المجموع : 19
لُبنانُ روضُ الهوى والفنِّ لُبنانُ
لُبنانُ روضُ الهوى والفنِّ لُبنانُ / الأرضُ مسكٌ وهمسُ الدوحِ الحانُ
هل الحِسانُ على العهدِ الذي زعمت / وهل رِفاقُ شبابي مثلَما كانوا
أين الصبا أين أوتاري وبهجتُها / طوت بساط لياليهنَّ أزمان
أرنو لها اليومَ والذكرى تُؤرِّقني / كما تنبَّه بعد الْحُلمِ وسنان
هبني رجعتُ إلى الأوتارِ رَّنتَها / فهل لَشرْخِ الصبا واللهوِ رُجْعان
لا الكأس كأسٌ إذا طاف الحباب بها / بعد الشبابِ ولا الريحانُ ريحان
ما للخميلةِ هل طارت بلابلُها / وصَوَّحتْ بعد طول الزَهْوِ أفنانُ
وهَل رياضُ الهوى ولَّت بشاشتُها / وغادرْت ضاحك النُوَّارِ غُدرانُ
كم مدّ غصنٌ بها عيناً مشرَّدةً / إلى قدودِ العذارى وهُو حيرانُ
لقد رأى البانَ لا تسعَى به قدمٌ / فيا لدَهْشتِه لمّا مشى البَانُ
غِيدٌ لها من شذَى لُبنانَ نفحتُه / ومن مجانيه تُفَّاحٌ ورمَّانُ
من نَبْعِه خُلِقَتْ ما بالُها صرفتْ / سِرْبَ الشفاه الحيارَى وهو ظمآنُ
عينان أسكرتا شعري فإن عَثَرَتْ / به السبيلُ فعذراً فهو نشوانُ
وطلعةٌ كخدودِ الزهرِ غازلها / من الأصائِل أطيافٌ وألوانُ
من الملائِك إلاَّ أنها بشرٌ / وأنَّ نظرتَها البَهماءِ شَيْطَانُ
للّه أيامُنا الأولَى التي سلفتْ / وللصبابةِ مَيْدانٌ ومَيدانُ
والحبُّ كالطير رَفَّافٌ على فَنَنٍ / له إلى الإِلْفِ تغريدٌ وتَحنانُ
هيمانُ والماءُ في لُبنانَ عن كَثبِ / لكنّه بسوَى الأمواهِ هيمانُ
بدت له جارةُ الوادي الخصيبِ ضُحاً / كلُّ الأحبةِ في لُبنانَ جيرانُ
فأرسل العينَ في صمتٍ بلاغتُه / بكلِّ ما قال في دنياه سَحْبانُ
وللعيُونِ أحاديثٌ بلا كلِمِ / وكم لها في الهَوى شرحٌ وتبيانُ
والحبُّ سِرٌّ من الفِرْدوسِ نَبْعَتُهُ / وخيرُ ما يحفَظُ الأسرارَ كتمانُ
رنا لها فتمادتْ في تَدلُّلها / العينُ غاضبةٌ والقلبُ جذْلانُ
وغطَّتِ الوجهَ بالمِنْديلِ في خَفَرٍ / كما تَوارَى وراءَ الشكِّ إيمانُ
وأعرضتْ وإباءُ الغِيدِ لُعْبَتُها / فكلّما اشتدّ عُنْفاً فهو إذعانُ
إنَّ العذارَى حماك اللّهُ أحْجِيَةٌ / بها النفورُ رضاًن والحقُّ نُكْرانُ
هَزَزْتُ أوتارَ شعري حول شُرْفَتِها / كما ترنّم بالأسحارِ رُعْيانُ
شعرٌ من اللّه تلحيناً وتهْيئَةً / لا النَّايُ نايٌ ولا العِيدانُ عِيدانُ
إذا شدا أنصتتْ أُذْنُ الوجودِ له / وللوجودِ كما للناس آذانُ
شدا لها فرأى ليلُ الهوى عَجَباً / ولْهى يجاذبُها الأشواقَ ولهانُ
رَيّا حوت فتنةَ الدنيا غلائلُها / يضمُّها شاعرٌ للغِيد صَدْيَانُ
لانتْ لشعري كما لانتْ معاطفُها / والشعرُ سحرٌ له بحرٌ وأوزانُ
فتنتُها حينما همّتْ لتفتِنَني / والشعرُ للخفراتِ البِيضِ فتّانُ
سلاحُها لحظُها الماضي وأسلحتي / فَنٌّ يجرِّدُه للغزوِ فَنّانُ
كان الشبابُ شفيعي في نضارتِه / الزهرُ مؤتلِقٌ والعودُ فَيْنان
ماذا إذا لمحتني اليومَ في كِبرى / ومِلءُ بُرْدَيَّ أسقامٌ وأَشجانُ
طويتُ من صَفَحاتِ الدهرِ أكثرَها / وَعرَّقتني تصاريفٌ وحِدْثانُ
إني كتابٌ إلى الأجيال تقرؤهُ / له التغنِّي بمجدِ العُرْبِ عُنوانُ
مجدٌ على الدهرِ مذ كانت أوائلُه / ودولةٌ لبني الفُصحى وسُلطَانُ
صَوَارِمٌ ريعت الدنيا لوثبتِها / وحطِّمتْ صَوْلَجاناتٌ وتيجانُ
الناسُ عندهُمُ أبناءُ واحدةٍ / فليس في الأرض ساداتٌ وعُبْدانُ
تراكضوا فوقَ خيلٍ من عزائمهم / لهم من الحقِّ أَسْيافٌ وخُرْصانُ
وكلّما هدموا لِلشركِ باذخةً / أُقيم للدينِ والقِسْطاسِ بُنيانُ
في السلم إن حكموا كانوا ملائكةً / وفي لَظى الحرب تحتَ النقْعِ جِنَّانُ
أقلامُهم سايرتْ أَسيافَ صولتهِم / للسيفِ فتحٌ وللأقلامِ عِرفانُ
فأين مِن شرعِهم روما وما تركت / وأين من علمهم فُرْسٌ ويونانُ
كانوا أساتذةَ الآفاقِ كم نهِلتْ / من فيضِهم أممٌ ظَمْأَى وبُلدانُ
كانوا يداً ضمّت الدنيا أصابُعها / ففرّقتْها حَزازاتٌ وأضغان
تنمرّ الغربُ واحمَّرت مخالبُه / وأرهفت نابَها للفتكِ ذُؤبانُ
ثاراتُ طارقٍ الأولى تُؤَرِّقُهم / وما لما تتركُ الثاراتُ نسيانُ
تيقّظ الليثُ ليثُ الشرقِ محتدماً / فارتجَّ منه الشرى واهتزَّ خَفَّانُ
غضبانَ ردَّ إلى اليافوخِ عُفْرَتَه / وَمَنْ يصاولُ ليثاً وهو غضبانُ
لقد حَميْنا أُباةَ الضيمِ حَوْزَتَنا / من أن تُباحَن ودِنَّاهُم كما دانُوا
بني العروبةِ إنَّ اللّه يجمعُنا / فلا يفرِّقُنا في الأرضِ إنسانُ
لنا بها وطنٌ حرٌّ نلوذُ به / إذا تناءتْ مسافاتٌ وأوْطَانُ
غدا الصليبُ هلالاً في توحُّدِنا / وجمّع القومَ إنجيلٌ وقرآنُ
ولم نبالِ فُروقاً شَتَّتْ أُمماً / عدنانُ غسّانُ أو غسّانُ عدنان
أواصرُ الدَّمِ والتاريخِ تَجمعُنا / وكلُّنا في رِحابِ الشرقِ إخوانُ
قلبي وفيضُ دموعي كلّما خطرتْ / ذكرىَ فِلَسْطين خَفَّاقٌ وهتَّانُ
لقد أعاد بها التاريخُ أنْدلُساً / أخرى وطاف بها للشرِّ طوفانُ
ميراثُنا في فتى حِطّينَ أين مضى / وهل نهايتُنا يُتْمٌ وحِرمانُ
ردّوا تراثَ أبينا ما لكم صِلَةٌ / به ولا لكمُ في أمرِنا شانُ
مصيبةٌ برمِ الصبرُ الجميلُ بها / وعزّ فيها على السُلْوانِ سلوَانُ
بني فلسطين كونوا أُمَّةً ويداً / قد يختفي في ظِلالِ الوردِ ثُعبانُ
وكيف يأمَنُ رُعيانٌ وإن جَهِدوا / إذا تردَّى ثيابَ الشَاءِ سِرْحانُ
ومصرُ والنيلُ ماذا اليوْمَ خطبُهما / فقد سَرى بحديثِ النيلِ رُكْبانُ
كنانةُ اللّه حصنُ الشرقِ تحرسُهُ / شِيبٌ خِفافٌ إلى الْجُلَّى وشُبَّانُ
أَبَوْا على القسر أن يرضَوْا معاهدةً / بكل حرفٍ بها قيدٌ وسَجَانُ
وكم مَشَوْا للقاء الموتِ في جَذَلٍ / والموتُ منكمشُ الأظفارِ خَزْيانُ
لكل جسمٍ شرايينٌ يعيشُ بها / ومصرُ للشرقِ والإسلامِ شِرْيانُ
بني العروبة مدّوا للعلوم يداً / فلن تُقامَ بغيرِ العلمِ أركانُ
جمعتُمُ لشبابِ الشرقِ مؤتمراً / بمثله تزدهي الفصحى وتزدانُ
فقرِّبوا نهجَهم فالروحُ واحدةٌ / وكلُّهم في مجالِ السبقِ أقرانُ
لا تبتغوا غيرَ إتقانِ وتجربةٍ / فقيمةُ الناسِ تجريبٌ وإتقانُ
وحبِّبوا لغةَ العُرْبِ الفصاحِ لهم / فإنّ خِذْلانَها للشرقِ خِذْلانُ
قولوا لهم إنّها عُنوانُ وَحْدَتِهمْ / وإنَّهم حولَها جندٌ وأعوانُ
وكمِّلوهم بأخلاقٍ ومَرْحَمةٍ / فإنّما المرءُ أخلاقٌ ووِجْدانُ
جُودِي بما شئتِ من ذوْبِ الأسَى جُودِي
جُودِي بما شئتِ من ذوْبِ الأسَى جُودِي / أوْدَتْ صُروفُ الليالي بابنِ محمودِ
أوْدَتْ بأشجعِ من حَفّ الرّعيلُ به / يومَ النِّضالِ ومَنْ نادَى ومَن نودي
أوْدَتْ بمن تعرفُ الساحاتُ كَرّتَه / إذا تنكَّبَ عنها كلُّ مَزْءود
ويشهدُ الحقُّ أنّ الحقَّ في يدهِ / سيفٌ يروُعُ المنايا غيرُ مغمود
دعته مصرُ وللأحداثِ مَلْحَمةٌ / والخطبُ ما بينَ تَهْدارٍ وتهديد
وأنفسُ الناسِ في ضيقٍ وفي كمدٍ / كأنّها زفرةٌ في صدرِ معمود
حيرَى تلوذُ بآمالٍ محطَّمةٍ / كما يلوذُ غريمٌ بالمواعيد
طارت شَعاعاً وهَوْلاً مثلما عصفت / هُوجُ الرياحِ برملِ البيدِ في البيدِ
والجوُّ أكْلَفُ والدنيا مُقطِّبةٌ / أيّامُها البيضُ من ليلاتها السّود
ومصرُ ليس لها حِصْنٌ ولا وَزَرٌ / إلاّ الغَطاريفَ من أبنائها الصِّيد
لها سلاحٌ من الإيِمانِ تشرَعُه / ينبو له كلُّم صقولٍ ومحدود
فجاءها خالديَّ العزمِ في نفرٍ / شمِّ الأُنوفِ صناديدٍ مناجيد
من كلِّ أرْوعَ عُنوانُ الجهادِ به / قلبٌ ركينٌ ورأيٌ غيرُ مخضود
جاءوا يزاحمُهم عزمٌ وتفديةٌ / كما تصادم جُلْمودٌ بجلمود
كأنّهم حينما شدّوا لغايتهم / سهمُ المقاديرِ في قصدٍ وتسديدِ
صدورُهم بلقاء الهوْلِ شاهدةٌ / والطعنُ في الظهرِ غيرُ الطعنِ في الجِيد
جادوا لمصرَ وفدَّوْها بأنفسهم / والجودُ بالنفسِ أقصَى غايةِ الجود
كم هشمَّ الدهرُ من سنٍّ ليعجُمَهم / ولم تزَلْ في يديْه نَضْرةُ العود
إن الذي خلق الأبطالَ صوَّرهم / من ثَوْرة البحرِ أو بأسِ الصياخيد
يمشي الشجاعُ لحد السيف مبتسماً / ويرهَبُ الغِمدَ ذُعراً كلُّ رِعْديد
كم همّةٍ تفرَع الأجبال سامقةً / وهمةٍ ركدت بين الأخاديدِ
وكم فتىً تسبِقُ الأيامَ وثبتُه / وللبطولةِ أفْقٌ غيرُ محدود
وخاملٍ ما لآثارِ الحياة به / إلاّ ورودُ اسمه بينَ المواليدِ
وميّتٍ بعث الدنيا وعاش بها / ما كلُّ من ضمّه قبرٌ بملحود
سبحانك اللّه إن تحرم فتزكيةٌ / وإن تُثِبْ فعطاءٌ غيرُ محدود
تعطي النفوسَ على مقدارِ جوْهرِها / ما كان لليثِ منها ليس للسيِّد
والمجدُ عَزْمةُ أبطالِ مسدَّدةٌ / بريئةٌ النصلِ من شكٍّ وترديد
وللعلا من صفات الغِيدِ أنّ لها / دَلاً يروِّع تقريباً بتبعيد
جاءوا إليك كموجِ البحرِ عُدَّتُهم / رأيٌ أصيلٌ وصدرٌ غيرُ مفئودِ
فَقُدْتَهم غيرَ هيّابٍ ولاَ فَزعٍ / إلى لواءٍ بحبلِ اللّه معقود
تمشي بهم في فيافي الشوْكِ معتزماً / من يطلب المجدَ لا يبخلْ بمجهودِ
لا يستبيك سوى مصرٍ ونهضتِها / فكل شيءٍ سواها غيرُ موجود
