المجموع : 42
رُبَّ ليل قد صفا الأفق به
رُبَّ ليل قد صفا الأفق به / وبما قد أبدع الله ازدهر
وسرى فيه نسيم عَبِقٌ / فكأن الليل بُستَان عطر
قلت يا رب لمن جمَّلته / ولمن هذي الثريات الغرر
فعرا الأفقَ قتام وبَدَت / سحب تحبو إلى وجه القمر
كلما تقرب تمتد له / كأكفّ شرهاتٍ تنتظر
صحت بالبدر تنبه للنذر / أدركِ الهالة حفت بالخطر
لا تبح مائدة النور لهم / لا تبحها لسواد معتكر
قهقه الرعد ودوَّى ساخراً / فكأن الرعد عربيد سكر
قمت مذعوراً وهمت قبضَتي / ثم مدت ثم ردت من خَور
لهف القلب على الحسن إذا / قهقه الغربان والذِئب سخِر
تحتمي الوردة بالشوك فإن / كثر القطاف لم تغن الإبر
آهِ من غصن غنيّ بالجنى / ومِن الطامع في ذاك الثمر
آه من شك ومن حب ومن / هاجِسات وظنونٍ وحذر
كست الأفقَ سواداً لم يكن / غير غيم جاثم فوق الفكر
طالما قلت لقلبي كلما / أنّ في جنبي أنين المحتضر
إن تكن خانت وعقَّت حبنا / فأضِفها للجراحات الأخر
يا فؤادي رحم الله الهوى
يا فؤادي رحم الله الهوى / كان صرحاً من خيال فهوى
اسقني واشرب على أطلاله / واروِ عني طالما الدمع روى
كيف ذاك الحب أمسى خبراً / وحديثاً من أحاديث الجوى
وبساطا من ندامى حلم / هم تواروا أبداً وهو انطوى
يا رياحا ليس يهدا عصفها / نضب الزيت ومصباحي انطفا
وأنا أقتات من وهم عفا / وأفي العمر لناسٍ ما وفى
كم تقلبت على خنجره / لا الهوى مال ولا الجفن عفا
وإذا القلب على غفرانه / كلما غار به النصل عفا
يا غراما كان مني في دمي / قدراً كالموت أوفى طعمه
ما قضينا ساعة في عرسه / وقضينا العمر في مأتمه
ما انتزاعي دمعة من عينه / واغتصابي بسمة من فمه
ليت شعري أين منه مهربي / أين يمضي هارب من دمه
لست أنساك وقد أغريتني / بفمٍ عذبِ المناداة رقيق
ويد تمتد نحوي كيدٍ / من خلال الموج مُدّت لغريق
آه يا قِبلة أقدامي إذا / شكت الأقدام أشواك الطريق
وبريقاً يظمأ الساري له / أين في عينيك ذياك البريق
لست أنساك وقد أغريتني / بالذرى الشم فأدمنت الطموح
أنت روح في سمائي وأنا / لك أعلو فكأني محض روح
يا لها من قمم كنّا بها / نتلاقى وبسرّينا نبوح
نستشف الغيب من أبراجها / ونرى الناس ظلالاً في السفوح
أنتِ حسن في ضحاه لم يَزَل / وأنا عنديَ أحزان الطفَل
وبقايا الظل من ركب رحل / وخيوط النور من نجم أفل
ألمح الدنيا بعيني سئمٍ / وأرى حولي أشباح الملل
راقصات فوق أشلاء الهوى / معولات فوق أجداث الأمل
ذهب العمر هباء فاذهبي / لم يكن وعدك إلا شبحا
صفحة قد ذهب الدهر بها / أثبت الحب عليها ومحا
انظري ضِحكي ورقصي فرحا / وأنا أحمل قلباً ذبحا
ويراني الناس روحاً طائراً / والجَوى يطحنني طحن الرحى
كنت تمثال خيالي فهوى / المقادير أرادت لا يدي
ويحها لم تدر ماذا حطمت / حطمت تاجي وهدت معبدي
يا حياة اليائس المنفرد / يا يباباً ما به من أحد
يا قفاراً لافحاتٍ ما بها / من نجي يا سكون الأبد
أين من عيني حبيب ساحر / فيه نبل وجلال وحياء
واثق الخطوة يمشي ملكاً / ظالم الحسن شهي الكبرياء
عبق السحر كأنفاس الربى / ساهم الطرف كأحلام المساء
مشرق الطلعة في منطقه / لغة النور وتعبير السماء
أين مني مجلس أنت به / فتنَة تمت سناء وسنى
وأنا حب وقلب ودم / وفراش حائر منك دنا
ومن الشوق رسول بيننا / ونديم قدم الكأس لنا
وسقانا فانتفضنا لحظة / لغبارٍ آدمي مسنا
قد عرفنا صولة الجسم التي / تحكم الحي وتطغى في دماه
وسمعنا صرخة في رعدها / سوط جلاد وتعذيب إله
أمرتنا فعصينا أمرها / وأبينا الذل أن يغشى الجباه
حكم الطاغي فكنا في العصاه / وطردنا خلف أسوار الحياه
يا لمنفيين ضلا في الوعور / دميا بالشوك فيها والصخور
كلما تقسو الليالي عرفا / روعة الآلام في المنفى الطهور
طردا من ذلك الحلم الكبير / للحظوظ السود والليل الضرير
يقبسان النور من روحيهما / كلما قد ضنت الدنيا بنور
أنت قد صيرت أمري عجبا / كثرت حوليَ أطيار الربى
فإذا قلت لقلبي ساعة / قم نغرد لسوى ليلي أبى
حجبت تأبى لعيني مأربا / غير عينيك ولا مطلبا
أنتِ من أسدلها لا تدعي / أنني أسدلت هذي الحجبا
ولكم صاح بي اليأس انتزعها / فيرد القدر الساخر دعها
يا لها من خطة عمياء لو / أنني أبصر شيئاًَ لم أطعها
وليَ الويل إذا لبيتها / ولي الويل إذا لم أتبعها
قد حنت رأسي ولو كل القوى / تشتري عزة نفسي لم أبعها
يا حبيبا زرت يوما أيكه / طائر الشوق أغني ألمي
