لَستُ أَنسى زَمناً قَد سَلفا
لَستُ أَنسى زَمناً قَد سَلفا / فيكِ يا مكّة بالعيشِ الهني
إِذ منَ المَروةِ أَسعى للصفا / وَبذاتِ الخالِ وَجدي عمّني
حينَ أَغدو طائِفاً من حولِها / أَتَهادى مثلَ صبٍّ ثملِ
أَبتَغي عارِفةً من نولِها / وهيَ تَرعانيَ تحتَ الحللِ
وَمَتى تمّت مَساعي طَولها / بَلَّغتني مِن رِضاها أمَلي
أَدخَلَتني في مقامٍ شَرُفا / كلُّ مَن يَدخلهُ في مأمنِ
واصَلتني ولَكم قبلُ هفا / نَحوَها قَلبي وزادَت شَجني
أَجلَسَتني كَرماً في حجرها / بعدَ تَقبيلِ فَمي مِنها اليمني
وَلَقد منّت بِأوفى برّها / إِذ دَعَتني أدخلُ البيتَ الأمين
فَلِساني عاجزٌ عن شُكرها / وَإِليها لم يزل منّي حَنين
قرّبتني بعدَما طالَ الجفا / وَبَدَت تَزهو بوجهٍ حسنِ
فَمَضى همّي وَصافاني الصفا / وَأَتى أُنسي وولّى حَزَني
أَشربُ الخمرةَ شربَ النهمِ / دونَ إِثمٍ غيرَ سكران ملوم
إنّما أَعني سُلافَ زمزم / صانَها الرحمنُ لا بنت الكروم
فَأَراني كالمليكِ الأعظمِ / مِن سُروري وتُجافيني الهموم
قَد أَزالَت وهيَ طعمٌ وشفا / سَقَمي عنّي وَزادت سِمَني
مَن رَمى الدُنيا وَمِنها رشفا / مرّةً في عمرهِ لم يُغبَنِ
وَالمُنى تمّت لدَينا في مِنى / حينَ نَرمي مِن هَوانا الجمَرات
وَاِجتَمعنا بِسرورٍ وهنا / عندَ جمعٍ وعرَفنا عرَفات
ذاكَ يَومٌ كلّ ما الدهرُ جنى / قَد مَحاه بالأيادي الطائلات
غَيرَ أنّي لَم أزَل مُلتهفا / لِنوى مَن حبُّها تيّمني
حيِّ يا برقُ أثيلاتِ العقيق / وَرُبوعاً في النَقا وَالمُنحنى
وَاِسق سَلعاً وَقُباً خيرَ رحيق / مِن سُلافِ الغيثِ موصول الهنا
آهِ مَن لي ثمَّ سكرٌ لا أفيق / منهُ بالعذراءِ لا يُبقي عنا
فَمَتى فيها أَرى لي مَوقفا / تنعمُ العين به كالأذنِ
وَمَتى أُمنحُ فيها زلفا / وأَراها دونَ أَرضي وطني
هيَ واللَّه مُنى قلبي الحزين / إِن تكُن تقربُ أَو تَنأى الديار
يا تُرى أَحظى ولَو مِن بعد حين / بحِماها وأَرى فيها القَرار
ثاوِياً ثمّة في الحرزِ الأمين / في جوارِ المُصطفى أكرمِ جار
خيرة الأخيارِ أَوفى مَن وفى / الكريم ابن الكرام المحسنِ
كلُّ خَلقٍ مِن نداهُ اِغتَرفا / وَهوَ باللَّه وهم خير الجدود
وَجميعُ الرسلِ عيسى والكليم / وَسِواهم وَمَشاهيرُ الوجود
فازَ منهُ الكلُّ بالحظِّ العظيم / وَحَباهم كلّ فضلٍ وسعود
وَبهِ جبريلُ نالَ الشرَفا / إِذ سرَى نحوَ العلا لا ينثني
وَبِخفضِ القدرِ عنهُ اِعترفا / حينَما قالَ لهُ لا تنسَني
شاهدَ اللَّهَ بلا كيفٍ وأين / بِقوىً أعطى له المولى العلي
قَد رآهُ بفؤادٍ وبعين / مِنحةٌ خُصَّ بها في الأزلِ
قِس بهِ صعقةَ موسى دونَ مين / للتجلّي حينَ دَكِّ الجبلِ
تجدِ المُختارَ منه أشرفا / وَأحبَّ الخلق للَّه الغني
لَو حَباهم مِن عُلاه طرَفا / أغرقَ الكلّ ببحر المننِ
نالَ قدراً مِن رضى المولى الكريم / جُزء جزءٍ منه ما نال الكرام
وَسُقي بَحراً من اللَّه العليم / لَو سُقي القطرةَ منهُ الكونُ هام
ثمَّ في الليلِ اِنثَنى نحوَ الحطيم / فَأتاهُ قبلَ إسفارِ الظلام
بِعروجِ العرشِ فاقَ المُصطفى / كلّ عبدٍ كانَ لو لم يكنِ
عَرفَ الحقَّ لهُ مَن عرَفا / وَسِواهم في ضلالٍ بيّنِ
إنّما ذلكَ مِن فعلِ القدير / مَن برا كلّ الورى عزّ وجل
يَستوي كلُّ صغيرٍ وكبير / عندهُ في الخلقِ ما شاءَ فعَل
فَلديهِ العرشُ كالنملِ الصغير / عِندَنا وَالأمرُ أعلى وأجل
وَهوَ مِن كلِّ البريّاتِ اِصطَفى / عبدَهُ الهادي لأَسنى سننِ
أحمدَ المُختار طهَ ذا الوفا / خيرَ مَبعوثٍ له مؤتمنِ
