المجموع : 33
من أين من أين يا ابتدائي
من أين من أين يا ابتدائي / ثم إلى أين يا انتهائي
أمن فناء إلى وجود / ومن وجود إلى فناء
أم من وجود له اختفاء / إلى وجود بلا اختفاء
خرجت من ظلمة لأخرى / فما أمامي وما ورائي
ما زلت من حيرة بأمري / معانق اليأس والرجاء
إن طريق النجاة وعرٌ / يكبو به الطرف ذو النجاء
يا قوم هل في الزمان نطس / يهدي إلى ناجع الدواء
لأي أمر ذِهِ الليالي / تأتي وتمضي على الوِلاء
فتطلُع الشمس في صباح / وتغرُب الشمس في مساء
أرى ضياءً يروق عيني / ولست أدري كنه الضياء
وما اهتزاز الأثير إلا / عُلالة نزرة الجلاء
نحن على رغم ما علمنا / نعيش في غيهب العماء
نشرب ماء الظنون عبّاً / فلم نَعد منه بارتواء
تأتي علينا مشاهدات / نروح منهنّ في مراء
وكم نرى فعل فاعلات / من القوى وهي في الخفاء
با ويلة الحسّ إنه عن / حقيقة الأمر في غطاء
فإن أجزاء كل جسم / مبتعدات بلا التقاء
وفي دقاق الجماد عرك / يتّهم الحسّ بالخطاء
يا قوّة الجذب أطلقيني / من ثقلة أوجبت عنائي
لولاكِ لولاك يا شكالي / لطرت كالنور في الفضاء
أنتِ عماد السماء لكن / خفِيت عن عين كل راء
ربطتِ كل النجوم فيها / بعضاً ببعض ربط اعتناء
فدُرنَ في الجوّ جاريات / كأنها السفن فوق ماء
نحن بني الأرض قد علمنا / بأننا من بني السماء
لو كنت في المشتري لكانت / أرضي سماءً بلا امتراء
فليس فوقٌ وليس تحتٌ / ولا اعتلاءٌ لذي اعتلاء
وإنما نحن فوق نجم / نحيا محاطين بالهواء
فليت شعري أيّ ارتقاء / للروح يبقى أي ارتقاء
وأنتِ يا كهرباء سر / بدا وما زال في غشاء
عجائب الكون وهي شتّى / فيك انطوت أيمّا انطواء
أضأت إن شئت كل داج / لنا وأدنيت كل ناء
فأنت للكائنات روح / إن كانت الروح للبقاء
وكم تقاضاك فيلسوف / حقيقة صعبة الأداء
فقال والقول منه ظنّ / ما الكون إلاّ بالكهرباء
وليلةٍ بتها أنادي / نجومها أبعد النداء
آخذ منهن بالتداني / فكراً ويأخذن بالتنائي
فأنثني باكياً بشعري / ويطرب الليل من بكائي
وربما كرّ بعد وهن / فكري فألفى بعض الشفاء
فأرجع القهقرى أغنّى / وما سوى الشعر من غناء
أقول والنَسر فوق رأسي / وطالع النجم في ازائي
يا أيها الأنجم الزواهي / لله ما فيك من بهاء
أما كفاك السنى جمالاً / حتى تجلّلت بالسناء
يا أنجم النعش فاصدقيني / أمات ذو النعش بانطفاء
إني إذا كنتِ في حِداد / إليك أهدي حسن العزاء
وأنت يا نسر من كلال / وقعت أن طلبة الغذاء
أخوك هل طائر لوكر / أم قاصد منتهى الفضاء
كأن أم النجوم سيف / سلّ على الليل ذو مضاء
رصّعُ متناه بالدراري / فراق في الحسن والرواء
كأن نجم السها أديب / في أرض بغداد ذو ثواء
كأن خط الشهاب مُدلٍ / لأسفل البئر بالرشاء
كأنما أنعم الثريا / في شكلها الباهر الضياء
قُفّاز كفّ به فصوص / من حجر الماس ذي الصفاء
برئت للموت من حياة / ما نكبّت مهيع الشقاء
لم يكفها أنها احتياج / حتى غدت حومة البلاء
يا أيها المترف المهنَّا / يمرح في ثوب كبرياء
مهلاً أخا الكبر بعض كبر / ألست تقني بعض الحياء
أنت ابن فقر إلى أمور / بهنّ تدعى يا ابن الثراء
أزمعت عنا إلى مولاك ترحالا
أزمعت عنا إلى مولاك ترحالا / لمّا رأيت مناخ القوم أوحالا
رأيتنا في ظلام ليس يعقبه / صبحٌ فشّمرت للترحال أذيالا
كرهت طول مقام بين أظهرنا / بحيث تبصرنا للحق خذّالا
ولم ترق نفسك الدنيا ونحن بها / لسنا نؤكد بالأفعال أقوالا
وكيف تحلو لذي علم إقامته / في معشر صحبوا الأيام جهّالا
لذاك كنت اعتزلت القوم منفرداً / حتى أقارّبك الأدَنين والآلا
وما ركنت إلى الدنيا وزخرفها / ولا أردت بها جاهاً ولا مالا
لكن سلكت طريق العلم مجتهداً / تهدي به من جميع الناس ضّلالا
محمود شكري فقد نامنك حبرهديّ / للمشكلات بحسن الرأي حّلالا
قد كنت للعلم في أوطاننا جبلاً / إذا تقسم فيها كان أجبالا
وبحر علم إذا جاشت غواربه / تقاذف الدرّ في لجّيه منهالا
يا من بشوّال قد شالت نعامته / نغّصت بالحزن شهر العيد شوّالا
أعظم برزئك في الأيام من حدَث / هزّت عليّ به الأيام عسّالا
أمست لروعته الأبصار شاخصةً / أما القلوب فقد أجفلن إجفالا
طاشت حصاة العلا لما نعيت لها / وكل ميزان علم بالأسى سالا
إذا نعيَك وافى مصر منتشراً / جثا أبو الهول يشكو منه أهوالا
وإن أتى البيت بيت الله رجّ به / وأوجس الركن من منعاك زلزالا
أما العراق فأمسى الرافدان به / سطرين للدمع في خدّيه قد سالا
بكى الورى منك حبراً لا مثيل له / أقواله ضربت في العلم أمثالا
بكوك حتى قد احمرتّ مدامعهم / كأنهم نضحوا فيهنّ جريالا
ولو لفظنا لك الأرواح من كمد / لم نقض من حقك المفروض مثقالا
ولا نخصَص في رزءٍ بتعزية / إلا علوماً أضاعت منك مفضالا
فإن رزأك عمّ الناس قاطبةً / يا أكرم الناس أعماماً وأخوالا
شكراً لأقلامك اللائى كشفت بها / عن أوجه العلم أستاراً وأسدالا
كتبن في العلم أسفاراً سيدرسها / أهل البسيطة أجيالاً فأجيالا
أمددتها بمداد ليس يعقبه / دمع الأنام وإن يبكوك أحوال
وكنت أنت نطاسيّ العلوم بها / وكنّ في سبر جرح الجهل أميالا
يا مُطلعاً في سماء الفكر أنجمه / تهدي إلى العلم رحّالاً وقفّالا
لو أنني بلغت زهر النجوم يدي / نحتها لك بعد الموت تمثالا
ما ضرّ من بعدما خلدّت من كتب / أن لا نرى لك بين الناس أنجالا
إذا ذكرناك يوماً في محافلنا / قمنا لذكراك تعظيماً وإجلالا
إني أخفّ لدى ذكراك مضطرباً / وإن حملت من الأحزان أثقالا
لأشكرتك يا شكري مدى عمري / وأبكينّك أبكاراً وآصالا
فأنت أنت الذي لقنّتني حكما / بها اكتسيت من الآداب سربالا
أوجرتني من فنون العلم أدوية / شفت من الجهل داءً كان قتّالا
فصحّ عقلي وقبلاً كنت مشتكياً / من علّة الجهل أوجاعاً وأوجالا
أنا المقصر عن نعماك أشكرها / ولو ملأت عليك الدهر إعوالا
فاغفر عليك سلام الله ما طلعت / شمس وما ضاء بدر الليل أولالا
لمن تركت فنون العلم والأدب