لك ابطاء الدلال المنعم / وتجني القادر المحتكم
وحنيني لك يكوي أعظمي / والثواني جمرات في دمي
وأنا مرتقب في موضعي / مرهف السمع لوقع القدم
قدم تخطو وقلبي مشبه / موجة تخطو إلى شاطئها
أيها الظالم بالله إلى كم / أسفح الدمع على موطئها
رحمة أنت فهل من رحمة / لغريب الروح أو ظامئها
يا شفاء الروح روحي تشتكي / ظلم آسيها إلى بارئها
أعطني حريتي أطلق يديّ / إنني أعطيت ما استبقيت شيّ
آه من قيدك أدمى معصمي / لمَ أبقيه وما أبقى عليّ
ما احتفاظي بعهود لم تصنها / وإلام الأسر والدنيا لديّ
ها أنا جفت دموعي فاعف عنها / إنها قبلك لم تبذل لحي
وهب الطائر عن عشك طارا / جفت الغدران والثلج أغارا
هذه الدنيا قلوب جَمَدت / خبت الشعلة والجمر توارى
وإذا ما قبس القلب غدا / من رماد لا تسله كيف صارا
لا تسل واذكر عذاب المصطلي / وهو يذكيه فلا يقبس نارا
لا رعى الله مساءً قاسياً / قد أراني كل أحلامي سدى
وأراني قلب من أعبده / ساخراً من مدمعي سخر العدا
ليت شعري أي أحداث جرت / أنزلت روحك سجناً موصدا
صدئت روحك في غيهبها / وكذا الأرواح يعلوها الصدا
قد رأيت الكون قبراً ضيقا / خيّم اليأس عليه والسكوت
ورأت عيني أكاذيب الهوى / واهيات كخيوط العنكبوت
كنت ترثي لي وتدري ألمي / لو رثى للدمع تمثال صموت
عند أقدامك دنيا تنتهي / وعلى بابك آمال تموت
كنت تدعونيَ طفلاً كلما / ثار حبي وتندت مقلي
ولك الحق لقد عاش الهوى / فيّ طفلاً ونما لم يعقل
ورأى الطعنة إذ صوبتها / فمشت مجنونة للمقتل
رمت الطفل فأدمت قلبه / وأصَابت كبرياء الرجل
قلت للنفس وقد جزنا الوصيدا / عجلي لا ينفع الحزم وئيدا
ودعي الهيكل شبت ناره / تأكل الركع فيه والسجودا
يتمنّى لي وفائي عودة / والهوى المجروح يأبى أن نعودا
لي نحو اللهب الذاكي به / لفتة العود إذا صار وقودا
لست أنسى ابداً / ساعة في العمر
تحت ريح صفقت / لارتقاص المطر
نوّحت للذكر / وشكت للقمر
وإذا ما طربت / عربدت في الشجر
هاك ما قد صبت الريح بأذن الشاعر /
وهي تغري القلب إغراء النصيح الفاجر /
أيها الشاعر تغفو / تذكر العهد وتصحو
وإذا ما التام جرح / جد بالتذكار جرح
فتعلم كيف تنسى / وتعلم كيف تمحو
أو كل الحب في رأ / يك غفرانٌ وصفح
هاك فانظر عدد الرمل قلوبا ونساء /
فتخير ما تشاء ذهب العمر هباء /
ضل في الأرض الذي ينشد أبناء السماء /
أي روحانية تعصر من طين وماء /
أيها الريح أجل لكنما / هي حبي وتعلاتي ويأسي
هي في الغيب لقلبي خلقت / أشرقت لي قبل أن تشرق شمسي
وعلى موعدها أطبقت عيني / وعلى تذكارها وسدت رأسي
جنت الريح ونادته شياطين الظلام /
أختاما كيف يحلو لك في البدء الختام /
يا جريحا أسلم الجرح حبيبا نكأه /
هو لا يبكي إذا الناعي بهذا نبأه /
أيها الجبار هل تصرع من أجل امرأة /
يا لها من صيحة ما بعثت / عنده غير أليم الذكر
أرقت في جنبه فاستيقظت / كبقايا خنجر منكسر
لمع النهر وناداه له / فمضى منحدراً للنهر
ناضب الزاد وما من سفر / دون زادٍ غير هذا السفر
يا حبيبي كل شيء بقضاء / ما بأيدينا خلقنا تعساء
ربما تجمعنا أقدارنا / ذات يوم بعد ما عز اللقاء
فإذا أنكر خل خله / وتلاقينا لقاء الغرباء
ومضى كل إلى غايته / لا تقل شيئاً وقل لي الحظ شاء
يا مغني الخلد ضيعت العمر / في أناشيد تغنّى للبشر
ليس في الأحياء من يسمعنا / ما لنا لسنا نغني للحجر
للجمارات التي ليست تعي / والرميمات البوالي في الحفر
غنّها سوف تراها انتفضت / ترحم الشادي وتبكي للوتر
يا نداء كلما أرسلته / رد مقهوراً وبالحظ ارتطم
وهتافاً من أغاريد المنى / عاد لي وهو نواحٌ وندم
رب تمثال جمالٍ وسنا / لاح لي والعيش شجو وظلم
ارتمى اللحن عليه جاثياً / ليس يدري أنه حسن أصم
هدأ الليل ولا قلب له / أيها الساهر يدري حيرتك
أيها الشاعر خذ قيثارتك / غن أشجانك واسكب دمعتك
رب لحن رقص النجم له / وغزا السحب وبالنجم فتك
غنّه حتى نرى ستر الدجى / طلع الفجر عليه فانهتك
وإذا ما زهرات ذعرت / ورأيت الرعب يغشى قلبها
فترفق واتئد واعزف لها / من رقيق اللحن وامسح رعبها
ربما نامت على مهد الأسى / وبكت مستصرخات ربها
أيها الشاعر كم من زهرة / عوقبت لم تدر يوماً ذنبها
اذكري ذاك المساء
اذكري ذاك المساء / كيف كنا سعداء
لم يدع عندي هماً / ومحا عنك الشقاء
ملأ الدنيا صفاء / عندما شئت وشاء
كلما أقبلت السح / ب فظلَّلن السماء
قاتمات غائمات / يتهادينَ بطاء