من يقصد النجمَ في عُلْيا سماوتِه / نأى بجانبِه عن كلِّ مقصود
وراءك الركبُ في يأسٍ وفي أملٍ / لما يروْن وتصديقٍ وتفنيد
تحنو على ضعفِ من طال الطريقُ به / حنانَ والدةٍ ثَكْلَى بمولود
وتلمَحُ الأفْقَ هل بالأفْقِ من نبأٍ / وهل من الدهر إنجازٌ لموعودِ
وهل طيوفُ الأماني وهي حائرةٌ / تدنو بطيفٍ من الآمالِ منشود
وهل ترىَ مصرُ صُبحاً بعدَ ليلتها / وهل تقَرُّ عُيونٌ بعدَ تسهيد
وهل لمعتَقلٍ في البحرِ من أملٍ / في أن يَرَى قومَه من بعدِ تشريد
حتى بدت غُرّةُ الدُسْتورِ عن كَثَبِ / كما تبدّى هلالُ العِيدِ في العيد
فأرسلتْ مصرُ بنتُ النيل من دمِها / وَرداً تَزينُ به هامَ الصناديد
وصفَّقت لحُماةِ الغِيلِ تُنشدُهم / من البطولةِ مأثورَ الأناشيد
والناسُ بينَ بشاشاتٍ وتهنئةٍ / وبينَ شكرٍ وتكبيرٍ وتحميد
جاء الزمانُ فلا قوْلٌ بممتنعٍ / على اللسانِ ولا حرٌّ بمصفود
وأشرقَ الصبحُ والدنيا مهلِّلَةٌ / كأنّه بَسماتُ الخُرّدِ الغِيد
من ينصرِ اللّه لا جَوْرٌ يُجيدُ به / عن الطريق ولا جَهْدٌ بمفقود
سيكتُبُ الدهرُ فليكتبْ فليس يَرَى / إلا صحائفَ تشريفٍ وتمجيدِ
نَمَتْ خلائقُه في بيتِ مَكْرُمةٍ / في سُوحِهِ المجدُ فينانُ الأماليد
بيتٌ دعائمهُ نُبْلٌ وتضحيةٌ / إذا بنى الناسُ من صخرٍ ومن شِيد
وسار في سَنَن الآباءَ متّئِداً / أمرٌ مطاعٌن ورأيٌ غيرُ مردود
وهمّةٌ تتأبّى أن يُقال لها / إن جازتِ النجمَ في مسعاتِها عودِي
تجرّدت لصعابِ الدهرِ واثبةً / وَيْلَ المصاعبِ من عزمٍ وتجريد
وفكرةٌ لو تمشّت نحوَ معضلةٍ / صفت مواردُها من كلِّ تعقيد
وعزّةٌ نظرت للكونِ مِن شَرَفٍ / عالٍ يعِزُّ على رَقْيٍ وتصعيد
قالوا هي الكِبْرُ قلتُ الكبر مَحْمَدةٌ / إذا تساميتَ عمّا بالعلا يودِي
ترنو إليه فتُغضِي من مهابتهِ / فالطرفُ ما بينَ موصولٍ ومصدود
خاض السياسةَ نفّاذَ الذكاءِ فما / رأْيٌ بنابٍ ولا عزمٌ بمكدود
فكم له وقفةٌ فيها مجلجِلةٌ / وكم مقامٍ عزيزِ النصر مشهود
وكان خصماً شريفَ الصدرِ مرتفعاً / عن الدنيّاتِ إنْ عادَى وإنْ عودي
فاسألْ مُناصرَه أو سَلْ مخالفَه / فليس فضلُ ابنِ محمودٍ بمجحود
لمَّا رمَى زُخْرُفَ الدنيا وباطلَها / ألقتْ إليه المعالي بالمقاليد
خذِ الرثاءَ نُوحاً ملؤُه شَجَنٌ / لم تبقَ بعدَكَ أدواحٌ لتغريدي
ما في يدي غيرُ أوتارٍ محطَّمةٍ / يبكي لها العُودُ أو تبكي على العودِ
وكلُّ جمعٍ إلى بَيْنٍ وتفرقةٍ / وكلُّ شملٍ إلى نأْيٍ وتبديد
أمست تجاليدُه في جوْفِ مظلمةٍ / كم صَوْلةٍ وإباءٍ في التجاليد
نَمْ ملءَ جفنيْكَ في رُحْمَي ومغفرةٍ / ووارفٍ من ظلالِ اللّه ممدودِ
إنّ البطولةَ والأجسادُ فانيةٌ / تبقَى على الدهر في بعثٍ وتجديد
لم يَخْلُ منكَ مكانٌ قد تركتَ به / ما يملأُ الأرضَ من ذكرٍ وتخليد
يا نَسْمَة رنّحتْ أعطافَ وادينا
يا نَسْمَة رنّحتْ أعطافَ وادينا / قِفي نُحيِّيك أو عوجي فحيِّينا
مرَّتْ مع الصبح نَشْوَى في تكسُّرها / كأنَّما سُقِيتْ من كفِّ ساقينا
أرختْ غدائرَها أخلاطَ نافِجةٍ / وأرسلتْ ذيلَها ورداً ونِسْرينا
كأنّها روضةٌ في الأفقِ سابحةٌ / تمجُّ أنفاسُ مَسْراها الرياحينا
هبَّتْ بنا من جنوبِ النيلِ ضاحكةً / فيها من الشوقِ والآمالِ ما فينا
إنّا على العهدِ لا بعدٌ يحوِّلنا / عن الودادِن ولا الأيامُ تُنْسينا
أثرتِ يا نسمَة السودانِ لاعجةً / وهِجْتِ عُشَّ الهَوى لو كنتِ تدرينا
وسرت كالحلم في أجفان غانية / ونشوة الشوق في نجوى المحبينا
ويحي على خافقٍ في الصدر محتبسٍ / يكاد يطفر شوْقاً حين تسرينا
مرّت به سنواتٌ ما بها أَرَجٌ / من المُنَى فتمنّى لو تمرّينا
نبّهتِ في مصرَ قُمْريَّاً بِمُعشبةٍ / من الرياض كوجهِ البِكْر تلوينا
فراح في دَوْحِهِ والعودُ في يده / يردّد الصوتَ قُدْسيا فيشْجينا
صوتٌ من اللّه تأليفاً وتهيئةً / ومن حفيفِ غصونِ الروْضِ تلحينا
يَطيرُ من فَنَنٍ ناءٍ إلى فَنَنٍ / ويبعَثُ الشدْوَ والنجوَى أفانينا
يا شاديَ الدَوْحِ هل وعدٌ يقربُنا / من الحبيبِ فإنَّ البعدَ يُقْصينا
تشابهت نَزَعاتٌ من طبائعنا / لما التقتْ خَطَراتٌ من أمانينا
فجَاءَ شعريَ أنّاتٍ مُنَغَّمةً / وجاء شعرُك غَمْرَ الدمع محزونا
شعرٌ صَدَحنا به طبعاً وموهِبَةً / وجاشَ بالصدرِ إلهاماً وتلقينا
والنَّفسُ إنْ لم تكنْ بالشعرِ شاعرةً / ظنَّتْه كلَّ كلامٍ جاء موزونا
تعزّ يا طيرُ فالأيامُ مقبلةٌ / ما أضيقَ العيشَ لو عزّ المُعَزّونا
خُذِ الحياةَ بإيمانٍ وفلسفةٍ / فربّ شرٍّ غدا بالخيرِ مقرونا
فَكمْ وزنّا فما أجدتْ موازنةٌ / في صَفْحةِ الغيبِ ما يُعْيي الموازينا
الكون كوَّنه الرحمنُ من قِدَمٍ / فهل تريدُ له يا طيرُ تكوينا
إن المْنَى لا تُواتى من يهيمُ بها / كالغيدِ ما هجَرتْ إلاّ الملحّينا
تبكي وبينَ يديْكَ الزهرُ من عَجَبٍ / والأرضُ تبراً وروْضاتُ الهَوى غِينا
والماءُ يسبَحُ جذْلانَ الغديرِ إلى / منابتِ العُشْبِ يُحييها فيُحيينا
والزهرُ ينظرُ مفتوناً إلى قَبَسٍ / يُطِلُّ بين ثنايا السحْبِ مفتونا
قد حزْتَ مُلْكَ سليمانٍ ودولتَه / لكَ الرياحُ بما تختارُ يجرينا
ما أجملَ الكونَ لو صحّتْ بصائرُنا / وكيف نُبْصِرُ حُسْنَ الشيءِ باكينا
اللّه قد خلق الدنيا ليُسعدنا / ونحن نملؤُها حُزناً وتأبينا
إن جُزْتَ يوماً إلى السودانِ فارْع له / مودّةً كصفاءِ الدرِّ مكنونا
عهدٌ له قد رَعَيْنَاهُ بأعيُنِنا / وعُرْوةٌ قد عقدناها بأيدينا
ظِلُّ العُروبةِ والقرآنِ يجَمعُنا / وسَلْسَلُ النيل يُرويهم ويُروينا
أشعّ في غَلَسِ الأيام حاضرُنا / وضاء في ظُلْمةِ التاريخِ ماضينا
مجدٌ على الدهر فاسألْ مَن تشاءُ به / عَمْراً إذا شئتَ أو إنْ شئتَ آمونا
تركتُ مِصْرَ وفي قلبي وقاطرتي / مراجلٌ بلهيبِ النار يَغْلينا
سِرْنا معا فُبخارُ النار يدفَعُها / إلى اللقاء ونارُ الشوقِ تُزجينا
تَشقُّ جامحةً غُلْبَ الرياضِ بنا / كالبرقِ شقَّ السحاب الحُفَّلَ الجونا
وللخمائِل في ثوب الدجَى حَذَرٌ / كأنّها تتوقَّى عينَ رائينا
كأنهنّ العَذارَى خِفْن عاذلةً / فما تعرّضْنَ إلاَّ حيثُ يمضينا
وللقُرَى بين أضْغاثِ الكَرَى شَبَحٌ / كالسرِّ بين حنايا الليلِ مدفونا
نستبعدُ القُرْبَ من شوقٍ ومن كَلَفِ / ونستحث وإنْ كنَّا مُجدّينا
وكم سألْنا وفي الأفْواهِ جَابتُنا / وفي السؤالِ عَزاءٌ للمشوقينا
وكم وكم ملَّ حادينا لجاجتنا / وما علينا إذا ما ملَّ حادينا
حتَّى إذا ما بدتْ أَسْوانُ عن كَثبٍ / غنّى بحمدِ السُّرَى والليلُ سارينا
وما شجانيَّ إلاّ صوتُ باخرةٍ / تستعجلُ الركبَ إِيذانا وتأذينا
لها ترانيمُ إنْ سارتْ مُهَمْهَمةً / كالشعرِ يُتْبعُ بالتحريكِ تسكينا
يا حسنَها جنَّةً في الماء سابحةً / تلقى النَّعيمَ بها والحورَ والعينا
مرَّتْ تهادَى فأمواجٌ تُعانقها / حيناًن وتلثِمُ من أذيالها حينا
والنَّخلُ قد غَيبتْ في اليمِّ أكثرَها / وأظهرتْ سَعَفاًَ أحْوى وعُرْجونا
ما لابنةِ القَفْرِ والأمواه تسكُنُها / وهل يجاورُ ضَبُّ الحرَّة النونا
سِرْ أيُّها النيلُ في أمْنٍ وفي دَعَةٍ / وزادك اللّه إعزازاً وتمكينا
أنْتَ الكتابُ كتابُ الدهر أسطرُهُ / وَعَتْ حوادثَ هذا الكون تدوينا
فكم مُلوكٍ على الشَطْينِ قد نزلوا / كانوا فراعينَ أو كانوا سلاطينا
فُنونُهم كنّ للأيام مُعْجِزةً / وحُكمهم كان للدنيا قوانينا
مرّوا كأشرطةِ السّيما وما تركوا / إلا حُطاماً من الذكرى يُؤَسِّينا
إنا قرأنا الليالي من عواقِبها / فصار ما يُضحكُ الأغْرارَ يُبكينا
ثم انتقلنا إلى الصحراءِ تُوسِعُنا / بُعْداً ونُوسعُها صبراً وتهوينا
كأنّها أملُ المأفون أطلقهُ / فراح يخترق الأجواءَ مأفونا
والرملُ يزخَرُ في هَوْلٍ وفي سَعَةٍ / كالبحرِ يزخَرُ بالأمواج مشحونا
تُطلُّ من حَوْلها الكُثبانُ ناعسةً / يمدُدْنَ طَرْفاً كليلاً سفينا
وكم سَرابٍ بعيدٍ راح يخدَعُنا / فقلت حتى هُنا نلقى المُرائينا
أرضٌ من النوم والأحلام قد خُلِقتْ / فهل لها نبأٌ عند ابن سيرينا
كأنما بسط الرحمنُ رُقْعتَها / من قبل أن يخلُقَ الأمواهَ والطينا
تسلَّبَتْ من حُلِيِّ النَبْتِ آنفةً / وزُيِّنت بجلالِ اللّه تزيينا
صمْتٌ وسحرٌ وإرهابٌ وبعدُ مدىً / ماذا تكونين قولي ما تكونينا
صحراءُ فيكِ خَبيئاً سرُّ عِزَّتِنا / فأفصحي عن مكانِ السرِّ واهدينا
إنّا بنو العُربِ يا صحراءُ كم نَحتت / من صخركِ الصلْدِ أخلاقاً أوالينا
عزّوا وعزتّ بهم أخلاقُ أمّتهِم / في الأرضِن لمّا أعزّوا الْخُلقَ والدّينا
مِنَصّة الحكم زانوها ملائكة / وجَذْوَة الحرب شبّوها شياطينا
كانوا رُعاةَ جِمالٍ قبلَ نهضتِهم / وبعدها مَلأوا الآفاق تمدينا
إن كَبّرتْ بأقاصي الصين مِئْذَنةٌ / سمعتَ في الغربِ تهليلَ المصلّينَا
قف يا قِطارُ فقد أوهى تصبُّرنا / طولُ السفارِ وقد أكْدَتْ قوافينا
