المجموع : 3
سَلِ الدِيارَ عن أهَيلِ نَجد
سَلِ الدِيارَ عن أهَيلِ نَجد / إِن كانَ تسآلُ الدِيارِ يُجدي
وَقِف بهاتيك الرُسوم ساعةً / لَعَلَّه يُطفي لَهيبَ وَجدي
منازِلٌ قد حزتُ فيها أَرَبي / وَنِلتُ سؤلي وَقَضيتُ وَعدي
ما عنَّ لي ذِكرُ زَمانٍ قد مَضى / بظلِّها إِلّا وَهاجَ وَقدي
أَصبو من الهند إِلى نَجدٍ هَوىً / وأَينَ نَجدٌ من ديار الهِندِ
وألتقي كلَّ رياحٍ خطرَت / أَحسَبُها لَيلاً نَسيمَ نَجدِ
آهِ من البَين المُشِتِّ وَالنَوى / كَم قرَّحا من كبِدٍ وَخَدِّ
فهل ترى ينتَظِمُ الشَملُ الَّذي / قد نَثرتهُ البينُ نثرَ العِقدِ
وَهَل لأَيّام الصِبا من رَجعَةٍ / أَم هَل لأَيّام النَوى من بُعدِ
أَنوحُ ما ناحَ الحَمامُ غُدوَةً / هَيهاتَ ما قصدُ الحَمام قَصدي
أَبكي وَتَبكي لَوعةً وطَرَباً / وما بُكاءُ الهزلِ مِثلُ الجدِّ
ظنَّت حَماماتُ اللِوى عشيَّةً / في الحُبِّ أَنَّ عندها ما عِندي
تَلهو عَلى غُصونِها وَمُهجَتي / تَصبو إِلى تلك القُدودِ المُلدِ
شَتّانَ ما بين جَوٍ وَفَرِحٍ / وَبين مُخفٍ سِرَّه وَمُبدِ
ما مَشرَبي صافٍ وإِن ساغ ولا / عيشيَ مِن بَعد النَوى برَغدِ
سل أَدمُعي عَمّا تُجنُّ أَضلُعي / فالقَلبُ يُخفي والدُموع تُبدي
كم أَنشدُ الرَوضَ إذا هبِّت صباً / تنبَّهي يا عذباتِ الرَندِ
حَلَّت بِقَلبي وَثَوَت
حَلَّت بِقَلبي وَثَوَت / شَمسٌ لَها البدر حَسَد
حَرُّ هَواها لم يَزَل / يُضني الفؤادَ والجَسد
لا تعجَبوا من حَرِّه / فالشَمسُ في قَلب الأَسَد
يَقول راجي الصَمدِ
يَقول راجي الصَمدِ / عليٌّ بن أَحمَدِ
حَمداً لمن هَداني / بالنُطق والبَيانِ
وأَشرفُ الصَلاةِ / من واهب الصِّلاتِ
عَلى النَبيِّ الهادي / وآله الأَمجادِ
وبعدُ فالكَلام / لحسنِه أَقسامُ
وَالقَولُ ذو فنون / في الجَدِّ والمجونِ
وروضةُ الأَريضُ / السجعُ وَالقَريضُ
وَالشعرُ ديوانُ العرب / وَكَم أَنالَ من أَرَب
فاِنسِل إذا رُمت الأدب / إِليه من كُلِّ حَدَب
روايةُ الأَشعارِ / تَكسو الأَديبَ العاري
وَترفعُ الوَضيعا / وَتكرمُ الشَفيعا
وتُنجحُ المآربا / وَتُصلحُ الموارِبا
وَتُطرب الإخوانا / وَتُذهِبُ الأَحزانا
وَتُنعشُ العُشّاقا / وَتؤنس المشتاقا
وَتَنسَخ الأَحقادا / وَتُثبِتُ الودادا
وَتُقدمُ الجَبانا / وَتَعطِف الغَضبانا
وَتَنعَت الحبيبا / والرشأ الرَبيبا
وَخيرُه ما أَطربا / مُستَمِعاً وأَعجَبا
وَهذه الأُرجوزَه / في فنِّها وَجيزَه
بَديعةُ الأَلفاظِ / تَسهُلُ للحُفّاظِ
تُطرب كلَّ سامعِ / بحسنِ لَفظٍ جامعِ
أَبياتُها قصورُ / ما شانَها قُصورُ
ضمَّنتُها مَعاني / في عِشرة الإخوانِ
تشرحُ للأَلباب / محاسنَ الآدابِ
فإنَّ حسنَ العِشرَة / ما حازَ قَومٌ عُشرَه
وأكثرُ الإخوانِ / في العصر والأَوانِ
صُحبَتُهم نِفاقُ / ما زانَها وِفاقُ
يَلقى الخَليلُ خلَّه / إذا أَتى محلَّه
بِظاهرٍ مُمَوَّهِ / وَباطنٍ مُشوَّهِ
يَظهرُ من صداقتِه / ما هو فوقَ طاقتِه
وَالقَلبُ منه خالي / كفارِغِ المَخالي
حتّى إِذا ما اِنصرَفا / أَعرض عَن ذاكَ الصَفا
وإن يكن ثَمَّ حَسد / أَنشَبَ إِنشاب الأسد
في عِرضِه مخالبَه / مستقصياً مثالبَه
مُجتَهِداً في غَيبَتِه / لَم يرع حقَّ غَيبتِه
فَهذه صحبةُ مَن / تَراه في هَذا الزَمن
فَلا تكن مُعتمدا / عَلى صديقٍ أَبدا
وان أَطقت أَلّا / تصحبَ منهم خِلّا
فإنَّك الموفَّقُ / بل السَعيدُ المطلَقُ
وإِن قصدتَ الصُحبَه / فخذ لها في الأُهبَه
واِحرِص على آدابها / تُعدّ من أَربابِها
واِستَنبِ عن شُروطها / توقَّ مِن مَسخوطها
وإِن أَردت علمَها / وحدَّها ورَسمَها
فاِستملهِ من رَجَزي / هَذا البَديعِ الموجَزِ
فإنَّه كَفيل / بشرحِه حَفيلُ
فصَّلتُه فُصولا / تقرِّبُ الوصولا
لمنهجِ الآداب / في صحبَة الأَصحابِ
تَهدي جَميع الصَحب / إِلى الطَريق الرَحبِ
سمَّيتُه إِذ أَطربا / بنظمه وأَغرَبا
بنَغمةِ الأَغاني / في عِشرة الإخوانِ
وَاللَّهَ رَبّي أَسأَلُ / وهو الكَريم المفضِلُ
إِلهاميَ الإمدادا / وَمَنحيَ السَدادا
قالوا الصديقُ من صَدق / في حُبِّه وما مَذَق
وَقيل من لن يُطعَنا / في قَوله أَنتَ أَنا
وَقيل لَفظٌ لا يُرى / معناه في هَذا الوَرى
وَفسَّروا الصَداقَة / بالحب حَسبَ الطاقَه
وَقال من قد أَطلقا / هيَ الودادُ مُطلَقا
وآخرونَ نصّوا / بأَنَّها أَخصُّ