لاح نجمٌ من بعيد / فتجلى وأضاء
وتصدَّى قمرٌ را / حَ على الأرض وجاء
يا جمالا وجلالا يتدفق
يا جمالا وجلالا يتدفق / رجع البلبل أم عاد الربيع
بهر النور عيوني فترفق / حين تدنو أنني لا أستطيع
أيها الورد الذي طاف بنا / أيها الطل الذي بلَّ الظما
لا أراك الله حالي وأنا / أطأ الشوك ويغزوني الغما
يا أمانيّ وحبي وخيالي / لا تضيع لحظة فالعمر ضاع
لا أراك الله حالي والليالي / كاسفات ليس فيهن شعاع
قد بلوت الويل فيها لا بلوتا / وأنا أبدأ يومي بالمساء
وعرفت الضيق ضيق القلب حتى / لم أجد في الكون ثقباً من رجاء
لا وربي ليس في الدنيا ختام / حين يغدو البعث نجوى من حبيب
حين يستيقظ قلب من منام / والمنادي أنت والحب المجيب
ها هنا حفلٌ وذكرى ووفاء
ها هنا حفلٌ وذكرى ووفاء / لبّنا أنت ملبِّي الأصدقاء
يا لها من غربة مضنية / ليس تنجاب وأيام بطاء
ذهب الموت بأغلى صاحب / وثوى في الترب أوفى الأوفياء
لست أنساك وقد أقبلت لي / تشتكي غدر صديق قد أساء
آه من جرح ومن قلب على / ألم الجرح انطوى مر الاباء
كلما آلمك الجرح فأح / سست به لطّفته بالكبرياء
أيها الشاكي من الدهر استرح / كلنا يا أيها الشاكي سواء
الجراحات التي عانيتها / لم تدع أرواحنا إلا ذماء
برم العيش بها لم يشفها / وتولى الدهر سأمان وجاء
أذن الموت لها فالتأمت / وشفاها بعدما استعصى الشفاء
لست أرثيكَ أيرثى خالد / في رحاب الخلد موفور الجزاء
كيف أرثيك أيرثى فاضل / عاش بالخيرات موصول الدعاء
إنما الدنيا هي الخير على / قلة الخير وقحط العظماء
إنما الدنيا فتى عاش لكم / باذلاً من قوته حتى الفناء
فإذا مات فقد عاش بكم / فهو بالذكرى جدير بالبقاء
ذلك الشاعر قد واساكمُ / وبكى آلامكم كل البكاء
ذلك الشاعرُ قد غناكمُ / صادحاً في أيككم بشرى الهناء
وأولو الشعر المصابيح التي / حطمتهن رياح الصحراء
خلدت أنوارهم رغم البلى / وبها المدلج في الليل استضاء
سوف يفنى القول إلا قولهم / ويموت الناس إلا الشعراء
عد إلينا نسمة حائرة / ذات نجوى وحنين وولاء
ثم حلق بجناحين إلى / عالم نحن له جد ظماء
طِر مطارَ النسم واترك قدَما / ثقلت بالشوك في أرض الشقاء
كيف أنسى زمناً كنت به
كيف أنسى زمناً كنت به / من أخ أغلى وأسمى من أبِ
ضقت ذرعاً بزماني وكذا / ضاقت الأيام والآلام بي
رائحاً في لجة طاغية / غادياً في عاصف مضطربِ
قد تغشاني ظلام لا أرى / فيه مغداي ولا منقلبي
صامداً للظلم والظلم له / معول يهدمني عن كثب
وأنا أدفعه عن منكبي / بيدي حتى تهاوى منكبي
وتماسكت فلم يبق سوى / كبرياء هي درع للأبي
هتفت بي النفس فلنمض إلى / ذلك الورد الكريم الطيب
إن أنطون وما أعظمه / طاهر القلب نبيل المشرب
كأس ود لم ترنق أبداً / وصفت كالذهب المنسكب
ونداماه على طول المدى / رفقة حفّوا به كالحبب
مكتب لا بل بساط عامر / بالمعالي يا له من مكتب
مكتب قد صيغ من عالي ال / مساعي ونبيل الدأبِ
مكتب يُزهي بحُر ماجد / ثابت الرأي سني المأرب
صائد الدر تراه غارقاً في / صحف أو غائصاً في كتب
مصغياً في حكمة أو مطرقاً / في وقار سامعاً في أدب
فإذا أدلى برأي تلقه / راح يدلي بالعجيب المطرب
مستفيضاً ببيان جامع / سحر هوجو وجلال العرب
ذاك أنطون وما أروعه / صفحة لا تنتهي من عجبِ
قطرات حسبت من عرق / وهي لو حققتها من ذهب
أسعد الأيام يوم ضمني / بك في دار كأفق الشهب
كُرّمت من شرف وارتفعت / بالعلا وازَّينت بالحسب
لدسوقي وما أنسى له / إنه مثلك في الفضل أبي
كيف أنسى فضله وهو الذي / ذاد عني عاديات الحقب
أنتما للمجد ذخر فابقيا / للمعالي واسلما للأدب
يا ربيعاً جمل الله به
يا ربيعاً جمل الله به / روضة الدنيا ووقاها الخريف
وشعاعاً مده الله على / هذه الأمة من مدن وريف
أيها النعمة لا حدّ لها / نحن من نعماك في ظل وريف
يا شريف النفس والقلب لنا / فيك صافي القول والشعر الشريف
يا أبا الرقة لا تعدلها / رقة الوالد ذي القلب العطوف
رقة تنزل من عليائها / كشعاع البدر بالضوء اللطيف
يتمنى الشعر فيه غاية / وهو عنها عاجز الباع ضعيف
كلما حاولها أعجزه / قصر الطرف عن الصرح المنيف
أيها المصباح صرنا حوله / كفراش حام بالنور يطوف
أيها الأيك غدونا حوله / نسماً في الأيك موصول الحفيف
أنا من غناك عنهم فاستمع / من أغاريد الربى نجوى الأليف
بطل الأبطال من أرض الهرم
بطل الأبطال من أرض الهرم / لبس الغار وجلّى وغنم
