القوافي :
الكل ا ب ت ث ج ح خ د ذ ر ز س ش ص ط ع غ ف ق ك ل م ن و ه ء ي
الشاعر : إِبْراهيم ناجِي الكل
المجموع : 42
رُبَّ ليل قد صفا الأفق به
رُبَّ ليل قد صفا الأفق به / وبما قد أبدع الله ازدهر
وسرى فيه نسيم عَبِقٌ / فكأن الليل بُستَان عطر
قلت يا رب لمن جمَّلته / ولمن هذي الثريات الغرر
فعرا الأفقَ قتام وبَدَت / سحب تحبو إلى وجه القمر
كلما تقرب تمتد له / كأكفّ شرهاتٍ تنتظر
صحت بالبدر تنبه للنذر / أدركِ الهالة حفت بالخطر
لا تبح مائدة النور لهم / لا تبحها لسواد معتكر
قهقه الرعد ودوَّى ساخراً / فكأن الرعد عربيد سكر
قمت مذعوراً وهمت قبضَتي / ثم مدت ثم ردت من خَور
لهف القلب على الحسن إذا / قهقه الغربان والذِئب سخِر
تحتمي الوردة بالشوك فإن / كثر القطاف لم تغن الإبر
آهِ من غصن غنيّ بالجنى / ومِن الطامع في ذاك الثمر
آه من شك ومن حب ومن / هاجِسات وظنونٍ وحذر
كست الأفقَ سواداً لم يكن / غير غيم جاثم فوق الفكر
طالما قلت لقلبي كلما / أنّ في جنبي أنين المحتضر
إن تكن خانت وعقَّت حبنا / فأضِفها للجراحات الأخر
يا فؤادي رحم الله الهوى
يا فؤادي رحم الله الهوى / كان صرحاً من خيال فهوى
اسقني واشرب على أطلاله / واروِ عني طالما الدمع روى
كيف ذاك الحب أمسى خبراً / وحديثاً من أحاديث الجوى
وبساطا من ندامى حلم / هم تواروا أبداً وهو انطوى
يا رياحا ليس يهدا عصفها / نضب الزيت ومصباحي انطفا
وأنا أقتات من وهم عفا / وأفي العمر لناسٍ ما وفى
كم تقلبت على خنجره / لا الهوى مال ولا الجفن عفا
وإذا القلب على غفرانه / كلما غار به النصل عفا
يا غراما كان مني في دمي / قدراً كالموت أوفى طعمه
ما قضينا ساعة في عرسه / وقضينا العمر في مأتمه
ما انتزاعي دمعة من عينه / واغتصابي بسمة من فمه
ليت شعري أين منه مهربي / أين يمضي هارب من دمه
لست أنساك وقد أغريتني / بفمٍ عذبِ المناداة رقيق
ويد تمتد نحوي كيدٍ / من خلال الموج مُدّت لغريق
آه يا قِبلة أقدامي إذا / شكت الأقدام أشواك الطريق
وبريقاً يظمأ الساري له / أين في عينيك ذياك البريق
لست أنساك وقد أغريتني / بالذرى الشم فأدمنت الطموح
أنت روح في سمائي وأنا / لك أعلو فكأني محض روح
يا لها من قمم كنّا بها / نتلاقى وبسرّينا نبوح
نستشف الغيب من أبراجها / ونرى الناس ظلالاً في السفوح
أنتِ حسن في ضحاه لم يَزَل / وأنا عنديَ أحزان الطفَل
وبقايا الظل من ركب رحل / وخيوط النور من نجم أفل
ألمح الدنيا بعيني سئمٍ / وأرى حولي أشباح الملل
راقصات فوق أشلاء الهوى / معولات فوق أجداث الأمل
ذهب العمر هباء فاذهبي / لم يكن وعدك إلا شبحا
صفحة قد ذهب الدهر بها / أثبت الحب عليها ومحا
انظري ضِحكي ورقصي فرحا / وأنا أحمل قلباً ذبحا
ويراني الناس روحاً طائراً / والجَوى يطحنني طحن الرحى
كنت تمثال خيالي فهوى / المقادير أرادت لا يدي
ويحها لم تدر ماذا حطمت / حطمت تاجي وهدت معبدي
يا حياة اليائس المنفرد / يا يباباً ما به من أحد
يا قفاراً لافحاتٍ ما بها / من نجي يا سكون الأبد
أين من عيني حبيب ساحر / فيه نبل وجلال وحياء
واثق الخطوة يمشي ملكاً / ظالم الحسن شهي الكبرياء
عبق السحر كأنفاس الربى / ساهم الطرف كأحلام المساء
مشرق الطلعة في منطقه / لغة النور وتعبير السماء
أين مني مجلس أنت به / فتنَة تمت سناء وسنى
وأنا حب وقلب ودم / وفراش حائر منك دنا
ومن الشوق رسول بيننا / ونديم قدم الكأس لنا
وسقانا فانتفضنا لحظة / لغبارٍ آدمي مسنا
قد عرفنا صولة الجسم التي / تحكم الحي وتطغى في دماه
وسمعنا صرخة في رعدها / سوط جلاد وتعذيب إله
أمرتنا فعصينا أمرها / وأبينا الذل أن يغشى الجباه
حكم الطاغي فكنا في العصاه / وطردنا خلف أسوار الحياه
يا لمنفيين ضلا في الوعور / دميا بالشوك فيها والصخور
كلما تقسو الليالي عرفا / روعة الآلام في المنفى الطهور
طردا من ذلك الحلم الكبير / للحظوظ السود والليل الضرير
يقبسان النور من روحيهما / كلما قد ضنت الدنيا بنور
أنت قد صيرت أمري عجبا / كثرت حوليَ أطيار الربى
فإذا قلت لقلبي ساعة / قم نغرد لسوى ليلي أبى
حجبت تأبى لعيني مأربا / غير عينيك ولا مطلبا
أنتِ من أسدلها لا تدعي / أنني أسدلت هذي الحجبا
ولكم صاح بي اليأس انتزعها / فيرد القدر الساخر دعها
يا لها من خطة عمياء لو / أنني أبصر شيئاًَ لم أطعها
وليَ الويل إذا لبيتها / ولي الويل إذا لم أتبعها
قد حنت رأسي ولو كل القوى / تشتري عزة نفسي لم أبعها