وهو الصَحيح الراجح / وَالحَقُّ فيه واضحُ
إِذ خلَّة الصَديقِ / عند أولي التَحقيقِ
محبَّةٌ بلا غَرَض / وَالصدقُ فيها مُفترض
وَمطلقُ الحبِّ أَعم / ومن أَبى فقد زَعم
وَحدُّها المَعقولُ / عنديَ ما أَقولُ
هيَ بلا اِشتباهِ / أُخوَّةٌ في اللَهِ
إِذا صحبتَ فاِصحب / ذا حسَبٍ وَنَسَبٍ
رَبَّ صَلاحٍ وَتُقى / يَنهاه عَمّا يُتَّقى
من غيبةٍ وغدرِ / وَخدعةٍ ومكرِ
مهذَّبِ الأَخلاق / يطرُبُ للتَلاقِ
يحفظ حقَّ غَيبتِك / يَصونُ ما في عَيبتك
يَزينُه ما زانَكا / يَشينُه ما شانَكا
يَظهرُ منك الحَسَنا / وَيذكرُ المُستَحسَنا
وَيكتمُ المَعيبا / وَيحفظُ المَغيبا
يسرُّه ما سَرَّكا / ولا يُذيعُ سِرَّكا
إِن قالَ قَولاً صدقَك / أَو قلتَ أَنتَ صدَّقَك
وإِن شكوتَ عُسرا / أَفدتَ منه يُسرا
يَلقاكَ بالأَمانِ / من حادِث الزَمانِ
يُهدي لَكَ النَصيحَة / بنيَّةٍ صحيحَه
خِلَّتُه مُدانيَه / في السِرّ والعَلانيَه
صُحبتُه لا لِغرَض / فَذاكَ في القَلبِ مَرَض
لَم يَتَغيَّر إِن وَلي / عن الودادِ الأَوَّلِ
يَرعى عهود الصُحبَه / لا سيَّما في النَكبَه
لا يُسلِمُ الصَديقا / إِن نالَ يَوماً ضيقا
يُعينُ إِن أَمرٌ عنا / ولا يَفوهُ بالخَنا
يُولي ولا يعتذرُ / عمّا عليه يَقدِرُ
هَذا هو الأَخُ الثِقَه / المستحقُّ للمِقَه
إِن ظَفِرت يَداكا / به فكِد عِداكا
فإنَّه السِلاحُ / والكفُّ والجَناحُ
وَقَد رَوى الرُواةُ / السادةُ الثِقاةُ
عنِ الإِمام المرتضى / سيفِ الإله المُنتضى
في الصَحب والإخوان / أَنَّهمُ صِنفانِ
إخوانُ صدقٍ وثقه / وأَنفسٌ مُتَّفِقَه
هم الجناحُ واليدُ / وَالكَهفُ والمستَنَدُ
والأَهلُ والأقاربُ / أَدنَتهُمُ التَجارِبُ
ففَدِّهم بالروح / في القُربِ والنُزوحِ
واِسلُك بحيث سَلكوا / واِبذل لهم ما تملكُ
فَلا يَروكَ مالكا / من دونِهم لمالِكا
فصافِ من صافاهم / وَنافِ من نافاهمُ
واِحفظهمُ وصنهمُ / واِنفِ الظنونَ عنهمُ
فهم أَعزُّ في الوَرى / إِن عنَّ خطبٌ وعَرا
من أَحمرِ الياقوتِ / بل من حَلالِ القوتِ
وإخوةٌ للأنسِ / وَنيلِ حظِّ النَفسِ
هُم عُصبة المُجاملَة / لا الصدقِ في المعاملَه
منهم تصيبُ لذَّتَك / إذا الهموم بذَّتَك
فصِلهم ما وَصَلوا / واِبذل لهم ما بَذلوا
مِن ظاهرِ الصداقَه / بالبِشر والطَلاقَه
ولا تَسَل أَن أَظهروا / للودِّ عَمّا أَضمَروا
وأَطوِهم مدَّ الحُقب / طيَّ السجلِّ للكُتُب
وَقال بشرُ الحافي / بل عِدَّةُ الأَصنافِ
ثَلاثةٌ فالأَوَّلُ / للدينِ وهو الأَفضلُ
وآخَر للدُنيا / يَهديك نَجد العُليا
وَثالِثٌ للأُنسِ / لكونه ابنَ جنسِ
فاِعطِ كلا ما يَجِب / وعن سِواهم فاِحتَجِب
صَداقَةُ الإخوانِ / الخلَّصِ الأَعوانِ
لها شُروطٌ عِدَّة / على الرَخا والشِدَّه
الرِفقُ والتلطُّفُ / والودُّ والتعطُّفُ
وكثرةُ التعهُّدِ / لهم بِكُلِّ معهدِ
البِرُّ بالأَصحابِ / من أَحكم الأَسبابِ
والنُصح للإخوانِ / من أَعظمِ الإحسانِ
والصدقُ والتصافي / من أَحسن الأَوصافِ
دع خدع المودَّه / لأَوجهٍ مُسودَّه
فالمحضُ في الإخلاصِ / كالذَهب الخِلاصِ
حفظُ العهود وَالوَفا / حقٌّ لإِخوان الصَفا
عاملهُمُ بالصِدقِ / واِصحب بحسنِ الخُلقِ
والعَدلِ والإنصافِ / وقِلَّةِ الخِلافِ
ولاقِهم بالبِشرِ / وحيِّهم بالشُكرِ
صِفهُم بما يُستحسَنُ / وأَخفِ ما يُستهجنُ
وإن رأَيتَ هفوَه / فاِنصحهُمُ في خَلوَه
بالرَمزِ والإِشاره / وأَلطَفِ العبارَه
إِيّاكَ والتَعنيفا / وَالعَذَلَ العَنيفا
وإِن تُرِد عتابَهم / فَلا تُسئ خطابَهُم
وأَحسنُ العِتاب / ما كانَ في كتابِ
فالعتبُ في المشافَهه / ضَربٌ من المُسافهه
وعن إِمام النحل / قاتِل كلِّ مَحلِ
عاتب أَخاكَ الجاني / بالبِرِّ والإِحسانِ
حافِظ على الصَديق / في الوِسع والمضيقِ
فهو نَسيبُ الروح / ومَرهَمُ الجروحِ
وَفي الحَديث الناطقِ / عن الإِمام الصَادِقِ
من كانَ ذا حَميمِ / نجا من الجَحيمِ
لقول أَهل النارِ / وعصبةِ الكفّارِ
فما لنا من شافع / ولا صديق نافِعِ
والقربُ في الخَلائِقِ / أَمنٌ من البوائقِ
فقارب الإخوانا / وكن لهم مِعوانا
لا تَسمع المَقالا / فيهم وإِن تَوالى
فمن أَطاعَ الواشي / سارَ بليلٍ غاشِ
وضيَّع الصَديقا / وكذَّب الصدِّيقا
وإِن سمعتَ قيلا / يحتملُ التأويلا
فاِحملُهُ خَيرَ محمِل / فعلَ الرجال الكمَّلِ
وإن رأَيت وَهنا / فلا تَسُمهم طعنا