كيف تذرون عليه دمعكم / وهو وضاح المحيا يبتسم
كيف يبكي منكم الباكي على / عَلَم لف شهيداً في عَلَم
يا شباب النيل فتيان الحمى / وحماة الدار أشبال الأجم
زعموكم أمة هازلة / كذب الزاعم فيما قد زعم
تتحداهم على طول المدى / ثورة نكراء شبت تلتهم
ومقال الدهر عنا في غد / وحديث المجد عن عبد الحكم
كم أغر في بواكير الصبا / ناضر يسحب أذيال النعم
طبعه الجود فلما هتفت / مصر تدعوه تناهى في الكرم
قدم الروح إليها ومشى / ثابت الخطوة جبار القدم
كلفته اليقظة الكبرى بها / همة ترعى وعيناً لم تنم
جشمته خطة دامية / وعرة المسلك حفت بالألم
يجد الموت بها لذته / ويرى العار إذا المرء سلم
يا لهذي الجنة الفيحاء كم / فتحت قبراً لباغٍ قد ظلم
يصبح الصبح على هذي الربى / فإذا الورد ضحوك في الأكم
فإذا أمسى المساء انقلبت / فوهة شعواء ترمي بالحمم
لست تدري إذ تراها ظمئت / فروى الأحرار واديها بدم
ذاك لون الورد أم لون الردى ال / جاثم أو لون الحميم المضطرم
يا شباب النيل فتيان الحمى / وحماة الدار أشبال الأجم
حطموا القيد الذي حطمكم / واجعلوا أمتكم فوق الأمم
وإذا استشهد منكم بطل / جاده الغيث وحيته الديم
ولقد أدى لمصر دينه / ذلك الفادي ووفى بالقسم
صورة للبحر أم صورة نفس
صورة للبحر أم صورة نفس / عندما النفس من اليأس تثور
قد علا الموج وقد عز التأسي / لم يعد إلا عبابٌ وصخور
زلزل البحر على راكبه / مثلما زلزل قلبٌ ضجرُ
سفر صار على طالبه / ركبُ ضنك والمنايا سفرُ
غرَّب الحظ كما مال الشراع / هكذا الأعمار في الدنيا تميل
وسرت في الجو أشباح الوداع / وتنادى كل شيء بالرحيل
أإذا اشتد على القلب البلاء / أإذا جار عبابٌ وتناهى
تعصف الأمواج عصفا بالرجاء / كيف ننسى أن للكون إلها
أيها الماضي الذي أودعته
أيها الماضي الذي أودعته / حفرة قد خيم الموت بها
أيها الشعر الذي كفنته / مقسما لا قلت شعرا بعدها
أيها القلب الذي مزقته / صارخاً عهدك يا قلب انتهى
قسما ما مات منكم أحد / إنها رقدة يأس إنها
آه لو قام رسول ضارع / أو شفيع منكم يمضي لها
آه من يخبرها عن طائر / نسي الأوكار إلا وكرها
أيها الحي وما ضر
أيها الحي وما ضر / ر الورى لو كنت متا
أو شعر ذاك لا بل / حجر ينحت نحتا
تلقم الناس وترمي / هم به فوقا وتحتا
صحت من يأسي لما / بركيك الشعر صحتا
آه يا قاتل يا سف / فاك حتى أنت حتى
يا حبيبي غيمة في خاطري
يا حبيبي غيمة في خاطري / وجفوني وعلى الأفق سحابه
غفر الله لها ما صنعت / كلما شاكيتها تندى كآبه
صرخ القفر لها منتحباً / وبكى مستعطفاً مما أصابه
فأصمّ الغيث عنه أذنه / ما على الأيام لو كان أجابه
كثر الهجر على القلب فهل / من سلو أو بعاد يرتضيه
أنت فجر من جمال وصبا / كل فجر طالع ذكَّرنيه
كيف جانبتك أبغي سلوة / ثم ناجيتك في كل شبيه
أيها الساكن عيني ودمي / أين في الدنيا مكان لست فيه
عندما أزمع ركب العمر / رحلةً نحو المغاني الأخر
ظهرت تجلوك كف القدر / صورةً أروع ما في الصور
تتراءى في الشباب العطر / نفحةً تحمل طيب السحر
وقف العمر لها معتذراً / وثنى الركب عنان السفر
عندما أقفرت الدنيا جميعا / لحت لي تحمل عمراً وربيعا
إن يكن حلماً تولى مسرعاً / أجمل الأحلام ما ولى سريعا
إن يكن ما كان دَيناً يقتضي / خلني أدفعه عنك دموعا
قد شريناه عزيزاً غالياً / إن تكن بعت فإني لن أبيعا
يا ندامى الحب سُمار الهوى / سكبوا لي السهد في ذاك الشراب
أرقوني أجرع السقم وبي / صفرة الكأس وأوهام الحباب
كلما تقبل أيام المنى / تنجلى النعماء عن ذاك السراب
وترى أياميَ الحيرى على / عرسها الضاحك أحزان الضباب
لم أقيدك بشيء في الهوى / أنت من حبي ومن وجدي طليق
الهوى الخالص قيد وحده / رب حر وهو في قيد وثيق
مزّقت كفيك أشواك الهوى / وأنا ضقت بأحجار الطريق
كم ظميٍ بظميٍ يرتوي / وغريق مستعين بغريق
يا ليالي العمر ما سر الليالي / البطيئات المملات الطوال
مسرعات مبطئات ولها / خفة الموت وأثقال الجبال
كاسفات البال عرجاء المنى / عاثرات الحظ شوهاء الظلال
عجباً للعمر يمضي مسرعاً / للمنايا بسلحفاة الملال
يا قمارى الروض في أيك الهوى / جفّت الروضة من بعد النديم
حل بالأيك خريف منكر / وظلال قاتمات وغيوم
ماتت الروضة إلا طائفاً / من هوى حي على الذكرى يقوم
فإذا أنكر ما حل بها / فر يبغي سربه بين النجوم
شاهت الدنيا وجوهاً ورؤىً / وتولاها سهوم ووجوم
