المجموع : 5
أيُّها القبر لا بَرِحْتَ مَصوباً
أيُّها القبر لا بَرِحْتَ مَصوباً / من غزيرِ الحيا بصيّب مُزْنِ
دفنوا في ثراك أكرمَ مَيْتٍ / خال ما بينه المَنونُ وبيني
من أبٍ كانَ بي رؤوفاً رحيماً / جُزِيَ الخيرَ والمثوبة عني
سوف أبكيه ما حييت وإن كا / ن بكائي عليه ليس بمغن
نال من ربِّه مقاماً كريماً / يتمنّى مكانه المتمنِّي
قلت لما مضى وأرَّختُه قد / نِلتَ عبد الوهاب جنَّاتِ عدن
هذه الدَّارُ ما عسى أن تكونا
هذه الدَّارُ ما عسى أن تكونا / فاقضِ فيها لها عَليك دُيونا
كانَ عهدي بها ومن كانَ فيها / أشرَقَتْ ولانتْ غصونا
يا دياراً عَهِدتُها قبلَ هذا / جنَّةً أزْلِفَتْ وحوراً وعِينا
كنتِ للشادن الأَغنّ كناساً / مثلما كنتِ للهزبر عرينا
قَد وقفنا على بقايا رسومٍ / دارساتٍ كأسطرٍ قد مُحينا
فبذلنا لها ذخائر دمعٍ / كانَ لولا الوقوف فيها مصونا
ذكَّرتْنا الهوى وعهد التَّصابي / فذكرنا من عهدها ما نسينا
هلْ عَجِبْتُمْ والحبُّ أمرٌ عجيبٌ / كيفَ يَستعذبُ العذابَ المهينا
أو سألتم بعد النوى عن فؤادي / فسَلوا الظاعنين والنازحينا
وبنفسي أحبَّة يومَ بانوا / حَرَّموا النومَ أنْ يمَسَّ الجفونا
عَرَّضوا حين أعرضوا ثمَّ قالوا / قَدْ فتنَّاك في الغرامِ فتونا
إنْ أطلنا الحنينَ شوقاً إليكم / فعلى الصَّبِّ أنْ يطيل الحنينا
ربَّ ورقاءَ غَرَّدَتْ فشجتني / وكذاك الحزين يشجي الحزينا
رَدَّدَتْ نَوحَها فردَّدت منِّي / زفرةً تصدع الحشا وأنينا
ردِّدي ما استطعت أيَّتها الوُرْقُ / شجوناً من الأَسى ولحونا
وأعيدي شكوى الغرام عَلَيْنا / واجهدي لا شقيتِ أنْ تسعدينا
لو شكوناك ما بنا لشرحنا / لكِ من لوعة الغرامِ متونا
ما أطعنا اللُّوَّامَ والحبُّ يأبى / أنْ يطيعَ المتيَّمُ الَّلائمينا
لهف نفسي على مراشف ألْمى / أوْدَعَ الثغرَ منه داراً ثمينا
لانَ عطفاً مهفهفُ القدِّ قاسٍ / كلَّما زادَ قسوةً زدْتُ لينا
يا شفائي من عِلَّةٍ بَرَّحَتْ بي / إنَّ في القلبِ منك داءً دفينا
يا ترى تجمع المقادير ما كانَ / وأنَّى لنا بها أنْ تكونا
في ليالٍ أمضيتُها بعناق / لا يظنُّ المريب فينا الظنونا
فرَّقَتْنا أيدي النوى فافترقنا / ورمينا ببَيْنها وابتلينا
بينَ شرقٍ ومغربٍ نَنْتَحيه / فشمالاً طوراً وطوراً يمينا
أسعدَ الله فِرقَةَ العزِّ لمَّا / كانَ عبد الرحمن فيها خدينا
قدَّمتْه الولاةُ واتَّخذته / في الملمَّات صاحباً ومعينا
واستَمدَّتْ من رأيه فَلَقَ الصُّبحِ / بَياناً منه وعلماً رصينا
جَذَبَ النَّاسَ بالجميل إليه / وحباهم بفضله أجمعينا
فرأتْ ما يَسُرُّها من كريمٍ / من سُراة الأَشراف والأَنجبينا
شِيَمٌ عن إبائه في المعالي / أسلَكَتْه طريقها المسنونا
تَستَحيل الحزونُ فيه سهُولاً / بعدَ ما كانت السهول حزونا
ويهون الأَمر العظيمُ لديه / وحَرِيٌّ بمثلِهِ أنْ يهونا
زانَ ما شان في حوادث شتَّى / ومحا ما يشين في ما يزينا
فإذا قستُه بأَبناء عَصري / كانَ أعلى كعباً وأندى يمينا
قد وَجَدْناك والرِّجال ضروبٌ / والتجاريبُ تظهرُ المكنونا
عروةٌ من عُرا السَّعادة وثقى / قد وثقنا بها وحبلاً متينا