يا حبيبا زرت يوما أيكه / طائر الشوق أغني ألمي
لك ابطاء الدلال المنعم / وتجني القادر المحتكم
وحنيني لك يكوي أعظمي / والثواني جمرات في دمي
وأنا مرتقب في موضعي / مرهف السمع لوقع القدم
قدم تخطو وقلبي مشبه / موجة تخطو إلى شاطئها
أيها الظالم بالله إلى كم / أسفح الدمع على موطئها
رحمة أنت فهل من رحمة / لغريب الروح أو ظامئها
يا شفاء الروح روحي تشتكي / ظلم آسيها إلى بارئها
أعطني حريتي أطلق يديّ / إنني أعطيت ما استبقيت شيّ
آه من قيدك أدمى معصمي / لمَ أبقيه وما أبقى عليّ
ما احتفاظي بعهود لم تصنها / وإلام الأسر والدنيا لديّ
ها أنا جفت دموعي فاعف عنها / إنها قبلك لم تبذل لحي
وهب الطائر عن عشك طارا / جفت الغدران والثلج أغارا
هذه الدنيا قلوب جَمَدت / خبت الشعلة والجمر توارى
وإذا ما قبس القلب غدا / من رماد لا تسله كيف صارا
لا تسل واذكر عذاب المصطلي / وهو يذكيه فلا يقبس نارا
لا رعى الله مساءً قاسياً / قد أراني كل أحلامي سدى
وأراني قلب من أعبده / ساخراً من مدمعي سخر العدا
ليت شعري أي أحداث جرت / أنزلت روحك سجناً موصدا
صدئت روحك في غيهبها / وكذا الأرواح يعلوها الصدا
قد رأيت الكون قبراً ضيقا / خيّم اليأس عليه والسكوت
ورأت عيني أكاذيب الهوى / واهيات كخيوط العنكبوت
كنت ترثي لي وتدري ألمي / لو رثى للدمع تمثال صموت
عند أقدامك دنيا تنتهي / وعلى بابك آمال تموت
كنت تدعونيَ طفلاً كلما / ثار حبي وتندت مقلي
ولك الحق لقد عاش الهوى / فيّ طفلاً ونما لم يعقل
ورأى الطعنة إذ صوبتها / فمشت مجنونة للمقتل
رمت الطفل فأدمت قلبه / وأصَابت كبرياء الرجل
قلت للنفس وقد جزنا الوصيدا / عجلي لا ينفع الحزم وئيدا
ودعي الهيكل شبت ناره / تأكل الركع فيه والسجودا
يتمنّى لي وفائي عودة / والهوى المجروح يأبى أن نعودا
لي نحو اللهب الذاكي به / لفتة العود إذا صار وقودا
لست أنسى ابداً / ساعة في العمر
تحت ريح صفقت / لارتقاص المطر
نوّحت للذكر / وشكت للقمر
وإذا ما طربت / عربدت في الشجر
هاك ما قد صبت الريح بأذن الشاعر /
وهي تغري القلب إغراء النصيح الفاجر /
أيها الشاعر تغفو / تذكر العهد وتصحو
وإذا ما التام جرح / جد بالتذكار جرح
فتعلم كيف تنسى / وتعلم كيف تمحو
أو كل الحب في رأ / يك غفرانٌ وصفح
هاك فانظر عدد الرمل قلوبا ونساء /
فتخير ما تشاء ذهب العمر هباء /
ضل في الأرض الذي ينشد أبناء السماء /
أي روحانية تعصر من طين وماء /
أيها الريح أجل لكنما / هي حبي وتعلاتي ويأسي
هي في الغيب لقلبي خلقت / أشرقت لي قبل أن تشرق شمسي
وعلى موعدها أطبقت عيني / وعلى تذكارها وسدت رأسي
جنت الريح ونادته شياطين الظلام /
أختاما كيف يحلو لك في البدء الختام /
يا جريحا أسلم الجرح حبيبا نكأه /
هو لا يبكي إذا الناعي بهذا نبأه /
أيها الجبار هل تصرع من أجل امرأة /
يا لها من صيحة ما بعثت / عنده غير أليم الذكر
أرقت في جنبه فاستيقظت / كبقايا خنجر منكسر
لمع النهر وناداه له / فمضى منحدراً للنهر
ناضب الزاد وما من سفر / دون زادٍ غير هذا السفر
يا حبيبي كل شيء بقضاء / ما بأيدينا خلقنا تعساء
ربما تجمعنا أقدارنا / ذات يوم بعد ما عز اللقاء
فإذا أنكر خل خله / وتلاقينا لقاء الغرباء
ومضى كل إلى غايته / لا تقل شيئاً وقل لي الحظ شاء
يا مغني الخلد ضيعت العمر / في أناشيد تغنّى للبشر
ليس في الأحياء من يسمعنا / ما لنا لسنا نغني للحجر
للجمارات التي ليست تعي / والرميمات البوالي في الحفر
غنّها سوف تراها انتفضت / ترحم الشادي وتبكي للوتر
يا نداء كلما أرسلته / رد مقهوراً وبالحظ ارتطم
وهتافاً من أغاريد المنى / عاد لي وهو نواحٌ وندم
رب تمثال جمالٍ وسنا / لاح لي والعيش شجو وظلم
ارتمى اللحن عليه جاثياً / ليس يدري أنه حسن أصم
هدأ الليل ولا قلب له / أيها الساهر يدري حيرتك
أيها الشاعر خذ قيثارتك / غن أشجانك واسكب دمعتك
رب لحن رقص النجم له / وغزا السحب وبالنجم فتك
غنّه حتى نرى ستر الدجى / طلع الفجر عليه فانهتك
وإذا ما زهرات ذعرت / ورأيت الرعب يغشى قلبها
فترفق واتئد واعزف لها / من رقيق اللحن وامسح رعبها
ربما نامت على مهد الأسى / وبكت مستصرخات ربها
أيها الشاعر كم من زهرة / عوقبت لم تدر يوماً ذنبها
اذكري ذاك المساء
اذكري ذاك المساء / كيف كنا سعداء
لم يدع عندي هماً / ومحا عنك الشقاء
ملأ الدنيا صفاء / عندما شئت وشاء
كلما أقبلت السح / ب فظلَّلن السماء
قاتمات غائمات / يتهادينَ بطاء