يا عذارى الحسن في ظل الصبا / كل حسن بعد ليلاي دميم
يا نعيم العيش في ظل الرضا / آه لو أعرف ما طعم النعيم
أنكر الجنة قلبٌ ضجر / أبدي النار موصول الجحيم
طالما موهت بالضحك فما / غير التمويه رأياً لك فيا
كلما تنظر في عيني ترى / سريَ الغافي ومعناي الخفيا
وترى في عمق روحي زهرة / قد سقاها الحزن دمعاً أبديا
ويراه الناس طلا وترى / أنت دمعاً غائماً في مقلتيا
يا فؤادي ما ترى هذا الغروب / ما ترى فيه انهيار العمر
ما ترى فيه غريقاً ذا شحوب / يتلاشى في خضم القدر
ما تراها اتأدت قبل المغيب / ورمت من عرشها المنحدر
لفتةَ الحسرةِ للشط القريب / قبل أن تسقط خلف النهر
يا فؤادي قاتل الله الضجر / وعذابي بين حَل وسفر
ما ترى قنطرةً من بعدها / راحة ترجى وبال يستقر
ذلك الجرح وما أفدحه / ما عليه لو إلى السلوى عبر
قد طواه اليوم في بردته / وأتى الليل عليه فانفجر
مرَّ يومي فارغاً منك ومن / أمل اللقيا فما أتعس يومي
أنت يومي وغدي أنت وما / من زمان مرّ بي لم تك همي
آهِ كم أغدو صغيراً حاجتي / لك كالطفل إلى رحمة أم
ولكم أكبر بالحب إلى أن / أغتدي مستشرفا آفاق نجم
أي سرٍّ فيك إني لست أدري / كل ما فيك من الأسرار يغري
خطرٌ ينساب من مفتر ثغر / فتنة تعصف من لفتة نحر
قدر ينسج من خصلة شعر / زورق يسبح في موجة عطر
في عباب غامض التيار يجري / واصلاً ما بين عينيك وعمري
ذات ليلٍ والدجى يغمرنا / أترى تذكر إذ جزنا المدينه
كلما روعتَ من نارٍ شجٍ / حرما يصلى تلمست جبينه
بيدٍ شفافة مثل الندى الرط / ب تعيد النار بردا وسكينه
أيها الآسي لناري هذه / ما الذي تصنع بالنار الدفينه
أخيالاً كان هذا كله / ذلك الجسر الذي كنا عليه
والمصابيح التي في جانبيه / ذلك النيل وما في شاطئيه
وشعاع طوفت في مائه / وظلال رسبت في ضفتيه
وحبيب وادع في ساعدي / ووعود نلتها من شفتيه
رب لحن قص في خاطرنا / قصة الحادي الذي غنّى سهاده
وكأن الصمت منه واحة / هيأت من عشبها الرطب وساده
ها أنا عدت إلى حيث التقينا / في مكان رفرفت فيه السعاده
وبه قد رفرف الصمت علينا / إنَّ في صمت المحبين عباده
رفرف الصمت ولكن أقبلت / من أقاصي السهل أصداء بعيده
تتهادى في عباب ساحر / مرسل للشط أمواجاً مديده
كم نداء خافت مبتعد / تشتهي أذن الهوى أن تستعيده
عاد منساباً إلى أعماقها / هامساً فيها بأصداءٍ جديده
رفرف الصمت ولكن ها هنا / كل ما فيك من الحسن يغني
آه كم من وتر نام على / صدر عود نومَ غاف مطمئن
وبه شتى لحون من أسى / وحنين وأنين وتمني
رقد العاصف فيه وانطوت / مهجة العود على صمت مرن
هذه الدنيا هجير كلها / أين في الرمضاء ظل من ظلالك
ربما تزخر بالحسن وما / في الدمى مهما غلت سر جمالك
ربما تزخر بالنور وكم / من ضياء وهو من غيرك حالك
لو جرت في خاطري أقصى المنى / لتمنيت خيالاً من خيالك
أنا إن ضاقت بي الدينا أفىء / لثوانٍ رحبةٍ قد وسعتنا
إنما الدنيا عباب ضمنا / وشطوط من حظوظ فرقتنا
ولقد أطفو عليه قلقاً / غارقاً في لحظة قد جمعتنا
كلما تترى المعاني أجتلي / خلف معناها لأسرارك معنى
ما الذي صبك صباً في الفؤاد / ما الذي إن أقصِه عني عاد
طاغياً يعصف عصفاً بالرشاد / ظامئاً سيان قرب وبعاد
ساهر العينين موصول السهاد / ما الذي يجري لهيباً في الرماد
ما الذي يخلقنا من عدم / ما الذي يجري حياة في الجماد
كم حبيب بعدت صهباؤه / وتبقت نفحةٌ من حببه
في نسيج خالدٍ رغم البلى / عبث الدهر وما يعبث به
ما الذي في خصلة من شعره / ما الذي في خطه أو كتبه
ما الذي في أثرٍ خلفه / من أفانين الهوى أو عجبه
ما الذي في مجلس يألفه / عقد الحب عليه موعده
ربما يبكي أسى كرسيه / إن نأى عنه وتبكي المائده
ربما نحسبها هشت إذا / عائدٌ هش لها أوعائده
ربما نحسبها تسألنا / حين نمضي أفراق لعده
كم أعدت لك ستراً في الخفاء / وتوارت عن عيون الرقباء
كم أعدت نفسها وانتظرت / واستوت موحشة تحت السماء
وهي لو تملك كفا صافحت / كفك الحلوة في كل مساء
وهي لو تملك جوداً بذلت / كل ما تملك كف من سخاء
رب كرم مده الليل لنا / فتواثبنا له نبغي اقتطافه
وعلى خيمته أسوده / عربي الجود شرقي الضيافه
وجد العرس على بهجته / وسناه دون ورد فأضافه
ثم وارت يده جنيةٌ / وطوته في أساطير الخرافه
أرج يعبق في أنحائه / حملته نحو عرشينا الرياح
كل عطر في ثناياه سرى / كان سرّاً مضمراً فيه فباح