لمن تركت فنون العلم والأدب / أما خشيت عليها من يد العطب
نلك المدارس قد أوحشتها فغدت / خلواً من الدرس والطلاب والكتب
ما إن تركت لها في العلم من وطر / ولا لمنتابها في الدرس من أرب
إن الألوسي محموداً عرته لدن / لاقاك محمود شكري خفة الطرب
فاهتزّ لابنٍ أبٌ قي قبره وغدا / يبدي الحفاوة خير ابن لخير أب
بحرين في العلم عجّاجين قد ثويا / فاتصبّ مضطرب في جنب مضطرب
من فخر أزماننا في العلم أنّهما / علاّمتا هذه الأزمان والحقب
عليك شكري غدت شكرى مدامعنا / تكفيك أدمعها السقيا من السحب
ما كنت فخر الألوسيّين وحدهم / بل كلّ من ساد من صيّابة العرب
ولا رزأت النهى والعلم وحدهما / بل قد رزأت صميم المجد والحسب
ولم يخصّ الأسى داراً نعيت بها / بل عمّ مبتعداً من بعد مقترب
من العراق إلى نجد إلى يمن / إلى الحجاز إلى مصر إلى حلب
لقد ترحّلت في يوم بنا انقلبت / حوادث الدهر فيه شرّ منقلب
حتى تقدّم ما في القوم من ذنبٍ / فصار رأساً وصار الرأس في الذنب
وبات يحسو الطلا بالكأس من ذهب / من كان يشرب رنق الماء بالعلب
فاذهب نجوت رعاك الله من زمن / من عاش فيه دعا بالويل والحرب
تستثقل الصدق فيه إذن سامعه / وتطرب القوم فيه رنّة الكذب
والخير قد ضاع حتى أنّ طالبه / لم يلق منه سوى المسطور في الكتب
أما الرجال فنار الشرّ موقدةٌ / فيهم وهم بين نفّاخ ومحتطب
أفعالهم لم تكن جدّاً ولا لعباً / لكن تراوغ بين الجد واللعب
إذا جلست إليهم في مجالسهم / تلقى القوارض فيها ذات مصطخب
أرقى الصحائف فيما عندهم أدباً / ما شذّ منها بهم عن خطّة الأدب
قد يطربون لشتم المرء صاحبه / كأنما الشتم مدعاة إلى الطرب
ويستلذّون من قوم سبابهم / كما استلذّ بحكّ الجلد ذو جرب
لا يغضبون لأمرٍ عمّ باطله / كأنهم غير مخلوقين من عصب
وليس تندى من النكراء أوجههم / كأنما القوم منجورون من خشب
يا راحلاً ترك الآماق سائلةً / يذرفن منسكباً في إثر منسكب
أجبت داعي موت حمّ عن قدر / وأي نفس لداعي الموت لم تجب
والناس أسرى المنايا في حياتهم / من فاته السيف منهم مات بالوصب
هذي جيوش الردى في الناس زاحفةً / لكنهنّ بلا نقع ولا لجب
بين الدواء وبين الداء معترك / فيه قضى ربنا للداء بالغلب
والناس فيه عتاد للحمام فلا / ينجون من عطب إلاّ إلى عطب
وإن للموت أسباباً يسببّها / من سدّ كلِّ طريق عنه للهرب
ولا يخلق الله مخلوقاً يجول به / دم الحياة بلا أم له وأب
ولا يميت بلا داء ولا سقم / ولا يعيش بلا كدٍ ولا تعب
وليس ذلك مِن عجزٍ بخالقنا / عن أن يزجّ بنا في قبضة الشجب
لكنّه جعل الدنيا مسبّبةً / لكل أمرٍ بها لابدّ من سبب
يا من إذا ما ذكرناه نقوم له / على الأخامص أو نجثو على الركب
لقد تركت يتيم العلم منتجاً / والكتب راثيةً منه لمنتحب
إن كنت في هذه الدنيا لمنقطعاً / إليه عن كل موروث ومكتسب
أعرضت عنها مشيحاً غير ملتفت / إلى المناصب فيها أو إلى الرتب
أولعت بالعلم تنميه وتجمعه / منذ الشباب وما أولعت بالنشب
فعشت دهراً حليف العلم تنصره / حتى قضيت فقيد العلم والأدب
هلّم نبكِ النهى والعلم والشرفا
هلّم نبكِ النهى والعلم والشرفا / فقد قضى من بهذا كان متّصفا
هلّم نبك الذي كانت شمائله / كمثل قطر الغوادي رقّةً وصفا
هلّم نبك امرأً لم يغلُ واصفه / بالخير إلا رآه فوق ما وصفا
عطا الخطيب الذي آل الخطيب به / فتّت مصيبتهم أكبادنا أسفا
نبكي لمبكاهم حزناً بحيث نرى / بدر التّمام بأعلى أفقهم خسفا
قد فاجأته المنايا وهو معتدل / كالرمح دقّ على الصفواء فانقصفا
قامت بحسّاده الأطماع هائجةً / لمّا رأوه مجدّاً يطلب الترفا
فمارضوه بسيل من مكايدهم / قد سال فاكتسح الآمال واجترفا
وعرقلوا بدعاويهم مساعيه / ومدّدوا من دواهيهم له كففا
فظلّ يرسف في مسعاه مرتطماً / فيما يكيدون حتى خالط التلفا
كانوا يمدّون سيل الكيد مندفقاً / وكان يبني له من سعيه رصفا
حتى قضى راسباً في مكرهم غرقاً / إذ عطّل الموت منه الكفّ والكتفا
وبعدما قتلوه هكذا علموا / بأنهم قد أصابوا المجد والشرفا
والمرء تظهر بعد الموت قيمته / كمغرق اليمّ بعد الانتفاخ طفا
لو عجّل الله للحسّاد لعنته / لكان أسقط منها فوقهم كسفا
لكن يؤخرها عنهم إلى أجل / يخزي به كلّ من قد جار واعتسفا
هم جاوزوا العدل والأنصاف في رجلٍ / ما كان قطّ عن الأنصاف منحرفا
فتىّ رزئناه بالأخطار مضطلعاً / بالمجد مشتملاً بالفضل ملتحفا
لما رمى عن قسّي الرأي مجتهداً / لم يتخذ غير أسباب العلا هدفا
ما شبّ إلاّ على التقوى وكان له / قلب سليم بحبّ الخير قد شغفا
مهذّب الطبع عفّ النفس ذو خلق / قد شابه الورد مشموماً ومقتطفا
إذا تصّورت في يوم خلائقه / فقد تصوّرت منها روضة أنفا
وإن نظرت بإمعان مساعيه / فقد نظرت بعيني رأسك الشرفا
بيناه يدرك من دنياه زهرتها / إذ جاءه الموت يمشي نحوه الخطفى
أعظم به طود مجد طال طائله / فكيف في ساعة بالموت فد نسفا
قد شرّفت بقعة الجيليّ حفرته / كما ضريح علي شرّف النجفا
شبّ الأسى في قلوب الشعب مستعرا
شبّ الأسى في قلوب الشعب مستعرا / يوم ابن سعدون عبد المحسن انتحرا
يوم به كل عين غير مبصرة / إذ كان إنسانها في الدمع منغمرا
يوم به البرق رجّ الرافدين أسىّ / غداة أدّى إلى أقصاهما الخبرا
فلو ترى القوم قاموا في ضفافهما / واستنزفوا من شؤون الدمع ما غزرا
خلت العراقين خدّي ثاكل وهما / سطران للدمع في الخدين قد سطرا
لله يوم فقدنا فيه مضطلعاً / بالأمر يمعن في تدبيره النظرا
يوم به فاض فيض الشعر منتظماً / كما به فاض فيض الدمع منتثرا
فبالدموع بكت في يومه شيعٌ / وبالقوافي بكت في يومه الشعرا
فالشعر قد قرّط الأسماع مندفقاً / والدمع قد قرّح الأجفان منحدرا
والدمع والشعر ممن قد بكى بهما / كلاهما حكيا في يومه الدررا
كلاهما انسجما حتى كأنهما / تسابقا في انسجام عندما انهمرا
فالشعر من هذه الأكباد بلّ صدى / والدمع من هذه الأوطان بلّ ثرى