وقد بدتْ صفحةُ الْخُرْطوم مُشْرقةً / كما تجلَّى جلالُ النورِ في سينا
جئنا إليها وفي أكبادنا ظمأٌ / يكاد يقتُلُنا لولا تلاقينا
جئنا إليها فمن دار إلى وطنٍ / ومن منازِل أهلينا لأهلينا
يا ساقيَ الحيِّ جدّد نَشْوَةً سلفتْ / وأنت بالجَنَباتِ الحُمُرِ تسقينا
واصدَحْ بنونيةٍ لما هتفتُ بها / تشرّق السمع شوقي وابنُ زيدونا
وأحْكِم اللحنَ يا ساقي وغنِّ لنا / إنَّا محيّوكِ يا سلمى فحيينا
جَمَعْتُ مِنْ فَرْعِ ذَاتِ الدَّلِّ أوْتَارِي
جَمَعْتُ مِنْ فَرْعِ ذَاتِ الدَّلِّ أوْتَارِي / وصُغْتُ مِنْ بَسَمَاتِ الغيدِ أَشْعَاري
وَعِشْتُ لِلْفَنِّ أَحْيَا في بَدَائِعِهِ / بَيْنَ الظِّلالِ وبَيْنَ السَّلْسَلِ الْجَارِي
أَشْدُوا فَإِنْ شِئْتَ أَن تُصْغِي لِسَاجِعَةٍ / مِنَ الْخُلُودِ فأَنْصِتْ تَحْتَ أَوْكَارِي
كَادَتْ تَزُقُّ يَرَاعي الطَّيْرُ تَحْسَبُهُ / وَقَدْ تَغَنَّى بِشِعْرِي سِنَّ مِنْقَارِ
قَدْ عَلَّمَتْهُ التَّغَنِّي فَوْقَ أَيْكَتِهِ / فَفَاقَها في التَّغَنِّي فَوْقَ أَسْطَار
كَأنَّ دَاوُدَ أَلْقَى عِنْدَ بَرْيَتِهِ / أَثَارَةً مِنْ تَرَانِيمٍ وَأسْرَارِ
أعْدَدتُه قَبَساً يُذْكي تَوَقُّدُهُ / عَزْمَ الشَّبَابِ وَيَهْدِي لَيْلَةَ السَّارِي
وَيَكْشِفُ الأَمَلَ الْمَحْجُوبَ سَاطِعُهُ / وَالْيأْسُ تَغْشَى بأَسْدافٍ وَأسْتَارِ
الشِّعْرُ عَاطِفَةٌ تَقْتَادُ عَاطِفَةً / وَفِكْرَةٌ تَتَجَلَّى بَيْنَ أَفْكارِ
الشِّعْرُ إنْ لاَمَسَ الأَرْوَاحَ أَلْهَبَها / كمَا تَقَابَلَ تَيَّارٌ بِتَيَّارِ
الشِّعْرُ أُنْشُودَةُ الْفَنَّانِ يُرْسِلُهَا / إِلَى الْقُلُوبِ فَتَحْيَا بَعْدَ إِقْفَارِ
الشِّعْرُ هَمْسُ غُصُونِ الدَّوْحِ مَائِسَةً / وَدَمْعةُ الطَّلِّ في أَجْفَانِ أَزْهَارِ
الشِّعْرُ لِلْمُلْكِ جَيْشٌ لاَ يُصَاوِلُهُ / جِلاَدُ مُرْهَفَةٍ أَوْ فَتْكُ بَتَّارِ
يَعْزُو ويُنْصَرُ لاَ أَشْلاَءُ مَعْرَكَةٍ / تُرَى وَلاَ وَثَبَاتٌ حَوْلَ أَسْوَارِ
إِذَا تَخطَّرَ في الأَفْوَاهِ تُنْشِدُهُ / غَضَّ الْجُفُونَ حَيَاءً كُلُّ خَطَّارِ
وَإِنْ أَغَارَ تَنادَى كُلُّ ذِي هَلَعٍ / إِلَى الْفِرَارِ وَأَوْدَى كُلُّ مِغوَار
قَدْ كَانَ حَسَّانُ جَيْشاً في قَصَائِدِهِ / أَشَدَّ مِنْ كُلِّ زَحَّافٍ وَجَرَّارِ
وَكَانَ مُلْكُ بَني مَرْوَانَ في أُطُمٍ / عَالٍ مِنَ الشِّعْرِ يَرْمي الشُّهْبَ بِالنَّارِ
وَهَل زَهَتْ بِبَني الْعَبَّاسِ دَوْلَتُهُمْ / إِلاَّ بِأَمْثَالِ حَمَّادٍ وَبَشَّارِ
فَقُلْ لِمَنْ رَاحَ لِلأهْرَامِ يَرْفَعُهَا / الْخُلْدُ في الشِّعْرِ لاَ في رَصْفِ أَحْجَارِ
كَمْ حِكْمَةٍ فيهِ لاَ تَفْنَى بَشَاشَتُهَا / وَمِنْ حَدِيثٍ عَلَى الأيَّام سَيَّارِ
الشِّعْرُ لِلْمُلْكِ مِرْآةٌ مُخلَّدَةٌ / عَلَى تَعَاقُبِ أَجْيَالٍ وَأَدْهَارِ
صَوَّرْتُ فِيهِ سَنَا الْفَارُوقِ مُؤْتَلِقاً / يَزْدَانُ بِاثْنَيْنِ إِجْلاَلٍ وَإِكْبَارِ
وَصُغْتُهُ فَاتِنَ الأَلْوَانِ مُزْدَهِراً / كَأَنَّمَا نَقَشَتْهُ كَفُّ آذَارِ
مُلْكٌ مِنَ النُّورِ قَدْ ضَاءَتْ دَعَائِمُهُ / كَأَنَّمَا شِيدَ مِنْ هَالاَت أَقْمَارِ
وَدَوْلَةٌ ركزَ الإِسْلاَمُ رَايَتَهُ / فِيهَا عَلَى طَوْدِ تَارِيخٍ وَآثارِ
وَعَاهِلٌ مِنْ صَمِيمِ النِّيل نَبْعَتُهُ / أَمَا تَرَى لِيَدَيْهِ وَكْفَ أمْطَارِ
أَحْيَا النفُّوسَ بِآمَالٍ تُضَاحِكُهَا / فَالْيَأْسُ فِيهَا غرشيبُ الأَهْلِ وَالدَّارِ
كَأَنَّ أيَّامَهُ وَالْبِرُّ يَغْمُرُهَا / صَحَائِفُ الطُّهْرِ في أَيْمَانِ أَبْرَارِ
كَأَنَّمَا عَهْدُهُ وَالْبِشْرُ يَمْلؤُهُ / تَبَسُّمُ الشَّرْقِ عَنْ أَنْفَاسِ أَسْحَارِ
كَأَنَّ ذِكْرَاهُ لَمَّا سَارَ سَائِرُهَا / عَبِيرُ دَانِيَة الظِّلَّيْنِ مِعْطَارِ
كَأَنَّ أمْدَاحَهُ في أُذْنِ سَامِعِهَا / مَسَاقِطُ الشَّهْدِ مِنْ أعْوَادِ مُشْتَارِ
كَأنَّ طَلْعَتَهُ وَالشَّوْقُ يَرْقُبُهَا / وَجْهُ الصَّباحِ يُحَيِّي نِضْوَ أَسْفَارِ
فَارُوقُ يَا زِينَةَ الدُّنْيَا وَبَهْجَتَها / وَأَسْعَدَ النَّاسِ في وِرْدٍ وَإِصْدَارِ
وَابْنَ الْمُلُوكِ الأُلَى فَلَّتْ عَزَائِمُهُمْ / مِنْ حَدِّ كُلِّ صَلِيبِ الْحَدِّ جَبَّارِ
أَقْمَارُ مَمْلَكَةٍ آسَادُ مَلْحَمَةٍ / أَملاَكُ مَرْحَمَةٍ صُنَّاعُ أَقْطَارِ
مِنْ كُلِّ نَدْبٍ بَعِيدِ الرَّأْيِ مُسْتَبِقٍ / إِلى الْجِهَادِ مُغَارِ الْفَتْلِ صَبَّارِ
اَلْمَجْدُ أَبْقَى لَهُمْ ذِكْرَى مُخَلَّدَةً / أَعْمارُهُمْ وُصِلَتْ مِنْها بِأَعْمَارِ
الشَّعْبُ شَعْبُكَ وَالأيَّامُ بَاسِمَةٌ / وَالدَّهْرُ كَالزَّهْرِ في صَفْوٍ وَإِنْضَارِ
أَحَبَّكَ الشّعْبُ فَانْعَمْ في مَحَبَّتِهِ / فأَنْتَ مِلْءُ قُلُوبٍ مِلْءُ أَبْصَار
مُرْ وَانْهَ في الْحَقِّ فَالأَسْمَاعُ مُصْغِيَةٌ / فِدَاؤُكَ النَّفْسُ مِنْ نَاهٍ وَأمَّار
وَارْفَعْ لِوَاءَكَ فَوْقَ الشَّرْقِ تَلْثِمُهُ / أَفْوَاهُ أَوْدِيَةٍ فِيهِ وَأمْصَارِ
ذِكْرَاكَ في الدَّهْرِ آيَاتٌ مُطَهَّرَةٌ / تَحْلُو بِغَنٍ وَتَرْتِيلٍ وَتَكْرَارِ
شدَوْتُ بِاسْمِكَ حَتَّى كِدْتُ مِنْ طَرَبٍ / أَظُنُّنِي ذَا جَناحٍ بَيْنَ أَطْيَارِ
فَإِنْ سَمِعْتَ رَنِيناً كُلُّهُ عَجَبٌ / فَالْعُودُ عُودِي وَالأَوْتَار أَوْتَارِي
جُلُوسُكَ الْيَوْمَ أَثْمَارُ الْمُنَى يَنَعَتْ / يَا حُسْنَهَا مِنْ مُنىً خُضْرٍ وَأَثْمَارِ
عِيدٌ بِهِ الأَرْضُ وَالآفَاقُ مُشْرِقَةٌ / تَمازَجَتْ فِيه أَنْوَارٌ بِأَنْوَارِ
عِيدٌ كَأَنَّ اللَّيَالي قَدْ وَهَبْنَ لَهُ / مَا في الْخَلِيقَةِ مِنْ يُمْنٍ وَإِيسَار
النِّيلُ فِيِه جَرَى يُمْلى بُشَائرَهُ / وَيَنْثَنِي بَيْنَ أَدْواحٍ وَأَشْجَارِ
إذَا الرَّبِيعُ رَمَى فِيهِ أَزَاهِرَهُ / جَزَاهُ بِالتِّبْرِ دِينَاراً بِدِينَارِ
أوِ الْحَمَائِمُ غَنَّتْ فَوْقَ مَائِجَةٍ / حَبَا الْحَمائِمَ تَهْدَاراً بِتَهْدَارِ
يَا كَالِىءَ الدِّينِ وَالدُّسْتُورِ مِنْ جَنَفٍ / وَحَارِسَ النِّيِل مِنْ أَوْضَارِ أَكْدَارِ
وَحَافِزَ الشَّعْبِ يَدْعُوهُ فَيَتْبَعُهُ / إِلَى النُّجُومِ جَرِيئاً غَيْرَ خَوَّارِ
الْعِلْمُ لِلشَّعْبِ رُكْنٌ غَيْرُ مُنْصَدِعٍ / وَالشَّعْبُ بِالْعِلْمِ صَف غَيْرُ مُنْهَارِ
اِخْتَارَكَ اللّهُ لِلإِسْلاَمِ تَنْصُرُهُ / فَكُنْتَ مَوْثِلَهُ يَا خَيْرَ مُخْتَارِ
عِشْ في الْقُلُوبِ فَقَدْ أَعْطَتْ مَقَالِدَهَا / وَفي نَعِيمٍ عَميمِ الْغَيْثِ مِدْرَارِ
مَلكَ المُصَابُ عليهِ كُلَّ جِهاتِه
مَلكَ المُصَابُ عليهِ كُلَّ جِهاتِه / إِنْ كانَ مِن صَبْرٍ لَدَيْكَ فهاتِه
أسْوانُ تَعْرِفُهُ إذا اخْتَلَطَ الدُّجَى / بالنَّبْرَةِ السَّوْدَاءِ في أَنَّاتِه
يَبْكِي ويَنْظُرُ في السَّماء مُصَعِّداً / ما يَبْتَغِي الْحَيْرَانُ مِنْ نَظَرَاتِه
خَفَقَانُ نَجْمِ الأُفْقِ مِن خَفَقَانِه / وَهَجيرُ قَيْظِ البِيدِ مِنْ زَفَراتِه
وبُكاءُ كلِّ غَمَامَةٍ هَتَّانَةٍ / مِنْ بَعْضِ ما يُبْدِيِهِ مِنْ عَبَراتِهِ
ونُوَاحُ ذاتِ الطَّوْقِ في أعْوادِها / ما تُرْسِلُ الأقْلاَمُ مِن نَفَثَاتِهِ
يرْثي فيحتبِسُ البكاءُ بصَوْتِه / أينَ الرَّخِيمُ الْعَذْبُ مِنْ أصْوَاتِه
في صَدْرِه قَلِقُ الْجَوَانِح مُوجَعٌ / مَلَّتْ نُجُومُ الَّليلِ من دَقَّاتِهِ
كَالطَّيْرِ في قَفَصِ الْحَدِيدِ مُوَثَّقاً / قد أَوْهَن الأَسْلاَكَ من خَفَقاتهِ
يَبْكِي ويَضْرِبُ بِالجَنَاحِ مُجرَّحاً / يا وَيْلَ ما فَعلتْ يَمينُ رُمَاتِه
نُوَبٌ كَليْلاتِ المَحاق تَتابعتْ / مُتَشابهاتٍ هذه مِنْ هاتِه
وبناتُ دَهْرٍ قد زَحَمنَ مَنَاكبِي / وَيْلاَهُ لَوْ أَسْطِيعُ وَأدَ بَنَاتِه
أوْدَى أبو الفتحِ الْمُرجَّى واختَفَى / عَلَمٌ طَواه الدهرُ في طَيَّاتِه
وانحازَ للرَّكْبِ الذي من آدمٍ / ما زَال يُزْعجنَا رَنِينُ حُدَاتِه
سارتْ به الأَحْبابُ تَسْتَبِقُ الْخُطَا / والقَلْبُ مَكْظومٌ عَلَى حَسَرَاتِه
فوقفتُ أَنْظُر في الفَلاةِ فلم أجِدْ / إِلاَّ جلالاً في فسِيحِ فَلاتِه
يا جَامِعاً شَملَ الشُّيوخِ بحَزْمِهِ / مَنْ ذَا يَلُمُّ اليومَ مِن أشْتاتِه
يَمْشِي الرَّعيلُ نواكساً أَبصارُهُ / من بعدِ ما عَبِثَ الرَّدَى بِحُماتِه
أَلوَى بِعَزْمَتِهِ وَهَدّ شِماسَه / قَدَرٌ أطاحَ القَرْمَ عَن صَهَواتِه
حَيْرَانُ يعثُرُ بالأعِنَّةِ مثلَما / يتَعثَّرُ التَّمْتَامُ في تاءاتهِ
يَطْفُو نَشِيجُ اليَأْسِ من لَهَواتِه / وَتئِزُّ نَارُ الشَّوْقِ في لَبَّاتِه
سارتْ به الفُرْسانُ تَخْبِطُ في الدُّجَى / والرَّكْبُ قد زاغَتْ عُيونُ هُداتِه
يَبْكُون للطّرْفِ المُخَلَّى سَرْجُه / والفارِسِ المُنْبَتِّ عن غايَاتِه
يَبْكُون للدِّرْعِ المطَرَّحِ حَطَّمَتْ / أيدِي الزَّمانِ العُسْرُ من حَلَقاتِه
