لما اِنجَلَت مِن حُجُب الزَمانِ
لما اِنجَلَت مِن حُجُب الزَمانِ / مَرابِعُ الخُلودِ وَالمَغاني
ضاقَ عَلى النَفسِ الكيانُ الفاني / وَعالمٌ يَغَصُّ بِالأَشجانِ
وَيفجعُ القُلوبَ بِالأَماني /
لاحَ لَها مِن الخُلود ما اِستَتر / وَاِمتَلَك السَمعَ عَلَيها وَالبَصَر
وَاِمتَزَجت مَع النَسيمِ في السَحَر / وَاَرتَفَعَت عَلى أَشِعّةِ القَمَر
شَفّافةً عُلويةَ الأَلحانِ /
وَلَم يَطُل بِها المَدى حَتّى دَنا / أَبعدُ ما تَرجوه مِن غُرِّ المُنى
هُنا هَياكلُ الخُلودِ وَهُنا / كُلُّ عَظيمِ القَدرِ وَضّاح السَنا
فَاِنطَلَقَت مُرسَلَةَ العِنانِ /
طافَت عَلى المُلوكِ وَالقَياصِرَه / فاِنقَلَبَت تَقولُ وَهِيَ ساخِرَة
أَضخمكم أُسطورةٌ أَو نادِرَه / وَإِنَّما الخُلودُ للعباقِرَه
جَبابر النُفوسِ وَالأَذهانِ /
للأَنبياءِ أَرفَعُ المَقامِ / يُحَفُّ بِالجَلال وَالاكرامِ
وَعِندَهُم رَوائِعُ الإِلهامِ / فيها الهُدى وَالنُورُ للأَنامِ
وَغايةُ الكَمالِ في الإِيمانِ /
وَالشُهداءُ بَعدَهُم في المَرتَبه / أَهلُ الفِدى في الأُممِ المُعَذَّبَه
صَبَّ الشَهيدُ دَمَهُ وَقَرَّبَه / يَقولُ إِنَّ المهجَ المخضَّبَه
أَدفع للضَيمِ عَن الأَوطانِ /
وَاِجتَمَعَ السِحرُ إِلى الفُتونِ / بَينَ رُبى الخُلودِ وَالعُيونِ
قَرائِحٌ مِن جَوهَرٍ مَكنونِ / تَشِعُّ بِالعُلومِ وَالفُنونِ
وَتَغمُرُ العالمَ بِالإِحسانِ /
أُولَئِكَ الشُموسُ وَالبُدورُ / دائِمَة الإِشراقِ لا تَغورُ
أَفلاكَها ما كَرَّت الدُهورُ / الحُبُّ وَالجَمالُ وَالسُرورُ
وَالخَيرُ وَالحِكمَةُ في الإِنسانِ /
أَصغيتُ لِلنَفس تَقولُ ما لَيه / طوَّفتُ في الخُلود كُلَّ ناحيَه
فَما وَجَدتُ مثلَ تِلكَ الرابيَه / مُشرِفَةً عَلى الوجود عاليَه
عاتيةً وَطيدة الأَركانِ /
رَأَيت ظِلاً شامِلاً ظَليلا / يَضُمُّ صَرحاً ماثِلاً جَليلا
فَاِرتدَّ طَرفي عَنهُما كَليلا / إِذا طَلَبتُ لَهُما تَمثيلا
فَالحَدَثُ الحَمراءُ في بوّانِ /
رَأَيتُ بيضاً يَعتنقنَ سُمرا / هُنَّ النُجومُ يَأتَلِقنَ زُهرا
في يَد كُلِّ فارِسٍ أَغَرّا / يَلتَمسُ المَجدَ الأَثيلَ قَسرا
وَالمَجدُ لَن يَكونَ للجبانِ /
رَأَيتَ غيداً مِن أَعاريب الفَلا / حُمرَ الجَلابيبِ غَرائِبَ الحِلى