فالطعن بالكلام / عند أُولي الأَحلامِ
أَنفذُ في الجنان / من طعنة السِنانِ
فعدِّ عن زلّاتهم / وسدَّ من خِلّاتهم
سل عنهم إِن غابوا / وزرهم إِن آبوا
واستَنبِ عن أَحوالهم / وعفَّ عن أَموالهم
أَطعهمُ إِن أَمروا / وصِلهُم إِن هَجَروا
فقاطعُ الوِصالِ / كقاطع الأَوصالِ
إِن نصحوك فاقبَلِ / وإِن دَعَوا فأَقبِلِ
واِصدقهمُ في الوَعدِ / فالخُلفُ خُلقُ الوَغدِ
واِقبَل إذا ما اِعتَذَروا / إِلَيكَ مِمّا يُنكَرُ
واِرعَ صلاحَ حالِهم / واِشفق على إِمحالِهم
وَكُن لهم غياثا / إِذا الزَمان عاثا
وأَعطِهم ما أَمَّلوا / إِن أخصَبوا أَو أَمحَلوا
حَقيقةُ الصَديقِ / تُعرفُ عند الضيقِ
وَتُخبرُ الإِخوانُ / إِذا جَفا الزَمانُ
لا خَيرَ في إِخاء / يَكونُ في الرَخاءِ
وإنَّما الصَداقَه / في العُسر والإِضاقَه
لا تُدخَرُ المودَّه / إِلّا ليوم الشِدَّه
ولا تُعدُّ الخِلَّه / إِلّا لِسَدِّ الخلَّه
أَعِن أَخاك واِعضدِ / وكن له كالعَضُدِ
لا سيَّما إِن قَعدا / به زَمانٌ وعَدا
بئس الخَليلُ من نَكَل / من خِلِّه إِذا اتَّكل
لا تجفُ في حالٍ أَخا / ضنَّ الزَمانُ أَو سَخا
وَإِن شَكا من خَطبِهِ / فزِد من اللُطف بِهِ
واِسعَ لكشف كُربتِه / واِحفَظ عهودَ صُحبتِه
وَكُن له كالنور / في ظُلمَةِ الدَيجورِ
ولا تَدع ولا تَذر / ما تَستَطيعَ من نَظر
حتّى يَزولَ الهمُّ / وَيُكشَفَ المُلِمُّ
إِنَّ الصَديقَ الصادِقا / من فرَّج المَضايقا
وأَكرمَ الإِخوانا / إذا شَكوا هَوانا
وأَسعفَ الحَميما / وَحَمَل العَظيما
وَأَنجدَ الأَصحابا / إِن رَيبُ دَهرٍ رابا
أَعانَهم بمالِهِ / وَنَفسِهِ وآلِهِ
ولا يُرى مُقصِّرا / في بذل مالٍ وقِرى
فعلَ أَبي أمامَه / مَع خِلِّهِ الحَمامَه
فإن أَردتَ فاِسمَعِ / حديثَه كيما تَعي
رَوى أُولو الأَخبارِ / وَناقِلو الآثارِ
عن سِرب طيرٍ سارب / من الحَمام الراعبي
بكَّرَ يوماً سَحرا / وَسار حتّى أَصحَرا
في طَلَبِ المعاشِ / وهو ربيطُ الجاشِ
فأَبصَروا على الثَرى / حبّاً مُنقّى نُثِرا
فأَحمَدوا الصَباحا / واِستيقَنوا النَجاحا
وأَسرَعوا إليهِ / وأَقبَلوا عليهِ
حتّى إِذا ما اصطَفّوا / حذاءَهُ أَسفّوا
فَصاحَ منهم حازمُ / لنُصحِهم مُلازمُ
مهلاً فكم مِن عَجَلَه / أَدنَت لحيٍّ أَجلَه
تمهَّلوا لا تَقعوا / وَأَنصِتوا لي واِسمَعوا
إِليَّةً بالرَبِّ / ما نثرُ هَذا الحَبِّ
في هذه الفَلاةِ / إِلّا لخَطبٍ عاتِ
إِنّي أَرى حبالا / قد ضُمِّنَت وبالا
وَهذه الشِباكُ / في ضِمنِها الهلاكُ
فَكابدوا المجاعَة / وأَنظِروني ساعَه
حتّى أَرى وأَختَبِر / والفَوزُ حظُّ المصطَبِر
فأَعرَضوا عن قَولِهِ / واِستضحكوا من هَولِهِ
قالوا وقد غَطّى القدر / للسَمعِ منهم والبَصَر
لَيسَ على الحَقِّ مِرا / حبٌّ مُعدُّ للقِرى
ألقيَ في التُرابِ / للأَجرِ والثَوابِ
ما فيه من محذورِ / لجائعٍ مضرورِ
أَغدوا على الغداءِ / فالجوعُ شَرُّ داءِ
فَسَقطوا جَميعا / للقطه سَريعا
وما دروا أَنَّ الرَدى / أكمِنَ في ذاك الغَدا
فوقعوا في الشَبَكَه / وأَيقَنوا بالهَلَكه
وَنَدِموا وما النَدم / مُجدٍ وقد زلَّ القدَم
فأَخذوا في الخَبطِ / لحلِّ ذاكَ الرَبطِ
فاِلتوتِ الشِباكُ / واِلتفَّت الأَشراكُ
فقالَ ذاكَ الناصحُ / ما كُلُّ سَعيٍ ناجحُ
هَذا جزاءُ من عَصى / نَصيحةً واِنتَقَصا
للحرصِ طَعمٌ مُرُّ / وشرُّه شِمِرُّ
وكم غَدَت أمنيّه / جالِبَةً مَنيَّه
وَكَم شقاً في نِعم / وَنقمٍ في لُقَمِ
فَقالَت الجَماعَه / دَعِ الملامَ الساعَه
إِن أَقبل القنّاصُ / فما لنا مناصُ
وَالفكرُ في الفَكاكِ / من ورطةِ الهَلاكِ
أَولى من الملامِ / وكثرة الكَلامِ
وما يُفيدُ اللاحي / في القَدَر المُتاحِ
فاِحتل على الخلاصِ / كحيلةِ ابن العاصِ
فقال ذاكَ الحازِمُ / طوع النَصيح لازِمُ
فإن أَطعتُم نُصحي / ظفرتُم بالنُجحِ
وإِن عصيتُم أَمري / خاطرتُمُ بالعُمرِ
فَقالَ كُلٌّ هاتِ / فكركَ في النَجاةِ
جميعُنا مطيعُ / لما تَرى سَريعُ
وَليس كُلُّ وَقتِ / يضلُّ عقلُ الثَبتِ
فقالَ لا تَرتَبِكوا / فَتَستَمرَّ الشَبَكُ
واتَّفِقوا في الهمَّة / لهذه المُلِمَّه
حتّى تَطيروا بالشرك / وتأَمنوا من الدَرك
ثمّ الخَلاصُ بَعدُ / لكم عليَّ وعدُ
فقبلوا مقالَهُ / واِمتَثلوا ما قالَهُ
واِجتَمِعوا في الحركَه / واِرتفَعوا بالشَبكَه