يَبكُون أطولَهم يداًن وأبَرَّهم / كفا وَأَسْبَقَهم إِلى قَصَباتِه
خُلُقٌ كما يَصْفُو النُّضارُ وطَلْعَةٌ / أَزْهَى من ابنِ الليلِ في هالاَتِه
مَنْ صارَ في الْخَمْسِينَ فَخرَ بِلادِه / قد كان في العِشْرينَ فَخْرَ لِدَاتِهِ
والدَّهْرُ لا يُنْشِي الرِّجالَ صَوارِماً / إِلاّ إِذا نَضِجُوا على جَمَراتِه
صانَ الكَرامةَ أَن تُمَسَّ وَإِنّما / إِذلالُ نَفْسِ المَرْءِ من زَلاَّتِه
مُنِعَ الرَّقيقُ ولا تزالُ عِصابةٌ / تَهْفُو إِلى أَغْلالِهِ وسِمَاتِه
قد كان كالفَلَكِ الدَّءُوبِ نَشاطُه / لاَ يسْتريحُ الدَّهرَ من دَوْرَاتِه
فإذا تراءَى ساكناً فَلأَنه / في أَسرعِ الأَحْوَالِ من حَركَاتِه
الْحَقُّ والإِيمانُ مِلْءُ فُؤَادِه / وبَلاَغةُ الأَعْرابِ مِلءُ لَهاتِه
فإِذا تَخطَّرَ للجِدَالِ مُصَاوِلاً / فاحْذَرْ فَتى الفِتْيانِ في صَوْلاتِه
السيلُ في دَفَعاتِه والسيفُ في / عَزَماتِه والمَوتُ في وَثَباتِه
ليس القَوِيُّ بنَابِه وبظفْرِهِ / مِثْلَ القَوِيّ برَأيِه وثَبَاتِهِ
والْحُجَّةُ البَيْضاءُ أفْضَلُ مَقطَعاً / من نَصْلِ كُلِّ مُهنَّدٍ وشَبَاتِه
ماذَا أصابَ الليثُ عن غَدَواتِهِ / صُبْحاً وماذَا نَالَ من رَوْحاتِه
سَمَحتْ له الدُّنيا بماء سَرَابِها / فابتاعَه منها بماءِ حَياتِه
إِنَّ الأمانِيَّ الْحِسَانَ جَمِيلةٌ / لو حققَ الإِنْسانُ أمْنِيّاتِه
فلرُبّ رَوْضٍ للنّواظِر مُعْجِبٍ / كمَنتْ سُمومُ الصِّلِّ في زَهَراتِه
قد كان لي أملٌ سَقَيْتُ فُروعَه / بدَمِي وغَذَّيتُ المُنَى بعَذَاتِه
أَحْنُو عليه من الهَجيرِ يَمَسُّه / ومن النَّسِيم يَهُزُّ من أسَلاتِه
وأَذُودُ عنْهُ الطيْر إِن حامتْ على / زَهْرٍ يُضِيءُ الأفقَ في عَذَباته
الليلُ يَنْفحُه بذَائبِ طَلِّه / والصُّبحُ يَمْنَحُه شُعَاعَ إِيَاتِه
حتى إِذا قَوِيتْ لِدَانُ غُصونِه / واستَحْصَد المَرْجُوُّ من ثمَراتِه
وأَخَذْتُ أَسْتَجْلي السَّنَا من نَوْرِه / وأشَمُّ رِيحَ الْخُلْدِ من نَفَحاتِه
وأُفاخِرُ الزُّرَّاعَ أنَّ غِرَاسَهم / لم يَزْكُ مِثلَ زَكائهِ ونَباتِه
عَصَفتْ به هُوجٌ فخرّ مُعَفَّراً / وجَنَى عَلَيْه الْحَيْنُ قَبْل جَناتِه
وَوَقَفْتُ أَنظُرُ للحُطَامِ مُحَطَّماً / مُتَفَتِتَ الأفْلاذِ مثلَ فُتاتِه
أَهْوِنْ بدُنْيا مَا لحي عِنْدها / وَعْدٌ يُنجَّزُ غَيْرَ وَعْدِ وَفاتِه
سَلْ كُلَّ مَنْ كَتَب الكَتائب غَازِياً / هل رَدَّ الْجَيْشُ سَهْم مماتِهِ
إنَّ ابنَ داودٍ علَى سُلْطانِه / قد خَرَّ مُنْفَرِداً على مِنْساتِهِ
وهو الذي مَلَك المُلوكَ ببَأسهِ / وأخاف جِنَّ الأرضِ من سَطَواتِهِ
كلُّ ابنِ أنثى في الْحَياةِ إِلى مدىً / والمرءُ في الدُّنيا إِلى مِيقاتِهِ
أأخِي دعوتُ فلم تُجِبْ ولرُبّما / قد كنتَ أسبقَ ناهضٍ لدُعاتِهِ
قد كان عَهْدُك في بَشاشةِ أُنْسِهِ / عَهْدَ الشَّبابِ مَضَى إِلى طِيّاتِهِ
كان الزمانُ يُظِلُّنا برَبِيعِه / فتركتني للقُرِّ من مَشْتَاتِهِ
أَبكِي الشَّبابَ وزَهْوَهُ وصِحابَه / والمُشْرِقَ الوَضّاحَ من بَسَماتِهِ
كنَّا كفَرْعَيْ بانةٍ فَتفَرّقا / والدَّهْرُ لا يَبْقَى على حَالاَتِه
والعُمْرُ أَضْيَقُ أن يُمَدَّ لسالِكٍ / إِن أوْسَع الْخُطُواتِ في سَاحاتِه
أَصْفَيْتني مَحْضَ الوِدادِ وطَالما / خَلَط المُماذِقُ مِلْحَه بفُرَاتِه
ورَفَعْتَ من شِعْري وكنتَ تُحِبُّه / وتُحِسُّ سِرَّ الفَنِّ في أبْياتِه
فاسمَعْه من باكٍ أَطَاع شُجونَه / فَطَغتْ زَواخِرُها عَلَى مَرْثاتِه
نَظَم الدُّمُوعَ فكُنّ بَحْراً كامِلاً / وأقام بالزَّفَراتِ تَفْعيلاتِه
أَنْشِدْه حَسّاناً إِذا لاقَيْتَهُ / في جَنةِ الفِرْدَوْسِ بين رُواتِه
وافخرْ بقَوْمِكَ أَنْ أعادُوا لِلْورَى / عهدَ البَيانِ ومُجْتلى آياتِهِ
وانعَمْ برضْوانِ الإِله وظِلِّه / واسعَدْ بعَيْشِ الْخُلْدِ في جَنَّاتِهِ
إِن الذي خَلَقَ البُكاءَ أغاثَه / باللُّطفِ والإِحْسانِ من رَحَماتِه
قالوا علِيٌّ غدا نَقيباً
قالوا علِيٌّ غدا نَقيباً / قلتُ مَتَى لم يكنْ نقيبَا
المسكُ مسْكٌ فإن تُبالغْ / في وَصْفهِ لم تَزِدْه طِيبا
لو اشتكَى الدهرُ من سَقامٍ / لم يتَّخِذْ غيرَه طَبيبا
يا دارَ فاتِنَتي حُيِّيتِ مِنْ دَارِ
يا دارَ فاتِنَتي حُيِّيتِ مِنْ دَارِ / سَيَّرْتُ فيكِ وفي مَنْ فِيكِ أَشْعَاري
رَحلتُ عَنْها وللأشْجانِ ما ترَكَتْ / في العَيْنِ والقلبِ من ماءٍ ومِنْ نار
كانتْ مَجَالَ صَباباتٍ لَهَوْتُ بها / ومُسْتَراضَ لبُاناتٍ وأوْطارِ
أسائِلُ الطَيْرَ عَنها لو تُنَبِّئني / أو تنْقُلُ الطَيرُ عنها بَعْضَ أخْبارِ
يَنْسَى بهَا كلُّ نائِي الدَارِ مَوْطِنَهُ / وما تَجشَّمَ مِنْ بَيْنٍ وأَسْفَار
يَلْقى بها أينما أَلقَى عَصَاه بِها / أَهلاً بأَهْلٍ وأَصْهاراً بأصْهار
وفِتْيةً كرِماحِ الخطِّ إِنْ خَطَرُوا / فَدَيْتَ بالنّفسِ منهم كلَّ خَطَّار
بِيضَ الوُجُوهِ مَساميحَ الأكُفِّ مَنا / جِيدَ الصَّريخِ سَرَاةً غيرَ أَغْرار
لا يَنزِل الضَّيفُ صُبْحاً عُقرَ دارِهمُ / إِلاّ ويُمْسِي عِشاءً صاحِبَ الدار
قد آمنُوا بإِلَهِ الحُبِّ وارْتَقَبُوا / آياتِهِ بَيْنَ إجْلالٍ وإِكْبار
وصوَّرُوهُ فَتىً أعْمَى إِذا رَشَقَتْ / يَدَاهُ بالنَّبْل أصْمَى كُلَّ جَبَّار
عُرْيانَ إِنْ مَسَّهُ بَرْدُ الشتاءِ فما / له سِوَى زَفَراتِ الوَجْدِ منْ نار
يَغْشَى الفَتاةَ ولَمْ تَرْقُبْ زِيارَتهُ / وخِدْرُها بَيْنَ أَغْلاقٍ وأَسْتار
فَطَرْفُها خاشِعٌ من بَعْدِ زَوْرَتِهِ / وقَلْبُها نَهْبُ أَوْهامٍ وأَفْكارِ
تَشْكُو إِلَى أُمّها ضَيْفاً ألمَّ بِها / والأُمُّ إِنْ تَسْتطِعْ باحَتْ بأَسْرارِ
ويصْرَعُ الفارِسَ المِغْوارَ إِن لَعِبَتْ / كَفّاهُ بالسَّيْفِ أرْدَى كلَّ مِغْوَار
فلا تراهُ سِوَى شاكٍ لسَاجِعَةٍ / أو نادِبٍ إِثرَ أَطْلالٍ وآثار
ويَطْرُقُ الشَّيْخَ في المِحْرابِ قَدْ فَنِيَتْ / عِظَامُهُ وَبَرَتْهُ خَشْيَةُ البَاري
فلم تكُنْ لَمْحَةٌ إِلاّ ليَفْتِلَهُ / من الصَّلاةِ ومن تَرْتيلِ أذْكار
يبرُزْنَ في اللَّيْل مِثْلَ الشُّهْبِ ساطِعةً / ما بَيْنَ سيَّارَةٍ تَجْرِي لِسَيّار
مِنْ كلِّ خَمْصَانَةِ الكَشْحَيْنِ ناصِعَةٍ / كأَنّها دُرَّةٌ في جَوْفِ زخّار
تَسْعَى إِلى أغْيَدٍ ما طَرَّ شَارِبُهُ / كأنَّما صَفْحَتاهُ وجْهُ دِينارِ
أرضٌ كَأَنَّ إِلَهَ الأرْضِ أَوْدَعَها / بَدائِعُ الْحُسْنِ مِنْ عُونٍ وأَبْكار
أَلقَوْا خُدُودَ العَذَارَى في حَدَائِقِها / ولَقَّبُوها بأَثْمَارٍ وأَزْهار
وجرَّدُوا كُلَّ حُسْنٍ من قَلائِده / فَصِرْنَ حَصْباءَ في سَلْسَالها الجَاري
لَوْ كانَ في عُنْصُرِي صَلْصالُ طِينَتِها / ما راعَني الدّهْرُ في يومٍ بأكْدَار
أوْ كُنْتُ أظْفرُ في الأخْرَى بِجَنَّتِها / غَسَلْتُ بالدمْعِ آثامي وأوْزاري
للّه يومٌ جَرَى باليُمْن طائرُه
للّه يومٌ جَرَى باليُمْن طائرُه / ورُدِّدت في فَمِ الدّنْيا بَشَائرُه
يومٌ تَحلّى بِحُسْن الوَعْدِ أوّلُه / كما تَلأْلأَ بالإنْجازِ آخِرُه
ترقَّبَتْ مصرُ فيه الصُّبْحَ مبتسما / يلُوحُ بالْخَير والإسعادِ سَافرُه
يومٌ أعادَ إلى الأيّام نَضْرَتَها / كما أعادَ جَمالَ الرَوْض ماطُره
يوم تجلَّى به الفاروقُ مُؤْتَلِقاً / كالبَدْر يجتذب الأبصارَ باهرُه
بدَا فكبَّرَتِ الدّنيا لِموْلِدِه / واستبشرَ الدِّينُ واهتَّزتْ مَنَابرُه
سُلالةُ الشَّرَفِ العالي وصفْوتُه / ونُخْبَةُ الْجَوْهَر الصَّافي ونَادِرُه
زينُ الشَّبابِ لهُم من هَدْيه قَبَسٌ / ما ضلَّ فيه طريقَ المَجْد عابِرُه
أقامَ في كلِّ قلْبٍ فَهْوَ حَلُّتُهُ / وحَلَّ في كُلّ طَرْفٍ فَهْوَ نَاظرُه
رقَّتْ شَمَائلهُ عزَّتْ أَوَائلُه / لاحَتْ مَخَايلُه طابَتْ عَناصرُه
فَارُوقُ يابْنَ الأُلَى شادُوا بِهمَّتِهم / مُلْكاً عَلَى الدّهْرِ لا تَبلَى مَفَاخِرُه
آثارُهم تبهَرُ الأيْامَ جِدَّتُها / والنيلُ يَشْهَدُ ماضِيه وحاضِرُه
راضوا الْجَمُوحَ فأعطاهُمْ مَقَادتَه / وذلَّلوا الصَّعْبَ حتى لاَنَ نافرُه
يا ابْن الْمَلِيكِ الّذِي عَمّتْ فَوَاضِلُه / وكللَتْ هَامَةَ الدُّنيا مآثرُه
أحْيا لَنا المجْدَ حتَّى عادَ دَارِسُه / وأشْرَقَتْ في رُبا الوَادِي أزاهرُه
جَرَت على ألْسُنِ الأيّام مِدْحَتُه / حتى توَّهمْتُ أنَّ الدّهْرَ شاعِرُه
المُلْكُ في ظلِّه طَابتْ مَشارِعُه / والدِّينُ في عَهْدِه قَامَتْ شَعَائِرُه
فانظر تجدْ أملاً في كلِّ ناحيةٍ / العزمُ يمليه والْحُسنَى تُؤازرُه
فاروقُ أنت لآمال الشباب حمىً / وباعثُ المثل الأعلى وناشرُه
لما دُعيتَ أميراً للصعيد زهت / به القبائلُ وازدانت حواضرُه
وعاده مجدُه الخالي يشافِهُه / وجاء تاريخُه الماضي يُسامرُه
لا زلت قرَّةَ عين الملك تحرسُه / عينُ المهيمنِ والدنيا تُظاهرُه
