المجموع : 3
قبلةٌ من ثغركِ الباسمِ دنيا وحياةُ
قبلةٌ من ثغركِ الباسمِ دنيا وحياةُ /
تلتقي الروحانِ فيها والمُنَى والصَّبواتُ /
لُغَةٌ وُحِّدَتْ الألسنُ فيها واللغاتُ /
نبعها القلب ومجراها الشفاه النضراتُ /
لغة قرَّ الشتيتُ الشملِ فيها وتواءَمْ /
وبها الأعينُ في غير حديثٍ تتفاهمْ /
مَنْ تُرى علّمها بالأمسِ حواءَ وآدمْ /
لمْ تَزُلْ جِدَّتُها وهيَ حديثٌ يتقادمْ /
قبلةٌ من ثغرِك الباسمِ رفَّتْ شفتاهُ /
من رحيقٍ لم يُحرِّمه على الناسِ الإلهُ /
كلما أُترِعَ منه القلبُ ضجَّتْ رئتاهُ /
مستزيداً وهوَ إن علَّ به زادَ صداهُ /
قبلةٌ من ثغركِ الباسمِ تمحو كلَّ ما بي /
وتواريني عن الناسِ وعن دنيا العذابِ /
وتُنَسِّي القلبَ ما جرَّعَ من سمٍ وصابِ /
قبلةٌ تمزجُ أنفاسَكِ بالقلبِ المُذابِ /
رُبَّ ليلٍ مرَّ أفنيناهُ ضماً وعناقا /
وأدرنا من حديثِ الحبِّ خمراً نتساقى /
في طريقٍ ضرَبَ الزَّهرُ حواليه نطاقا /
وتجلَّى البدرُ فيه وصفا الجوُّ وراقا /
ولزمنا الصمتَ إلَّا نظراتٍ تتكلمْ /
وشفاهاً عن جراحِ القلب راحتْ تتبسمْ /
صِحْتِ بي رعباً وما راعكِ قلبٌ يتحطّمْ /
نبأتني النفسُ بالبينِ غداً والنفسُ تُلهمْ /
ثم كان الغدُ ما نُبِّئتِ هجراً وفراقا /
ونسينا قبلةً ساغتْ على الأمسِ مذاقا /
غيرَ أناتٍ صحا القلبُ عليها وأفاقا /
فالتقينا وافترقنا وكأنْ لمْ نتلاقا /
بعد خمسٍ جِئتنِي يا ذكرياتي
بعد خمسٍ جِئتنِي يا ذكرياتي / والأماني بين موتٍ وحياةِ
بعد خمسٍ يا لها في السنواتِ / حمَلتْ كلَّ ذنوب الكائناتِ
صَاح فيها زُحَلٌ بالظلماتِ / فطوتْ نجمي وسدَّت طُرقاتي
ورمَتْ شملي ببينٍ وشتاتِ / والصِّبا نشوانُ والحبُّ مؤاتي
فاحفظيها في المآسي الخالداتِ / أو دعيها واذكري لي خطراتي
أرجعي لي بعضَ أحلامي وهاتي / صفَو أنغامي وردِّي صدحاتي
حدِّثي ليلة خُضْنا الأبيضا / في سكونٍ خِفْتُه أن ينبضا
ودُجىً كالسُّخط من بعد الرضى / قد دعونا نجمَه أن يُغمضا
جثم الرعبُ عليه فنضا / لججاً سوداً وظلاً مُقبِضا
كلما عودُ ثقابٍ أومضا / دفعَ النيلَ وأرغى ومضى
يُنْذِرُ الركب فماجوا رُكَّضا / وادَّعى منهم خبيثٌ عرَّضا
أنَّ نجماً هتلريا مُغْرِضا / شعَّ ناراً وتوارى في الفضا
ذكرياتي كيف أقبلتِ إليَّا / كيف جُزْتِ البرَّ والبحرَ القصيَّا
كيف خُضْتِ الكون لجّاً دمويّاً / وشُواظاً طاغيَ النار عتيَّا
ذكرياتي جدِّدي هذا الرويَّا / وابعثيهِ نغماً عذباً شجيَّا
ما عجيبٌ أن تردِّيهِ عليَّا / بل عجيبٌ أنني لا زلتُ حيَّا
أتلقَّاكِ وكأسي في يديَّا / ونشيدي ضارعٌ في شفتيَّا