أبو علي قويّ في عزائمه / لو رام بالعزم دحر الجيش لا ندحرا
أخلاقه كالخضمّ الرهو تحسبه / سهلا ولكنه صعب إذا زخرا
إذا أتاه شكيّ القوم قابله / بكا لنسيم جرى في روضةٍ عطرا
ويهزم الجمع مجثّاً مكايده / بكا لعواصف هبّت تقلع الشجرا
لما رأى الوطن المحبوب محتملاً / من الأجانب ما قد عمّه ضررا
سعى لانقاذه بالرأي مجتهداً / بالعزم متشّحاً بالحزم مؤتزرا
كم بات سهران في تحقيق منيته / وفي الأمانيّ ما يستوجب السهرا
وكم سعى راجياً تخليص موطنه / والشعب كان لما يرجوه منتظرا
حتى إذا لم يجد للأمر متسعاً / ولم يجد عن بلوغ العزّ مصطبرا
أرمى مسدسه في صدره بيدٍ / لا تعرف الضعف في المرمى ولا الخورا
فيا لها رميةً حمراء داميةً / قد مات منها ولكن بعدها نشرا
قد كان يحيا حياةً غير خالدة / واليوم يحيا حياةً تملأ العصرا
لو نقتري صحف التأريخ نسألها / عمّن يساويه في الدهر الذي غبرا
لما رأينا كبيراً مات ميتته / ولا وجدنا وزيراً مثله انتحرا
ما كان أشرفها من ميتة تركت / في نفس كل فتىّ من غبطة أثرا
كنا نقاسي ضلالاً قبلها فإذا / بها الطريق إلى استقلالنا ظهرا
يا أهل لندن ما أرضت سياستكم / أهل العراقين لا بدواً ولا حضرا
إن انتدابكم في قلب موطننا / جرح نداويه لكن لم يزل غبرا
وللمشورة في أوطاننا شبحٌ / تخيف صورته الأشباح والصورا
يجول في طرقات البغي محتقباً / للغشّ خلف ستار النصح مستترا
لم يكفه أنه للحكم مغتصب / حتى غدا يقتل الآراء والفكرا
إذا رأى نهضة للمجد أقعدها / وإن رأى فتنة مشبوبةً نعرا
فكم ضغائن بين القوم أوجدها / وكم بذور من التفريق قد بذرا
في كل يوم لنا معكم معاهدة / نزداد منها على أوطاننا خطرا
جفّت بها سرحة استقلالنا عطشاً / حتى إذا ما مسنا عودها انكسرا
تقسو قلوبكم لمّا نفاوضكم / كأننا نحن منكم تنقر الحجرا
أما مواعيدكم فهي التي انكشفت / عن مين من مان أو عن غدر من غدرا
لا تفخروا أن كسرتم غرب شوكتنا / لا فخر للصقر في أن يقتل النغرا
لا تستهينوا بنا من ضعف قوتنا / فكم ذبابة غاب أزعجت نمرا
هذي البلاد اغرسوا فيها مودتّكم / ثم اقطفوا من جناها ودّنا ثمر
نكن لكم حلف صدق في سياستكم / نمشي إلى الموت من جرّائكم زمرا
لسنا بقوم إذا ما عاهدوا نكثوا / ولو جرى الدم حتى أشبه النهرا
ولا نحالف أحلافاً فنخذ لهم / ولو لبسنا المنايا دونهم ازرا
فنحن أوفى الورى بالعهد شنشنةً / ونحن أرفعهم في المكرمات ذرا
سعد وسعدون محمود مقامها / هذا بمصر وهذا ها هنا اشتهرا
كلاهما قد فدى بالنفس أمته / لكنّ سعدون لا سعداً قد انتحرا
فكان بينهما بون وإن غديا / في الشرق أعظم مذكورين ما ذكرا
فإن سعدون دانى الشمس منزلةً / وإن سعدا بمصر قارن القمرا
هذا هنا قد سعى للمجد مبتدراً / وذا هناك سعى للمجد مقتدرا
يا أهل مصر وأنتم مثلنا عرب / ما قلتم عندما اعلمتم الخبرا
إن كان قد أرخص الأموال سعدكم / فإن سعدوننا قد أرخص العمر
نَم أيها البطل الفادي بمهجته / أوطانه نومة تستيقظ العبرا
نم نومة تجعل التأريخ محتفياً / بها لنضهة أهل الشرق مدّكرا
فلْيعتبر بك هذا الشعب مفتدياً / إن كان شعبك بعد اليوم معتبرا
فسوف تحمدك الأوطان شاكرةً / وسوف يذكرك التأريخ مفتخرا
نم مستريحاً فإن الشعب مرتقب / ماذا ستفعله من بعدك الوزرا
أيتركون الذي قد كنت تطلبه / أم هم سيقضون من مطلوبك الوطرا
فالشعب منهم مريد ما أردت له / وليس يقبل عذراً ممّن اعتذرا
يا مَن له ميتة بكر معظّمة / لاغروَ أن قلت فيك الشعر مبتكراً
مَن سامعٌ قصةً لي كنت شاهدها
مَن سامعٌ قصةً لي كنت شاهدها / على الربا الخضر من جنّات لبنان
فقد رأيت غلاماً صيغ منفرداً / بالحسن يصبو إليه كل إنسان
البدر يبدو حقيراً عند طلعته / والشمس تعنو لوجهٍ منه نوراني
في عينه حور في ثغره شنب / يفترّ عن عقد دّرٍ وسط مرجان
إذا رنا ناظراً يرنو بساحرة / أو انثنى ينثني عن عطف نشوان
عليه ثوب بديع النسج طرته / من صبغة المجد قد زينت بألوان
في جانب منه تلقى الدرّ منتظماً / والدرّ منتثراً في الجانب الثاني
وللعواطف في أثنائه صور / جادت بها ريشة في كفّ فنّان
تفاوح الطيب من أردانه عبقاً / كما تفاوح أزهار ببستان
تستخلص النفس من فحوى ملامحه / أن الغرام الذي يخفيه روحاني
يبكي وألحان موسيقاه مشجيةٌ / تهفو بأفئدة منّا وآذان
يبكي وأنغام موسيقاه مطربةٌ / نهتزّ منهنّ أرواح بأبدان
يبكي فيرفض عقد الدمع منتثراً / بغير وزن وأحيانا بميزان
لمّا أراني جلال الحسن ممتزجاً / بروعة الحزن أشجاني فأبكاني
فقمت بين إناس حوله وقفوا / مستعبرين وكلٌ نحوه ران
وكلّهم وقفوا مستسلمين إلى / تنهّدات وآهات وإرنان
حتى سألت عن الباكي وقصته / فقيل هذا هو الشعر ابن جبران
أبوه جبران أفناه الردى فغدا / من بعده رهن يتم حلف أشجان
فقلت لم يفنّ جبران بميتته / من خلّف ابناً كهذا ليس بالفاني
بل أصبحت بابنه ذكره خالدة / ما دام لبنان مأهولا بإنسان
إني أرى روح جبران مرفرفةً / على الربا الخضر من جنات لبنان
ابنوا المدارس واستقصوا بها الأملا
ابنوا المدارس واستقصوا بها الأملا / حتى نُطاول في بنيانها زُحلا
جودوا عليها بما دَرَّت مكاسِبُكم / وقابلوا باحتقار كل من بَخِلا
أن كان للجهل في أحوالنا عِلَل / فالعلم كالطبّ يَشْفي تلكم العِللا
سيروا إلى العلم فيها سَير معتَزِم / ثم أركبوا الليل في تحصيله جَمَلا
لا تجعلوا العلم فيها كل غايتكم / بل علّموا النَشء علماً ُينتج العملا
هذي مدارسكم شَروَى مزارعكم / فأنبتوا في ثراها ما علا وغلا
لا تتركوا الشَوك ينمو في مَنابتها / أعني بذلكم الأهواء والنّحلا
وأسّسوها على الأعمال قائمة / مُمهِّدين إلى المَحْيا بها سُبُلا
يلقى بها النشءُ للأعمال مختبراً / وللطباع من الأدران مُغتسَلا
وأمطروا روضها علما ومقدُرة / حتى تُفتحّ من أزهارها الأملا
فتُنبِت العالم الفنّان مخترعا / وتنبت الفارس المِغوار والبطلا