ودام ملكُ فؤادٍ في علاً وسناً / وعاش للنيل مولاه وناصرُه
إن جرد الموتُ نصلاً ما صَمدت له
إن جرد الموتُ نصلاً ما صَمدت له / فطالما ردَّ نصلٌ منك أرواحا
قد كنت تهزِمُه في كل مُعْتَركٍ / يزاحم الشمسَ أسيافاً وأرماحا
وكان جَرْحُك يأسو كلَّ ما جرحَتْ / يدُ الزمان ويحيى كلَّ ما اجتاحا
اليومَ يَثْأَرُ والأيامُ عُدّتُه / لا الطبُّ يُجدي ولا الجرَّاح جراحا
لو حزتَ كلَّ حياةٍ صنت مهجتَها / خَلَدت كالشمسِ إشراقاً وإصباحا
ما أقصر العمر في الدنيا لنابغةٍ / إذا تطلّعت الدنيا له راحا
سبعون أولها لهوٌ وآخرُها / لو يعرِفُ المرءُ لاقى الموتَ مرتاحا
لقد شربنا بكأس الراح أوَّلها / حلواً فماذا أصاب الكأسَ والراحا
ليت الشبابَ الذي أقداحُه عَجَبٌ / أبقَى لفوتِ الصبا والشيبِ أقداحا
قد كنتَ تُصغي لشعري إن صدحتُ به / فاليومَ تسمع إن أصغيْت أنواحا
أقَضَّ موتُك من مصرٍ مضاجعَها / وأسكت الخطبُ أطياراً وأدواحا
خَلُّوا السجُوفَ تُذِعْ مَجْلَى مُحَيَّاها
خَلُّوا السجُوفَ تُذِعْ مَجْلَى مُحَيَّاها / وتَنْشُرُ المسكَ من أنفاسِ رَيَاها
عقيلةٌ في جلال المُلْكِ ناعمةٌ / النبلُ يحرُسُها واللَهُ يَرْعاها
ودُرَّةٌ لم تَرَ الأصدافُ مُشْبههَا / بينَ الكُنوز الغَوالي من خباياها
وزهرة ما رأى النيل الوفي لها / بين الأزاهر في واديه أشباها
ترنو إليها نجومُ الأفْقِ مُعْجَبَةً / تَوَدُّ لو قَبَسَتْ من نورِ مرْآها
كأنَّما قَطَراتُ المزْنِ صافيةً / فوقَ الخمائلِ طُهْرٌ في سجاياها
أميرةَ النيلِ والأيامُ مُسْعِدة / بلغتِ من ذِرْوةِ العلياءِ أقصاهَا
إنْ يسطَعِ الصبح قلنا الصبح أشبههَا / أو يسطع المسكُ قُلنا المسكُ حاكاها
مجدٌ تمنَّتْ سماءُ الأفْقِ لو ظَفِرتْ / بلمحةٍ من ثُرَيَاه ثُريَاهَا
ونفسُ طاهرةِ الجدَّينِ يَسَّرَها / ربُّ البَريَّةِ للحُسنَى وزَكَاها
اليُسْرُ يختالُ تيهاً حَوْلَ يُسْراها / واليُمْنُ يجري يميناً حَوْلَ يُمناها
نَمَتْ بظلِّ فؤادٍ خيرِ مَنْ وَجَدَتْ / بظِله زُمرُ الآمالِ مَثْواها
أحيتْ له مصرُ ذِكْراً خُطَّ من ذَهَبٍ / على جَبينِ الليالي حينَ أَحْياها
وكان عُنْوانَها الغالي الذي اتجَهَتْ / إليه باسطةَ الأيدِي فأعلاها
أميرةَ النيلِ غَنَّى الشعْرُ من طَرَبٍ / في ليلةٍ غَنَتِ الدنيا بِبُشْراها
طافتْ كُئوسُ التهاني وهي مُتْرَعةٌ / من المُنَى فانتشينا من حُمَيَاها
تجمَعَ الأنسُ حتى لم يَدَعْ أملاً / للنفسِ تَبْعَثُ شوقاً خَلْفَه واها
في ليلةٍ من سوادِ العينِ قد خُلِقَتْ / جَلَّ الذي من سوادِ العينِ جَلاَّها
يخالها الفجر فجراً حين يَطْرُقُها / فيختفي من حَياءٍ في ثناياها
كأَنَها بَسَماتُ الغِيدِ قد ملأَتْ / بالحبِّ والبِشْرِ أحداقاً وأفواها
كانت يداً من أيادي الدهر أرسلها / بيضاءَ مُشْرِقةَ النُعْمَى وأسْداها
هنا زِفافٌ وفي الأفلاكِ هاتفةٌ / من الملائِك تدعو ربَّها اللَه
لها أناشيدُ في الأسماعِ ساحرةٌ / لو كنَّ من لُغَةِ الدنيا رَوَيْناهَا
لكنها نَفحاتُ اللَهِ خَصَّ بها / من البرِيَّة أنْقاها وأصْفاها
فوزيةٌ دُرَةُ التاجِ التي لمعتْ / فوقَ الجبينِ فحيَّتْه وحيَاها
شعُوب مصْرَ تُفدِّيها ولو نطقتْ / للنيلِ ألسنةٌ فُصْحٌ لفدَاها
أميرةَ النيلِ غَنَّى الشعرُ من طَرَبٍ / لولا قِرانُك ما غَنَى ولا فاها
إنَي وألحانَ شعري صُنْعُ بيتِكُمُ / فكم من الفضلِ أولاني وأولاها
لولا مدائحُكم ما كان لي قَلَمٌ / يوماً على الأيْكِ وابنِ الأيك تيَّاها
تأَلَقي بَسْمةً زَهْراءَ مُشْرِقَةً / بأرضِ إيرانَ أنتِ اليومَ دُنياها
كوني بها قُرَةً للعينِ غاليةً / فأنتِ أكرمُ من لاقتْه عَيناها
ومثِّلي مصرَ والشَأوَ الذي بلغَتْ / فأنتِ أصْدَقُ بُرهانٍ لدَعْواها
لقد قطفنا لكِ الأزهارَ باسمةً / وفي عقودٍ من الفصْحَى نظمناها
وقد جمعنا من الألحانِ أُغْنِيةً / لو يفهمُ الطيرُ معناها لغنَّاها
ولم نَدعْ من رموزِ السحْر سانحةً / طافت بمعنى العُلا إلاَ لمحناها
قد ذكَرَتْنا لياليكِ التي سَطَعَتْ / أفراحَ قَطْرِ النَّدَى والعزَّ والجاها
عُرْسُ الأمانِّي أحيا كلَّ ذي أملٍ / وطافَ بالغُلَّةِ الظَمْأَى فروَّاهَا
وليلةٌ ظَفِرَ الشَّعْبُ الوَفيُّ بها / وكم على الدهرِ مَشْغُوفاً تمنَّاها
في كلِّ بيتٍ أغاريدٌ مُرَدَّدَةٌ / سَرَت فجاوز نجْمُ الليل مَسْراها
وكلُّ روضٍ يُرَجِّي لو سعتْ قَدَمٌ / به ليُهْدِي من الأزهارِ أذْكَاها
وكم تمنَى الربيعُ النَضْرُ لو سَعِدَتْ / بحلَّةِ العُرْسِ كَفَاهُ فَوَشَاها
البِشْرُ يضحكُ والدنيا مُصَفِّقةٌ / يهتَزُّ من نَشْوة الأفراحِ عِطْفاها
يا ابن الأماجدِ من إيرانَ نلتَ يَداً / أصفى من الكوكب الدُرِّيِّ أمْواها
بَنيْتمُ الملكَ فوقَ الشمسِ من هِمَمٍ / شمَاءَ مَنْ خَلَقَ الأطوادَ أرْساها
لم يَتَّخذْ من مَنارٍ يستضيءُ به / لدَى الشدائِد إلاَّ العَزْمَ والشاها
جلالة كم تَغَنَى البُحتُريُّ بها / وكم تَرَنَّمَ مِهْيارٌ بِذكْراها
ودولةٌ للعُلا والسبقِ حاضِرُها / وللخلودِ وللإبداعِ أولاها
لنا صِلاتٌ قديماتٌ مُحَبَّبةٌ / لخدمةِ الدينِ والفُصْحَى عقدناها
ثقافةُ الفُرْسِ قد كانت ثقافَتنا / في كلِّ ناحيةٍ عنهم أخذناها
تأَلَقَتْ في بني العباسِ آونةً / ما كانَ في أعْصُرِ التاريخِ أزْهاها
فاروقُ كم لكَ عندَ النيلِ من مِنَنٍ / كصفحةِ الشمسِ بيضٍ ليس ينساها
وصلْتَ مِصْرَ بإيرانٍ كما اتصلتْ / فرائدُ العِقْد أغلاها بأغلاها
مصرُ المَجيدةُ تُزْهَى في حِمَى ملكٍ / لولاه لم تُشْرِق الدنيا ولولاها
سعَى إلى المجد نهَاضاً فأنهضها / للَهِ والحقِّ مَسْعاه ومسعاها
في كلِّ نفسٍ له ذِكْرَى مُخلَدةٌ / وصورةٌ من جلالٍ في حناياها
شمائلُ السلَفِ الأطهار شِيمتُهُ / لمَا تجلَّت بفاروقٍ عَرَفناها
سَجيَّةٌ من فؤادٍ فيه قد رَسَخَتْ / إذا دعتْ للعُلا والمجد لبَاها
في ساحةِ الجيش حَيَّتْه فوارسُه / وفي المساجدِ حَيَّاه مصلاَها
له أياد على الأيامِ سابغةٌ / في كلِّ جيدٍ من الأيام نُعْماها
يا أُسْرَةَ المُلْكِ صاغ الشعْرُ تهنئةً / من حبَّةِ القلب معناها ومبناها
أهدَى الوفاءَ جميلاً حِين أرسلها / وأرسل الوُدَ محْضاً حين أهداها
لا زال مُلْكُكُمُ جَمَاً بشائرُه / ونال من بَسَماتِ الدَهرِ أسْناها
وعاش للنيلِ ربُّ النيلِ سَيِّدُه / وللرعيَّةِ والآمالِ مولاها
كفَاكَ حَسْبُكَ هذا أغْمِدِ القَلما
كفَاكَ حَسْبُكَ هذا أغْمِدِ القَلما / أصبحتَ في الكاتبين المُفردَ العَلَمَا
ملأتَ للشرْبِ كاساتٍ مُشَعْشَعَةً / ماذا عليكَ إذا سَمَيتها كَلِما
أهديتها من عصيرِ الفكرِ صافيةً / فما أثِمْتَ ولا شرَابُها أثِما
تفُلُّ من موطِن الأسرارِ سَوْرته / وتوقظٌ الدينَ والآدابَ والكَرما
نراك فينا غلاماً في غضارتِه / وفي كتابك شيخاً ينثُرُ الْحِكما
بدا الخيالُ به في زِيَ ذي شَبَحٍ / فكاد يلمِسُهُ قرَاؤه وهَما
مالت له أُذُني من بعد جَفْوتِها / وكم حديثٍ تمنَّتْ عنده الصَمَمَا
أبدعتَ فيه فآلَى كلُّ ذي قلمٍ / من المجيدينَ أَلاَ يحمِلَ القَلما
وسُقتَ فيه حكيمَ الرأيِ منتَخَلاً / وصُغْتَ فيه كَريمَ اللَفْظِ ملتئِما
ورُعْتَ كلَّ فتاةِ في قِلادتِها / بِدُرِّ لفظِكَ منثُوراً ومُنتظِما
كأنَما لفظُه ألحانُ ساجعةٍ / بدائعُ الكونِ فيها صُوِّرتْ نَغَما
أو روضُ حَزْنٍ أعار المِسْكَ نفحتَه / إذا بكَى الغَيثُ في أنحائِه ابتسما
أقسمتُ أنَكَ في الكُتَاب سيَدهُم / لا يرهَبُ الحِنْثَ من لَمْ يُخْطىء القسَما
تألَّقَ النصْرُ فاهتزّتْ عَوَالينا
تألَّقَ النصْرُ فاهتزّتْ عَوَالينا / واستَقْبَلتْ مَوْكِبَ البُشْرَى قَوافِينَا
غَنّى لَنا السَّيْفُ في الأعناقِ أغْنيةً / عَزَّتْ على الأيكِ إيقاعاً وتلْحِينَا
هَزَّتْهُ كَفٌّ من الفُولاذِ قَبْضتُهَا / في الهَوْلِ ما عَرَفَتْ رِفْقاً ولا لِينَا
من صَخْرِ خُوفُو لها دُونَ الْوَرى عَضَلٌ / جرى به دَمُ عَدْنانٍ شَرايينا
نفسي فِدَى الفارِسِ المصرِيّ إن خطَرَتْ / به المواكِبُ أو خَاضَ الميادينَا
تلقَاهُ في السِلْمِ ماءً رفَّ سلسَلُهُ / وفي الحُروبِ إذا ما ثَارَ أَتُّونَا
يرى الدِّماءَ عقيقاً سَالَ جَامِدُهُ / ويحسَبُ النقْعَ فيها مِسْكَ دارِينا
ما بَيْنِ عمرو ومينا زانَهُ نَسَبٌ / فمن كآبائِهِ عُرْباً فَراعِينَا
سَلْ مِصْرَ عنهم سَلِ التاريخَ إنَّ بهِ / سِرّاً من المجدِ لا يَنْفَكُّ مكْنُونَا
سُيُوفُهم كُنَّ للطغيَانِ ماحِقَةً / وعدْلُهُمْ كانَ للدنيا مَوازِينَا
وجيْشُهُمْ هزَّتِ الدُّنيا كتائِبُهُ / وحكمهُمْ مَلأَ الآفاقَ تمدِينَا
إنَّا بَني الأُسْدِ أمضَى مِخْلباً ويداً / لَدَى الصِّراعِ وأحْمَى الناسِ عِرْنينَا
إذا دَعَا الحقُّ لبَّتْهُ جحافِلُنا / وإن سَطَا الجَوْرُ ردَّتهُ مَواضِينا
عِشْنَا أعِزَّاءَ مِلءَ الأرضِ ما لمسَتْ / جِبَاهُنَا تُرْبَهَا إلاَّ مُصِلّينَا