لاح نجمٌ من بعيد / فتجلى وأضاء
وتصدَّى قمرٌ را / حَ على الأرض وجاء
يا جمالا وجلالا يتدفق
يا جمالا وجلالا يتدفق / رجع البلبل أم عاد الربيع
بهر النور عيوني فترفق / حين تدنو أنني لا أستطيع
أيها الورد الذي طاف بنا / أيها الطل الذي بلَّ الظما
لا أراك الله حالي وأنا / أطأ الشوك ويغزوني الغما
يا أمانيّ وحبي وخيالي / لا تضيع لحظة فالعمر ضاع
لا أراك الله حالي والليالي / كاسفات ليس فيهن شعاع
قد بلوت الويل فيها لا بلوتا / وأنا أبدأ يومي بالمساء
وعرفت الضيق ضيق القلب حتى / لم أجد في الكون ثقباً من رجاء
لا وربي ليس في الدنيا ختام / حين يغدو البعث نجوى من حبيب
حين يستيقظ قلب من منام / والمنادي أنت والحب المجيب
ها هنا حفلٌ وذكرى ووفاء
ها هنا حفلٌ وذكرى ووفاء / لبّنا أنت ملبِّي الأصدقاء
يا لها من غربة مضنية / ليس تنجاب وأيام بطاء
ذهب الموت بأغلى صاحب / وثوى في الترب أوفى الأوفياء
لست أنساك وقد أقبلت لي / تشتكي غدر صديق قد أساء
آه من جرح ومن قلب على / ألم الجرح انطوى مر الاباء
كلما آلمك الجرح فأح / سست به لطّفته بالكبرياء
أيها الشاكي من الدهر استرح / كلنا يا أيها الشاكي سواء
الجراحات التي عانيتها / لم تدع أرواحنا إلا ذماء
برم العيش بها لم يشفها / وتولى الدهر سأمان وجاء
أذن الموت لها فالتأمت / وشفاها بعدما استعصى الشفاء
لست أرثيكَ أيرثى خالد / في رحاب الخلد موفور الجزاء
كيف أرثيك أيرثى فاضل / عاش بالخيرات موصول الدعاء
إنما الدنيا هي الخير على / قلة الخير وقحط العظماء
إنما الدنيا فتى عاش لكم / باذلاً من قوته حتى الفناء
فإذا مات فقد عاش بكم / فهو بالذكرى جدير بالبقاء
ذلك الشاعر قد واساكمُ / وبكى آلامكم كل البكاء
ذلك الشاعرُ قد غناكمُ / صادحاً في أيككم بشرى الهناء
وأولو الشعر المصابيح التي / حطمتهن رياح الصحراء
خلدت أنوارهم رغم البلى / وبها المدلج في الليل استضاء
سوف يفنى القول إلا قولهم / ويموت الناس إلا الشعراء
عد إلينا نسمة حائرة / ذات نجوى وحنين وولاء
ثم حلق بجناحين إلى / عالم نحن له جد ظماء
طِر مطارَ النسم واترك قدَما / ثقلت بالشوك في أرض الشقاء
كيف أنسى زمناً كنت به
كيف أنسى زمناً كنت به / من أخ أغلى وأسمى من أبِ
ضقت ذرعاً بزماني وكذا / ضاقت الأيام والآلام بي
رائحاً في لجة طاغية / غادياً في عاصف مضطربِ
قد تغشاني ظلام لا أرى / فيه مغداي ولا منقلبي
صامداً للظلم والظلم له / معول يهدمني عن كثب
وأنا أدفعه عن منكبي / بيدي حتى تهاوى منكبي
وتماسكت فلم يبق سوى / كبرياء هي درع للأبي
هتفت بي النفس فلنمض إلى / ذلك الورد الكريم الطيب
إن أنطون وما أعظمه / طاهر القلب نبيل المشرب
كأس ود لم ترنق أبداً / وصفت كالذهب المنسكب
ونداماه على طول المدى / رفقة حفّوا به كالحبب
مكتب لا بل بساط عامر / بالمعالي يا له من مكتب
مكتب قد صيغ من عالي ال / مساعي ونبيل الدأبِ
مكتب يُزهي بحُر ماجد / ثابت الرأي سني المأرب
صائد الدر تراه غارقاً في / صحف أو غائصاً في كتب
مصغياً في حكمة أو مطرقاً / في وقار سامعاً في أدب
فإذا أدلى برأي تلقه / راح يدلي بالعجيب المطرب
مستفيضاً ببيان جامع / سحر هوجو وجلال العرب
ذاك أنطون وما أروعه / صفحة لا تنتهي من عجبِ
قطرات حسبت من عرق / وهي لو حققتها من ذهب
أسعد الأيام يوم ضمني / بك في دار كأفق الشهب
كُرّمت من شرف وارتفعت / بالعلا وازَّينت بالحسب
لدسوقي وما أنسى له / إنه مثلك في الفضل أبي
كيف أنسى فضله وهو الذي / ذاد عني عاديات الحقب
أنتما للمجد ذخر فابقيا / للمعالي واسلما للأدب
يا ربيعاً جمل الله به
يا ربيعاً جمل الله به / روضة الدنيا ووقاها الخريف
وشعاعاً مده الله على / هذه الأمة من مدن وريف
أيها النعمة لا حدّ لها / نحن من نعماك في ظل وريف
يا شريف النفس والقلب لنا / فيك صافي القول والشعر الشريف
يا أبا الرقة لا تعدلها / رقة الوالد ذي القلب العطوف
رقة تنزل من عليائها / كشعاع البدر بالضوء اللطيف
يتمنى الشعر فيه غاية / وهو عنها عاجز الباع ضعيف
كلما حاولها أعجزه / قصر الطرف عن الصرح المنيف
أيها المصباح صرنا حوله / كفراش حام بالنور يطوف
أيها الأيك غدونا حوله / نسماً في الأيك موصول الحفيف
أنا من غناك عنهم فاستمع / من أغاريد الربى نجوى الأليف
بطل الأبطال من أرض الهرم
بطل الأبطال من أرض الهرم / لبس الغار وجلّى وغنم
كيف تذرون عليه دمعكم / وهو وضاح المحيا يبتسم