وتنبت الحارث الفلاّح مزدرعاً / وتنبت المِدْرَه المِنطيق مرتجلا
واسقوا المُتلمَذ فيها خمر مَكرُمة / عن خمرة الكرم تُمسي عنده بدلا
حتى إذا ما غدا خِرّيجها طَرِبا / من عزّة النفس خيل الشارب الثَمِلا
ربّوا البنين مع التعليم تربية / يُمسي بها ناقص الأخلاق مُكتَمِلا
وثقّفوهم بتدريب وتبصِرة / ثقافة تجعل المُعوَجّ معتدلا
وجنّبوهمِ على فعل معاقَبةً / أن العقاب إذا كرّرته قتلا
أن العقاب يزيد النفس شِرَّتها / وليس يُنْكِر هذا غير مَن جهِلا
بل أنشِئوا ناشىء الأحداث وهو على / حبّ الفضيلة في مَحْياه قد جُبِلا
بحيث يُمسي إذا شانته شائنة / من فعله أحمرّ منها وجهه خجلا
من يتركِ الشر خوفاً من معاقبة / فليس يحسب ذا فضل وأن فضَلا
فجّيِشوِا جيش علم من شبيبتنا / عرمرماً تضرِب الدنيا به المثلا
أن قام للحَرْث ردّ الأرض مُمرعة / أو قام للحرب دكّ السهل والجبَلا
وأن غزا مستظِلاً ظلّ رايته / هزّ البلاد وأحيا الأعصُر الأُولا
أنّا لمن أمة في عهد نهضتها / بالعلم والسيف قبلاً أنشأت دولا
هذا هو العلم لا ما تَدْأبون له / مما تكون به عقباكم الفشلا
ماذا تقولون في نقدي مناهجكم / وقد كفَيْتكم التفضيل والجُمَلا
وأيّ نفع لمن يأتي مدارسكم / أن كان يخرج منها مثلما دخلا
فأجمِعوا الرأيَ فيما تعلمون به / ثم أعلموا بنشاط يُنكِر المللا
ثم أنهجوا في بلاد العُرْب أجمعها / نهجاً على وحدة التعليم مُشتملا
حتى إذا ما انْتَدْبنا العرب قاطبة / كنّا كأنّا انتدبنا واحداً رجلا
كل ابنِ آدم مقهور بعادات
كل ابنِ آدم مقهور بعادات / لهنّ يَنقاد في كل الارادات
يَجري عليهنّ فيما يبتغيه ولا / يَنفكّ عنهنّ حتى في الملّذات
قد يَستلِذّ الفتى ما أعتاد من ضرر / حتى يرى في تعاطيه المسرّات
عادات كل امرىءٍ تأبى عليه بأن / تكون حاجاته إلاّ كثيرات
أنّي لفي أسْر حاجاتي ومن عَجبِ / تَعوُّدي ما به تزداد حاجاتي
كل الحياة افتقار لا يفارقها / حتى تنال ِغناها بالمنيّات
لو لم تكن هذه العادات قاهرةُ / لما أسيغت بحالٍ بنت حانات
ولا رأيت ِسكارات يدخّنها / قوم بوقت انفراد واجتماعات
أن الدخان لثانٍ في البلاء إذا / ما عُدّتِ الخمر أولى في البليّات
وربّ بيضاءِ قيدِ الأصبع احترقت / في الكفّ وهي احتراق في الحشاشات
أن مَرّ بين ِشفاه القوم أسودها / ألقي اصفراراً على بيض الثنيّات
وليتها كان هذا حظُّ شاربها / بل قد تفُتّ بكفّيه المرارات
عوائد عمّت الدنيا مصائبُها / وإنما أنا في تلك المصيبات
أن كلّفَتْني السكاري شُربَ خمرتهم / شربت لكن دخاناً من سكاراتي
واخترت أهون شرّ بالدخان وأن / أحرقت ثَوبي منه بالشرارات
وقلت يا قوم تكفيكم مشاركتي / أياكم في التذاذ بالمُضِرّات
أنّي لأمتصَ جمراً ُلفَّ في وَرَق / إذ تشربون لَهيباً ملء كاسات
كلاهما حُمُق يَفتّر عن ضرر / يَسُمّ من دمنا تلك الكُرَيّات
حسبي من الحمق المُعتاد أهونه / أن كان لابد من هذي الحماقات
يا مَن يدخّن مثلي كل آوِنةٍ / لُمْني أَلُمْك ولا تَرض َأعتذاراتي
أن العوائد كالأغلال تَجمعنا / على قُلوب لنا منهنّ أشتات
مقيَّدين بها نمشي على حَذَر / من العيون فنأتي بالمداجاة
قد نُنكِر الفعل لم تألفه عادتنا / وأن علمناه من بعض المُباحات
وربّ شَنعاء من عاداتنا حَسُنت / في زعمنا وهي من أجلَى الشناعات
عناكب الجهل كم ألقت بأدمغة / من الأنام نسيجاً من خرافات
فحرّموا وأحَلّوا حسب عادتهم / وشَوّهوا وَجه أحكام الديانات
حتى تراهم يرون العلم مَنقَصةٌ / عند النساء وأن كنّ العفيفات
وحجّبوهنّ خوف العار لَيتهم / خافوا عليهنّ من عار الجهالات
لم تُحصِ سيّئةَ العادات مقدرتي / مهما تَفَنّنت منها في عباراتي
فكم لها بِدَع سُود قد أصطَدَمت / في الناس منهنّ آفات بآفات
لو لم يكُ الدهر سوقاً رابح باطلها / ما راجتِ الخمر في سوق التجارات
ولا أستمرّ دخان التَبغ ُمنتشراً / بين الورى وهو مطلوب كأقوات
لو أستطعت جعلت التبغ محتكَراً / فوق أحتكار له أضعافَ مَرّات
وزِدت أضعاف أضعاف ضَريبته / حتى يَبيعوه قيراطاً ببدْرات
فيستريحَ فقير القوم منه ولا / يُبْلى به غير مُثرٍ ذي سفاهات
الحُرّ من خرق العادات مُنْتَهِجاً / نهج الصواب ولو ضدّ الجماعات
ومن إذا خَذَل الناس الحقيقة عن / جهل أقام لها في الناس رايات
ولم يَخَف في أتّباع الحق لائمةً / ولو أتَته بحدّ المَشرَفِيّات
وعامل الناس بالإنصاف مُدَّرعا / ثوب الأخوّة من نسج المساواة
أغبىَ البريّة أرفاهم لعادته / وأعقل الناس خرّاق لعادات
الشعر مفتقر مني لمبتكر
الشعر مفتقر مني لمبتكر / ولست للشعر في حالِ بمفتقر
دعوت غُرّ القوافي وهيِ شاردة / فأقبلت وهي تمشي مشيِ معتذر
وسلّمتنيَ عن طَوع مقادتها / فرُحت فيهنّ أجري جري مقتدر
إذا أقمت أقامت وهي من خَدَمي / وأينما سرت سارت تقتفي أثري
صرّفت فيهنّ أقلامي ورحت بها / أعرّف الناس سحر السمع والبصر
ملكْنَ من رقّة رقّ النفوس هوىً / من حيث أطرْ بن حتى قاسيَ الحَجَر
سقيتهنّ المعاني فارتَوْين بها / وكنّ فيها مكان الماء في الثمر
كم تَشرئَبّ لها الأسماع مُصغيةً / إذا تُنُوشدن بين البدوِ والحَضَر
طابقت لفظيَ بالمعنى فطابقه / خلواً من الحَشْوِ مملوءاً من العِبَر
أنّي لأنتزع المعنى الصحيح على / عُرْيٍ فأكسوه لفظاً قُدَّ من دُرر
سل المنازل عني إذ نزلت بها / ما بين بغداد والشهباء في سفري
ما جئت منزلة إلاّ بَنَيت بها / بيتاً من الشعر لابيتاً من الشَعَر
وأجود الشعر ما يكسوه قائله / بِوَشْي ذا العصر لا الخالي من العُصُر
لا يَحسُن الشعر إلا وهو مبتكَر / وأيّ حسن لشعر غير مبتكر
ومن يكنْ قال شعراً عن مفاخَرَة / فلست واللَّه في شعرٍ بمفتخر
وإنما هي أنفاس مصعَّدةٌ / ترمي بها حسراتي طائرَ الشَرَر
وهنّ إن شئت منّي أدمع غُزُر / أبكي بهنّ على أيامنا الغُرَر
أبكي على أمة دار الزمان لها / قبلاً ودار عليها بعدُ بالغِيَر