لا ينْزِلُ النصرُ إلاَّ فوْقَ رايتنا / ولا تمسُّ الظُّبَا إلاّ نَواصِينَا
ألَيْسَ من أُحْجِياتِ الدَّهْرِ قُبَّرةٌ / رَعْنَاءُ تَزْحَمُ في الوَكْرِ الشَواهينَا
وتائِهٌ مالَهُ دَارٌ ولاَ وطنٌ / يسْطُو على دارِنا قَسْراً ويُقْصِينَا
فيا جبالُ اقذفي الأحجارَ من حُمَمٍ / ويا سَمَاءُ امْطِري مُهْلاً وغِسْلينَا
ويا كواكبُ آنَ الرَّجْمُ فانطلقي / ما أنتِ إنْ أنتِ لم تَرْمِ الشياطينا
ويا بحارُ اجْعَلي الماءَ الأُجَاجَ دَماً / إذا عَلَتْ رَايةٌ يَوْماً لصهيونَا
العَهْدُ عِنْدهُمُ خُلْفٌ ومجحدَةٌ / فما رأيناهُمُ إلاّ مُرَائينَا
ما ذَلِكَ السمُّ في الآبارِ ويْلكُمُ / وَمَنْ نُحارِبُ جُنْداً أم ثَعابينَا
مَرْحَى بدولتهِمْ ماتت لمولدِها / فكانَ ميلادُها حُزْناً وتأبينَا
جاءوا مُهَنِّينَ أرْسالاً على عَجلٍ / فحينمَا نطَقُوا كانُوا مُعزِّينا
وآضَ تَصفِيقُهُمْ نَوْحاً ومندَبةً / وأصبحَ البِشْرُ تقطيباً وتَغْصِينَا
رِوايةٌ ما أقامُوا سَبْكَ حَبْكَتِها / ولا أجَادُوا لها لَفْظاً وتلقِينَا
قد حيَّرتْنَا أمأساةٌ أَمهزلَةٌ / فالسُّخْفُ يُضْحِكُنا والجهلُ يُبكينَا
أهْلاً بِها دوْلةً ضاقَ الفضاءُ بها / فَتْحاً وغَزْواً وإِعْزازاً وتمكينَا
لها قوانينُ من عَدْلٍ ومَرْحَمَةٍ / قد نَفَّذُوا بعْضَها في دَيْرِ يا سينَا
أسْطُولُها يملأُ البحر المحيطَ دَماً / وجيشُهَا يملأُ الآطَامَ تَحصينَا
نفسي فِدَاءُ فلسطينٍ وما لَقِيتْ / وهل يناجي الهوى إلاّ فِلسْطينا
نفسي فِدَاءٌ لأُولَى القبلتين غدتْ / نَهْباً يُزاحِمُ فيه الذئبُ تِنِّينَا
قلبُ العروبَةِ إن تَطعنْهُ زِعنِفَةٌ / كُنَّا لها ولأشقاهَا طَواعينَا
وقلعَةُ الشرقِ إن مُسَّتْ جوانِبُها / خُضْنَا لها جُثثَ القتْلَى مَجَانينَا
وأسْطُرٌ من تَواريخٍ مُخَلَّدةٍ / كانت لمجدِ بَني الفُصْحَى عَنَاوينَا
فقبِّلُوا تُرْبَ حطِّينٍ فإنَّ بهِ / دَمَ البُطُولةِ مِنْ أيام حطينَا
أرْضٌ بذَلْنَا بهَا الأرواحَ غاليةً / داعين للّهِ فيها أو مُلَبّينَا
ومسجِدٌ نزلَ المختارُ ساحتَه / نمُوتُ فيه ونحْيَا مُسْتميتينَا
أنرتَضِي أنْ نَرى مِيراثَنا بَدَداً / وتكتفي بدموعٍ في مآقِينَا
ما قيمةُ النَّفسِ إن هانَتْ لطائفةٍ / اللّه صَوَّرَ فيها الذُّلَّ والهُونَا
وما نقولُ لأبطالٍ لنا سَلَفوا / إذا تَهدَّم ما كانُوا يَشيدونَا
وما نقولُ لعمرٍو حينَ يسأَلُنا / إن لم نُجِبْ قبلَهُ بالسيفِ غازِينَا
أتلكَ أندَلُسٌ أُخْرى فقد نبشَتْ / من حقدِ ساداتِهمْ ما كان مدفُونَا
سُحْقاً لسكِّينِ فرديناند كم ذَبحتْ / واليومَ تشحَذُ أمريكا السكاكينَا
قد شرَّدُوا العُرْبَ واستاقُوا حرائِرَهُمْ / فأينَ فِتيانُنا أيْنَ المحامُونا
من كُلِّ عَادٍ له في الشرِّ فلسفةٌ / أسرارُها عند مُوشَى وابن غُرْيونا
لا يَعْرِفُ الرُّزْءَ في أهلٍ ولا ولدٍ / ولا يرى غيرَ جمعِ المالِ قانونَا
الألفُ تصبِحُ في كفَّيهِ بين رِباً / وبينَ ما لستُ أدريهِ ملايينَا
إن كان يحميهمُ المالُ الذي جمعُوا / فإنَّ خالقَ هذا المال يَحمينَا
قالوا أسُودٌ فقُلنَا في الجحورِ نَعَمْ / فإن خرجتُمْ يَعُدْ كُوهينُ كُوهينَا
بني العُرُوبة هذا اليومُ يومُكُمُ / سيرُوا إلى الموتِ إنّ الموتَ يُحيينَا
وخلفُوا للعُلا والمجدِ خالدةً / تبقى حديثَ اللَّيالي في ذَرَارينا
لقد صَدِئْنا ودُون الغِمدِ منفسَحٌ / فجرِّدُوا حَدَّ مَاضينا لآتينَا
وقَرِّبُوهُمْ قرابيناً مُحَوَّرةً / للسيفِ إن يَرْضَ هاتيكَ القرابينَا
ماذا إذا مَا فَقدنا إرْثَ أُمَّتِنَا / وما الذي بعدَهُ يبقى بأيْدِينَا
ذُودُوا كما يدفَعُ الضِّرغَامُ في غضبٍ / عن العرينِ أُبَاةً شَمريينَا
لا ترهَبُوا القومَ في مالٍ وفي عددٍ / إن الفقاقيعَ تطْفُو ثم يَمْضينَا
إن لم تَصونُوا فَلِسْطِيناً وجبهتها / ضاعت عُرُوبتُنا وانفضَّ نَادينَا
فإنَّ للشرقِ أعْدَاءً ذوِي إحَنٍ / اللّهُ يكفيهِ نجواهُمْ ويكفينَا
لهُمْ سِهامٌ خفياتٌ مسممةٌ / من السياسة تَرْميهِ وتَرْمينَا
كم نمقوا صُوَراً شتَّى وكَمْ خلَقُوا / للغدْرِ والفتكِ أشكالاً أفَانينَا
يا جَيْش مِصْرَ ولا آلوكَ تهنئةً / حققْتَ ظَنَّ الليالي والمُنَى فينَا
وصَلْتَ آخِرَ عُلْيانا بأوَّلِهَا / فما أواخِرُنَا إلاَّ أوالينَا
أعَدْتَها وثبةً بدريَّةً صرعَتْ / دُهَاةَ جيشِ يهوذا والدَّهاقينَا
شجاعَةٌ مزَّقتْ أحلامَ ساستِهمْ / وعلَّمتْ مُترفيهِم كيفَ يصْحُونَا
تسيرُ من ظَفَرٍ حُلْوٍ إلى ظفرٍ / مُبَارَكَ الفتحِ والرّاياتِ ميمُونَا
فيكَ الملائِكُ أجْنَأدٌ مُسوَّمَةٌ / أعْلامُها تتهادَى حَوْلَ جِبْرينَا
وفيكَ من مُهجَاتِ النيلِ ناشئَةٌ / فيها مَطامِحُنا فيها أَمَانينَا
يمشون للموتِ في شوقٍ وفي جَذَلٍ / لأنَّهُمْ في ظِلال اللّهِ يمشُونَا
إن شَكَّ في عَزمةِ المضرِيّ مُخْتَبَلٌ / فبيْن فِتْيانِنا يلْقى البَراهينَا
لا يستطيعُ خَيالٌ وصْفَ جُرْأتِهمْ / ويعجزُ الشعرُ تصويراً وتَلْوينَا
هُمُ رياحينُ مصرٍ نَضْرَةً وشذاً / لا أذْبَلَ اللّهُ هاتيكَ الرياحينَا
صانَ الإلَهُ لجيشِ الشرقِ عزَّتَهُ / وصَانَ أبطالَهُ الغُرَّ الميامينا
مَاذَا طَحَا بِكَ يَا صَنَّاجَةَ الأدَبِ
مَاذَا طَحَا بِكَ يَا صَنَّاجَةَ الأدَبِ / هَلاَّ شَدَوْتَ بِأَمْدَاحِ ابْنَةِ العَرَبِ
أطَارَ نَوْمَكَ أَحْدَاثٌ وَجَمْتَ لَهَا / فَبِتَّ تَنْفُخُ بَيْنَ الهَمِّ والْوَصَبِ
وَالْيَعْرُبِيَّةُ أَنْدى مَا بَعَثْتَ بِهِ / شَجْواً مِنَ الْحُزنِ أَوْ شَدْواً منَ الطَّرَب
رُوحٌ مِنَ اللّهِ أَحْيَتْ كُلَّ نَازِعَةٍ / مِنَ البَيَانِ وَآتَتْ كُلَّ مُطَّلَبِ
أَزْهَى مِنَ الأَمَلِ البَسَّامِ مَوْقِعُهَا / وَجَرْسُ أَلْفَاظِهَا أَحْلَى مِنَ الضَّرَبِ
وَسْنَى بِأخْبِيَةِ الصَّحْرَاءِ يُوقِظهَا / وَحْيٌ مِنَ الشَّمْسِ أَوْ همْسٌ مِنَ الشهبِ
تُحْدَى بِهَا اليَعْمَلاَتُ الكُومُ إِنْ لَغِبَتْ / فَلاَ تُحِسُّ بِإِنْضَاءٍ وَلاَ لَغَبِ
تَهْتَزُّ فَوْقَ بِحَارِ الآلِ رَاقِصَةً / وَالنَّصْبُ لِلنيبِ يَجْلُو كُرْبَةَ النَّصَبِ
لَمْ تَعْرِف السَّوْطَ إِلاَّ صَوْتَ مُرْتَجِزٍ / كَأنَّ في فيهِ مِزْماراً مِنَ القَصَبِ
تُصْغِي إِلَى صَوْتِهِ الأَطْيَارُ صَامِتَةً / إِذَا تَردَّدَ بَيْنَ القُورِ وَالهِضَبِ
كَأنَّهُ وَظَلاَمُ اللَّيْل يَكْنٌفُهُ / غُثَاءَةٌ قُذِفَتْ في مَائِجٍ لَجِبِ
قَدْ خَالَطَ الوَحْشَ حَتَّى مَا يُرَوّعُهَا / إِذَا تَعَرَّضَ لَمْ تَنْفِرْ وَلَمْ تَثِبِ
يَرْنُو بِعَيْنٍ عَلَى الظَّلْمَاءِ صَادِقَةٍ / كَأَعْيُنِ النَّسْرِ أَنّى صُوّبَتْ تُصِبِ
هُوَ الْحَيَاةُ بِقَفْرٍ لا حَياةَ بِهش / كالمَاءِ في الصّخْرِ أَوْ كالمَاءِ في الْحَطَبِ
يَبِيتُ مِنْ نَفْسِهِ في مَنْزِلٍ خَضِلٍ / وَمِنْ شَبَا بِيضِهِ في مَعْقلٍ أَشِبِ
يَهْتَزُّ للجُودِ والمَشْتَاةُ بَاخِلَةٌ / وَالقُرُّ يَعْقِدُ رَأْسَ الكلْبِ بالذّنَبِ
تهْفُو إِلَيْهِ بَنَاتُ الْحَيّ مُعْجَبَةً / وَالْحُبُّ يَنْبُتُ بَيْنَ العُجْبِ وَالعَجَبِ
إِذَا تَنَقَّبْنَ إِذْ يَلْقَيْنهُ خَفَراً / فَشَوقُهُنَّ إِليْهِ غَيْرُ مُنْتقِبِ
تَرَاهُ كُلُّ فَتَاةٍ حِينَ تَفْقِدُهُ / في البَدْرِ والسَّيْفِ والضِّرغَامِ وَالسُّحُبِ
زَيْنُ الفِنَاءِ إِذَا مَا حَلَّ حَبْوَتَهُ / لِلْقَوْلِ لَبَّاهُ مِنْهُ كُلُّ مُنْتَخَبِ
أَوْ هَزَّ شَيْطَانُهُ أَوتَارَ مَنْطِقِهِ / فَاخْشَ الأَتِيَّ وَحَاذِرْ صَوْلَةَ العُبُبِ
مَامَسَّ بِالكَفِّ أَوْرَاقاً وَلاَ قَلَماً / وَرَأْيُهُ زِنَةُ الأَوْرَاقِ وَالكُتُبِ
يَطِيرُ لِلحَرْبِ خِفّاً غَيْرَ مُدَّرِعٍ / في شِدَّةِ البَأْسِ مَا يُغْنِي عَنِ اليَلَب
إذَا دَعَاهُ صَرِيخٌ كَانَ دَعْوَتَهُ / وَإنْ دَعَتْهُ دَوَاعِي الذُّعْرِ لَمْ يُجِبِ
لاَ تَرْهَبُ الْجَارَةُ الْحَسْنَاءُ نَظْرتَهُ / كَأَنَّ أَجْفَانَهُ شُدَّتْ إِلَى طَنُبِ
جَزِيرَةٌ أَجْدَبَتْ فِ كُلِّ نَاحِيَةٍ / وَأَخْصَبَتْ في نَوَاحِي الخُلْقِ والأَدَبِ
جَدْبٌ بِهِ تَنْبُتُ الأَحْلاَمُ زَاكِيَةً / إِنَّ الحِجَارَةَ قَدْ تَنْشَقُّ عَنْ ذَهَبِ
تَوَدُّ كُلُّ ريَاضِ الأَرْضِ لَوْ مُنِحَتْ / أَزْهَارُهَا قُبْلَةً مِنْ خَدِّهَا التَّرِبِ
وَتَرْتَجِي الغِيدُ لَوْ كَانَتْ لآلِئُهَا / نَظْماً مِنَ الشِّعْرِ أَوْ نَثْراً مِنَ الْخُطَبِ
يَا جِيرَةَ الْحَرَمِ المَزْهُوِّ سَاكِنُهُ / سقَى العُهُودَ الْخَوالِي كُلُّ مُنْسَكِبِ
لِي بيْنَكُمْ صِلَةٌ عَزَّتْ أوَاصِرُهَا / لأَنَّهَا صِلَةُ القُرآنِ وَالنَّسَبِ
أرى بعَيْنِ خَيالي جاهِليَّتكُمْ / ولِلتَّخيُّلِ عَيْنُ القَائِفِ الدَّربِ
وَأَشْهَدُ الْحَشْدَ لِلشُّورَى قَدِ اجْتَمعُوا / وَلَسْتُ أَسْمَعُ مِنْ لَغْوٍ وَلاَ صَخَبِ