كيف يبكي منكم الباكي على / عَلَم لف شهيداً في عَلَم
يا شباب النيل فتيان الحمى / وحماة الدار أشبال الأجم
زعموكم أمة هازلة / كذب الزاعم فيما قد زعم
تتحداهم على طول المدى / ثورة نكراء شبت تلتهم
ومقال الدهر عنا في غد / وحديث المجد عن عبد الحكم
كم أغر في بواكير الصبا / ناضر يسحب أذيال النعم
طبعه الجود فلما هتفت / مصر تدعوه تناهى في الكرم
قدم الروح إليها ومشى / ثابت الخطوة جبار القدم
كلفته اليقظة الكبرى بها / همة ترعى وعيناً لم تنم
جشمته خطة دامية / وعرة المسلك حفت بالألم
يجد الموت بها لذته / ويرى العار إذا المرء سلم
يا لهذي الجنة الفيحاء كم / فتحت قبراً لباغٍ قد ظلم
يصبح الصبح على هذي الربى / فإذا الورد ضحوك في الأكم
فإذا أمسى المساء انقلبت / فوهة شعواء ترمي بالحمم
لست تدري إذ تراها ظمئت / فروى الأحرار واديها بدم
ذاك لون الورد أم لون الردى ال / جاثم أو لون الحميم المضطرم
يا شباب النيل فتيان الحمى / وحماة الدار أشبال الأجم
حطموا القيد الذي حطمكم / واجعلوا أمتكم فوق الأمم
وإذا استشهد منكم بطل / جاده الغيث وحيته الديم
ولقد أدى لمصر دينه / ذلك الفادي ووفى بالقسم
صورة للبحر أم صورة نفس
صورة للبحر أم صورة نفس / عندما النفس من اليأس تثور
قد علا الموج وقد عز التأسي / لم يعد إلا عبابٌ وصخور
زلزل البحر على راكبه / مثلما زلزل قلبٌ ضجرُ
سفر صار على طالبه / ركبُ ضنك والمنايا سفرُ
غرَّب الحظ كما مال الشراع / هكذا الأعمار في الدنيا تميل
وسرت في الجو أشباح الوداع / وتنادى كل شيء بالرحيل
أإذا اشتد على القلب البلاء / أإذا جار عبابٌ وتناهى
تعصف الأمواج عصفا بالرجاء / كيف ننسى أن للكون إلها
أيها الماضي الذي أودعته
أيها الماضي الذي أودعته / حفرة قد خيم الموت بها
أيها الشعر الذي كفنته / مقسما لا قلت شعرا بعدها
أيها القلب الذي مزقته / صارخاً عهدك يا قلب انتهى
قسما ما مات منكم أحد / إنها رقدة يأس إنها
آه لو قام رسول ضارع / أو شفيع منكم يمضي لها
آه من يخبرها عن طائر / نسي الأوكار إلا وكرها
أيها الحي وما ضر
أيها الحي وما ضر / ر الورى لو كنت متا
أو شعر ذاك لا بل / حجر ينحت نحتا
تلقم الناس وترمي / هم به فوقا وتحتا
صحت من يأسي لما / بركيك الشعر صحتا
آه يا قاتل يا سف / فاك حتى أنت حتى
يا حبيبي غيمة في خاطري
يا حبيبي غيمة في خاطري / وجفوني وعلى الأفق سحابه
غفر الله لها ما صنعت / كلما شاكيتها تندى كآبه
صرخ القفر لها منتحباً / وبكى مستعطفاً مما أصابه
فأصمّ الغيث عنه أذنه / ما على الأيام لو كان أجابه
كثر الهجر على القلب فهل / من سلو أو بعاد يرتضيه
أنت فجر من جمال وصبا / كل فجر طالع ذكَّرنيه
كيف جانبتك أبغي سلوة / ثم ناجيتك في كل شبيه
أيها الساكن عيني ودمي / أين في الدنيا مكان لست فيه
عندما أزمع ركب العمر / رحلةً نحو المغاني الأخر
ظهرت تجلوك كف القدر / صورةً أروع ما في الصور
تتراءى في الشباب العطر / نفحةً تحمل طيب السحر
وقف العمر لها معتذراً / وثنى الركب عنان السفر
عندما أقفرت الدنيا جميعا / لحت لي تحمل عمراً وربيعا
إن يكن حلماً تولى مسرعاً / أجمل الأحلام ما ولى سريعا
إن يكن ما كان دَيناً يقتضي / خلني أدفعه عنك دموعا
قد شريناه عزيزاً غالياً / إن تكن بعت فإني لن أبيعا
يا ندامى الحب سُمار الهوى / سكبوا لي السهد في ذاك الشراب
أرقوني أجرع السقم وبي / صفرة الكأس وأوهام الحباب
كلما تقبل أيام المنى / تنجلى النعماء عن ذاك السراب
وترى أياميَ الحيرى على / عرسها الضاحك أحزان الضباب
لم أقيدك بشيء في الهوى / أنت من حبي ومن وجدي طليق
الهوى الخالص قيد وحده / رب حر وهو في قيد وثيق
مزّقت كفيك أشواك الهوى / وأنا ضقت بأحجار الطريق
كم ظميٍ بظميٍ يرتوي / وغريق مستعين بغريق
يا ليالي العمر ما سر الليالي / البطيئات المملات الطوال
مسرعات مبطئات ولها / خفة الموت وأثقال الجبال
كاسفات البال عرجاء المنى / عاثرات الحظ شوهاء الظلال
عجباً للعمر يمضي مسرعاً / للمنايا بسلحفاة الملال
يا قمارى الروض في أيك الهوى / جفّت الروضة من بعد النديم
حل بالأيك خريف منكر / وظلال قاتمات وغيوم
ماتت الروضة إلا طائفاً / من هوى حي على الذكرى يقوم
فإذا أنكر ما حل بها / فر يبغي سربه بين النجوم
شاهت الدنيا وجوهاً ورؤىً / وتولاها سهوم ووجوم
يا عذارى الحسن في ظل الصبا / كل حسن بعد ليلاي دميم
يا نعيم العيش في ظل الرضا / آه لو أعرف ما طعم النعيم
