيا مُناها / حرَّةً تشدو بمكنون هواها
وأرى حُريّة عَزَّ حماها / لم يُضِعْ عقباه من مات فداها
أيها الشرق تأملْ أتراها / أنت من داراتها أين سناها
ذُدْتَ عنها وتقدمتَ خُطاها / يوم قالوا خَسرَ الحربَ فتاها
أيَّ بشرى زفَّها أرخم لحنِ / من تُراه ذلك الطيف المغنِّي
مسَّ قلبي صوتُهُ إذْ مسَّ أُذني / ألِحُبٍّ أم لسلمٍ أم تمنِّي
يا بشير السِّلم لا يكذِبْكَ ظنِّي / أنا ظمآنُ إلى الشدو فزِدني
عبرتْ بي الخمسُ في صمت وحزنِ / أيُّ خمسٍ بعدها تمتدُّ سِنِّي
صاح قلبي إنْ تدعْني لستَ منِّي / إفتح الباب ونحِّ القيد عنِّي
آهِ دعني أُبصر العالم دعني / قد سئمتُ اليوم في أرضيَ سجني
ما ثوائي في مكانٍ ما ثوائي / هو ذا الفجرُ فهبُّوا أصدقائي
إفتحوا نافذتي عَبْرَ الفضاءِ / إفتحوها لأرى لونَ السماءِ
في ظلالِ السِّلم أو نورِ الصفاءِ / حنَّ قيثاري لشعري وغنائي
فانشدوني بين أمواج الضياءِ / وانشدوا فوق البحيرات لقائي
لا تقولوا كيف يشكو من بقاء / شاعرٌ في موطنٍ حالي الرواءِ
قد ظلمتم دعوتي يا أصدقائي / وجهلتم ما حياةُ الشعراءِ
يا ابنة الإِيزار حُيِّيتِ سلاما / وغراماً لا عتابا ولا ملاما
هذه الحربُ التي راعت ضراما / شَبَّها طاغٍ بواديكِ أقاما
ذُقتِ في الغربة وجداً وسَقاما / أتُراها لم تَطِبْ مصرُ مُقاما
مصرُ كانت لمحبِّيها دواما / لم تُضِعْ عهداً ولم تخفُرْ ذماما
فاذكري في الغد أحباباً كراما / إنْ ألمَّت بك ذكراها لماما
واذكري بعض لياليها القُدامَى / في ضفافٍ حَمَلَتْ عنك الهُياما
في ضفافٍ كلُّ ما فيها جميلْ / تُنبِتُ الحبّ وتُنمي وتُنيلْ
يخطرُ الفجر عليها والأصيلْ / بين صفصافٍ وحورٍ ونخيلْ
يَدُ هاتور على كل جميلْ / تنشر النُّوَّارَ في كلِّ سبيلْ
وأزوريسُ على الشطِّ الظليلْ / يَعْصُرُ الخمرَ ويسقِي السلسبيلْ
هذه مصر دياراً وقبيلْ / ألها في هذه الدنيا مثيلْ
عجباً لي وعجيبٌ ما أقول / كيف يدعوني غداً عنها الرحيلْ
هاتِها كأساً منَ الخمر التي
هاتِها كأساً منَ الخمر التي /
سَكِرَتْ آلهةُ الفنِّ بها /
إسقنِيها وتفيَّأ ظُلَّتي /
وترنَّمْ بأغاني حُبّها /
هذه النكهةُ من صَهْبائها /
شبَعُ الرُّوح ورِيُّ الجسدِ /
عربد الشَّاعرُ منْ لألائها /
وهيَ كنزٌ في ضميرِ الأبدِ /
هاتِها في كلِّ يومٍ حَسَنِ /
نفحةَ الوحيِ وإشراقَ الخيالِ /
وأدِرْها نغماً في أُذني /
فاض من بين سحابٍ وجبالِ /
هاتِها سِحْرَ الوُجوهِ النَّضِراتِ /
هاتِها خمْرَ الشّفاهِ الملهماتِ /
والعيُونِ الشَّاعريَّاتِ اللَّواتي /
شعْشَعَتْ بالنُّورِ آفاقَ حياتي /
ذقتُها كالحُلمِ في ريِّق عُمري /
قُبْلةً عذراءَ من ثغْرٍ حييِّ /
وتَسمَّعتُ لها في كلِّ فجرِ /
وهي تنهَلُ بإلهامي الوضيِّ /
هاتِها جَلواءَ يا توأمَ روحي /