كم خلّد الدهر من أيامهم خبراً / زان الطُروس وليس الخُبْر كالخَبَر
ولست أدّكر الماضين مفتخراً / لكن أقيم بهم ذكرى لمُدَّكر
وكيف يفتخر الباقون في عَمَهٍ / بدارس من هُدى الماضين مندثر
لهفي على العُرب أمست من جمودهم / حتى الجمادات تشكو وهي في ضَجَر
أين الجَحاجح ممن ينتمون إلى / ذُؤابة الشرف الوضّاح من مُضر
قوم هم الشمس كانوا والورى قمر / ولا كرامةَ لولا الشمس للقمر
راحوا وقد أعقبوا من بعدهم عَقِباً / ناموا عن الأمر تفويضاً إلى القَدَر
أقول والبرق يسري في مراقدهم / يا ساهر البرق أيقظ راقد السَمُر
يا أيها العرب هُبّوا من رقادكم / فقد بدا الصبح وأنجابت دجى الخطر
كيف النجاح وأنتم لا أتفاق لكم / والعود ليس له صوت بلا وتر
مالي أراكم أقلّ الناس مَقدُرةً / يا أكثر الناس عدّاً غير منحصِر
أشَرّ فعل البرايا فعل منتحر
أشَرّ فعل البرايا فعل منتحر / وأفحش القول منهم قول مفتخر
أن التمدُّح من عُجب ومن أشَرٍ / والمرء في العُجب ممقوت وفي الأشر
يا راجيَ الأمر لم يطلب له سبباً / كيف الرماية عن قوس بلا وتر
ليس التسبّب من عَجز ولا خَوَر / وإنما العجز تفويض إلى القدر
دع الأناسِيَّ وأنسبني لغيرهم / أن شئت للشاء أو أن شئت للبقر
فإن في البشر الراقي بخلقته / من قد أنِفت به أنّي من البشر
ألبِس حياتك أحوال المحيط وكن / كالماء يلبس ما للظَرف من جُدُر
وأن أبَيْت فلا تجزع وأنت بها / عارٍ من الأُنس أو كاسٍ من الضجر
أن رُمت عزاً على فقر تُكابده / فأستغنِ عن مال أهل البَذْخ والبَطَر
فإنما النفس ما لم تَنْءَ عن طمع / فريسة بين ناب الذل والظُفُر
إذا نظرت إلى الجزئيّ تُصلحه / فأرقُبه من مرقب الكُلّيّ في النظر
فإن نفعك شخصاً واحداً ربما / يكون منه عموم الناس في الضرر
قد يَقبُح الشيء وضعاً وهو من حسن / كالنعشُ يدهش مرأىً وهو من شجر
فالقبح كالحسن في حكم النهى عَرَض / وليس يَثبُت إلاّ عند مُعتَبِر
لا تعجبنّ لذي عقل يروح به / ليَنتِج الشرّ خيراً غير مُنتظَر
فإنما لمعات الخير كامنة / بين الشرور كمُون النار في الحجر
سبحان من أوجد الأشياء واحدة / وإنما كثرة الأشياء بالصُوَر
هَبْ منشأ الكونَ يبقى مبهماً أبداً / فهل ترى فيه عقلاً غير مُنبَهِر
الحب والبغض لا تأمنِ خداعهما / فكم هما أخذا قوماً على ِغرَر
فالبغض يُبدي كُدُوراً في الصفاء كما / أن المحبة تبدي الصفوَ في الكدر
وأشنع الكذب عندي ما يُمازجه / شيء من الصدق تمويها على الفِكَر
فإن أبطال هذا في النهي عَسِرٌ / وليس أبطال محض الكذب بالعسر
قالوا عشِقتَ معيب الحسن قلت لهم / كُفّوا الملام فما قلبي بمُنزَجر
ما العشق إلاّ العمى عن عيب مَن عشِقَت / هذي القلوب ولا أعني عمي البصر
قالوا ابن مَن أنت يا هذا فقلت لهم / أبي امرؤ جَدّه الأعلى أبو البشر
قالوا فهل نال مجداً قلت وأعجبي / أتسألوني بمجد ليس من ثَمَري
لاَ درّ درّ قصيد راح يَنظمه / من ليس يعرف معنى الدَرْ والدُرر
يَبكي الشعورُ لشعر ظلَ ينقُده / من لا يفرّق بين الشعر والشَعَر
قالت نَوار وقد أنشدتها سَحَراً / ممّن تعلّمت نفث السِحر في السَحَر
فقلت من سحر عينيك الذي سُحرت / به المشاعر من سمع ومن بصر
لا تَشْكُ للناس يوماً عُسرة الحال
لا تَشْكُ للناس يوماً عُسرة الحال / وأن أدامتك في همّ وبِلبال
وجانب اليأس وأسلُك للرجا طُرُقاً / فالدهر ما بين أدبار وأقبال
وأركب على صَهَوات الجِدّ مغترباً / فيما تحاول ذا حلّ وترحال
وأطلب على عزّه بَيْض الأنوق ولا / تطلب لعمرك أن تَحظى بِمفضال
لك يَبق غير الذي غُلَّت أنامله / إما بأغلال شُحّ أو بإقلال
كم قد غدَوْت على الأيام منتدباً / قوماً أضعت بهم شعري وآمالي
أفعالهم دون أن يُغرَى الرجاء بها / لكنّ أقوالهم أقوال أقيال
من كل هيّ بن بيّ لأثبات له / جَعدِ اليدَين قَؤول غيرِ مفعال
كم بات ذو الحُمق خِلواً في مضاجعه / وبات ذو العقل فيها كاسِف البال
هذا يَميس بأبراد مُفوَّفةٍ / وذا يَخيط شظايا طِمْرِه البالي
هي المنى كثغور الغِيد تبتسم
هي المنى كثغور الغِيد تبتسم / إذا تطرّبها الصمامة الخَذِم
دع الأمانيّ أو رُمهنّ من ظُبةٍ / فإنما هنّ من غير الظبي حُلُم
والمجدَ لا تَبنِه إلا على أسس / من الحديد وإلاّ فهو منهدم
لو لم يكن السيف ربّ المُلك حارسه / ما قام يسعى على رأس له القلم
مَن سلَهُ في دجى الآمال كان له / فجراً تحُلّ حُباها دونه الظُلَم
والعلم أضَيع من بذر بمُسبخة / إن لم تُجَلِّله من نَوْء الطبى دِيَم
إن الحقيقة قالت لي وقد صدقت / لا ينفع العلم إلاّ فوقه عَلَم
والحق لا يُجتَنى إلا بذي شُطَب / ماء المنيّة في غربَيْه منسجم
إن أسمعت ألسن الأقلام ظالمها / بعضَ الصرير كمن يبكي وينظلم
فللحسام صليل يرتمي شرراً / مفتِّقاً إذن مَن في إذنه صمم
هب اليراعة ردء السيف تأزره / فهل على الناس غير السيف محتكم
فالعلم ما قارنَتْه البيض مفخرةٌ / والحق ما وازرته السمر محترم
وإنما العيش للأقوى فمن ضَعُفت / أركانه فهو في الثاوين مُختَرم
والعجز كالجهل في الأزمان قاطبةً / داءٌ تموت به أو تُمسخ الأمم
والمجد يأثل حيث البأس يدعَمُه / حتى إذا زال زال المجد والكرم
وإن شَأو المعالي ليس يُدركه / عزم تسَّرب في أثنائه السَأم
آهاً فآهاً على ما كان من شرف / لليعربيّين قد ألوى به القِدم
أيام كانوا وشمل المجد مجتمع / والشعب ملتئم والملك منتظم
كانوا أجلّ الورى عزاً ومقدرة / إذا الخطوب بحبل البَغي تحتزم
وأربط الناس جأشاً في مواقفة / من شدّة الرعب فيها ترجُف اللمم
قوم إذا فاجأتهم غُمّة بدروا / وأوْفزتهم إلى تكشيفها الهمم
على الحصافة قد ليثت عمائهم / وبالحّزامة شُدّت منهم الحُزُم
قضَوْا أعاريب أقحاحاً وأعقبهم / خَلْف هم اليوم لا عُرب ولا عجم
جار الزمان عليهم في تقلُّبه / حتى تبدّلت الأخلاق والشيَم
دبّ التباغض في أحشاهم مَرَضاً / به انْبَرَت أعظم منهم وجَفَّ دم