أنكر الجنة قلبٌ ضجر / أبدي النار موصول الجحيم
طالما موهت بالضحك فما / غير التمويه رأياً لك فيا
كلما تنظر في عيني ترى / سريَ الغافي ومعناي الخفيا
وترى في عمق روحي زهرة / قد سقاها الحزن دمعاً أبديا
ويراه الناس طلا وترى / أنت دمعاً غائماً في مقلتيا
يا فؤادي ما ترى هذا الغروب / ما ترى فيه انهيار العمر
ما ترى فيه غريقاً ذا شحوب / يتلاشى في خضم القدر
ما تراها اتأدت قبل المغيب / ورمت من عرشها المنحدر
لفتةَ الحسرةِ للشط القريب / قبل أن تسقط خلف النهر
يا فؤادي قاتل الله الضجر / وعذابي بين حَل وسفر
ما ترى قنطرةً من بعدها / راحة ترجى وبال يستقر
ذلك الجرح وما أفدحه / ما عليه لو إلى السلوى عبر
قد طواه اليوم في بردته / وأتى الليل عليه فانفجر
مرَّ يومي فارغاً منك ومن / أمل اللقيا فما أتعس يومي
أنت يومي وغدي أنت وما / من زمان مرّ بي لم تك همي
آهِ كم أغدو صغيراً حاجتي / لك كالطفل إلى رحمة أم
ولكم أكبر بالحب إلى أن / أغتدي مستشرفا آفاق نجم
أي سرٍّ فيك إني لست أدري / كل ما فيك من الأسرار يغري
خطرٌ ينساب من مفتر ثغر / فتنة تعصف من لفتة نحر
قدر ينسج من خصلة شعر / زورق يسبح في موجة عطر
في عباب غامض التيار يجري / واصلاً ما بين عينيك وعمري
ذات ليلٍ والدجى يغمرنا / أترى تذكر إذ جزنا المدينه
كلما روعتَ من نارٍ شجٍ / حرما يصلى تلمست جبينه
بيدٍ شفافة مثل الندى الرط / ب تعيد النار بردا وسكينه
أيها الآسي لناري هذه / ما الذي تصنع بالنار الدفينه
أخيالاً كان هذا كله / ذلك الجسر الذي كنا عليه
والمصابيح التي في جانبيه / ذلك النيل وما في شاطئيه
وشعاع طوفت في مائه / وظلال رسبت في ضفتيه
وحبيب وادع في ساعدي / ووعود نلتها من شفتيه
رب لحن قص في خاطرنا / قصة الحادي الذي غنّى سهاده
وكأن الصمت منه واحة / هيأت من عشبها الرطب وساده
ها أنا عدت إلى حيث التقينا / في مكان رفرفت فيه السعاده
وبه قد رفرف الصمت علينا / إنَّ في صمت المحبين عباده
رفرف الصمت ولكن أقبلت / من أقاصي السهل أصداء بعيده
تتهادى في عباب ساحر / مرسل للشط أمواجاً مديده
كم نداء خافت مبتعد / تشتهي أذن الهوى أن تستعيده
عاد منساباً إلى أعماقها / هامساً فيها بأصداءٍ جديده
رفرف الصمت ولكن ها هنا / كل ما فيك من الحسن يغني
آه كم من وتر نام على / صدر عود نومَ غاف مطمئن
وبه شتى لحون من أسى / وحنين وأنين وتمني
رقد العاصف فيه وانطوت / مهجة العود على صمت مرن
هذه الدنيا هجير كلها / أين في الرمضاء ظل من ظلالك
ربما تزخر بالحسن وما / في الدمى مهما غلت سر جمالك
ربما تزخر بالنور وكم / من ضياء وهو من غيرك حالك
لو جرت في خاطري أقصى المنى / لتمنيت خيالاً من خيالك
أنا إن ضاقت بي الدينا أفىء / لثوانٍ رحبةٍ قد وسعتنا
إنما الدنيا عباب ضمنا / وشطوط من حظوظ فرقتنا
ولقد أطفو عليه قلقاً / غارقاً في لحظة قد جمعتنا
كلما تترى المعاني أجتلي / خلف معناها لأسرارك معنى
ما الذي صبك صباً في الفؤاد / ما الذي إن أقصِه عني عاد
طاغياً يعصف عصفاً بالرشاد / ظامئاً سيان قرب وبعاد
ساهر العينين موصول السهاد / ما الذي يجري لهيباً في الرماد
ما الذي يخلقنا من عدم / ما الذي يجري حياة في الجماد
كم حبيب بعدت صهباؤه / وتبقت نفحةٌ من حببه
في نسيج خالدٍ رغم البلى / عبث الدهر وما يعبث به
ما الذي في خصلة من شعره / ما الذي في خطه أو كتبه
ما الذي في أثرٍ خلفه / من أفانين الهوى أو عجبه
ما الذي في مجلس يألفه / عقد الحب عليه موعده
ربما يبكي أسى كرسيه / إن نأى عنه وتبكي المائده
ربما نحسبها هشت إذا / عائدٌ هش لها أوعائده
ربما نحسبها تسألنا / حين نمضي أفراق لعده
كم أعدت لك ستراً في الخفاء / وتوارت عن عيون الرقباء
كم أعدت نفسها وانتظرت / واستوت موحشة تحت السماء
وهي لو تملك كفا صافحت / كفك الحلوة في كل مساء
وهي لو تملك جوداً بذلت / كل ما تملك كف من سخاء
رب كرم مده الليل لنا / فتواثبنا له نبغي اقتطافه
وعلى خيمته أسوده / عربي الجود شرقي الضيافه
وجد العرس على بهجته / وسناه دون ورد فأضافه
ثم وارت يده جنيةٌ / وطوته في أساطير الخرافه
أرج يعبق في أنحائه / حملته نحو عرشينا الرياح
كل عطر في ثناياه سرى / كان سرّاً مضمراً فيه فباح
يا لها من حقبة كانت على / قِصَرٍ فيها كآماد فساح
نتمنى كلما طابت لنا / أن يظل الليل مجهول الصباح
يا فؤادي العمر سفر وانطوى / وتبقت صفحة قبل النوى