مِنْ كُلِّ مُكْتَهِلٍ بالبُرْدِ مُشْتَمِلٍ / لِلقَوْلِ مُرْتَجِلٍ لِلهُجْرِ مُجْتَنِبِ
وَأَلْمَحُ النَّارَ في الظَّلْمَاءِ قَدْ نُصِبَتْ / لِطَارِقِ اللَّيْلِ وَالْحَيْرَانِ والسَّغبِ
نَارٌ وَلَكِنَّها قَدْ صُوِّرَتْ أَمَلاً / بَرْداً إِذَا خَابَتِ الآمَالُ لَمْ يَخِبِ
رَمْزُ الْحَيَاةِ وَرَمْزُ الْجُودِ مَا فَتِئَتْ / فَوْقَ الثَّنِيَّاتِ تَرْمِي الجَوَّ باللَّهَبِ
يَشُبُّهَا أرْيحي كُلَّمَا هَدَأَتْ / أَلْقَى عَلَى جَمْرِهَا جَزْلاً مِنَ الحَطَبِ
وَأُبْصِرُ القَوْمَ يَوْمَ الرَّوْعِ قَدْ حُشِدُوا / لِلْمَوتِ يَجْتَاحُ أَوْ لِلنَّصْرِ وَالغَلَبِ
يَرْمُونَ بِالشَّرِّ شَراً حِينَ يفْجَؤُهُمْ / وَرَايُهُمْ فَوْقَهُمْ خَفَّاقَةُ العَذَبِ
وَأَحْضُرُ الشُّعَرَاءَ اللُّسْنَ قدْ وَقَفُوا / وَلِلْبَيانِ فِعَالُ الصَّارِمِ الذَّرِبِ
أَبُو بَصيرٍ لَهُ نَبْرٌ لَوْ اتُّخِذَتْ / مِنْهُ السِّهَامُ لَكَانَتْ أَسْهُمَ النُّوَبِ
إِذَا رَمَاهَا كمَا يَخْتَارُ قَافِيَةً / دَارتْ مَعَ الفَلَكِ الدَّوَّارِ في قُطُبِ
وَأُغْمِضُ العَيْنَ حِيناً ثُمَّ أَفْتَحُهَا / عَلَى جَلاَلٍ بِنُورِ الْحَقِّ مُؤتَشِبِ
نُورٌ مِنَ اللّهِ هَالَ القَوْمَ سَاطِعُهُ / وَلَيْسَ يُحْجَبُ نُورُ اللّهِ بِالْحُجُبِ
تَكَلَّمَتْ سُوَرُ القُرْآنِ مُفْصِحَةً / فَأَسْكَتَتْ صَخَبَ الأَرْمَاحِ والقُضُبِ
وَقَامَ خَيْرُ قُرَيْشٍ وَابْنُ سَادَتِهَا / يَدْعُو إِلَى اللّهِ في عَزْمٍ وفي دَأبِ
بِمَنْطِقٍ هَاشمِيِّ الوَشْي لَوْ نُسِجَتْ / مِنْهُ الأَصَائِلُ لَمْ تَنْصُلْ وَلَمْ تغِبِ
طَابَتْ بِهِ أَنْفُسُ الأيَّامِ وَابْتَهَجتْ / ومَرَّ دَهْرٌ وَدَهْرٌ وَهي لَمْ تَطِبِ
وَهُزَّتِ الرَّاسِيَاتُ الشمُّ وَارْتَعَدَتْ / لِهَوْلِهِ البَاتِرَاتُ البِيضُ في القُرُبِ
وَأَصْبَحَتْ بِنْتُ عَدْنَانٍ بِنَفْحَتِهِ / تِيهاً تُجَرِّرُ مِن أَذْيالِهَا القُشُبِ
فَازَتْ برُكْنٍ شَديدٍ غَيْرِ مُنْصَدِعٍ / مِن البَيَانِ وَحَبْلٍ غَيْرِ مُضْطَرِبِ
وَلَمْ تَزَلْ مِنْ حِمى الإِسْلاَمِ في كَنَفٍ / سَهْلٍ وَمْن عِزِّه في مَنْزِلٍ خَصِب
حَتَّى رَمَتْهَا اللَّيَالي في فَرَائدها / وَخَرَّ سُلْطَانُهَا يَنْهَارُ مِنْ صَبَبِ
وَعَاثَت الْعُجْمَةُ الْحَمْقَاءُ ثَائِرَةً / عَلَى ابْنَةِ البِيدِ في جَيْشٍ مِنَ الرَّهَبِ
يَقُودُهُ كُلُّ وَلاَّغٍ أَخِي إِحَنٍ / مُضَمَّخٍ بِدِمَاءِ العُرْبِ مُخْتَضِبِ
لَمْ يُبْقِ فِيهَا بِنَاءً غَيْرَ مُنْتقِضٍ / مِنَ الفَصِيحِ وَشَمْلاً غَيْرَ مُنْقضَبِ
كَأَنَّ عَدْنَانَ لَمْ تَملأْ بَدَائِعُهُ / مَسامِعَ الكَوْنِ مِنْ نَاءٍ وَمُقْتَرِبِ
مَضَتْ بِخَيْرِ كُنوزِ الأَرْضِ جَائِحةٌ / وَغَابَت اللُّغَةُ الفُصْحَى مَعَ الغَيَبِ
لَوْلا فُؤَادٌ أَبُو الفَارُوقِ مَا وجَدَتْ / إِلَى الْحَيَاةِ ابنَةُ الأَعْرَابِ مِنْ سَبَبِ
أعَزَّ مِنْهَا حِمىً رِيعَتْ كَرَائِمُهُ / وَكَانَ مَمْنُوعُهُ نَهْباً لمُنْتهِبِ
وَرَدَّ بِالمَجْمَعِ المَعْمُورِ غُرْيَتَهَا / وَحَاطَها بِكَرِيمِ العَطْفِ والْحَدَبِ
يَا عُصْبَةَ الَخَيْرِ لِلْفُصْحَى وَشِيعَتِها / حَيَّاكِ صَوْبُ الْحَيَا يَا خِيرَةَ العُصَبِ
هَلمَّ فَالْوَقْتُ أَنْفَاسٌ لَهَا أَمَدٌ / وَلاَ أقُولُ بأنَّ الوَقْتَ مِنْ ذَهَبِ
فَإِنَّمَا المَرْءُ فِ الدُّنْيَا إِقَامَتُهُ / إِقَامَةُ الطَّيْفِ وَالأَزْهَارِ وَالْحَبَبِ
الدَّهْرُ يُسرِعُ وَالأَيَّامُ مُعْجِلَةٌ / وَنَحْنُ لَمْ نَدْرِ غَيْرَ الوَخْدِ والْخَببِ
وَالمُحْدَثَاتُ تَسُدُّ الشَّمْسَ كَثْرَتُهَا / وَلَمْ تَفُزْ بِخَيَالِ اسْمٍ وَلاَ لَقَبِ
وَالتَّرْجَمَاتُ تَشُنُّ الْحَرْبَ لاَقِحَةً / عَلَى الفَصِيح فَيَا لِلْوَيْلِ وَالْحَرَبِ
نَطيرُ لِلَّفْظِ نَسْتَجْدِيه مِنْ بَلَدٍ / نَاءٍ وَأَمثْالُهُ مِنَّا عَلَى كَثَبِ
كَمُهْرِقِ المَاء في الصَّحْراءِ حِينَ بَدَا / لِعَيْنِهِ بَارِقٌ مِنْ عَارِضٍ كَذِبِ
أَزْرَى بِبِنْتِ قُرَيْشٍ ثمَّ حَارَبَها / مَنْ لاَ يُفرِّقُ بَيْنَ النَّبْعِ وَالغَرَبِ
وَرَاحَ فِي حَمْلَةٍ رَعْنَاءَ طَائِشَةٍ / يَصُولُ بالْخَائِبَيْن الْجَهْلِ وَالشَّغَبِ
أنْتْرُكُ العَرَبيَّ السَّمْحَ مَنْطِقُهُ / إلَى دَخِيلٍ مِنَ الألْفَاظِ مُغْتَرِبِ
وَفِي المَعَاجِمِ كَنْزٌ لاَ نَفَادَ لَهُ / لِمَنْ يُمَيِّزُ بَيْنَ الدُّرِّ وَالسُّخُبِ
كَمْ لَفْظَةٍ جُهِدَتْ مِمَّا نُكرِّرُهَا / حَتَّى لَقَدْ لَهَثتْ مِنْ شِدَّةِ التَّعَبِ
وَلَفْظَةٍ سُجِنَتْ في جَوْفِ مُظْلِمَةٍ / لَمْ تَنْظُر الشَّمْسُ مِنْهَا عَيْنَ مُرْتَقِبِ
كَأنَّمَا قَدْ تَوَلَّى القَارِظَانِ بِهَا / فَلَمْ يَؤُوبَا إِلَى الدَّنْيَا وَلَمْ تَؤُبِ
يَا شِيخَةَ الضَّادِ وَالذِّكْرَى مُخَلِّدَةٌ / هُنَا يُؤَسَّسُ مَا تَبْنُونَ لِلْعَقِبِ
هُنَا تَخُطُّونَ مَجْداً مَا جَرَى قَلَمٌ / بِمِثْلِهِ في مَدَى الأَدْهَارِ وَالْحِقَبِ
لَبَّيْكَ يَا مَلِكَ الوَادِي وَمُنْشِئَهُ / يَا حَارِسَ الدِّين وَالآدَابِ وَالْحسَبِ
هَذَا غِرَاسُكَ قَدْ مَاسَتْ بَوَاسِقُهُ / تُدَاعِبُ الرِّيحَ في زَهْوٍ وَفي لَعِبِ
المُلْك فِي بَيْتِكمْ كَسْباً وَمَوْهِبَةً / يُزْهَى عَلَى كلِّ مَوْهُوبٍ وَمُكْتَسَبِ
سَفِينَةٌ أَنْتَ مُجْرِيهَا وَكَالِئُهَا / مِنَ الزَّعَازِعِ لاَ تَخْشَى أَذَى العَطَبِ
وَأُمَّةٌ أنْتَ مَجْرِيهَا وَحَافِزُهَا / في حَلْبَةِ السَّبْقِ لاَ تُبْقي عَلَى القَصَبِ
وَدِيعَةُ اللّهِ صِينَتْ في يَدَيْ مَلِكٍ / للّهِ مُرْتَقِب للّهِ مُحْتَسِبِ
بَصِيرَةٌ كَضِيَاءِ الصُّبْحِ لَوْ لَطَمَتْ / غَيَاهِبَ اللَّيْلِ لم يُظْلِمْ وَلَمْ يُهَبِ
وَعَزْمَةٌ كَحَديدِ النَّصْلِ لَوْ طَلَبَتْ / زُهْرَ الكَواكِبِ نَالَتْ غَايَةَ الطَّلَبِ
قَدْ صَمَّمَتْ فَمَضَتْ عَجْلَى لِمقْصِدَهَا / تَحثُو التُّرابَ بِوَجْهِ الشَّكِّ وَالرِّيَبِ
فَانْظُرْ تَرى مِصْرَ هَلْ تَلْقَى لَهَا مَثَلاً / في صَوْلَةِ المُلْكِ أَوْفى قُوَّةِ الأُهَبِ
فَثَرْوَةٌ مِنْ سَريِّ العِلْمِ وَاسِعَةٌ / وَثَرْوَةٌ مِنْ سريِّ الْجَاهِ وَالنَّشَبِ
بَنَى فُؤَادُ بِنَاءَ الْخَالدِيِنَ مِصْرَ واحْتَجَبَتْ / فَإِنَّ بِرَّ يَدَيْهِ غَيْرُ مُحْتَجِبِ
مَنْ مُبْلِغُ العُرْبِ أَنَّ الضَّادَ قَدْ بَلَغتْ / بِقُرْبِ صَاحِبِ مِصْرٍ أَرْفَعَ الرُّتَبِ
أَعَادَ مَجْداً لَهَا مَالَتْ دَعَائِمُهُ / فَيَا لهَا قُرْبَةً مَنْ أَعْظَمِ القُرَبِ
وَحَفَّهَا بِسِيَاجٍ مِنْ عِنَايَتِهِ / كَمَا تُحَفُّ جُفُونُ العَيْنِ بالهُدُبِ
إِنْ عَقَّهَا أَهْلُ وَادِيها وَجيرَتُها / فَأَنْتَ أَحْنَى عَلَيْهَا مِنْ أَخٍ وَأَبِ
رَأَتْ بِرَبْعِكَ عِزَّ المُلْكِ فَانْصَرَفَتْ / عَنْ ذِكر لُبْنَى وَذِكْرَى رَبْعِهَا الْخرِبِ
لاَذَتْ بِأَكْبَرِ مِعْوَانٍ لِذِي أمَلٍ / نَاءٍ وَأَشْرَفِ عُنْوَانٍ لِمُنْتَسِبِ
عِشْ لِلْكِنَانةِ تَبْلُغْ أَوْجَ عِزَّتِهَا / وَلْلعُلاَ وَالنَّدَى وَالعِلمِ والأدَبِ
وَعاشَ فَارُوق نَجْماً في تأَلُّقِهِ / سَعْدُ السُّعودِ وَفِيه مُنْتَهَى الأَرَبِ
أهبْتُ بالشعر أن يعودا
أهبْتُ بالشعر أن يعودا / إلى الصبا ناعماً رغيدَا
يذكرُ ما مرّ من عهودٍ / للّه ما أنضرَ العهودا
في كل يومٍ أرى فَنَاءً / وهو يرى حولَه خلودا
طار حثيثاً بكل أُفْقٍ / لمّا مشت خُطْوتي وئيدا
وصَوّحتْ دوحتي ومالت / ولم يزل صادحاً غريدا
يأخذُ ما أبقت الليالي / ويبتغي فوقه مزيدا
تجاربِي الباكياتُ عادت / تجري بأوتاره نشيدَا
في حكمةِ الشيبِ لي عَزاءٌ / وكم وعيدٍ حَوى وعودا
كادت أياديه وهي بيضٌ / تُنسي حُلِيَّ الشبابِ سودا
علوتُ طودَ الزمان حتَّى / رأيتُ من فوقه الوجودا
وبان ما لم يَبِنْ لغيري / وكان عن عينِه بعيدا
كان شبابي رفيقَ عمري / فعشتُ من بعده وحيدا
غاب فلمّا مضى وولَّى / جعلتُ شعري له بريدا
أبعثُ بالشوق كلَّ يومٍ / ويبعثُ الهجر والصدودا
وكم محوت السطورَ لثماً / أحْسَبُها للصبا خدودَا
يصور الحبَّ في إطارٍ / فأبصِرُ الغِيدَ فيه غيدا
ويرسُمُ الماضيَ المولِّي / كعهده باسماً سعيدا
ألمحُ شخصي به كأنّي / ألمحُ شخصاً به جديدا
أين ورودي وأين كأسي / ماذا دَهى الكأس والورودا
لم يَبق منِّي سوى لسانٍ / يُجيد ما شاء أن يجيدا
وفكرةٍ صُوِّرت نُضاراً / وحكمةٍ نُظِّمت عقودا
فيا شبابَ البلاد صونوا / شَرْخَ الصبا قبل أن يبيدا
يعود في الكون كلُّ شيءٍ / وذاهب العمر لن يعودَا
إن اشتكى النيلُ مسَّ ضيمٍ / فحرِّموا حولَه الورودا
تجارةُ الرّق قد تولّت / فما لنا نلمَحُ القيودا
قد ذهب العمرُ في جدالٍ / كنَّا لنيرانه وقودا
لا يدركُ السؤْلَ غير عزمٍ / مثابرٍ يقرَع الحديدا