يا لها من حقبة كانت على / قِصَرٍ فيها كآماد فساح
نتمنى كلما طابت لنا / أن يظل الليل مجهول الصباح
يا فؤادي العمر سفر وانطوى / وتبقت صفحة قبل النوى
ما الذي يغريك بالدنيا سوى / ذلك الوجه وذياك الهوى
آهِ من وَجدك بالهاجرِ آه
آهِ من وَجدك بالهاجرِ آه / تتمنى أن تراه لن تراه
خَدَعَتنا مُقلَتاهُ خدعتنا / وجنتاهُ خدعتنا شَفَتاه
والذي من صوتهِ في مسمعي / وخيالي غادرٌ حتى صداه
حُلُمٌ مرَّ كما مرَّ سواه / وكذا الأحلامُ تمضي والحياه
أين يا ليلايَ عهدُ الهرم / أين يا ليلاي حُلوُ الكَلِمِ
هامساتٍ بين أذني وفمي / ساريات غرِداتٍ في دمي
كلماتٌ عذبةٌ معسولةٌ / ضيّعت وارحمتا للقَسَم
ذهبت مثلَ ذهابِ الحُلُمِ / إنني أعلمُ ما لم تعلمي
كيف صدَّقنا أضاليلَ الهوى / بِنُهَى طفلٍ وإحساس صَبِي
حَسبُنا منه سماءٌ لمعت / فوقَ رأسينا وكوخٌ خشبي
حُلُمٌ ولَّى ووهمٌ لم يَدُم / ما تَبقَّى غيرُ خَيطٍ ذهبي
ذات يومٍ في أصيلٍ فاتنٍ / ذابت الشمسُ فسالت ذهبا
كَسَت النيلَ نُضاراً وانثنت / تَغمُرُ الصحراء نَخلاً ورُبَى
ما على الجِيزةِ أن قد أبصرت / شَفَقِي معتَنِقاً فجرَ الصّبا
قد رأتنا مثلَ طَيفَي حُلُمٍ / ما عليها أقبَلا أم ذَهَبا
قلتُ هيَّا قلتِ نمشي سِر فما / من طريقٍ طالَ لا نَذرَعُهُ
قلتُ والعمرُ بعيني كالكرى / وأنا في حُلُمٍ أقطعه
جمعَ الدهرُ حبيباً وامقاً / بحبيبٍ وغداً يَنزَعُه
أطريقانِ طريقٌ دونَه / في حياتي وطريقٌ معه
كلما خلَّى حبيبي يَدَهُ / لحظةً قلتُ وحُبِّي أبقِها
أَبقِها أنفُض بها خوفَ غدٍ / وأُحِسُّ الأَمنَ منها وبِها
أبقِها أشدُد بها أزرِي إذا / ضَعُفَ الأزرُ أو العزم وهَى
أبقِها أُومن إِذا لامَستُها / أن حبي ليسَ حُلماً وانتهى
ها أنا عُدتُ إلى حيثُ التقينا
ها أنا عُدتُ إلى حيثُ التقينا / في مكانٍ رَفرَفَت فيه السعاده
وبه قد رفرفَ الصمتُ علينا / إنَّ في صَمتِ الحبيبين عباده
ربَّ لَحنٍ قَصَّ في خاطِرنا / قصَّةَ الساري الذي غَنَّى سهاده
وكأَنَّ الصمتَ منهُ واحةٌ / هَيَّأَت من عُشبِها الرَّطبِ وساده
صَمَتَ السّهلُ ولكن أقبَلَت / من ثَنَايا السهلِ أصداءٌ بعيده
كلُّ لحنٍ في هدوءٍ شاملٍ / تشتهي النفسُ به أن تستعيدَه
يتهادى في عُبابٍ ساحرٍ / باعِثٍ للشَّطِّ أمواجاً مديده
فإذا ما ذَهَبَ الليلُ بها / تَزخَرُ النفسُ بأصداءٍ جديده
هدأ الليلُ هُنا لكنني / كنتُ في حُسنِك بالصّمتِ أُغنّي
كلُّ لحنٍ لَجِبٍ يَغشَى دمي / لَعِبَ العازف بالعُودِ المُرِنّ
ناقلاً للنّهرِ والسهلِ معاً / قصةً يشرحُها عنكِ وعني
قصةَ الشاعرِ والحسنِ إذا اس / تبقا للخلدِ في حَومة فنّ
ما الذي في خُصلَةٍ راقِدةٍ / ما الذي في خطِّهِ أو كُتُبِه
ما الذي في أثَرٍ خَلَّفَهُ / من أفانينِ الهوى أو عَجَبِه
ما الذي في مجلسٍ يَألَفُهُ / عَقَدَ الحبُّ عليه مَوعِده
ربما يَبكي أسىً كرسيُّه / إن نَأَى عنه وتَبكِي المائده
ولقد نَحسَبُها هَشَّت إذا / عائدٌ هَشَّ لها أو عائده
ولقد نَحسَبُها تسأَلُنا / حين نَمضِي أفِراقٌ لِعِدَه
كم أعَدَّت نفسَها وانتظرت / واستَوت موُحشةً تحت السماء
وهي لو تَملِك كفّاً صافحت / كفَّكِ الغَضَّةَ في كلِّ مساء
رُبَّ كَرمٍ مَدَّه الليلُ لنا / فَتواثَبنا له نَبغِي اقتطافَه
وعلى خَيمَته حارسُه / عَرَبِيُّ الجودِ شَرقِيُّ الضيَافه
وَجَدَ العُرسَ على بهجتِه / وسناه دونَ وَردٍ فأَضافه
ثم وارتهُ غياباتُ الدّجى / كخيالٍ من أساطيرِ الخُرافه
أرَجٌ يَعبَقُ في جُنحِ الدّجى / حَمَلَتهُ نحو عَرشَينا الرياح
كلُّ عطرٍ في ثناياه سَرَى / كان سِرّاً مُضمراً فيه فباح
يا لهَا من حِقبَةٍ كانت على / قِصَرٍ فيها كآمادٍ فِساح
نتمنَّى كلما امتدَّت بنا / أن يَظَلَّ الليلُ مجهولَ الصباح
أنا إِن ضَاقَت بيَ الدنيا أفِئ / لثَوانٍ رحبةٍ قد وَسِعَتنا
إنما الدنيا عُبابٌ ضَمَّنا / وشطوطٌ مِن حُظُوظٍ فَرَّقتنا
ولقد أطفُو عليه قَلِقاً / غارقاً في لحظةٍ قد جمعتنا
ومعاني الحسنِ تَترَى وأنا / ناظرٌ فيها لِمَعنًى خَلفَ معنى
هذه الدنيا هجيرٌ كلُّها / أين في الرمضاء ظلٌّ من ظلالك
ربما تَزخَرُ بالحسن وما / في الدُّمى مَهما غَلَت سحرُ جمالك
ولقد تزخر بالنّورِ وكم / من ضياءٍ وهو من غيرِك حالك
لو جَرَت في خاطري أقصى المُنى / لتمنّيتُ خيالاً من خيالِك
قلتُ للّيلِ الذي جلّلنا / والذي كان على السرِّ أمينا