هذه النَّاس منذ جئتَ إليها / زَجَرَتْ منك طائراً ميمونا
كلّ أرضٍ تحلُّها كانَ أهلو / ها بما ترتجيه مستبشرينا
وإذا رُوِّعَتْ ومثلُك فيها / أصبحوا في ديارهم آمنينا
يا شريفَ الأَخلاق وابنَ شريفٍ / أشرفَ النَّاس أثبتَ النَّاس دينا
أحمِدُ الله أن رأتكَ عيوني / فرأتْ ما يَقُرُّ فيك العيونا
وشَمَمْنا من عَرف ذاتك طيباً / فكأنِّي إذ ذاك في دارينا
وَوَرَدْنا نداك عذباً فراتاً / إنَّما أنتَ منهلُ الواردينا
لك في الصالحات ما سوفَ يبقى / ذكرها في الجميل حيناً فحينا
حُزتَ فهماً وفطنةً وذكاءً / وتَفَنَّنْتَ في الأُمور فنونا
وتولَّيتَ في الحقيقة أمراً / كانَ من لطفه المهيمن فينا
سيرة ترتضى جُبِلَتْ عليها / ومزايا ترضي بها العالمينا
فاهنأ بالصَّوم والمثوبة فيه / وجزيل الصِّيام في الصَّائمينا
وبعيدٍ يعودُ في كلِّ عامٍ / لكَ بالخيرِ كافلاً وضمينا
شامَتِ البَرْقُ حينَ لاحَ مَطِيٌّ
شامَتِ البَرْقُ حينَ لاحَ مَطِيٌّ / أضْمَرتْ لَوعَةً وأبْدَتْ حَنينا
وشجاها الأسى فقال رفيقي / إنَّ في هذه المطيِّ جنونا
حاكياً ومضُه وضوءُ سناه / من سُليمى تَبَسُّماً وجبينا
وبكت أنيق بدمعٍ هتونٍ / لم تدع للفؤاد سِرًّا مصونا
وبكيْنا لها بدمعٍ وما ينفعُ النُّو / قَ وقد ضَرَّها الهوى إن بكينا
كم أهاجَ القلوب منَّا وميضٍ / ثمَّ أدمى بعد القلوب العيونا
كانَ علم الوشاة بالوجد ظنًّا / فأعادَت ظنَّ الوشاة يقينا
عبراتٍ أسْبَلْتُها ودموعاً / كانَ لولا الهوى بهنَّ ضنينا
يوم كانَ الوداع إذ آل ميٍّ / قوَّضوها ركائباً وظعونا
أخَذَ الركب بالسُلُوِّ شمالاً / وأخَذْنا مع الغرام يمينا
قال لي صاحبي ونحنُ بِسَلْعٍ
قال لي صاحبي ونحنُ بِسَلْعٍ / نَتَشاكى من الهوى ما عنانا
خَلِّ عنك البكاء فالدمعُ قد قَرَّح / منك العيون والأجفانا
والهوى قائد الهوان فقل لي / كم نعاني الهوى فتلقى الهوانا
إنَّ مَن كنتَ تصطفيه خليلاً / قبل هذا فإنَّه قد بانا
قلتُ قد كانَ ضامناً أن يفي لي / بعهودي فقال لي قد كانا
هل رَعَتْ قبلَه الحسانُ عهوداً / أم وَفَتْ قبلَه الملاحُ ضمانا
ونفورُ الغزلان أقرب للقطع / فإيّاك بعدها الغزلانا
قالها والغرامُ يوقِدُ في القلب / ولوعاً ويَضْرِمُ النيرانا
وفؤادي يجنّ وجداً مصوناً / وجفوني تذيل دمعاً مذالا
وأعادَ الحديث حتَّى رحَلْنا / ونزلنا بالسَّفح من نعمانا
قد رَكبنا بمركبِ الدّخّان
قد رَكبنا بمركبِ الدّخّان / وبَلَغْنا به أقاصي الأماني
حينَ دارت أفلاكه واستدارت / فهي مثلُ الأفلاك في الدَوَران
ثم سِرنا والطير يحسُدنا بالأم / س لإسراعنا على الطيران
يخفِقُ البَحر رهبةً حين يجري / والَّذي فيه كائنٌ في أمان
كلّما أبعدَ البخار بمسراه / قرَّب السيرُ بُعْدَ كل مكان
أتقَنَتْ صُنعَه فطانةُ قوم / وصَفوُهُم بدقّة الأذهان
ما أراها بالفكر إلاَّ أناساً / بَقِيَتْ من بَقيّةِ اليونان
أبرَزوا بالعقول كلَّ عجيب / ما وَجدناه في قديم الزمان
وبَنَوا للعلى مباني عَلاءً / عاجزٍ عنه صاحب الإيوان
فهمُ في الزمان علمٌ وفخرٌ / ومقامٌ يعلو على كيوان