ما لهُ بينَ البَرايا مِن مثيل / كلُّهم لَولاه ما نالوا الوجود
وَلِما أَعطاهمُ المَولى الجليل / قسمةٌ منهُ على قدرِ الجدود
شرَّفَ الأشرافَ جيلاً بعد جيل / وَبهِ الأعقابُ تسمو والجدود
خَصَّهُ اللَّه بما قد لطفا / علمهُ عَن دركِ أهل الفطنِ
كلُّ مَن نظّم أَو قَد صنّفا / لَم يفُز منه بسرٍّ صيّنِ
لَيسَ يَدري كنههُ غير الإله / واِستوى في جهلهِ كلّ الورى
وَعَلت فوقَ عُلا الخلقِ علاه / شَرَفاً أينَ الثريّا والثرى
زانَتِ الكونَ وأهليهِ حُلاه / وَبِكلّ نورهُ الساري سرى
جاءَ وَالكونُ مريضٌ فَشفى / بِهُداه كلَّ عبدٍ مؤمنِ
وَلقَد أسمعَ لمّا هتَفا / مَن مَضى أَو مَن أتى في الزمنِ
كَم لهُ مِن مُعجزاتٍ باهرات / ما لَها بينَ البرايا من نظير
دامَ مِنها حكمهُ بعد الممات / وإِلى الحشرِ الكتابُ المُستنير
كلُّه آيات حقٍّ بيّنات / دلّتِ الناسَ على صدقِ البشير
أَعجَزَتهم سَلفاً والخلفا / فاِستَوى الفدمُ وأذكى لسنِ
وَهَدَتهم غيرَ قلبٍ أغلفا / وَالعَمى في القلب لا في الأعينِ
بحرُ علمٍ ما لهُ من ساحل / جاءَ تَفسيراً له قول الرسول
وَأَتى عن كلّ حبرٍ فاضل / لَهُما شرحٌ من العلمِ يَطول
رُبَّ مجنونٍ بدعوى عاقل / لا يَرى فضلَ الأئمّةِ الفحول
دَعهُ لا تحفَل بهِ مَهما جفا / وَغدا في القولِ أذكى فطنِ
كانَ هادينا عَلينا أخوفا / مِن سَفيهٍ حاز علم اللسَنِ
فَعَليه اللَّه صلّى من شفيق / حذّر الأمّةَ أسبابَ الضلال
لَم يَدع في الدينِ وَالدُنيا طريق / لهُدانا ما له فيها مقال
أيُّها المفتونُ كَم لا تستفيق / وَتَرى ما أنتَ فيهِ مِن وبال
اِتّبع واِسلُك سبيلَ الحُنَفا / مَن سَعى في نَهجهم لم يفتنِ
هُم بِقولِ اللَّه كانوا أعرَفا / مِن سِواهم وَمعاني السننِ
خلِّ هذا فبهِ القولُ فضول / عندَ مَن سُقتُ لهم هذا الكلام
لَم تؤثِّر فيهمُ بيضُ النقول / أَتُرى يَردَعُهم منّي الملام
خَلِّهم واِرجِع إِلى مدحِ الرَسول / صَفوةِ الرَحمنِ من كلِّ الأنام
دُم عَلى المدحِ لهُ مُعتَكفا / وَاِتّخذه لكَ أَقوى جوشنِ
وَتَقلّدهُ حُساماً مُرهفا / قاطِعاً أَعناقَ كلِّ المحنِ
هوَ سُلطانُ النبيّينَ الكرام / وَعَليهم أخذَ اللَّه العهود
فَهمُ نوّابهُ بينَ الأنام / نُشِرت فيهِم لعلياه البنود
إنَّما الدهرُ لهُ مثل الغلام / كَم له عبدٌ على الناس يسود
هَكذا اللَّه بهِ قَد شرَّفا / خَلقهُ مَن دانَ أو لم يدنِ
وَعَفا عن آدمٍ لمّا هفا / وَسِواه مِن ذوي القدرِ السني
وَبيومِ الحشرِ ترضاه العباد / شافِعاً إِذ يُحجمُ الرسلُ الكرام
رَبُّه يُعطيه فيهِ ما أراد / فَيَرى التفريجَ عَن كلِّ الأنام
ثمَّ في الأمَّةِ يُرضيه الجَواد / وَينالُ الخلدُ في أعلى مقام
سَوفَ يُعطيهِ علاً لن توصفا / تعجزُ الأفكارَ عجزَ الألسنِ
يَسكنُ الفِردوسَ يُعطى غُرفا / تحتَها للرسلِ أعلى موطنِ
سيِّدي يا أيُّها المولى الملاذ / يا حبيبَ اللَّه يا خير رسول
كلُّ جاهٍ في البَرايا ذي نفاذ / فَعليهِ جاهكَ الضافي يطول
لَيسَ لي غيركَ في الخلقِ معاذ / وَلِحالي سيّدي شَرحٌ يَطول
أَدرك اِدركني فصَبري قد عفا / وَغَدا ربعُ الصَفا كالدمنِ
عَبدُكَ الدهرُ بحقّي أجحفا / وَنَفى عنِّي لذيذ الوسنِ
وَلَكم مِن حاجةٍ في خلدي / أَنتَ تَدريها وما عنكَ اِستِتار
أَنا في الدارينِ أَبغي رَشَدي / منكَ في الدُنيا وفي دارِ القرار
لا تُخَصّصني بخيرٍ سيّدي / عُمَّ أَهلي واِحبُنا منكَ الجوار
وَأَبِحنا مِن حِماكُم كَنَفا / واقِياً مِن شرِّ كلِّ الفتنِ
حَسبُنا اللَّه إِلهاً وكفى / بِكَ لِلمَحسوب أَقوى ركنِ