خُلِقنَ مِن حُسنٍ وَفِتنَةٍ فَلا / تَطرِيَةً تَرى وَلا تجمُّلا
وَهَكَذا فَلتَكُن الغَواني /
ذاكَ الَّذي وَقَفنَ عَن جَنبيهِ / خِلتُ مُلوكَ الأَرض في بُردَيهِ
أَو الأَنامَ تَحتَ أَخمصَيهِ / قِيلَ اِسجُدي خاشِعَةً لَدَيهِ
فَالمُتَنَبي سَيِّدُ المَكانِ /
إِن كُنتِ مِمّن يَصحَبُ الكِتابا / وَيَألفُ الطِعانَ وَالضِرابا
وَيَهجرُ النَديمَ وَالشَرابا / جئتِ أَعزَّ خالدٍ جَنايا
وَفزتِ بِالإِكرام وَالأَمانِ /
نَكَستُ رَأسي وَدَنَوتُ أَعثُرُ / فَأَين كِسرى هيبَةً وَقَيصرُ
بَينَ يَدَيهِ أَسدٌ غَضَنفَرُ / عَلَيهِ مِن ضربَةِ سَوطٍ أَثرُ
يُغَني ابنَ عَمّارٍ عَن البَيانِ /
وَمُضحكٌ مُشقَّقُ الكَعبينِ / أَسوَدُ لابيٌّ بِمشفرينِ
عِهِدتُهُ يُشَدُّ بِالأُذنَينِ / وَقَدرُهُ يُرَدُّ بِالفِلسَينِ
يَوم تَروجُ سِلعَةُ الخِصيانِ /
كانَ لِمصرَ سُبَّةً وَعارا / يَومَ أَثارَ الشاعرَ الجَبّارا
لَم أَدرِ هل كانَ الهِجاءُ نارا / أَم عاصِفاً هُيّجَ أَم تَيّارا
أَم شُقَّ ذاكَ الصَدرُ عَن بُركانِ /
وَثَمَّ وَحشٌ فَمُهُ دامي الزَبَد / في جيدِهِ حَبلٌ غَليظٌ مِن مَسَدْ
قُلتُ أَلا أَسألُ ما هَذا الجَسَد / قالَ بَلى هَذا غَريمُنا الحَسَد
مُرتَبِكُ الأَخلاطِ في شَيطانِ /
رَأَيتُهُ يَطمِسُ عَينيهِ العَمى / سَعيرُ قَلبِهِ طَغى عَلَيهما
قُلتُ وَهَذا خالد أَيضاً فَما / أَعجَبَ أَن يَبقى الأَذى وَيَسلَما
وَيَنعمَ الشَرُّ بِعُمرٍ ثانِ /
تَبَسَّمَ الشاعرُ ثُمَّ رَدَّدا / في الوَحشِ نَظرَةً كَأَنَّها الرَدى
قالَ لَئن نَكَّدَ عَيشي بِالعِدى / حَتّى دَعَوتُ وَلَدي مُحَسَّدا
فَإِنّه خُلِّدَ في الهَوانِ /
تَقدَّمي يا نَفسُ وَاسأَليني / عَن أَثَر المفتاحِ في جَبيني
بَدَّلني بِكيدِهِ اللَعينِ / ذُلَّ الوِجار مِن حِمى العَرينِ
حِمى المُلوكِ مِن بَني حمدانِ /
وَما اِبتَلى الحَسودُ إِلا جَوهَرا / يَتمُّ نوراً وَيَطيبُ عُنصرا
وَالفَضلُ لا بُدَّ لَهُ أَن يَظهَرا / تُحدِّثُ الأَعصُرُ عَنهُ الأَعصرا
وَلِلحَسودِ غَمرَةُ النِسيانِ /
عودي إِلى دُنياكِ دُنيا العَرَبِ / بِجَذوَةٍ تُضرِمُ رُوحَ الأَدَبِ
وَتُغمِرُ الشَرقَ بِهَذا اللَهَبِ / قَد يَستَردُّ الحَقَّ بَعضُ الكُتُبِ
وَقَد يَكونُ المَجدُ في ديوانِ /