فقال سيروا عَجَلا / سيراً يَفوتُ الأَجَلا
ولا تَملّوا فالمَلَل / يعوقُ وَالخَطبُ جَلل
فأمَّهُم وراحوا / كأَنَّهم رياحُ
وأَقبَلَ الحَبّالُ / في مشيهِ يَختالُ
يحسبُ أَنَّ البَركه / قد وَقَعَت في الشَبكَه
فأَبصرَ الحَماما / قد حلَّقَت أَماما
وقلَّت الحِبالَه / وأَوقَعَت خَبالَه
فعضَّ غيظاً كفَّه / على ذَهاب الكُفَّه
وَراح يَعدو خَلفَها / يَرجو اللَحاقَ سفها
حتّى إِذا ما يَئِسا / عادَ لها مُبتَئِسا
وأَقبلَ الحَمامُ / كأَنَّه الغَمامُ
على فلاة قفرِ / من الأَنام صفرِ
فَقالَت الحمامَه / بُشراكُم السَلامَه
هَذا مقامُ الأَمنِ / من كُلِّ خوفٍ يَعني
فإن أَردتُم فقَعوا / لا يَعتَريكم جَزَعُ
فهذه المَوماةُ / لنا بها النَجاةُ
وَلي بها خَليلُ / إِحسانُه جَليلُ
يُنعمُ بالفِكاكِ / من رِبقةِ الشِباكِ
فلجأَوا إِليها / ووقَعوا عليها
فنادتِ الحمامَه / أَقبل أَبا أمامَه
فأَقبلت فوَيره / كأَنَّها نُوَيره
تَقول من يُنادي / أَبي بِهَذا الوادي
قال لها المُطوّقُ / أَنا الخَليلُ الشيّقُ
قولي لها فليخرجِ / وآذنيهِ بالمجي
فرجعت وأَقبلا / فأرٌ يهدُّ الجَبَلا
فأبصرَ المطوَّقا / فضمَّه واِعتَنقا
وَقال أَهلاً بالفَتى / وَمَرحباً بمن أَتى
قدمت خَيرَ مقدم / على الصَديق الأَقدمِ
فاِدخل بيمنٍ داري / وشرِّفَن مِقداري
واِنزل برحبٍ ودعه / وجَفنةٍ مُدَعدَعَه
واِشفِ جوى القلوبِ / بوصلكَ المطلوبِ
فالشوقُ للتَلاقي / قد بَلَغ التَراقي
فقال كيفَ أَنعَمُ / أَم كَيفَ يَهنى المَطعَمُ
وَهَل يطيبُ عيشُ / أَم هَل يقرُّ طيشُ
وأسرَتي في الأَسرِ / يَشكونَ كلَّ عُسرِ
أَعناقُهم في غلِّ / وكلُّهم في ذلِّ
فقال مُرني أَئتمِر / عَداك نحسٌ مُستَمِر
قال ِاقرض الحِبالَه / قَرضاً بلا مَلالَه
وخلِّص الأَصحابا / واِغتنم الثَوابا
وحُلَّ قيدَ أَسرِهم / وَفُكَّهم مِن أَسرِهم
قال أَمرت طائِعا / وَعبدَ ودٍّ سامِعا
فقرَضَ الشِباكا / وَقَطَّع الأَشراكا
وَخلَّصَ الحماما / وَقَد رأَى الحِماما
فأَعلَنوا بحمدِه / واِعترَفوا بمَجدِه
فَقال قُرّوا عَينا / ولا شكوتُم أَينا
وقدَّم الحُبوبا / للأَكلِ والمشروبا
وَقام بالضِيافَه / بالبِشر واللَطافَه
أَضافَهم ثَلاثا / من بعدِ ما أَغاثا
فقال ذاك الخِلُّ / الخَيرُ لا يُمَلُّ
فُقتَ أَبا أمامَه / جوداً على ابن مامَه
وجئتَ بالصَداقه / بالصِدق فوقَ الطاقه
أَلبستنا أَطواقا / وزدتَنا أَطواقا
من فعلكَ الجَميلِ / وفضلك الجَزيلِ
مثلُك من يُدَّخَرُ / لِرَيب دهرٍ يُحذَرُ
وَيَرتَجيه الصَحبُ / إِن عنّ يوماً خطبُ
فأذَن بالانصرافِ / لنا بلا تجافي
دامَ لك الإنعامُ / ما غرَّد الحَمامُ
وَدمتَ مشكور النِعم / ما رنَّ شادٍ بنَغَم
فقال ذاكَ الفارُ / جَفا الصَديقَ عارُ
وَلَستُ أَرضى بُعدَكم / لا ذقتُ يَوماً فقدَكم
وَلا أَرى خِلافَكم / إِن رمتُمُ انصِرافَكم
عمَّتكُمُ السَلامَه / في الظعن والإِقامَه
فودَّعوا وانصرفوا / وَالدَمعُ منهم يذرفُ
فاِعجب لِهَذا المَثَل / المُعرَب المؤثَّل
أَوردتُه ليُحتَذى / إذا عرا الخلَّ أَذى
الصدقُ في الودادِ / يَقضي بالاتِّحادِ
في النَعتِ والصِفاتِ / والحالِ والهيئاتِ
فَيَكتَسي المشوقُ / ما كُسيَ المعشوقُ
حتّى يُظَنُّ أَنَّه / من الحَبيب كُنهُهُ
لشدَّةِ العلاقَة / وَالصدقِ في الصَداقَه
وَهذه القضيَّة / في حُكمها مَرضيَّه
أَثبتَها البَيانُ / وَالنَقلُ والعيانُ
لذاكَ قال الأَوَّلُ / وَالحقُّ لا يؤوَّلُ
نحن من المساعَدَه / نَحيا بروحٍ واحِدَه
وَمثَّلوا بالجَسَد / وَالروحِ ذي التجرُّدِ
فالروح إِن أَمرٌ عَنا / تَقولُ للجسم أَنا
وقال جدُّ الناظم / مستَنَدُ الأَعاظِمِ
من للعلومِ قد نَشر / منصور أستاذُ البَشر
ولمُّ هَذا الحكم / لم يقترن بعلِمِ
وأَنَّه قد ظهرا / مُشاهَدا بِلا مِرا
فمنه ما جَرى لي / في غابر اللَيالي
أَصابَني يوماً أَلَم / من غير إِنذارٍ أَلَم
فاِحترتُ منه عَجبا / لمّا فقدتُ السَبَبا
واِستغرقَتني الفِكَرُ / حتّى أَتاني الخبَرُ
أَنَّ صَديقاً لي عَرض / لجسمه هذا المرض
فاِزداد عندَ علمي / تصديقُ هَذا الحُكم
فالصِدق في المحبَّة / يوجبُ هذي النِسبَه
فكن صَديقاً صادِقاً / ولا تكن مُماذِقا
حتّى تَقولَ معلِنا / إِنّي ومَن أَهوى أَنا
تزاوُرُ الإخوانِ / مِن خالِص الإيمانِ
إِنَّ التآخي شجَرَه / لها التَلاقي ثمَرَه