ما الذي يغريك بالدنيا سوى / ذلك الوجه وذياك الهوى
آهِ من وَجدك بالهاجرِ آه
آهِ من وَجدك بالهاجرِ آه / تتمنى أن تراه لن تراه
خَدَعَتنا مُقلَتاهُ خدعتنا / وجنتاهُ خدعتنا شَفَتاه
والذي من صوتهِ في مسمعي / وخيالي غادرٌ حتى صداه
حُلُمٌ مرَّ كما مرَّ سواه / وكذا الأحلامُ تمضي والحياه
أين يا ليلايَ عهدُ الهرم / أين يا ليلاي حُلوُ الكَلِمِ
هامساتٍ بين أذني وفمي / ساريات غرِداتٍ في دمي
كلماتٌ عذبةٌ معسولةٌ / ضيّعت وارحمتا للقَسَم
ذهبت مثلَ ذهابِ الحُلُمِ / إنني أعلمُ ما لم تعلمي
كيف صدَّقنا أضاليلَ الهوى / بِنُهَى طفلٍ وإحساس صَبِي
حَسبُنا منه سماءٌ لمعت / فوقَ رأسينا وكوخٌ خشبي
حُلُمٌ ولَّى ووهمٌ لم يَدُم / ما تَبقَّى غيرُ خَيطٍ ذهبي
ذات يومٍ في أصيلٍ فاتنٍ / ذابت الشمسُ فسالت ذهبا
كَسَت النيلَ نُضاراً وانثنت / تَغمُرُ الصحراء نَخلاً ورُبَى
ما على الجِيزةِ أن قد أبصرت / شَفَقِي معتَنِقاً فجرَ الصّبا
قد رأتنا مثلَ طَيفَي حُلُمٍ / ما عليها أقبَلا أم ذَهَبا
قلتُ هيَّا قلتِ نمشي سِر فما / من طريقٍ طالَ لا نَذرَعُهُ
قلتُ والعمرُ بعيني كالكرى / وأنا في حُلُمٍ أقطعه
جمعَ الدهرُ حبيباً وامقاً / بحبيبٍ وغداً يَنزَعُه
أطريقانِ طريقٌ دونَه / في حياتي وطريقٌ معه
كلما خلَّى حبيبي يَدَهُ / لحظةً قلتُ وحُبِّي أبقِها
أَبقِها أنفُض بها خوفَ غدٍ / وأُحِسُّ الأَمنَ منها وبِها
أبقِها أشدُد بها أزرِي إذا / ضَعُفَ الأزرُ أو العزم وهَى
أبقِها أُومن إِذا لامَستُها / أن حبي ليسَ حُلماً وانتهى
ها أنا عُدتُ إلى حيثُ التقينا
ها أنا عُدتُ إلى حيثُ التقينا / في مكانٍ رَفرَفَت فيه السعاده
وبه قد رفرفَ الصمتُ علينا / إنَّ في صَمتِ الحبيبين عباده
ربَّ لَحنٍ قَصَّ في خاطِرنا / قصَّةَ الساري الذي غَنَّى سهاده
وكأَنَّ الصمتَ منهُ واحةٌ / هَيَّأَت من عُشبِها الرَّطبِ وساده
صَمَتَ السّهلُ ولكن أقبَلَت / من ثَنَايا السهلِ أصداءٌ بعيده
كلُّ لحنٍ في هدوءٍ شاملٍ / تشتهي النفسُ به أن تستعيدَه
يتهادى في عُبابٍ ساحرٍ / باعِثٍ للشَّطِّ أمواجاً مديده
فإذا ما ذَهَبَ الليلُ بها / تَزخَرُ النفسُ بأصداءٍ جديده
هدأ الليلُ هُنا لكنني / كنتُ في حُسنِك بالصّمتِ أُغنّي
كلُّ لحنٍ لَجِبٍ يَغشَى دمي / لَعِبَ العازف بالعُودِ المُرِنّ
ناقلاً للنّهرِ والسهلِ معاً / قصةً يشرحُها عنكِ وعني
قصةَ الشاعرِ والحسنِ إذا اس / تبقا للخلدِ في حَومة فنّ
ما الذي في خُصلَةٍ راقِدةٍ / ما الذي في خطِّهِ أو كُتُبِه
ما الذي في أثَرٍ خَلَّفَهُ / من أفانينِ الهوى أو عَجَبِه
ما الذي في مجلسٍ يَألَفُهُ / عَقَدَ الحبُّ عليه مَوعِده
ربما يَبكي أسىً كرسيُّه / إن نَأَى عنه وتَبكِي المائده
ولقد نَحسَبُها هَشَّت إذا / عائدٌ هَشَّ لها أو عائده
ولقد نَحسَبُها تسأَلُنا / حين نَمضِي أفِراقٌ لِعِدَه
كم أعَدَّت نفسَها وانتظرت / واستَوت موُحشةً تحت السماء
وهي لو تَملِك كفّاً صافحت / كفَّكِ الغَضَّةَ في كلِّ مساء
رُبَّ كَرمٍ مَدَّه الليلُ لنا / فَتواثَبنا له نَبغِي اقتطافَه
وعلى خَيمَته حارسُه / عَرَبِيُّ الجودِ شَرقِيُّ الضيَافه
وَجَدَ العُرسَ على بهجتِه / وسناه دونَ وَردٍ فأَضافه
ثم وارتهُ غياباتُ الدّجى / كخيالٍ من أساطيرِ الخُرافه
أرَجٌ يَعبَقُ في جُنحِ الدّجى / حَمَلَتهُ نحو عَرشَينا الرياح
كلُّ عطرٍ في ثناياه سَرَى / كان سِرّاً مُضمراً فيه فباح
يا لهَا من حِقبَةٍ كانت على / قِصَرٍ فيها كآمادٍ فِساح
نتمنَّى كلما امتدَّت بنا / أن يَظَلَّ الليلُ مجهولَ الصباح
أنا إِن ضَاقَت بيَ الدنيا أفِئ / لثَوانٍ رحبةٍ قد وَسِعَتنا
إنما الدنيا عُبابٌ ضَمَّنا / وشطوطٌ مِن حُظُوظٍ فَرَّقتنا
ولقد أطفُو عليه قَلِقاً / غارقاً في لحظةٍ قد جمعتنا
ومعاني الحسنِ تَترَى وأنا / ناظرٌ فيها لِمَعنًى خَلفَ معنى
هذه الدنيا هجيرٌ كلُّها / أين في الرمضاء ظلٌّ من ظلالك
ربما تَزخَرُ بالحسن وما / في الدُّمى مَهما غَلَت سحرُ جمالك
ولقد تزخر بالنّورِ وكم / من ضياءٍ وهو من غيرِك حالك
لو جَرَت في خاطري أقصى المُنى / لتمنّيتُ خيالاً من خيالِك
قلتُ للّيلِ الذي جلّلنا / والذي كان على السرِّ أمينا
أينَ يا قلبِيَ مَن قلبي اجتَبَى / لهواهُ واصطفاهُ لي خدينا
لم أكن أطمع أن ترحمني / بعد أن قَضَّيتُ في الوجدِ السنينا
لم أكُن أطمعُ أن تُضمِرَ لي / آسياً يُبرئُ لي الجُرح الدفينا