أينَ يا قلبِيَ مَن قلبي اجتَبَى / لهواهُ واصطفاهُ لي خدينا
لم أكن أطمع أن ترحمني / بعد أن قَضَّيتُ في الوجدِ السنينا
لم أكُن أطمعُ أن تُضمِرَ لي / آسياً يُبرئُ لي الجُرح الدفينا
لم أكن أعلمُ يا ليلَ الأسى / أن في جُنحِكَ لي فجراً جنينا
أيها اللائذُ بالصَّمتِ كَفَى / وأدِر وجهَكَ لي وانظر طويلا
لا تَمِل واسخر من الدنيا إذا / شاءت الأيامُ يوماً أن تميلا
ما الذي مَكَّن في القلبِ الوداد / ما الذي صَبَّك صَبّاً في الفؤاد
ما الذي مَلَّكَ عينيك القياد / ما الذي يَعصِفُ عَصفاً بالرشاد
ما الذي إن أُقصِهِ عنِّيَ عاد / طاغياً سِيّانِ قُربٌ أو بعاد
ما الذي يَخلُقُنا من عدمٍ / ما الذي يُجرِي حياةً في الجماد
كم حبيبٍ بَعُدَت صَهباؤُه / وتَبقَّت نفحةٌ من حَبَبِه
في نسيجٍ خالدٍ رَغمَ البِلى / عَبَثَ الدهرُ وما يَعبثُ به
أين سُلطاني ومجدي والذي / حُبُّه مجدٌ وسلطانٌ وعِزَّه
أين إلهامي ونوري والذي / أيقظَ القلبَ إلى البَعثِ وهَزَّه
قد نأى عني الذي يرحمُني
قد نأى عني الذي يرحمُني / والذي يفهمُ آلامي وروحي
والذي أعبدُ منه غُرَّةً / كَنَدى الأزهار في الوجهِ الصبيح
والذي أشتَمُّ منه غادياً / عَبقَ الأنداءِ في الوادي الصدوح
آه يا هندُ جِراحي كَثُرَت / فتعالي ضَمّدِي أنتِ جروحي
لا تقل لي ذاك نجمٌ قد خبا
لا تقل لي ذاك نجمٌ قد خبا / يا فؤادي كلُّ شيءٍ ذهبا
ذلك الكوكبُ قد كان لعيني / السماوات وكان الشُّهُبا
هذه الأنوارُ ما أضيَعَهَا / صِرنَ في جَنبي جراحاً وظُبى
كلما أهدَت شعاعاً خَلَّفَت / بعده سجناً ومَدَّت قُضُبا
قلتُ أسلوك وكم من طعنةٍ / بالمُداراةِ وبالوقتِ تهون
فإذا حُبُّكِ يَطغَى مُزبداً / كَدفُوقِ السَّيلِ طُغيانَ الجنون
وكذا تمضي حياتي كلُّهَا / بين يأسٍ ورجاءٍ وظنون
ما على الهجر معينٌ أبداً / وعلى النّسيانِ لا شيءَ يُعين
ذلك الحبُّ الذي فُزتُ به / لا أُبالي فيه ألوان الملامه
ذلك الشطُّ الذي ذُقتُ به / بعد لُجِّ البحر أمناً وسلامه
إنّه مزَّق قلبي قسوةً / وسقاني المُرَّ من كاسِ الندامه
صارَ ناراً ودماراً في دمي / وصراعاً بين قلبٍ وكرامه
ذلك الحبُّ الذي عَلَّمَني / أن أُحِبَّ الناسَ والدنيا جميعا
ذلك الحبُّ الذي صوَّر من / مُجدِب القَفرِ لعينَيَّ ربيعا
إنه بصّرني كيفَ الورى / هدموا من قُدسِه الحِصنَ المنيعا
وجلا لي الكون في أعماقه / أعيُناً تبكي دماءً لا دموعا
لَم تُعينيني على صَرفِ النَّوى / آهِ لو كنتِ على الدهرِ أعَنتِ
قَدَرٌ نكَّسَ منّي هامتي / آذن الدهرُ بِبَينٍ وأذِنتِ
وعجيبٌ أمرُ حبٍّ لم يَهُن / هو لَو هانَ على نفسي لَهُنتِ
لهفَ قلبي لهفةً لا تنقضي / كنتِ دنياي جميعاً كيفَ كُنتِ
كنتِ في برجٍ من النورِ على / قِمةٍ شاهقةٍ تَغزو السحابا
وأنا منك فَراشٌ ذائبٌ / في لُجَينٍ من رقيقِ الضوء ذابا
فَرِحٌ بالنّورِ والنارِ معاً / طارَ للقمَّةِ محموماً وآبا
آبي من رحلتهِ مُحترقاً / وهو لا يَألُوكِ حُبّاً وعتابا
بَرِئَت نفسي من الحقدِ ولم / أُخف ضِغناً لكِ بين العَبَرات
إن يوماً واحداً أسعدَني / جمعَ الأفراحَ طُرّاً من شَتات
وهو عمرٌ كاملٌ عشتُ به / كلَّ أعمارِ الورَى مُجتمعات
لستُ أنساكِ وقد علَّمتِنِنى / كيف يحيا رجلٌ فوق الحياة
افرحي ما شِئتِ يا روحي افرحي / أنشدِي ما نَقَلتهُ الطيرُ عَنّي
واغنمي نَفح الصَّبا وانتقلي / في الصِّبا المِمراحِ من غُصنٍ لغصن
وعلى أيكِكِ نَاغي كلَّ من / مرَّ بالأيكِ ونادِي كلَّ خِدن
لن يُحِبُّوك كحبي لن تَرَي / ضاحكاً مثلي ولا حُزناً كحزني
يا كتابَ الحُسن جَلَّت آيةً / من جمالٍ وكمالٍ وشباب
زعموا أنِّيَ قد خَلَّدتُها / بأغانيَّ وألحاني العِذاب
ما أنا شادٍ ولكن قارئٌ / سُوَراً من ذلك الحسنِ العُجاب
لم أزَل أقرأُ حتى سجدوا / وَجَعَلتُ الخُلدَ عُنوان الكتاب
يا ابنةَ الأصدافِ والبحرُ أبي / قبلَ أن يُلقِي بي الموجُ هُنا
سائلي الأعماقَ عن غَوَّاصها / أنا صَيَّاد لآليها أنا
إن هَجَرنا القاعَ والليلَ إِلى / قِمَمٍ شُمٍّ وعِشنا في السَّنا
فَبِنا الأمواجُ والصخرُ وما / بَرِحَ العاصفُ في أعماقنا
عاصفٌ عاتٍ تمنّيت له / هَدأةً أينَ له ما تطلبين
اسألي عن مقلةٍ مخلصةٍ / خَبأَت رسمَكِ في جَفنٍ أمين
سَهرت تَرعاك مهما لقيت / في سبيل العهدِ والودِّ المكين