فيها أبصرُ للخُلدِ الطَّريقا /
لو خَلا من كرْمتَيْها فُلكُ نوحِ /
أخطأ الجوديَّ أو باتَ غريقا /
ما أراها أخطأتْ في وهمِنا /
عالَم الغابةِ أو مَهْد الجدودِ /
وأراها خِلقةً في دمنا /
يوم كُنَّا بعضَ أحلام القرودِ /
جَدُّنا الأعلى على كُبرتهِ /
لم تشِنهُ نظرةُ المنتقصِ /
هُوَ ما زالَ على فِطرَتِهِ /
ضَاحكاً خَلفَ حديد القَفصِ /
ذاقَها مُذْ كان في الغاب لعوبا /
يتغذّى من ثمار الشَّجرِ /
فمضى يحلُمُ نشوانَ طروبا /
بحفيدٍ في مراقي البشَرِ /
يا لها من قطرةٍ فوق شَفَهْ /
غيّرتْ مجرَى حياةِ العَالمِ /
في خَيالٍ مَرحٍ أو فلسفَهْ /
أبصرَ الدُّنيا بعيني آدمِ /
فلسفتهُ حين مَسَّتْ قلبهُ /
فاشتهى الفنَّ وعِلمَ المنطقِ /
وأرتهُ وأنارتْ دَرْبَهُ /
وهو في سُلَّمهِ لم يَرْتقِ /
أيها الحالمُ غرَّرتَ بنا /
وكفى سُكركَ ما جرَّ علينا /
عُدْ بنا للغابِ أو هاتِ لنا /
عهدَها أحْبِبْ به اليوم إلينا /
أوَ ترضى بالذي ما كُنْتَ ترضى /
أيُّ دنيا من عذاب وشقاءْ /
ورقيٍّ أهْلَكَ العالم بُغضا /
بين نارٍ وحديدٍ ودماءْ /
شوَّه العِلْمُ رُؤى الكونِ القديمِ /
ومحا كلَّ مسراتِ الدهورْ /
أو أرضٌ جوفها نارُ جحيمِ /
وفضاءٌ كلُّ ما فيهِ أسير /
أسرةُ الشمسِ اشتكت من أيْدها /
كيف لا يشكو الأسارى المرهَقونْ /
لو أطاقوا أفلتوا من قيدها /
فإذا هم حيث شاؤوا يُشرقونْ /
إن يكن قد أصبحَ البدر الوضيءُ /
حجراً والنجمُ غازاً وحديدْ /
فسلاماً أيها الجهلُ البريءُ /
وعزاءً أيها الكونُ الجديدْ /
يا حبيبي دَعْ حديثَ الفلسفاتِ /
طاب يومي فتفيِّأ ظُلَّتي /
أترِعِ الكأسَ وناولني وهاتِ /
قُبْلَة تُنقذني من ضَلَّتي /
أو فقُمْ للغابِ من غِرِّيدها /
نسمّعِ الرُّوح الطليقَ المرِحا /
وَنَعُبَّ الخمرَ من عُنقودها /
واتركِ الدنَّ وخلِّ القدَحا /
نبأٌ في لحظةٍ أو لحظتينْ
نبأٌ في لحظةٍ أو لحظتينْ / طاف بالدنيا وهزَّ المشرقينْ
نبأٌ لو كان همسَ الشفتينْ / منذ عام قِيل إرجافٌ ومَيْنْ
وتراهُ أمةٌ بالضفتينْ / أنَّه كان جنينَ العلمينْ
موسُليني أين أنت اليوم أينْ / حُلُمٌ أم قصَّةٌ أم بينَ بينْ
قصر فينيسيا إليكَ اليوم يُهدي / لعنةَ الشرفة في قربٍ وبُعْدِ
عجباً يا أيُّهذا المتحدِّي / كيف ساموك سقوطَ المتردِّي
إمبراطورُك في هَمٍّ وسُهدِ / صائحاً في ليلهِ لو كان يُجْدي
أين يا فاروس ولَّيْتَ بجندي / أين ولَّيْتَ بسلطاني ومجدي
أعتَزَلْتَ الحكم أم كانَ فرارا / بعد أن ألفيْتَ حوليْكَ الدَّمارا
سُقْتَ للمجزرةِ الزُّغْبَ الصِّغارا / بعد أن أفنيتَ في الحرب الكبارا
يا لهُمْ في حَومةِ الموتِ حَيارى / ذهبوا قتلى وجرحى وأسارى
يملأون الجوّ في الركضِ غُبارا / وقُبوراً ملأوا وجْهَ الصحارى