لا تترك الزِيارَه / فتركُها حَقارَه
كُلُّ أَخٍ زَوَّارُ / وإِن تَناءَت دارُ
وَقَد رأوا آراءَ / واِختَلَفوا أَهواءَ
في الحَدِّ للزياره / وَالمدَّةِ المُختارَه
فَقيلَ كلَّ يَوم / كالشَمسِ بين القَومِ
وَقيل كلَّ شَهرِ / مثلَ طلوع الشَهرِ
وَقيل ما نصَّ الأَثر / عليه نَصّاً واِشتهر
زر من تحبُّ غِبّا / تَزدَد إِليهِ حُبّا
واِختلفوا في الغَبِّ / عَن أَيِّ معنىً يُنبي
فَقيل عن أَيّام / خَوفاً من الإِبرام
وقيل عن أسبوعِ / وقفاً على المَسموعِ
وقيل بل معناهُ زُر / يوماً ويوماً لا تَزُر
فاِعمل بما تَراه / في وَصلِ من تَهواهُ
وَزُر أَخاكَ عارفا / بحقّه مُلاطفا
وإِن حَلَلتَ مَنزلَه / فاِجعل صَنيع الفضل لَه
واِقبَل إِذا ما راما / منه لك الإِكراما
فمن أَبى الكَرامةَ / حلَّت به المَلامَه
وإِن أَتاكَ زائِرا / فانهض إِليه شاكِرا
وَقُل مقالَ من شكَر / فضلَ الصَديق وذكَر
إِن زارَني بفضلِهِ / أَو زرتُه لِفَضله
فالفَضلُ في الحالين له / وَوصلُ من تَهوى صِلَه
وَالضمُّ والمصافَحَه / مِن سُنَّة المُصالحَه
أَو كانَ يومُ عيدِ / أَو جاءَ من بَعيدِ
هَذا هو المَشهورُ / يصنعُه الجمهورُ
وَقَد أَتى في الأَثَرِ / عن النَبيِّ المُنذِرِ
تصافُحُ الإخوانِ / يُسنُّ كلَّ آنِ
ما اِفترَقا واِجتَمعا / يغشاهُما الخَيرُ معا
إن رمتَ أَن تُحدِّثا / بِما مَضى أَو حَدَثا
لتؤنسَ الأَصحابا / فأَحسِن الخِطابا
واختصرِ العِباره / ولا تكن مهذارَه
واختَر من الكَلامِ / ما لاقَ بالمقامِ
من فائق العلومِ / ورائِق المنظومِ
واِذكر من المنقولِ / ما صحَّ في العقولِ
واِجتنب الغَرائِبا / كي لا تُظنَّ كاذِبا
وإِن أَخوكَ أَسمَعا / فكن له مُستَمِعا
واِلزمَ له السُكاتا / وأَحسِن الإِنصاتا
ولا تكن ملتفتا / عنه إِلى أَن يَسكُتا
وإِن أَتى بنقلِ / سمعتَه من قَبلِ
فَلا تَقُل هَذا الخَبَر / علمتُه فيما غَبَر
ولا تكذِّب ما رَوى / وَدَع سَبيلَ من غَوى
المزح والدُعابَه / من شيمِ الصَحابَه
فإنَّه في الخَلق / عنوانُ حُسنِ الخُلقِ
تولي به السُرورا / خَليلَك المَصدورا
فاِمزَح مزاحَ من قسَط / وَكُن على حَدٍّ وَسَط
واِجتَنِب الإِيحاشا / ولا تَكُن فحّاشا
فالفُحشُ في المزاحِ / ضربٌ من التَلاحِ
يجرُّ للسَخيمَه / والظنَّة الوَخيمَه
وَجانبِ الإكثارا / وحاذرِ العِثارا
فكثرةُ الدُعابَه / تذهبُ بالمَهابَه
وعثرةُ اللِسانِ / توقع بالإِنسانِ
واِحمل مزاحَ الإِخوَه / وخلِّ عنكَ النَخوَه
فالبَسطُ في المصاحَبَه / يُفضي إلى المُداعَبَه
وإِن سمعتَ نادِرَه / فلا تفُه ببادِرَه
لا تَغضبنَّ فالغَضَب / في المزح من سوء الأَدَب
واِنظر إِلى المَقام / وَقائِل الكَلامِ
فإن يَكُن وليّا / وصاحباً صَفيّا
فَقَولُه وإِن نَبا / فهو الوَلاءُ المُجتَبى
وإِن يَكُن عدوّا / وكاشِحاً مجفوّا
فَقَولُه وإِن حَلا / لسامعٍ هو البَلا
أَلا تَرى لِلعرب / تقول عند العَجَبِ
قاتَلَهُ اللَه ولا / تَقولُ ذاكَ عن قِلى
إذا صَديقٌ طَرَقا / من غير وَعدٍ سبقا
فقَدّمَنَّ ما حضَر / فَلَيسَ في البِرِّ خَطر
ولا تَرُم تكلُّفا / خَيرُ الطَعام ما كَفى
واِعلم بأَنَّ الألفَه / مُسقِطَةٌ للكُلفَه
وإِن دعوت فاِحتفِل / ولا تَكن كمَن بَخِل
وَقُم بحقِّ الضَيفِ / في شَتوةٍ وصَيفِ
واِسألهُ عَمّا يَشتَهي / من طُرَف التفكُّهِ
وأتِ بما يقترحُ / فاللُطف لا يُستَقبَحُ
واِعمل بقول الأَوَّلِ / الضَيفُ ربُّ المَنزلِ
وأظهرِ الإِيناسا / ولا تكن عبّاسا
فالبِشرُ واللَطافَه / خَيرٌ من الضِيافَه
وَخدمةُ الأَضيافِ / سجيَّةُ الأَشرافِ
اِحرص على سُرورهم / بالبَسطِ في حضورِهم
لا تشكُ دهراً عندهم / ولا تكدِّر وِردَهم
واِحلَم عن الخُدّام / في الفِعل والكَلام
وإِن أَساؤوا الأَدَبا / كَي لا يَروكَ مُغضَبا
وقدِّم الخِوانا / وأَكرِم الإخوانا
عن انتظارِ مَن يَجي / فَذاكَ فعلُ الهَمَجِ
وَقَد رووا فيما وَرَد / أَعظمُ ما يُضني الجَسَد
مائِدَةٌ يُنتظرُ / بأَكلها من يَحضرُ
آنِسهُمُ في الأَكلِ / فعلُ الكَريم الجَزلِ
وأَطل الحَديثا / ولا تكن حَثيثا
فاللَبث بالطَعام / من شيمِ الكِرامِ
وَشيِّع الأَضيافا / إِن طَلَبوا انصِرافا
وإِن دَعاك من تُحب / إِلى طَعامٍ فأَجِب
إِجابةُ الصديق / فرضٌ على التَحقيقِ
فإن أَجبتَ دَعوتَه / فاِحذَر وجانِب جَفوتَه
ولا تَزُر بصاحب / أَو أَحد الأَقارِبِ