أقسمت لا تسألُ النَّومَ ولا / تطلبُ الرحمة منه بعض حين
بعدَ ما غَوَّر نجمي ودليلي / ما مسيري دون تِربٍ وخليل
في طريق الشَّوكِ والصخر وفي / شُعَب الإرهاق والكَدِّ الوبيل
الغريبانِ عليها التَقَيَا / يستعينان على الدَّربِ الطويل
ما انتفاعي بحياتي بعد ما / سَاقَكِ التيَّارُ في غير سبيلي
يا لجَهلِ اثنين أقدارَهما / آه يا ليتهما قد عَرَفَا
ما الذي نصنعُ بالعيشِ إذا / ما صَحَا القلبُ غريباً وغَفَا
ما الذي نصنعُ بالعيشِ إذا / ما السبيلان عليه اختلفا
ما الذي نصنعُ بالعيشِ إِذا / صارَ تَذكاراً فأَمسَى أسفا
عندما تُقفِرُ دارٌ من رِفاق / وتُحِسُّ السمَّ في كاسٍ وساقِ
عندما يكشِفُ بؤسٌ وجهَه / سافرَ اللّعنةِ مفقودَ الخلاق
عندما تُمسِي بِظِلٍّ عالقاً / وبخيطِ الوهم مشدودَ الوثاق
يا فؤادي انظر وفكر وأفِق / أيُّ قَيدٍ لك بالأحبابِ باق
كل جِدٍّ عَبَثٌ والدهرُ ساخر / وخبيء السرِّ للعينين ظاهر
أدَّعِي أني مقيمٌ وَغَداً / رَكبيَ المُضنَى إلى الصحراءِ سائر
عندما صافحتُ خانَتني يدي / وَوَشَى خاف من الأشجانِ سافر
كَذَبَت كفٌّ على أطرافها / رِعشَةُ البُعدِ وإحساسُ المسافر
يا دياراً يومُها من سُحُبٍ / وغيومٍ وضبابٌ أُفقُ غَد
كلّ نَبتٍ عبقريٍّ أطلَعت / جعلت منه طعاماً للحسَد
أخلَفَ الميثاقَ من كان بها / كلّ آمالي فلم يَبقَ أحد
ضاعَ عمرٌ وحصادٌ وغَدَا / من هشيم كلُّ ما كنتُ أعِدّ
قُم بنا والكونُ جَهمٌ كالدجى / نَتَلَمَّس من جحيمٍ مَخرَجا
وانج منه ببقايا رَمَقٍ / أو حُطامٍ وقليلٌ مَن نجا
لا تُدر راياً به أضيَعُ مَن / في لظاه مستعينٌ بالحِجا
واسألِ الرحمنَ أن يُصلِحَ عَه / داً كسيحاً وزماناً أعرَجا
عشتُ وامتدَّت حياتي لأرَى / في الثرى مَن كان قَبلاً في القمم
انهيار المُثُلِ العليا وإن / كار آلاءٍ وكُفرٍ بالقِيَم
مَن يَكُن عَضَّ بناناً نادماً / فأنا قَطَّعتُ إِبهامَ النّدَم
وإذا انحَطَّ زمانٌ لم تَجِد / عالياً ذا رفعَةٍ إلا الألم
ضِحكةٌ ساخرةٌ هازلةٌ / وخيالٌ تافِهٌ هذي الحياه
هذهِ الأكذوبةُ الكُبرى التي / خُدعَ الناسُ بها واأسفاه
ذلَّ فيها المالُ والجاهُ إلى / أن غدا أحقَرَها مالٌ وجاه
نَحمَدُ الله على أنَّا بها / لم نَصُن من ذِلَّةٍ إلا الجباه
عَبَثاً أهرُبُ من نفسي ومن / ذلك الساكنِ روحي والبَدَن
من لقلبٍ مُستطارِ اللُّبِّ مَن / كلما عاوده التَّذكارُ جُنّ
أينما أمضي فحولي ذِكرٌ / وحبيبٌ ومكانٌ وزمن
وربيعٌ دائمُ الخضرةِ في / روضة النفس وطَيرٌ وفَنَن
قصةٌ خالدةٌ لا تنتهي / وهي ما كان لها يومُ ابتداءِ
أنا لا أدري متى كان ولا / أين عند الله أسرارُ اللقاءِ
حينما لاحَ شِهابٌ في سمائي / أسمرُ النور رفيعُ الخُيلاءِ
عبقريٌّ مُوحشٌ منفردٌ / متعالٍ قَلِقُ الأضواءِ ناءِ
هو في الأفق بعيدٌ وهو دانِ / هو لي نفسي وروحي وكِياني
مخطئٌ من ظَنَّ أنَّا مُهجتان / مخطئٌ من ظَنَّ أنّا توأمان
هو شطرُ النَّفسِ لا توأمُها / هو منها هو فيها كلَّ آن
نحنُ نبضٌ واحدٌ نحن دمٌ / واحدٌ حتى الردى متّحدان
هكذا كلُّ جميله
هكذا كلُّ جميله / ليس لي في الغدر حيله
أنجُ منها وامضِ عنها / أخذت قلبك غيله
بعد هاتيك الليالي / المطمئِنَّات الظليله
بخلت ليلاك حتى / بالتعلاتِ القليله
لم تَدَع للقلب من طو / ل التباريح وسيله
لم تدع للقلب ما يش / في من الوجد غليله
لم تدع إلا رفيفاً / من نسيمٍ في خميله
وخيالاتٍ يُداوي / طيفُها نفسي العليله
والرسالاتِ اللواتي / والأكاذيبَ النّبيله
آه من مَيَّةُ آهٍ ثم آه
آه من مَيَّةُ آهٍ ثم آه / وحَبيبٍ سَحرتني مُقلتاه
لو تَمنَّيتُ قُبيل الموت ماذا / أتمنى قلت تقبيل ثراه
أتمنى الموت من مقلته / ما الذي يمنع أن أشتاق فاه
آه من مَيَّةُ آهٍ ثم آه / وحبيبٍ عزّني اليوم لقاه
يا نسيم البحر ريانَ بطيب
يا نسيم البحر ريانَ بطيب / ما الذي تحمل من عطر الحبيب
صافحتني من نواحيك يدٌ / تمسح الدمعة عن جفن الغريب
وتلقَّاني رشاشٌ كالبكا / وهديرٌ مثل موصول النحيب
بين سهدٍ وعذابٍ وضنى
بين سهدٍ وعذابٍ وضنى / مرّ ليلي ذاك حالي وأنا
أسأل الأنجم عن حال المنى / يا حبيبي كيف صارت بيننا
كيف أمسى يا حبيبي عهدنا / بعد ما طاب هوانا ودنا
كلُّ ما كان بعيداً ورنا / كلُّ نجمٍ من سماوات السنا
آه لو ينظر حالي الآن آه / حينما ضاقت بآلامي الحياه
ندم النجمُ على غالي سناه / ورأى كيف انطوينا فطواه