فأصبح الذُل يمشي بين أظهرهم / مشي الأمير وهم من حوله خدم
فأكثر القوم من ذلّ ومَسكَنة / تلقى الذباب على آنافهم يَنِم
كم قد نَحت لهم في اللوم قافية / من الحفيظة بالتقريع تحتدم
وكم نصحت فما أسمعت من أحد / حتى لقد جفّ لي ريق وكلّ فم
يا راكباً متن منطاد يطير به / كما يطير إذا ما أفزع الرَخَم
يمرّ فوق جناح الريح مخترقاً / عرض الفضاء ويَعدو وهو مُعتزِم
حتى إذا حطّ منقضّاً على بلد / ينقضّ والبلد الأقصى له أمَم
أبلغ بني وطني عنّي مُغَلغَلةً / في طيّها كلم في طيّها ضَرَم
ما بالهم لم يُفيقوا من عَمايتهم / وقد تبلّج أصباح المنى لهم
إلى متي يَخفرون المجدَ ذمّتَه / أليس للمجد في أنسابهم رَحِم
ومَن يعِش وهو مِضْياع لفُرصته / ذاق الشقاءَ وأدمى كفّه الندم
وكل من يدّعي في المجد سابقةً / وعاش غير مجيد فهو متهم
أصبحت أوسعهم لوَماً وتثريبا
أصبحت أوسعهم لوَماً وتثريبا / لما امتطَوْا غارب الإفراط مركوبا
وألهبت منهم الأهواء جاريةً / إلى التفرٌّق اُلْهْبا فألهوبا
وأرسلوهنّ مُرخاةً أعِنّتها / يُوغِلن في الأمر إحضاراً وتقريبا
فأرهجوا الشرّ حتى أن هَبْوَتَه / مَدّت سُرادقها في اللوح مضروبا
راموا الصلاح وقد جاءوا بلائحة / خرقاء تترك شمل الشعب مشعوبا
قد كلّفوا شططا فيها حكومتهم / وخالفوا الحزم فيها والتجاريبا
عَدُّوا النصارى وعدوا المسلمين بها / ونحن نعهدهم طرّاً أعاريبا
قد حكّموا الدين فيها فعي مُعربَة / عمّا يكون لدعوى القوم تكذيبا
من مبلغ القوم أن المصلحين لهم / أمسوا كمن لبِس الجِلباب مقلوبا
ما بالهم وطريق الحق واضحةٌ / لا يسلكون إلى الإصلاح مَلحوبا
أفي مصالح دنياهم وهم عرب / جاءوا على حسب الأديان ترتيبا
ما ضرّهم لو نحَوْا في الأمر جامعةً / تنفي الكنائس عنها والمحاريب
لكنهم أمة تأبى مشاربهم / إلا التعصب للأديان مشروبا
قد حاولوا الحق واشتطّوا بمطلبه / حتى بدا وجهه كالليل غِربيبا
قد يطلب الحق طيّاش فيُبطله / ما كل طالب حقّ نال مطلوبا
قاموا يُريدون إصلاحاً فقمت لهم / استنطق الشعر تأهيلاً وترحيبا
ورحت أحتثّهم حدواً بقافية / غازلت في صدرها الآمال تشبيبا
حتى إذا مخضوا آراءهم ظهرت / للناس زُبدتها ثأياً وتخبيبا
ساروا وسرت فكان السير مختلفاً / يرمي لوَجهين تشريقاً وتغريبا
كانوا أحقّ البرايا مطلباً فغَدوا / من أبطل الناس في الدنيا مطاليبا
راموا انشقاق العصا بالشَغْبِ ملتهباً / والحقد مضطرماً والضِغن مشبوبا
إني لأبصر في بيروت قائبةً / للشَرّ مُوشِكةً أن تُخرج القُوبا
أو أكرة من دناميت إذا انفجرت / فنارها تنسف الشبان والشيبا
وقد رأيت أناساً واصلين بها / وهم بباريز مِلْبارود أنبوبا
وآخرين بمصر يطلبون لها / تفرقعاً يجعل المعمور مخروبا
ويترك الناس في دهياءَ مظلمة / يَرتدُّ منها بياض الشمس حُلبوبا
قل للعُرَيْسيّ والأنباء شائعة / والصحف تروي لنا عنه الأعاجيبا
علام تعقِد في باريز مؤتمراً / ما كنت فيها برأي القوم مندوبا
وهل تعمّد حقي العظم فَعلته / لما نمى خبراً للطان مكذوبا
إذا راح يستنجد الافرنج منتصفاً / كأنه حَمَل يستنجد الذيبا
خافوا التذبذُب في أعمال دولتهم / من أن يجُرّ على الأوطان تخريبا
وكان خوفهم حقاً لو أنهم / لم يعدِلوا عن طريق الحق تنكيبا
لكنهم جاوزوا نهج الصواب إلى / وادي تُهُلِك فاستقصوا به الحُوبا
ولم يُبالوا بما أبدَوْا من جَنَف / أن يُمسي الوطن المحبوب محروبا
فهم كمن فرّ من قَطر يُبلّله / ثَم انْتحى السيل أو جاء الميازيبا
لو كان في غير باريز تألُّبهم / ما كنت أحسبهم قوماً مناكيبا
لكنّ باريز ما زالت مطامعها / ترنو إلى الشام تصعيداً وتصويبا
ولم تزل كل يوم من سياستها / تُلقي العراقيل فيها والعراقيبا
هل يأمن القوم أن يحتلّ ساحتهم / جيش يدُكّ من الشام الأهاضيبا
يا أيها القوم لا يغرُركم نفر / ضجُّوا بباريز إفساداً وتشغيبا
جاءت رسائلهم بالشرّ مغريةً / تفتن في المكر أُسلوباً فأسلوبا
فطالعوهنّ بالأيدي مطالعةً / تسطو عليهن تمزيقاً وتأريبا
أن يصدُقوا أنهم لا يلبسون سوى / محض النصيحة في الدعوى الجلابيبا
فسوف يقرع كل سِنّةُ ندماً / ويُسبل الدمع في الخدين مسكوبا
خاض الدجى وظلام الليل مختلط
خاض الدجى وظلام الليل مختلط / صوت به الوجد مثل السيف مُختَرَط
يبثّ في الليل حزناً لو أحسّ به / لبان في لِمَّتيهِ الشيب والشمط
أبديه منقبضاً منه على شَجَن / فيملأ الليل أرناناً وينبسط
أرسلت منه أنيناً فات أوله / سمعي وآخره بالقلب مرتبط
والليل أرسل وحفاً من غدائره / كأنه بثريّا الأفق يمشتط
والنجم في القبة الزرقاء تحسبه / فرائداً وهي من فيروزج سفط
كم قلت والليل جَثْل الشعر فاحمه / شعراً به كاد فرع الليل ينمعط
ينجاب ليل العمى عن قلب سامعه / كالفجر إن لاح فالظلماء تنكَشط
لهفي على حِكَم ما زلت أنثرها / درّاً ثميناً وما في القوم ملتقط
ضاع الدواء الذي قد كنت أوجِره / مَن ليس يشرب أو من ليس يستعط
تقول لي أن غبطت القوم تجربتي / لا تغبطنّ فما في القوم مُغتَبَط
قل للألى نطقوا بالضاد مُدَّغَماً / لم يُدغم الضاد آباء لكم فرطوا
أيَحسُن اللحن إذ آباؤكم فصحُوا / أم يحسن العجز إذ آباءكم نشِطوا
فيكم غُلُوّ وتقصير وبينهما / ضاع المراد أنتم أمة وَسَط
إني ابتُليت بقوم يبعرَون على / أعقابهم وإذا عنّفتهم ثَلَطوا
شَطّوا بأقوالهم حتى لقد غضِبوا / إذ قلتُ يا قوم في أقوالكم شَطَط
فبدّلوا القول إن صحّت عزائمكم / فعلاً وإلا فإني يائس قَنِط
قد حِرت في الأمر أني حين أسخطهم / يرضَون عني وإن أرضيتهم سخطوا
فاز الذي كان في أحواله وسطاً / فالمُرّ يُعقَى وإن الحُلو يُستَرَط
قل للأعاريب قد هانت مكارمكم / حتى ادَعاها أُناس كلّهم نَبَط
برئت للعرب العرباء من فئة / يُنَموْن للعرب إلا أنهم سَقَط
أين المكارم إن هم أصبحوا عرباً / فإنها في طباع العرب تُشتَرَط