طاف بي شاديكِ يدعوني مَليَّا / أيها الملَّاحُ حان الوقتُ هيَّا
حان أن ننشر خفّاق الشراعِ / يا سفيني ويكِ هيَّا لا تُراعي
قد تدانى البحرُ من بعد امتناعِ / وغَدَتْ فينيسيا قيدَ ذراعِ
هذه الجنّةُ يا ويح الأفاعي / نفثتْ في زهرها سُمَّ الخداعِ
آه دعني من أحاديث الصراعِ / ضاع عمري ويحَ للعمر المضاعِ
فالتمس نَهزَةَ حُبٍّ ومتاعِ / تحت أُفْقٍ صادحٍ صافي الشعاعِ
يا شراعي طُفْ بهاتيك البقاعِ / وتهيَّأ للقاءٍ ووداعِ
أيُّها البحر سفيني ما عَراها / رنَّحتها نبأةٌ رقَّ صداها
أو حقّاً قَرُبتْ من منتهاها / هذه المحنةُ وانجاب دُجاها
أغداً تستقبل الدنيا مُناها / حرَّةً تشدو بمكنون هواها
وأرى حُريّة عَزَّ حماها / لم يُضِعْ عقباه من مات فداها
أيها الشرق تأملْ أتراها / أنت من داراتها أين سناها
ذُدْتَ عنها وتقدمتَ خُطاها / يوم قالوا خَسرَ الحربَ فتاها
أيَّ بشرى زفَّها أرخم لحنِ / من تُراه ذلك الطيف المغنِّي
مسَّ قلبي صوتُهُ إذْ مسَّ أُذني / ألِحُبٍّ أم لسلمٍ أم تمنِّي
يا بشير السِّلم لا يكذِبْكَ ظنِّي / أنا ظمآنُ إلى الشدو فزِدني
عبرتْ بي الخمسُ في صمت وحزنِ / أيُّ خمسٍ بعدها تمتدُّ سِنِّي
صاح قلبي إنْ تدعْني لستَ منِّي / إفتح الباب ونحِّ القيد عنِّي
آهِ دعني أُبصر العالم دعني / قد سئمتُ اليوم في أرضيَ سجني
ما ثوائي في مكانٍ ما ثوائي / هو ذا الفجرُ فهبُّوا أصدقائي
إفتحوا نافذتي عَبْرَ الفضاءِ / إفتحوها لأرى لونَ السماءِ
في ظلالِ السِّلم أو نورِ الصفاءِ / حنَّ قيثاري لشعري وغنائي
فانشدوني بين أمواج الضياءِ / وانشدوا فوق البحيرات لقائي
لا تقولوا كيف يشكو من بقاء / شاعرٌ في موطنٍ حالي الرواءِ
قد ظلمتم دعوتي يا أصدقائي / وجهلتم ما حياةُ الشعراءِ
يا ابنة الإِيزار حُيِّيتِ سلاما / وغراماً لا عتابا ولا ملاما
هذه الحربُ التي راعت ضراما / شَبَّها طاغٍ بواديكِ أقاما
ذُقتِ في الغربة وجداً وسَقاما / أتُراها لم تَطِبْ مصرُ مُقاما
مصرُ كانت لمحبِّيها دواما / لم تُضِعْ عهداً ولم تخفُرْ ذماما
فاذكري في الغد أحباباً كراما / إنْ ألمَّت بك ذكراها لماما
واذكري بعض لياليها القُدامَى / في ضفافٍ حَمَلَتْ عنك الهُياما
في ضفافٍ كلُّ ما فيها جميلْ / تُنبِتُ الحبّ وتُنمي وتُنيلْ
يخطرُ الفجر عليها والأصيلْ / بين صفصافٍ وحورٍ ونخيلْ
يَدُ هاتور على كل جميلْ / تنشر النُّوَّارَ في كلِّ سبيلْ
وأزوريسُ على الشطِّ الظليلْ / يَعْصُرُ الخمرَ ويسقِي السلسبيلْ
هذه مصر دياراً وقبيلْ / ألها في هذه الدنيا مثيلْ
عجباً لي وعجيبٌ ما أقول / كيف يدعوني غداً عنها الرحيلْ
هاتِها كأساً منَ الخمر التي