لم أكن أعلمُ يا ليلَ الأسى / أن في جُنحِكَ لي فجراً جنينا
أيها اللائذُ بالصَّمتِ كَفَى / وأدِر وجهَكَ لي وانظر طويلا
لا تَمِل واسخر من الدنيا إذا / شاءت الأيامُ يوماً أن تميلا
ما الذي مَكَّن في القلبِ الوداد / ما الذي صَبَّك صَبّاً في الفؤاد
ما الذي مَلَّكَ عينيك القياد / ما الذي يَعصِفُ عَصفاً بالرشاد
ما الذي إن أُقصِهِ عنِّيَ عاد / طاغياً سِيّانِ قُربٌ أو بعاد
ما الذي يَخلُقُنا من عدمٍ / ما الذي يُجرِي حياةً في الجماد
كم حبيبٍ بَعُدَت صَهباؤُه / وتَبقَّت نفحةٌ من حَبَبِه
في نسيجٍ خالدٍ رَغمَ البِلى / عَبَثَ الدهرُ وما يَعبثُ به
أين سُلطاني ومجدي والذي / حُبُّه مجدٌ وسلطانٌ وعِزَّه
أين إلهامي ونوري والذي / أيقظَ القلبَ إلى البَعثِ وهَزَّه
قد نأى عني الذي يرحمُني
قد نأى عني الذي يرحمُني / والذي يفهمُ آلامي وروحي
والذي أعبدُ منه غُرَّةً / كَنَدى الأزهار في الوجهِ الصبيح
والذي أشتَمُّ منه غادياً / عَبقَ الأنداءِ في الوادي الصدوح
آه يا هندُ جِراحي كَثُرَت / فتعالي ضَمّدِي أنتِ جروحي
لا تقل لي ذاك نجمٌ قد خبا
لا تقل لي ذاك نجمٌ قد خبا / يا فؤادي كلُّ شيءٍ ذهبا
ذلك الكوكبُ قد كان لعيني / السماوات وكان الشُّهُبا
هذه الأنوارُ ما أضيَعَهَا / صِرنَ في جَنبي جراحاً وظُبى
كلما أهدَت شعاعاً خَلَّفَت / بعده سجناً ومَدَّت قُضُبا
قلتُ أسلوك وكم من طعنةٍ / بالمُداراةِ وبالوقتِ تهون
فإذا حُبُّكِ يَطغَى مُزبداً / كَدفُوقِ السَّيلِ طُغيانَ الجنون
وكذا تمضي حياتي كلُّهَا / بين يأسٍ ورجاءٍ وظنون
ما على الهجر معينٌ أبداً / وعلى النّسيانِ لا شيءَ يُعين
ذلك الحبُّ الذي فُزتُ به / لا أُبالي فيه ألوان الملامه
ذلك الشطُّ الذي ذُقتُ به / بعد لُجِّ البحر أمناً وسلامه
إنّه مزَّق قلبي قسوةً / وسقاني المُرَّ من كاسِ الندامه
صارَ ناراً ودماراً في دمي / وصراعاً بين قلبٍ وكرامه
ذلك الحبُّ الذي عَلَّمَني / أن أُحِبَّ الناسَ والدنيا جميعا
ذلك الحبُّ الذي صوَّر من / مُجدِب القَفرِ لعينَيَّ ربيعا
إنه بصّرني كيفَ الورى / هدموا من قُدسِه الحِصنَ المنيعا
وجلا لي الكون في أعماقه / أعيُناً تبكي دماءً لا دموعا
لَم تُعينيني على صَرفِ النَّوى / آهِ لو كنتِ على الدهرِ أعَنتِ
قَدَرٌ نكَّسَ منّي هامتي / آذن الدهرُ بِبَينٍ وأذِنتِ
وعجيبٌ أمرُ حبٍّ لم يَهُن / هو لَو هانَ على نفسي لَهُنتِ
لهفَ قلبي لهفةً لا تنقضي / كنتِ دنياي جميعاً كيفَ كُنتِ
كنتِ في برجٍ من النورِ على / قِمةٍ شاهقةٍ تَغزو السحابا
وأنا منك فَراشٌ ذائبٌ / في لُجَينٍ من رقيقِ الضوء ذابا
فَرِحٌ بالنّورِ والنارِ معاً / طارَ للقمَّةِ محموماً وآبا
آبي من رحلتهِ مُحترقاً / وهو لا يَألُوكِ حُبّاً وعتابا
بَرِئَت نفسي من الحقدِ ولم / أُخف ضِغناً لكِ بين العَبَرات
إن يوماً واحداً أسعدَني / جمعَ الأفراحَ طُرّاً من شَتات
وهو عمرٌ كاملٌ عشتُ به / كلَّ أعمارِ الورَى مُجتمعات
لستُ أنساكِ وقد علَّمتِنِنى / كيف يحيا رجلٌ فوق الحياة
افرحي ما شِئتِ يا روحي افرحي / أنشدِي ما نَقَلتهُ الطيرُ عَنّي
واغنمي نَفح الصَّبا وانتقلي / في الصِّبا المِمراحِ من غُصنٍ لغصن
وعلى أيكِكِ نَاغي كلَّ من / مرَّ بالأيكِ ونادِي كلَّ خِدن
لن يُحِبُّوك كحبي لن تَرَي / ضاحكاً مثلي ولا حُزناً كحزني
يا كتابَ الحُسن جَلَّت آيةً / من جمالٍ وكمالٍ وشباب
زعموا أنِّيَ قد خَلَّدتُها / بأغانيَّ وألحاني العِذاب
ما أنا شادٍ ولكن قارئٌ / سُوَراً من ذلك الحسنِ العُجاب
لم أزَل أقرأُ حتى سجدوا / وَجَعَلتُ الخُلدَ عُنوان الكتاب
يا ابنةَ الأصدافِ والبحرُ أبي / قبلَ أن يُلقِي بي الموجُ هُنا
سائلي الأعماقَ عن غَوَّاصها / أنا صَيَّاد لآليها أنا
إن هَجَرنا القاعَ والليلَ إِلى / قِمَمٍ شُمٍّ وعِشنا في السَّنا
فَبِنا الأمواجُ والصخرُ وما / بَرِحَ العاصفُ في أعماقنا
عاصفٌ عاتٍ تمنّيت له / هَدأةً أينَ له ما تطلبين
اسألي عن مقلةٍ مخلصةٍ / خَبأَت رسمَكِ في جَفنٍ أمين
سَهرت تَرعاك مهما لقيت / في سبيل العهدِ والودِّ المكين
أقسمت لا تسألُ النَّومَ ولا / تطلبُ الرحمة منه بعض حين
بعدَ ما غَوَّر نجمي ودليلي / ما مسيري دون تِربٍ وخليل
في طريق الشَّوكِ والصخر وفي / شُعَب الإرهاق والكَدِّ الوبيل
الغريبانِ عليها التَقَيَا / يستعينان على الدَّربِ الطويل
ما انتفاعي بحياتي بعد ما / سَاقَكِ التيَّارُ في غير سبيلي