أعَلى الصُّومال أم أديسَ أبابا / ترفع الرايةَ أم تَبْني القِبابا
أمْ على النيل ضِفافاً وعُبابا / لمحَتْ عيناكَ للمجدِ سرابا
فدفعْتَ الجيشَ أعلاماً عُجابا / ما لهذا الجيشِ في الصحراء ذابا
بخّرتْهُ الشمْسُ فارتدَّ سحابا / حينَ ظنّ النصرُ من عينيه قابا
يا أبا القمصانِ جمعاً وفُرادى / أحَمَتْ قُمصانك السودُ البلادا
لِمَ آثرْتَ من اللَّونِ السوادا / لونُها كان على الشعْبِ حِدادا
جِئْتَ بالأزياءِ تمثيلاً مُعادا / أيُّ شعْب عَزَّ بالزَّيِّ وَسادا
إنهُ الرُّوحُ شُبوباً واتِّقادا / لا اصطِناعاً بلْ يَقينا واعتقادا
موسُليني قِفْ على أبوابِ رُوما / وتأمَّلْها طُلولاً ورسوما
قِفْ تَذَكَّرْها على الأمسِ نُجوما / وتَنَظَّرْها على اليومِ رُجوما
أضرمتَ حولكَ في الأرض التُّخوما / تقتفي شيطانكَ الفظّ الغَشوما
أو كانت تلك روما أم سدوما / يومَ ذاقتْ بخطاياكَ الجحيما
هيَ ذاقتْ من يدِ اللّهِ انتقاما / لآثامِ خالدٍ عاماً فعاما
يومَ صبَّتْ فوقَ بيروت الحِماما / لم تَذَرْ شيخاً ولم ترحمْ غُلاما
من سفينٍ يملأُ البحرَ ضِراما / ذلك الأُسطول كم ثارَ احتداما
أين راحَ اليومَ هل رام السَّلاما / أم على الشاطئِ أغفى ثم ناما
أيُّ عُدوانٍ زَريِّ المظهَرِ / بِدَمٍ قانٍ ودمْعٍ مُهْدَرِ
حينَ طافتْ بِحُمى الإِسندرِ / أجنُحٌ من طَيرِكَ المستنسرِ
تنشرُ الموْتَ بليلٍ مُقمِرِ / يا لمصرَ أتُرى لم تثأرِ
بيدِ المنتقِمِ المستكبِرِ / أتَرى تَذكرُ أم لم تذكُرِ
موسُليني لسْتَ من أمسٍ بعيدا / فاذكرِ المختارَ والشعْبَ الشهيدا
هو رُوحٌ يملأُ الشرقَ نشيدا / ويناديكَ ولا يألو وعِيدا
موسُليني خُذْ بكفيَّكَ الحديدا / وصُغِ القيدَ لساقيْكَ عَتيدا
أو فضَعْ منْكَ على النصْل وريدا / فدمي يَخنِقُكَ اليومَ طَريدا
في اهتزاز العَصَبِ الثائر والرُّوح المعنّى
في اهتزاز العَصَبِ الثائر والرُّوح المعنّى /
طالَعَتهُ بالهناءِ الليلةُ الأولى فغنَّى /
ورأى مِن حوله الأرضَ سلاماً فتمنَّى /
ليسَ يَدري أشَدا من فرحٍ أم ناح حُزنا /
قُلتُ من أيِّ بلادٍ قِيلَ لحنٌ من فينّا /
يا فينّا سلسلي الأنغامَ سِحرا / في حنايا النفس لا جوِّ المكانِ
أوَ حقاً أنتِ ذي أم أنتِ ذكرى / أم رؤىً تمرح في دنيا الأغاني
وبنانٌ هزَّتِ الأوتارَ سكرى / أم شِفاهٌ لمستْ روح الزمانِ
يا فينّا جدِّدي الآن مسرَّات الليالي /
روحُكِ الراقص لم يَحفِلْ بأرضٍ وقتالِ /
طَرِباً ما زال يشدو بين موجٍ وجبالِ /
بأساطيرَ وأحلامٍ وفنٍّ وخيالِ /
هو روحُ النَّغم الهائمِ في دنيا الجمالِ /
يا فينّا هل غابكِ للشَّمْل اجتماعُ /
أم على فجركِ نايٌ فيهِ للراعي ابتداعُ /
أم على أفقكِ من نور العشيّات التماعُ /
أم على مائك تحت الليل للحب شراعُ /
آه من أمس وما جرّ على النفسِ الوداعُ /