هاتِها كأساً منَ الخمر التي /
سَكِرَتْ آلهةُ الفنِّ بها /
إسقنِيها وتفيَّأ ظُلَّتي /
وترنَّمْ بأغاني حُبّها /
هذه النكهةُ من صَهْبائها /
شبَعُ الرُّوح ورِيُّ الجسدِ /
عربد الشَّاعرُ منْ لألائها /
وهيَ كنزٌ في ضميرِ الأبدِ /
هاتِها في كلِّ يومٍ حَسَنِ /
نفحةَ الوحيِ وإشراقَ الخيالِ /
وأدِرْها نغماً في أُذني /
فاض من بين سحابٍ وجبالِ /
هاتِها سِحْرَ الوُجوهِ النَّضِراتِ /
هاتِها خمْرَ الشّفاهِ الملهماتِ /
والعيُونِ الشَّاعريَّاتِ اللَّواتي /
شعْشَعَتْ بالنُّورِ آفاقَ حياتي /
ذقتُها كالحُلمِ في ريِّق عُمري /
قُبْلةً عذراءَ من ثغْرٍ حييِّ /
وتَسمَّعتُ لها في كلِّ فجرِ /
وهي تنهَلُ بإلهامي الوضيِّ /
هاتِها جَلواءَ يا توأمَ روحي /
فيها أبصرُ للخُلدِ الطَّريقا /
لو خَلا من كرْمتَيْها فُلكُ نوحِ /
أخطأ الجوديَّ أو باتَ غريقا /
ما أراها أخطأتْ في وهمِنا /
عالَم الغابةِ أو مَهْد الجدودِ /
وأراها خِلقةً في دمنا /
يوم كُنَّا بعضَ أحلام القرودِ /
جَدُّنا الأعلى على كُبرتهِ /
لم تشِنهُ نظرةُ المنتقصِ /
هُوَ ما زالَ على فِطرَتِهِ /
ضَاحكاً خَلفَ حديد القَفصِ /
ذاقَها مُذْ كان في الغاب لعوبا /
يتغذّى من ثمار الشَّجرِ /
فمضى يحلُمُ نشوانَ طروبا /
بحفيدٍ في مراقي البشَرِ /
يا لها من قطرةٍ فوق شَفَهْ /
غيّرتْ مجرَى حياةِ العَالمِ /
في خَيالٍ مَرحٍ أو فلسفَهْ /
أبصرَ الدُّنيا بعيني آدمِ /
فلسفتهُ حين مَسَّتْ قلبهُ /
فاشتهى الفنَّ وعِلمَ المنطقِ /
وأرتهُ وأنارتْ دَرْبَهُ /
وهو في سُلَّمهِ لم يَرْتقِ /
أيها الحالمُ غرَّرتَ بنا /
وكفى سُكركَ ما جرَّ علينا /
عُدْ بنا للغابِ أو هاتِ لنا /
عهدَها أحْبِبْ به اليوم إلينا /
أوَ ترضى بالذي ما كُنْتَ ترضى /
أيُّ دنيا من عذاب وشقاءْ /
ورقيٍّ أهْلَكَ العالم بُغضا /
بين نارٍ وحديدٍ ودماءْ /
شوَّه العِلْمُ رُؤى الكونِ القديمِ /
ومحا كلَّ مسراتِ الدهورْ /
أو أرضٌ جوفها نارُ جحيمِ /
وفضاءٌ كلُّ ما فيهِ أسير /
أسرةُ الشمسِ اشتكت من أيْدها /
كيف لا يشكو الأسارى المرهَقونْ /
لو أطاقوا أفلتوا من قيدها /
فإذا هم حيث شاؤوا يُشرقونْ /
إن يكن قد أصبحَ البدر الوضيءُ /
حجراً والنجمُ غازاً وحديدْ /
فسلاماً أيها الجهلُ البريءُ /
وعزاءً أيها الكونُ الجديدْ /
يا حبيبي دَعْ حديثَ الفلسفاتِ /
طاب يومي فتفيِّأ ظُلَّتي /
أترِعِ الكأسَ وناولني وهاتِ /
قُبْلَة تُنقذني من ضَلَّتي /
أو فقُمْ للغابِ من غِرِّيدها /
نسمّعِ الرُّوح الطليقَ المرِحا /
وَنَعُبَّ الخمرَ من عُنقودها /
واتركِ الدنَّ وخلِّ القدَحا /