واِجلِس بحيثُ أَجلسَك / وأنَس به ما آنسك
لا تأبَ مِن كرامتِه / وكفَّ عن غرامتِه
إِيّاكَ والتَنقيلا / ولا تكن ثَقيلا
لا تَحتَقِر ما أُحضرا / ولا تَعب ما حَضَرا
فالذَمُّ للطَعام / من شيمةِ الطَغامِ
لا تَحتَشِم من أَكلِ / كَفعلِ أَهلِ الجَهلِ
ما جيءَ بالطَعام / إِلّا للالتِقامِ
عيادةُ العَليلِ / فرضٌ على الخَليلِ
فعُد أَخاكَ إن مَرِض / واعمَل بحكم ما فُرِض
وسَله عن أَحوالِه / باللُطف في سؤالِهِ
وسلِّه عمّا بِهِ / يسلُ عن اِكتئابِهِ
واِدعُ له بالعافيهِ / والصَحَّةِ الموافيَه
واِحذر من التَطويلِ / وضَجرِ العَليلِ
فمُكثُ ذي الصَداقَه / قدرُ احتلاب الناقَه
إِلّا إِذا ما اِلتَمَسا / بِنفسِهِ أَن تَجلِسا
وَالعَودُ للعيادَه / بعدَ ثَلاثٍ عادَه
هَذا لِمَن أَحبّا / وَإِن يَشا فغِبّا
وسنَّةُ المعتلِّ / إِيذانُ كلِّ خلِّ
ليقصدوا وِفادَتَه / وَيَغنَموا عيادَتَه
وليَترُكِ الشِكايَه / وَيكتُم النِكايه
عن عائِدٍ وزائِرِ / فعلَ الكَريم الصابرِ
وَليحمَد اللَه على / بلائِه بما اِبتَلى
ليُحرزَ الثَوابا / والأَجرَ والصَوابا
تَواصُلُ الأَحباب / في البُعد بالكتابِ
فكاتِبِ الإِخوانا / ولا تكُن خَوّانا
فتركُكَ المكاتَبه / ضربٌ من المجانَبَه
والبَدءُ للمسافِرِ / في الكُتبِ لا لِلحاضِرِ
وَالردُّ للجواب / فرضٌ بلا اِرتيابِ
لا تَصحبنَّ الأَحمقا / المائقَ الشَمَقمَقا
عدوُّ سوءٍ عاقلُ / ولا صديقٌ جاهلُ
إنَّ اِصطِحابَ المائِق / من أَعظمِ البوائقِ
فإنَّه لحُمقِهِ / وغوصِه في عُمقِهِ
يحبُّ جَهلاً فعلَه / وأن تكونَ مثلَه
يَستحسنُ القَبيحا / وَيُبغضُ النَصيحا
بيانُه فَهاهَه / وحِلمُه سَفاهَه
وربَّما تمطّى / وَكَشَفَ المُغَطّى
لا يحفظُ الأَسرارا / ولا يخافُ عارا
يَعجبُ من غير عَجَب / يَغضبُ من غير غَضَب
كثيرُه وجيزُ / ليس له تَمييزُ
وربَّما إذا نَظَر / أَرادَ نَفعاً فأَضَر
كَفعل ذاك الدُبِّ / بخِلِّهِ المحبِّ
رَوى أُولو الأَخبار / عن رجلٍ سيّارِ
أَبصرَ في صَحراء / فسيحةِ الأَرجاءِ
دُبّاً عَظيماً موثَقا / في سَرحةٍ معلَّقا
يَعوي عواءَ الكَلبِ / من شِدَّةٍ وكَربِ
فأَدركتهُ الشَفقَه / عليه حتّى أَطلقَه
وحلَّه من قيدِهِ / لأمنِه من كيدِهِ
وَنام تحت الشَجَره / منامَ من قد أَضجرَه
طولُ الطَريق والسَفر / فَنامَ من فَرطِ الضَجر
فجاءَ ذاكَ الدُبُّ / عن وجههِ يَذُبُّ
وَقال هَذا الخِلُّ / جَفاهُ لا يحِلُّ
أَنقذَني من أَسري / وفكَّ قيدَ عُسري
فحقُّه أَن أَرصُدَه / من كُلِّ سوءٍ قصدَه
فأقبلت ذُبابَه / ترنُّ كالرَبابَه
فوقَعَت لحَينِه / على شفارِ عَينِهِ
فَجاشَ غيظُ الدُبِّ / وَقال لا ورَبّي
لا أَدعِ الذُبابا / يسومُه عَذابا
فأسرَع الدَبيبا / لصَخرةٍ قَريبا
فقَلَّها وأَقبَلا / يَسعى إِليه عَجِلا
حتّى إِذا حاذاهُ / صكَّ بها مَجلاهُ
ليقتُلَ الذُبابَه / من غير ما إِرابَه
فرضَّ منه الراسا / وفرَّق الأَضراسا
وأَهلكَ الخَليلا / بقصدِه الجَميلا
فهذه الروايَه / تنهى عن الغوايَه
في طَلب الصَداقَه / عند أُولي الحَماقَه
إِذ كانَ فعلُ الدُبِّ / هَذا لفرطِ الحُبِّ
وجاءَ في الصَحيح / نَقلا عن المَسيحِ
عالجتُ كلَّ أَكمَهِ / وأَبَرصٍ مشوَّهِ
لكنَّني لم أُطِق / قَطُّ علاجَ الأَحمقِ
مَودَّةُ البَخيلِ / جهلٌ بلا تأويلِ
يَستكثرُ القَليلا / ويحرمُ الخَليلا
يبخل إِن جدبٌ عَرا / ولا يجودُ بالقِرى
يمنعُ ذا الودادِ / مواردَ الإمدادِ
يَقول لا إِن سُئِلا / بخلاً ويوليه القِلى
يحرمُه ما عندَه / ولا يُراعي ودَّه
إِن رامَ منه قَرضا / رأَى البِعاد فَرضا
يَضيقُ بالزَهيدِ / في الزَمن الشَديدِ
فصُحبةُ الشَحيحِ / تمسُّكٌ بالريحِ
لا تحسب المودَّة / تحلُّ منه عُقدَه
إِنَّ وجوهَ الحيله / في البُخلِ مُستحيلَه
واِسمع حَديثاً عجبا / قد نقلته الأُدَبا
في البُخل عن مُزيِّد / مع رَبربٍ لتَهتَدي
حَكى أُولو الأَخبار / وَناقِلو الآثارِ
عن غادَةٍ عُطبولِ / تلعبُ بالعقولِ
بطَرفها الكحيلِ / وخصرها النَحيلِ
وخدِّها المورَّدِ / وَصدغِها المزرَّدِ
وَقدِّها القَضيب / ورِدفها الكَثيبِ
وتَعمرُ المغاني / برنَّة الأَغاني
كانَت تُسمّى رَبرَبا / تُحيي النفوسَ طَرَبا
وكانَت الأَشرافُ / والسادةُ الظِرافُ
يجمعهُم مَغناها / ليسمَعوا غِناها
وكان مَولاها فَتى / بكلِّ ظرفٍ نُعِتا