يا لجَهلِ اثنين أقدارَهما / آه يا ليتهما قد عَرَفَا
ما الذي نصنعُ بالعيشِ إذا / ما صَحَا القلبُ غريباً وغَفَا
ما الذي نصنعُ بالعيشِ إذا / ما السبيلان عليه اختلفا
ما الذي نصنعُ بالعيشِ إِذا / صارَ تَذكاراً فأَمسَى أسفا
عندما تُقفِرُ دارٌ من رِفاق / وتُحِسُّ السمَّ في كاسٍ وساقِ
عندما يكشِفُ بؤسٌ وجهَه / سافرَ اللّعنةِ مفقودَ الخلاق
عندما تُمسِي بِظِلٍّ عالقاً / وبخيطِ الوهم مشدودَ الوثاق
يا فؤادي انظر وفكر وأفِق / أيُّ قَيدٍ لك بالأحبابِ باق
كل جِدٍّ عَبَثٌ والدهرُ ساخر / وخبيء السرِّ للعينين ظاهر
أدَّعِي أني مقيمٌ وَغَداً / رَكبيَ المُضنَى إلى الصحراءِ سائر
عندما صافحتُ خانَتني يدي / وَوَشَى خاف من الأشجانِ سافر
كَذَبَت كفٌّ على أطرافها / رِعشَةُ البُعدِ وإحساسُ المسافر
يا دياراً يومُها من سُحُبٍ / وغيومٍ وضبابٌ أُفقُ غَد
كلّ نَبتٍ عبقريٍّ أطلَعت / جعلت منه طعاماً للحسَد
أخلَفَ الميثاقَ من كان بها / كلّ آمالي فلم يَبقَ أحد
ضاعَ عمرٌ وحصادٌ وغَدَا / من هشيم كلُّ ما كنتُ أعِدّ
قُم بنا والكونُ جَهمٌ كالدجى / نَتَلَمَّس من جحيمٍ مَخرَجا
وانج منه ببقايا رَمَقٍ / أو حُطامٍ وقليلٌ مَن نجا
لا تُدر راياً به أضيَعُ مَن / في لظاه مستعينٌ بالحِجا
واسألِ الرحمنَ أن يُصلِحَ عَه / داً كسيحاً وزماناً أعرَجا
عشتُ وامتدَّت حياتي لأرَى / في الثرى مَن كان قَبلاً في القمم
انهيار المُثُلِ العليا وإن / كار آلاءٍ وكُفرٍ بالقِيَم
مَن يَكُن عَضَّ بناناً نادماً / فأنا قَطَّعتُ إِبهامَ النّدَم
وإذا انحَطَّ زمانٌ لم تَجِد / عالياً ذا رفعَةٍ إلا الألم
ضِحكةٌ ساخرةٌ هازلةٌ / وخيالٌ تافِهٌ هذي الحياه
هذهِ الأكذوبةُ الكُبرى التي / خُدعَ الناسُ بها واأسفاه
ذلَّ فيها المالُ والجاهُ إلى / أن غدا أحقَرَها مالٌ وجاه
نَحمَدُ الله على أنَّا بها / لم نَصُن من ذِلَّةٍ إلا الجباه
عَبَثاً أهرُبُ من نفسي ومن / ذلك الساكنِ روحي والبَدَن
من لقلبٍ مُستطارِ اللُّبِّ مَن / كلما عاوده التَّذكارُ جُنّ
أينما أمضي فحولي ذِكرٌ / وحبيبٌ ومكانٌ وزمن
وربيعٌ دائمُ الخضرةِ في / روضة النفس وطَيرٌ وفَنَن
قصةٌ خالدةٌ لا تنتهي / وهي ما كان لها يومُ ابتداءِ
أنا لا أدري متى كان ولا / أين عند الله أسرارُ اللقاءِ
حينما لاحَ شِهابٌ في سمائي / أسمرُ النور رفيعُ الخُيلاءِ
عبقريٌّ مُوحشٌ منفردٌ / متعالٍ قَلِقُ الأضواءِ ناءِ
هو في الأفق بعيدٌ وهو دانِ / هو لي نفسي وروحي وكِياني
مخطئٌ من ظَنَّ أنَّا مُهجتان / مخطئٌ من ظَنَّ أنّا توأمان
هو شطرُ النَّفسِ لا توأمُها / هو منها هو فيها كلَّ آن
نحنُ نبضٌ واحدٌ نحن دمٌ / واحدٌ حتى الردى متّحدان
هكذا كلُّ جميله
هكذا كلُّ جميله / ليس لي في الغدر حيله
أنجُ منها وامضِ عنها / أخذت قلبك غيله
بعد هاتيك الليالي / المطمئِنَّات الظليله
بخلت ليلاك حتى / بالتعلاتِ القليله
لم تَدَع للقلب من طو / ل التباريح وسيله
لم تدع للقلب ما يش / في من الوجد غليله
لم تدع إلا رفيفاً / من نسيمٍ في خميله
وخيالاتٍ يُداوي / طيفُها نفسي العليله
والرسالاتِ اللواتي / والأكاذيبَ النّبيله
آه من مَيَّةُ آهٍ ثم آه
آه من مَيَّةُ آهٍ ثم آه / وحَبيبٍ سَحرتني مُقلتاه
لو تَمنَّيتُ قُبيل الموت ماذا / أتمنى قلت تقبيل ثراه
أتمنى الموت من مقلته / ما الذي يمنع أن أشتاق فاه
آه من مَيَّةُ آهٍ ثم آه / وحبيبٍ عزّني اليوم لقاه
يا نسيم البحر ريانَ بطيب
يا نسيم البحر ريانَ بطيب / ما الذي تحمل من عطر الحبيب
صافحتني من نواحيك يدٌ / تمسح الدمعة عن جفن الغريب
وتلقَّاني رشاشٌ كالبكا / وهديرٌ مثل موصول النحيب
بين سهدٍ وعذابٍ وضنى
بين سهدٍ وعذابٍ وضنى / مرّ ليلي ذاك حالي وأنا
أسأل الأنجم عن حال المنى / يا حبيبي كيف صارت بيننا
كيف أمسى يا حبيبي عهدنا / بعد ما طاب هوانا ودنا
كلُّ ما كان بعيداً ورنا / كلُّ نجمٍ من سماوات السنا
آه لو ينظر حالي الآن آه / حينما ضاقت بآلامي الحياه
ندم النجمُ على غالي سناه / ورأى كيف انطوينا فطواه

المعلومات المنشورة في هذا الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع إنما تعبر عن رأي قائلها أو كاتبها كما يحق لك الاستفادة من محتويات الموقع في الاستخدام الشخصي غير التجاري مع ذكر المصدر.
الحقوق في الموقع محفوظة حسب رخصة المشاع الابداعي بهذه الكيفية CC-BY-NC
شبكة المدارس الإسلامية 2010 - 2025