إن يغمِطوني لأني جئت أنهضهم / فأيّ مستنهض ذي نجدة غَمَطوا
هم كالضفادع فاسمعهم إذا رَطَنوا / فما هنالك إلا اللغوُ واللَغَط
يستنثِرون صغَاراً من معاطسهم / ولا يُبالون أن قالوا وأن ضَرَطوا
العار يرحل معهم أينما رحلوا / والخِزي يهبِط معهم أينما هبطوا
من كل أشوهَ لاحت من مغَامِزه / في وجه كل حياة حوله نُقَط
قد رَثَّ عِرضاً وإن جَدّت مآزره / من كل مُخزية في وجهه شَرَط
تراه يشخر عند الأكل من جَشَع / كأنما هو عند الأكل يمتخط
الخلق كالخطّ لا تقرأ لئامهمُ / واشطبعليهم بنعل إنهم غَلَط
إن رمت تشبع من مجد فكُلْ همماً / كأكلك السَمنَ ملبوكاً به الأقِط
نفسي تَجيش لأمر لو صدعت به / لزُلزلت دونه البُلدان والخِطط
هي النفوس وإن لم تَبلُغ الحُلُما
هي النفوس وإن لم تَبلُغ الحُلُما / مطبوعة إن لؤماً وإن كرما
تجري على ما اقتضاه الطبع جامحةً / ولن يُغيّر منها نصحك الشِيمَا
إن الحديد على ما القَين يطبَعه / عليه في الكُور إن سيفاً وإن جَلَما
قد كنت أحسَب أن اللؤم أجمعه / على الحسينَيْن في مصر قد انقسما
حتى بدت مُخزيات اللؤم مشركةً / من الحِجاز حسيناً ثالثاً بهما
لكنما ذاك قد أربَت جريمته / عليهما فهو أخزى جارم جرما
فذان قد أخجل الأهرامَ بَغيُهما / وبغي هذاك أبكى البيت والحرما
مَن مُبلغُنّ بني الإسلام مألُكةً / تبكي لها عين خير المرسلين دما
بأن مكة قد أمست معطَّلةً / فلا حجيج ولا للركن مستلما
هذا الذي منه تنشق السماء أسىً / والأرض ترتجّ حتى تقذف الحُمَما
فأنتِ يا قدرة الله التي عظُمت / خذي حسيناً بذنب منه قد عظُما
وأنت يا أرض مُجّي نحوه ضَرَما / ويا سماء عليه أمطري نِقَما
بغَى ففرّق شملاً كان مجتمعاً / للمسلمين وشعباً كان مُلتئما
قالوا الشريف ولو صحّت شرافته / لم يَنقُض العهد أو لم يخفرِ الذمما
وكيف وهو الذي بانت خيانته / فصرحت عن طباع تخجل الكرما
لم تكفه في مجال البَغي فتنته / حتى غداء بعدوّ الله معتَصِما
إذ راح بالانكليز اليوم ممتنعاً / فضاعف الشرّ فيما جرّ واجترما
فسوف يَحْتَزّ منه عُنقه جَزَعاً / ولا أقول سيُدمى كفّه ندما
وسوف يدركه الجيش الذي تركت / أيّامه الغُرّ وجه العزّ مبتسما
جيش ابن عثمان مولانا الخليفة من / أضحى به شمل هذا الملك منتظِما
هو الرشاد الذي يحمي خلافتنا / ويرشد العُرب والأتراك والعجما
قد أشرق العدل في أيامه فَمَحت / أنواره كل ظلم أنتج الظُلمَا
جيش إذا صال صال النصر يتبعه / كالريح إن شدّ أو كالموج إن هجما
إذا السماء عرَاها نَقع مَلحمةٍ / تراه أرفع من جَوْزائها همما
والأرض إن زلزلت يوماً بمعركة / تراه أثبت من أطوادها قَدَما
يرُدّ كل عزوم عن مواقفه / ولا يُرَدّ له عز إذا اعتزما
سل عنه طوسند إذ سُدّت مسالكه / فظلّ في الكوت يشكو بالطوى ألما
وسل هملتون إذ في الدردنيل غدا / يستعظم الهول حتى بات منهزما
هذا نجا هارباً والبحر أنجده / وذاك أسلم منه السيف منثلما
ففي العراق وثغر الدردنيل جرت / وقائع أكسبتنا العزّ والشمما
وسوف يذكرها التأريخ مُنبهراً / في وصفها يُتعِب القرطاس والقلما
وسوف تَبقى على الأيام خالدةً / حتى تعيش زماناً تهرم الهرما
مناقب كنجوم الليل مُشرقةً / تَهدي إلى المجد في أنوارها الأمما
هي المواطن أدنيها وتُقصيني
هي المواطن أدنيها وتُقصيني / مثل الحوادث أبلوها وتُبليني
قد طال شكواي من دهر أكابده / أما أصادف حرّاً فيه يُشكيني
كأنني في بلادي إذ نزلت بها / نزلت منها ببيت غيرِ مسكون
حتى متى أنا في البلدان مغترب / نوائب الدهر بالأنياب تُدميني
فتارةً في المَوامي فوق مُوَقرةٍ / وتارةً في الطوَامي فوق مشحون
كم أغرقتني الليالي في مصائبها / فعُمت فيهنّ من صبري بدُلفين
أنا ابن دجلة معروفاً بها أدبي / وإن يك الماء منها ليس يُرويني
قد كنت بلبلها الغِرّيد أنشدها / أشجى الأناشيد في أشجى التلاحين
حيث الغُصون أقَلّتني مكلَّلَةً / بالورد ما بين أزهار البساتين
فبينما كنت فيها صادحاً طرباً / أستنشق الطيب من نفح الرياحين
إذ حلّ فيها غراب كان يُوحِشُني / وكان تَنعا به بالبين يؤذيني
حتى غدَوْت طريداً للغراب بها / وما غدوت طريداً للشواهين
فطِرت غير مُبالٍ عند ذاك بما / تركت من نرجس فيها ونسرين
ويل لبغداد مما سوف تذكره / عنّي وعنها الليالي في الدواوين
لقد سَقيت بفيض الدمع أربُعها / على جوانب وادٍ ليس يَسقيني
ما كنت أحسب أني مذ بكَيت بها / قومي بكيت على من سوف يُبكيني
أفي المروءة أن يَعتزّ جاهلها / وإن أكون بها في قبضة الهُون
وأن يعيش بها الطُرطُور ذا شَمَم / وأن أسام بعيشي جدع عِرنيني
تالله ما كان هذا قطّ من شِيمي / ولا الحياة على النكراء من ديني
ولست أبذُل عرضي كي أعيش به / ولو تأدّمت زَقّوماً بغسلين
أغنت خشونة عيشي في ذُرا شرفي / عما أرى بخسيس العيش من لين
عاهدت نفسيَ والأيام شاهدة / أن لا أقِرَّ على جَوْر السلاطين
ولا أصادق كذاباً ولو مَلِكاً / ولا أخالطَ أخوان الشياطين
أما الحياة فشيء لا قرار له / يحيا بها المرء مَوْقوتاً إلى حين
سِيَانِ عندي أجاء الموت مُخْتَرِماً / من قبل عشرين أم من بعد تسعين
ما بالسنين يقاس العمر عندي بل / بما له في المعالي من تحاسين
لو عشت ستين عاماً لاستعضت بها / ستين مكْرُمةً بل دون ستين
فإنما أطول الأعمار أجمعها / للمَكْرُمات من الأبكار والعُون
إن اللئيم دفين قبل ميتتِهِ / وما الكريم وإن أودى بمدفون
وليس مَن عاش في ذُلٍّ بمغتَبَط / ولا الذي مات في عزّ بمغبون
ما كنت أحسَب بغداداً تُحَلّئني / عن ماء دجلتها يوماً وتُظميني
حتى تقلد فيها الأمر زعنفةٌ / من الأُناس بأخلاق السراحين
ما ضرّني غير أني اليوم مِن عرب / لا يغضبون لأمرٍ ليس يُرضيني
تالله ما ضاع حقّي هكذا أبداً / لو كنت من عجم صُهْب العَثانين
علام أمكُث في بغداد مصطبراً / على الضراعة في بُحبوحة الهُون