فاِجتَمعَت جماعه / للبَسطِ والخَلاعَه
واِستطردوا في النَقل / لذكرِ أَهلِ البُخلِ
فاتَّفقوا بأَسرِهم / أَن لَم يَروا في عَصرِهم
ولا رأَوا فيما مَضى / من الزَمانِ واِنقضى
بل لا يكونُ أَبَدا / شَخصاً عَلا مزيِّدا
في بُخلِه والشُحِّ / وحِرصه المُلحِّ
فَقالَت الفَتاةُ / الغادةُ الأَناةُ
إِني لكم كفيلَه / بأَخذِه بالحيلَه
حتّى يجودَ بالذَهب / وَيستقلَّ ما وَهَب
فَقال مَولاها لها / أُشهِدُ أَربابَ النُهى
إِن تخدَعي مُزيّدا / عَن دِرهَمٍ لا أَزيَدا
لأنثرنَّ الذَهبا / عليكِ حتّى يَذهَبا
قالَت إِذا جاءَ فلا / تحجِبه عنّي عجلا
وخلِّ عنكَ الغيره / ولا تنفّر طَيرَه
فقال أَقسَمتُ بمن / حلّاكِ بالخلقِ الحسَن
لأَرفعنَّ الغَيرَه / وَلَو حَباكِ أه
فأرسلوا رسولا / يسأَله الوصولا
فجاءَهم عَشيَّه / وأَحسَنَ التَحيَّه
فأَهَّلوا ورَحَّبوا / حتّى إِذا ما شَرِبوا
تَساكَروا عَن عَمد / وَهوَّموا عَن قَصدِ
كيما يَروا وَيَسمَعوا / لربربٍ ما تصنَعُ
فعندَما رأَتهُمُ / قد سكِروا وهوَّموا
مالَت إِلى مزيِّدِ / بالبِشر والتودُّدِ
وأَقبلَت عليه / مشيرةً إِليهِ
قالَت أَبا إِسحاق / نَعِمتَ بالتَلاقي
كأَنَّني بنفسِكا / إِذ غرِقَت بأنسِكا
تَهوى بأن أغنّي / سار الفَريقُ عنّي
فَقالَ زوجي طالقُ / وَخدمي عتائقُ
إِن لَم تكوني عارِفَه / بالغيب أَو مكاشفَه
فأَسمعَتهُ وطَرِب / ثمَّ سقته فشرِب
وَخاطبته ثانيه / بلطفها مُدانيَه
قالَت أَبا إسحاق / يا سيِّدَ الرِفاقِ
إنّي أَظنُّ قَلبَكا / يَهوى جلوسي قُربَكا
لتلثمَ الخدودا / وتَقطفَ الورودا
فَقال ما لي صَدقَه / واِمرأَتي مُطَلَّقه
إِن لَم تَكوني في الوَرى / مِمَّن مَضى وغَبَرا
عالمةً بالغَيبِ / حقّاً بغيرِ رَيبِ
فنهضَت إليه / وَجلسَت لدَيهِ
فضمَّها وقبَّلا / وقال نلتُ الأَمَلا
يا غُرَّة الغَواني / وَمُنتهى الأَماني
تَفديكِ أُمّي وأَبي / وكلُّ شادٍ مُطربِ
فحين ظنَّت أَنَّها / قد أَوسَعَته مَنَّها
قالَت له أَلا تَرى / لِزلَّةٍ لن تُغفَرا
من هؤلاء القَومِ / في مثل هَذا اليومِ
يَدعونني للطَربِ / وكلُّهم يأنسُ بي
وَلَم يكن منهم فَتى / للبِرِّ بي مُلتَفِتا
فَيَشتَري رَيحانا / بدرهمٍ مجّانا
فهاتِ أَنت دِرهَما / وَفُقهُم تكرُّما
فَقامَ عنها وَوثب / وَصاحَ يَدعو مِن كَثَب
وَقال مه أَي زانيَه / صُليتِ ناراً آنيَه
دنَّستِ علم الغَيبِ / منكِ بكلِّ عَيبِ
فضَحِكَ الأَقوامُ / من فعلِهِ وقاموا
وَعَلِموا أَنَّ الخُدَع / لَم تُجدِ في ذاك الكُتَع
فأَقبلَت باللَوم / عليه بينَ القَومِ
فسبّها وأَغضبا / وَقام عنهم مُغضَبا
فهذه الحِكايَه / تَكفي أولي الهِدايَه
في شيمة البَخيل / وَدائِه الدَخيلِ
صَحابَةُ الكذّاب / كَلامِع السَرابِ
يَخلقُ ما يَقولُ / معلومُهُ مَجهولُ
يقرِّبُ البَعيدا / وَيؤمنُ الوَعيدا
وَيُخلفُ المَوعودا / وَلا يَلينُ عودا
يَمينُ في اليَمينِ / وَلَيسَ بالأَمينِ
وَفي كلام الأُدبا / العُلماء النُجَبا
لَم يُرَ في القبائح / وَجُملة الفَضائِح
كالكِذب أَوهى سَبَبا / ولا أَضلَّ مَذهَبا
ولا أَغرَّ طالِبا / ولا أَذلَّ صاحِبا
يُسلِمُ من يَعتصمُ / به ومن يَلتَزِمُ
طلوعُه أفولُ / وفضلُه فُضولُ
غَليلُه لا يُنقعُ / وَخَرقُه لا يُرقَعُ
صاحبُهُ مُكذَّبُ / وَفي غَدٍ مُعذَّبُ
فجانبِ الكذّابا / وأَولِهِ اِجتِنابا
فاِسمع حَديثاً عجبا / في رفض مَن قد كَذَبا
رَوى أُولو الأَخبارِ / وَناقِلوا الآثارِ
عَن حَدَثٍ ذي أَدَبِ / وَخُلُقٍ مُهذَّبِ
يَسكن في بغداد / في نعمة تِلادِ
فارق يوماً والدَه / وَطِرفَه وتالِدَه
وحلَّ أَرضَ البَصرَه / بلوعةٍ وحَسرَه
فظَلَّ فيها حائِرا / يكابدُ الفواقِرا
وَلَم يَزَل ذا فَحصِ / يسأل كلَّ شَخصِ
عمَّن بها من نازِلِ / وَفاضلٍ مُشاكِلِ
فوَصَفوا نَديما / ذا أَدب كَريما
يُنادِمُ المهلَّبي / وهو أَميرُ العَرَبِ
فأمَّه وقصَدَه / وحين حلَّ مَعهَدَه
عرَّفه بأَمرِه / وحلوِهِ ومرِّهِ
فَقال أَنت تصلحُ / بل خَيرُ من يُستملَحُ
لصحبةِ الأَميرِ / السيِّد الخَطيرِ
إِن كنتَ مِمَّن يصبرُ / لخَصلةٍ تُستَنكَرُ
فقالَ أَيُّ خَصلَة / فيه تُنافي وَصلَه
فَقال هَذا رَجلٌ / لا يَعتَريه المَللُ
من اِفتراءِ الكَذبِ / في حزَنٍ وَطَرَبِ
فان أَردتَ طولَه / فَصدِّقنَّ قولَه
في كُلِّ ما يَختلقُ / وَيَفتَري وَينطقُ
حَتّى تَنالَ نائلَه / ولا تَرى غوائِلَه
قال الفَتى سأَفعلُ / ذاكَ وَلستُ أَجهلُ
فذهب النَديمُ / وهوَ بِه زَعيمُ
فعرَّفَ الأَميرا / بفضلهِ كثيرا
حتّى دَعا فحضَر / وسَرَّهُ عند النَظر
فراشَه في الحالِ / بكسوةٍ ومالِ
فَلازمَ الملازمه / للأُنس والمنادَمَه
وَلَم يزل يصدِّقُه / في كُلِّ إفكٍ يخلقُه
فَقال يَوماً واِفتَرى / بهتاً وكذباً مُنكرا
لي عادةٌ مُستحسَنه / أَفعلُها كلَّ سنَه
أَطبخُ للحُجّاج / من لحمِ الدَجاجِ
في فَردِ قدرٍ نُزلا / يكفي الجَميعَ أكلا
فحارَ ذلك الفَتى / من قوله وبَهُتا
وَقال لَيتَ شعري / ما قدرُ هَذا القِدر
هَل هي بئرُ زمزم / أَم هيَ بحرُ القُلزم
أَم هيَ في الفَضاءِ / باديةُ الدَهناءِ
فغضِبَ الأَميرُ / وَغاظَه النَكيرُ
فقال ردُّوا صِلَته / منه وقدّوا خِلعتَه
وأَخرجوهُ الآنا / عنّا فَلا يَرانا
فندِمَ الأَديبُ / وَساءَه التَكذيبُ
وَعاودَ النَديما / لعذره مقيما
وقال منذُ دهر / لَم أَشتَغِل بسُكرِ
فغالَني الشَرابُ / وحاقَ بي العَذابُ
وَقُلتُ ما لا أَعقلُ / وَالهفوُ قَد يُحتَمَلُ
فَسَل ليَ الإغضاءَ / وَالعَفوَ والرضاءَ
قال النَديمُ إِنّي / أُرضيه بالتأنّي
بشرط أَن تُنيبا / وَتتركَ التَكذيبا
فراجع الأَميرا / واِستوهبَ التَقصيرا
واِستأنفَ الإِنعاما / عليهِ والإِكراما
فعاد للمنادَمه / باللُطف والملاءَمه
فكان كلَّما كذب / وَقال إِفكاً واِنتدَب
صدَّقه وأَقسما / بكونه مسلِّما
حتّى جرى في خبر / ذكرُ كلابِ عَبقَرِ
ووصفُها بالصغر / وَخلقُها المختصرِ
قال الأَميرُ وابتكر / ليس العيانُ كالخبر
قد كانَ منذ مدَّه / لديَّ منها عِدَّه
أَضعُها في مكحلَه / للهَزل والخُزَعبَلَه
وكان عندي مَسخَره / أَكحلُ منها بصرَه
فَكانَت الكِلابُ / في عينهِ تَنسابُ
وَهي على مجونِه / تنبحُ من جفونِهِ
فَقام ذلكَ الفَتى / يَقولُ لا عشتُ متى
صدَّقتُ هَذا الكَذِبا / شاءَ الأَميرُ أَو أَبى
وردَّ ما كساهُ / به وما حباهُ
وَراحَ يعدو عاريا / من البلاءِ ناجيا
وَصحبةُ الأَشرارِ / أَعظمُ في الإِضرارِ
من خدعةِ الأَعداء / ومن عُضال الداءِ
يقبِّحون الحسَنا / ودأبُهم قولُ الخَنا
شأنُهم النَميمَه / والشيم الذَميمَه
إذا أَردت تصنعُ / خَيراً بشخصٍ منَعوا
الغلُّ فيهم والحسَد / والشرُّ حبلٌ من مَسَد
إِن مُنِعوا ما طَلَبوا / تَنَمّروا وكَلِبوا
وأَعرَضوا إِعراضا / ومزَّقوا الأَعراضا
لَيسَ لهم صَلاحُ / حرامُهم مُباحُ
لا يتَّقون قُبحا / ولا يَعونَ نُصحا
يُغرونَ بالقَبيح / والضرِّ والتَبريحِ
كلامهم إِفحاش / وأنسهُم إِيحاشُ
الخَيرُ منهُم وان / والشرُّ منهُم دانِ
شيطانُهم مطاعُ / ودينُهم مُضاعُ
لا يَرقُبونَ إِلّا / ولا يَرونَ خِلّا
إِخلاصُهم مُداهَنه / وودُّهم مُشاحنَه
صلاحُهم فسادُ / رواجُهم كسادُ
عزيزُهم ذَليلُ / صَحيحُهم عَليلُ
ضياؤُهم ظلامُ / وعذرُهم ملامُ
تقريبُهم تَبيعدُ / ووعدُهم وَعيدُ
إِذا سأَلتَ ضَنّوا / أَو منحوكَ مَنّوا
وإِن عَدلتَ مالوا / وإن أَسأتَ قالوا
ربحهُم خُسرانُ / وشكرُهم كُفرانُ
شرابُهم سرابُ / وعذبُهم عذابُ
وفاقُهم نِفاقُ / إِنجاحُهم إِخفاقُ
وَفاؤُهمِ محالُ / وخِصبُهم إِمحالُ
وِدادُهم خداعُ / وسرُّهم مُذاعُ
إِذعانُهم لجاجُ / مَعينُهم أُجاجُ
وَلَيسَ فيهم عاري / من اِدِّراع العارِ
البُعدُ عنهم خَيرُ / والقربُ منهم ضَيرُ
فاِحذرهُمُ كلَّ الحذَر / لحاكَ لاحٍ أَو عذَر
واِسمَع مقال الناصِح / سمعَ اللَبيبِ الراجحِ
وقالَ أَربابُ الحِكَم / العالمون بالأمَم
إِن شئتَ أَن تصاحِبا / من الأَنام صاحِبا
من حالةٍ تريدُها / أَو حاجَةٍ تُفيدُها
فإن أَشار ناصحا / بالخَير كانَ صالحا
فأَولِه الصَداقَه / ولا تَخَف شِقاقَه
فالخَيرُ فيه طَبعُ / وأَصلُه وَالفَرعُ
وإِن أَشارَ مُغريا / بالشرِّ كانَ مغويا
فاِجتَنِب اِصطِحابَه / وأَوجِب اِجتِنابَه
فالشيَمُ الرديَّه / أَضحَت له سجيَّه
هَذا وقد تمَّ الرجز / بعونِ ربّي ونَجَز
وَهاكَها أَحكاما / أَحكمتُها إِحكاما
كدُرَرِ البُحور / على نحور الحورِ
تشنِّف المسامِعا / وتطربُ المجامِعا
تُحمُ كلَّ ناظمِ / وصادحٍ وباغِمِ
والحَمد للَه على / إِبلاغه المؤمَّلا
ثُمَّ الصَلاةُ أَبدا / على النَبيِّ أَحمَدا
وآلِه الأَطهار / وصحبهِ الأَبرارِ
ما طارَ طَيرٌ وَشَدا / ولاح فجرٌ وَبَدا