لأجعلنّ إلى بيروت هُنتَسَبي / لعلّ بيروت بعد اليوم تُؤويني
خابت ببغداد آمال أؤمّلها / فهل تخيب إذا استذرت بصِنّين
فليت سورّية الوَطفاء مُزنتها / عن العراق وعن واديه تُغنيني
قد كان في الشام للأيام مذ زمن / ذنب محَته الليالي في فلسطين
إذ كان فيها النشاشيبي يسعفني / وكنت فيها خليلاً للسكاكيني
وكان فيها ابن جبر لا يُقصر في / جبر انكسار غريب الدار محزون
إن كان في القدس لي صحب غطارفة / فكم ببيروت من غُرٍّ ميامين
لواعج الهمّ في جنبيّ تضطرم
لواعج الهمّ في جنبيّ تضطرم / والهم مِقداره من أهله الهمم
كم قد أذاقتني الأيام من حُرَق / من فوقها أسف من تحتها ألم
أكلما قلت شعراً قال سامعه / نارٌ تَفوه بها للناس أم كَلِم
ما بال شعرك مثلَ النار ملتهباً / يذكو على أنه كالماء منسجم
إنا لنعجب من شعر تؤجّجه / ناراً ولم يحترق في كفّك القلم
لا تعجبوا فالأسى في النفس ملتهب / والعزم مُتقِد والهم محتدم
استبرد النار من حَرّت عزائمه / واستصغر الخَطب من في نفسه عظم
وكيف يُصبح من دنياه في دَعة
وكيف يُصبح من دنياه في دَعة / من بات
أما المعُزّان في دنيا فإنهما / هما على
كلاهما ضامن للناس حُرمتهم / هذا له ال
مَن لم يك العَلم الخفاق شارتهم / فليس يُج
وليس ينفع قوماً لا علوم لهم / أن يُنشر
فالعِلم في أمة ليس بحاكمةٍ / كالسيف
والعِلم أوهن من ان يُستظَلَّ به / إن لم تقم
ما أحسن العَلم الخفاق منتصباً / به تُشير
قد علمتني الليالي في تقلُّبها / أن الموفق
وأن أصدق برق أنت شائمه
وأن أصدق برق أنت شائمه / برق تنسَّم عنه الصارم الخَذِم
واخصب الأرض أرض لا تَسحّ بها / إلا من النَقع في يوم الوغى دِيم
من كان يُكذبني أن الحياة مُنىً / فليس يكذبني إن الحياة دم
وإنه في كلا حالَيُه منبعها / يدور في الجسم أو في الأرض ينسجم
وإنه وهو فوق الأرض منتثِر / كمثله وهو تحت الجوف منتظم
إني أرى المجد في الأيام قاطبة / إلى عبيط دم المحَيا به قَرَم
فالمجد يَنبُت حيث العلم منتشِر / من حيث تعترك الأبطال والبُهم
والمجد أعطى الضُبى ميثاق معترف / أن ليس يضحك إلا حين تبتسم
فَلْيذهب اليأس عنّي خاسئاً أبداً / إني بحبل رجائي اليوم معتصم
وَلست ممَن إذا يسعى لحادثة / يسعى وأرجله بالخوف تصطدم
لا تسأمَنّ إذا حاولت منزلةً / فيها يرِفّ عليك المجد والكرم
فالعيش تستبشع الأذواق مطعمه / إذا تسرّب في أثنائه السأم
وكن صَليباً إذا عضتك حادثةٌ / تَعَضّ منك بعُود ليس ينعجم
إن الحِصال التي تسمو الحياة بها / عزم وحزم وإقدام ومقتحم
لا يكسب النفس ما ترجوه من شرف / إلا الإباء وإلا العز والشمم
لا يُؤسنَّك إن الحرّ محتقَر / عند اللئام وإن الوَغد محتَرَم
فالعقل يتهم الدهر المسيء بذا / وما يعيبك أن الدهر متهم
هذي ملامتكم يا قوم فاستمعوا / منها إلى كَلِم في طيها حِكَم
قد أنشد الشعر تعريضاً بسامعه / فهل وعى ما أردت السامع الفَهِم
منّي إلى مصر ذات المجد والحسب
منّي إلى مصر ذات المجد والحسب / تحية ذات ود غير منقضب
تدلي به دجلة اللسناء عن مِقَةٍ / منها إلى النيل ربّ الشعر والخطب
إذا العروبة حلّت عرش دولتها / فمصر تاج لها قد صيغ من ذهب
كم قام للعرب في أرجائها عَلَم / تهفو ذؤابته بالعلم والأدب
قامت بمعترك الأسياف دولتها / من قبل معترك الأقلام والكتب
من أفق فسطاطها في الشرق قد طلعت / شمس إذا غاب قرص الشمس لم تغِب
بيضاء لن تتوارى بالحجاب كما / قبلاً توارى اِيا الأهرام بالحجب
إني أرى مصر والتأريخ يشهد لي / تحيا بعرق بها من ضئضيء العرب
وليس فرعونها ممن يشط به / بُعد عن العرب العرباء في النسب
يَمتّ للعرب ماضيها وحاضرها / بنسبة غضة في المجد والحسب
ما شاد فيها فؤاد قد أقيِم على / ما شاد عمرو بها في سالف الحقب
كفى الجزيرة فخراً في مكارمها / قبر أناف بها قدراً على الشُهُب
قبر بتربتها قد ضمَ جوهرةً / من معدن الله لا من معدن التُرَب
قامت بصاحبه للعرب نهضتهم / تذكو بعزم لهم كالنار ملتهب
جاشت كتائبهم كالموج صاخبة / ترغو بمثل هزيم الرعد في السحب
تمخضوا من سماع الوحي عن همم / نالوا بها أنجم الجوزاء من كثب
قد وحّدوا الله عن علم فوحّدهم / روحاً فخِيلُوا لأم كلّهم وأب
إذ أصبحوا كبني الأعيان تجمعهم / لله وحدنهم في كل مُطَّلَب
بذلكم نهضوا للمجد نهضتهم / ودوّخوا الأرض بالهندية القضب
في الشرق والغرب كم رايٍ لهم ركزت / في مدة هي بين الوِرْد والقَرَب
حتى لقد ملكوا الأمصار مملكة / كانت بسرعتها من أعجب العجب
العدل شيمتهم والعفو عادتهم / والصبر دَيْدنهم في كل مُحْتَرَب
ما كنت في أيام دولتهم / إلاّ سواسية في الحكم والرتب
من أجل ذاك الرعايا فيهم اندمجوا / مستعربين وما كانوا من العرب
والعرب في يومنا كالَطْيس إن حسبوا / كانوا ثمانين مليوناً لمحتسب
بني العروبة هُبّوا من مراقدكم / إلى متى نحن نشكو صَولة النُوَب
فقد لعمري افترقنا شرّ مفتَرَق / وقد لعمري انقلبنا شرَّ منقَلَب
أما تغارون يا أهل الحِفاظ على / حقّ لكم بيد الأعداء مغتصب
لا تكتفوا بافتخار في أوائلكم / فنشوة الخمر لا تغني عن العنب
بل انهضوا للمعالي مثلَ نهضتهم / واستعصموا باتحاد مُحكم السبب
كانت أوائلكم في وحدة تركت / أعداءهم قِدداً في قبضة الرَهَب
سلوا بذلكم اليرموك واديَه / فإنه بسوى ما قلت لم يُجب
عن خالد بطل الأبطال يخبرنا / إذ فلّ جيش العدى بالقتل والهرب
والقادسية عن سعد مِحدثة / يقتل رستم ربّ العسكر الجِب
إذا علمنا بأن النصر طالعهم / من أفق وحدتهم لم يبق من عجب
ما ضرّ لو نحن وحّدنا ثقافتنا / قبل السياسة بالتعليم والكتب
تلك الجزيرة ترنو نحو وحدتكم / في العلم والحكم والانجاد والطلب
ما أرض مصر ولا أرض العراق لها / إلاّ جناحان من عطف ومن حدب
قد استمّرا قروناً من حَنانهما / على الجزيرة في خَفق ومضطرب
أقول والبرق يسري في مراقدهم / يا ساري البرق أيقظ راقدا العرب