فأيقظوا مصرَ من جديدٍ / فإنها ملَّتِ الرقودا
لا ترسُموا للطموح حدّاً / فالمجدُ لا يعرف الحدودا
العلمُ أمضَى من المواضي / فجرِّدوا نحوه الجهودا
مصرُ تريدُ السماء وثباً / وأولُ النُّجْحِ أن تريدا
الْمَجْدُ فَوْقَ مُتُونِ الضُّمَّرِ الْقُودِ
الْمَجْدُ فَوْقَ مُتُونِ الضُّمَّرِ الْقُودِ / تَطْوِي الْفَلاَ بَيْنَ إِيجَافٍ وتَوْخِيدِ
إِذَا رَمَتْ عُرْضَ صَهْيُودٍ مناسِمُها / رَمَتْ إِلَيْهَا اللَّيَالي كُلَّ مَقْصُودِ
أَوْ مَزَّقَتْ طَيْلَسَانَ اللَّيْلِ مِنْ خَبَبٍ / كَسَتْ خَيَالَ الأمَاني ثَوْبَ مَوْجُودِ
تُدْني مِنَ الْمَجْدِ إِنْ شَطَّ الْمَزَارُ بِهَا / فَحَبَّذَا هُوَ تَقْرِيبٌ بِتَبْعِيدِ
الْمَجْدُ بالسيْفِ إِنْ عَزَّتْ وَسَائِلُهُ / لاَ يُغْمِدُ الْحَقَّ سَيْفٌ غَيْرُ مَغْمُودِ
فَكَمْ شَقَقْتُ فُؤَادَ الْبِيد مُنْصَلِتاً / مَنْ يَطْلُب المَجْدَ لاَ يَبْخَلْ بِمَجْهُودِ
تَرْمِي التنُوفَةُ بِي أُخْرَى بِجانِبِهَا / وَأَقْطَعُ الْبِيدَ بَعْدَ الْجَهْدِ لِلْبيدِ
كَأَنَّني الْكَأْسُ بَيْنَ الشرْبِ مُتْرَعَةً / يُدِيرُهَا الْقَوْمُ مِنْ بِنْتِ الْعَنَاقِيدِ
في كُلِّ يَهْمَاءَ لم يَعْبُرْ مَناكِبَها / طَيْفٌ مِنَ الجنِّ إلاَّ خَافَ أَنْ يُودِي
لا يُرْسِلُ الطرْفُ في مَيْدانِها قَدَماً / إِلاَّ بِزَجْرٍ وَإِيعادٍ وتَهْدِيدِ
إِذا بَدَا الْفَجْرُ ظَنَّتْهُ ضَرَاغِمُهَا / سَيْفاً فَكَرَّتْ إِلَيْه كَرَّ صِنْدِيدِ
وَأَقْبَلتْ لِغَديرِ الْمَاءِ وَاثِبَةً / تَظُنُّهُ لأْمَةً مِنْ نَسْجِ دَاوُدِ
فَكْنْتُ بَيْنَ مَرُوعِ الْقَلْبِ مُرْتَجِفٍ / كَأَنَّني صَارِمٌ في كَفِّ رِعْدِيدِ
أَطْوَى الدُّجَى فَإِذَا ما الْيَأْسُ أَدْرَكَني / وَفَلَّ عَزْمِي بِسَيْفٍ مِنْهُ محدُودِ
ذَكَرْتُ عَزْماً مِنَ الأُسْتَاذِ فاتَّجَهَتْ / عَزيمتي بَيْنَ إقْدَام وَتسْدِيدِ
وَسِرْتُ مِثْلَ قَضَاءِ اللّهِ لَيْسَ لَهُ / نَقْضٌ ولاَ سَهْمُهُ يَوْماً بِمَرْدُودِ
مَوْلاَيَ عَلَّمْتَني كَيْفَ الثَّبَاتُ إِذَا / لَمْ يتْرُكِ الرُّعْبُ قَلْباً غَيْرَ مَزْءُودِ
عَلَوْتَ فَازْدَدْتَ بَيْنَ النَّاسِ مَعْرِفَةً / وَالنَّجْمُ يَعْلو فَيبْدُو شِبْهَ مَفْقُودِ
وَأَصْبح الدينُ تَيَّاهاً بِنَاصِرِهِ / وَالضادُ تزْهَى بِتَجْمِيلٍ وَتَجْدِيدِ
دَعِ الْحَسُودَ أَمَا يَكْفِيكَ أَنَّ لَهُ / نَفْساً تَفُورُ وَحَظّاً غَيْرَ مَجْدُودِ
يا فارِسَ الشعْرِ لا تَجْزَعْ لِنَازِلةٍ / إِذَا دَعَوْتَ إِلَيْهَا فَارِسَ الْجُودِ
فَنَظْرَةٌ مِنْهُ لَوْ مَسَّتْ ظَلامَ دُجىً / ما زُمِّلَ اللَّيْلُ في أَثْوابِه السُّودِ
يا ساريَ الشِّعْرِ يَطْوِي الْجَوَّ في آنِ
يا ساريَ الشِّعْرِ يَطْوِي الْجَوَّ في آنِ / وَيَمْلأُ الأُفْقَ تَغْريداً بأَلْحاني
يَخْتالُ في بُرْدَةِ الفُصْحَى وتُسْعِدُهُ / بَدَائِعُ الْحُسْنِ من آياتِ عَدْنان
سِرْ أَيُّها الشِّعرُ واركَبْ كلَّ ناجيَةٍ / من الرِّياحِ فقد أُلْقَتْ بأَرْسَان
سِرْ بالرِّياضِ وخُذ مِنْها نَضارَتها / ونَاغ ما شِئْتَ مِنْ وَرْدٍ ورَيْحان
الكَوْنُ أُذْنٌ لِمَا تُلْقِيه وَاعِيةٌ / فامْلأْ مَدَاهُ بصَوْتٍ مِنْكَ رَنَّان
وَبَلِّغِ الأَرْضَ أنَّا في حِمَى مَلِكٍ / صَوْبُ الْحَيَا ونَدَى كَفَّيْهِ سِيّان
وَإِنْ تَزُرْ كَعْبَةَ الآمالِ مُشْرِقَةً / مِنْ عابِدينَ فطُفء مِنها بأَرْكان
وقِفْ وأَطْرِقْ خُشُوعاً أنتَ في قُدُسٍ / ضافي المَهَابةِ عالي الشَّأْوِ وَالشَّانِ
قَصْرٌ بَناهُ بُناةُ المَجْدِ مِن هِمَمٍ / فَلَمْ يُطاوِلْ عُلاهُ أَيُّ بُنْيان
فأَيْنَ كِسْرَى وَما أَعْلَى مَشَارِفَهُ / في بُهْرَة المُلْكِ مِنْ صَرْحٍ وإِيوان
أَساسُهُ عَزَماتٌ جَلَّ خالِقُهَا / لا ما يَرَى الناسُ من صَخْرٍ وصَوّان
يُطِلّ مِنْهُ عَلَى آمالنا مَلِكٌ / يُزْهَى به الشعْبُ في سِرّ وإعْلان
في وَجْهِهِ قَسَمات قَدْ دَلَلْنَ عَلَى / ما ضَمَّهُ القَلْبُ مِنْ نُبْلٍ وإِيمان
يابْنَ الأُلَى بَعَثُوا مِصْراً لِنَهْضتِها / وَأيقَظوا من بَنيها كُلَّ وَسْنان
وأرْسَلُوها إِلَى العَلْياءِ فانْطَلَقتْ / تَعْدُو إِلَى الْمَجْدِ في جدٍّ وإمْعانِ
كأنَّها تَبتغِي في الشَّمْسِ حاجَتَها / أو أنّها أوْدِعَتْ سِرّاً لكَيْوان
آثارُهُمْ في ضِفافِ النِّيلِ ماثِلةٌ / أبْقَى عَلى الدَّهْرِ مِنْ رَضْوَى وثَهلان
كأنَّها وهْيَ في الوَادِي قد انْتَثَرتْ / عِقْدٌ تَنَاثَرَ عَنْ دُرٍّ وَعِقْيان
جاءُوا بما عَزَّ في الآذانِ مَسْمَعُهُ / عَنِ المُلوكِ ولم تُبْصِرْهُ عَينان
في باحَةِ السِّلْمِ كانُوا رَحْمةً وهدىً / وفي الكَريهةِ كانوا أُسْدَ خَفّان
قد حاوَلُوا الصَّعْبَ حَتَّى ذَلَّ شامِسُهُ / ومالَ بالرَّأْسِ عَنْ يُسْرٍ وإمْكان
غَفْراً فُؤَادُ أَبا الفارُوقِ إِن عَجَزَتْ / عَنْ عَدِّ آلائِكَ الغَرَّاءِ أوْزاني
حَاولْتُ تَصْوِيرَها جُهْدِي فما اتَّسَعَتْ / لِبَعْضِ ذلكَ أَلْواحي وأَلْواني
والبحرُ تُبْصِرُ جُزْءَا حَوْلَ ساحِلِهِ / ولَيْسَ في دَرْكِهِ طَوْقٌ لإِنسان
في كُلِّ يَوْمٍ لكُمْ في مِصْر عارِفَةٌ / في طَيِّها مِنْ نَدَاكُمْ أَلْفُ بُرْهان
نَشَرْتَ فيها رُبُوعَ العِلْمِ زاهِرةً / جَلاَلَةُ المُلْكِ في عِلْمٍ وعِرْفان
غرَسْتَهُ دَوْحَةً غَنَّاءَ وَارِفَةً / قَريبَةَ المُتَمَنَّى ذَاتَ أَفْنان
وساسَنا منكَ رأْيٌ زانَهُ خُلُقٌ / قد صاغَهُ اللّهُ من رِفْقٍ وإِحْسان
الدِّين زاهٍ وَوَجْهُ المُلْكِ مُؤْتَلِقٌ / كالرَّوْضِ جادَ ثَراهُ صَوْرُ هَتَّانِ
رَدَدتَ لِلُّغَةِ الفُصْحى بَشَاشَتَها / مِن بَعْدِ أَنْ هَجَرتها مُنْذُ أَزْمان
قد ذَكَّرَتْها أيادِيكَ التي عَظُمَتْ / مَنَازِلَ العِزِّ في دَاراتِ قَحْطان
أَوْلَيْتَها مَجْمَعاً طابَتْ مَشارِعُهُ / وَبَلَّ منهُ صَداهُ كلُّ صَدْيان
أعادَ في مِصْرَ عَهْداً للرَّشيدِ مضَى / أيامَ أشْرَقَتِ الدُّنْيا بِبَغْدان
سَعَتْ لِساحَتِكَ الدُّنْيا ويَمَّمَها / جَهابِذُ القَوْمِ مِنْ قاصٍ ومِنْ داني
هَذِي الإِذاعَةُ يا مولايَ قد نَطَقَتْ / بما بَذَلْتَ بإِفْصَاحٍ وتِبْيان
مِنْ قَبْلها سارَ سَيْرَ الشمسِ ذكْرُكمُ / يَطْوِي الْجِواءَ بأقْطارٍ وبُلْدانِ
أنشَأْتَها جَنةً غَنَّتْ بلاَبِلُها / وغَرّدَتْ بين أوراقٍ وأَغْصانِ
فيها الثَّقافاتُ ألوانٌ مُنَوَّعَةٌ / تُزْجَى إِلى الشَّعبِ من آنٍ إلى آن
قد أصْبَحَتْ مَنْهلاً يَسْعَى لِطالِبِه / فاعجبْ إِلى مَنْهلٍ يَسْعَى لِظَمْآن
عِشْ لِلْبِلادِ أبا الفَارُوق نُورَ هُدىً / وأَعْلِ رايَتَها في كُلِّ مَيْدان
وعاشَ فاروقُ للدنْيا يُجَمِّلُها / ويَزْدَهِي بمُحَيَّاهُ الْجديدان
لما دَعوْهُ أَمِيراً للصعِيدِ سَمَا / بِهِ الصَّعيد وأضْحَى جِدَّ جَذْلان
لا زالَ زِينَةَ عَهْدٍ طابَ مَوْرِدُهُ / مُجَمَّلٍ بِجَلاَلِ المُلْكِ مُزْدَان
عابدينُ كعبةُ مصرٍ ركْنُها حَرَمٌ
عابدينُ كعبةُ مصرٍ ركْنُها حَرَمٌ / للخائفينَ إذا خَطْبٌ بهم نَزَلا
تهوي إليها وفودُ الأرض ضارعةً / ترجو بها الأمنَ أو تُحْيي بها الأملا
أَمْرٌ وعاه بنو الإنسانِ وَحْدَهُمُ / فَمَنْ بربِّكَ قلْ لي أخبر الجملا
مِصْرُ اسْلَمي واسْلَمي وسُودِي
مِصْرُ اسْلَمي واسْلَمي وسُودِي / يا أَلِفَ الْكَوْنِ والْوُجُودِ
نَهَضْتِ والأَرْضُ في دجُاهَا / والشمْسُ والْبَدْرُ في الْمُهُودِ
قَدْ كُنْتِ والدهْرُ في صِباهُ / نَجْمَ هُدىً ساطِعاً سَناهُ
تَعْنُو لِسُلْطانِكِ الْجِباهُ / مَرْفُوعَةَ الرَأْسِ والْبُنُودِ
يا بَسْمَةً في فَمِ الزمانِ / ومَوْطِنَ الْعِزِّ والأمانِ
نِيلُكِ أحْلى مِنَ الأَمَاني / جَنىً وَأَذْكَى مِنَ الْوُرُودِ
الأرْضُ أنَّى خَطَوْت تِبْرُ / وزَهْرُها جَوْهَرٌ ودُرُّ
عِقْدٌ وهذا الْوُجُودُ نَحْرُ / قد يَجْمُلُ النحْرُ بالعُقُودِ
كَمْ نِلْتِ بالْعِلْمِ مِنْ مَقَامِ / وِنلتِ بالْجِدِّ مِنْ مَرَامِ
إِلى الأَمَامِ إِلى الأَمَامِ / إلى الْمَعَالي إلى الْخُلُود
يا مِصْرُ نَحْنُ الْفِدَاءُ نَحْنُ / ما مَسَّنا في الْخُطُوبِ وَهْنُ
أرْوَاحُنَا في يَدَيْكَ رَهْنُ / وعَهْدُنَا أَصْدَقُ الْعُهُودِ
آباؤُنَا قَادَةُ الدهُورِ / قَدْ أَنْطَقُوا صَامِتَ الصخُورِ
مِنْ كُلِّ وَثَّابَةٍ جَسُورِ / كَأَنَّهُ صَائِلُ الأُسُودِ
يا مِصْرُ فارُوقُكِ الْمُرَجَّى / إِلَيْهِ تَرْنُو الْمُنَى وتُزْجَى
بِيُمْنِهِ قَدْ بَلَغْتِ أَوْجا / وَعِشْتِ في قِمَّةِ السُّعُودِ
بِفَضْلِهِ صِرْتِ في الشُّعُوبِ / مَهِيبَةَ الْقَدْرِ في الْقُلُوبِ
فَمِنْ وُثُوبٍ إلى وُثُوبِ / ومِن صُعُودٍ إلى صُعُودِ
نُكَرِّرُ الشكْرَ مُخْلِصِينَا / لِمَنْ أَعَادَ الْحَيَاةَ فِينا
لِمَصْدَرِ النورِ لِلْبَنِينَا / والْمَنْهَلِ الْعَذْبِ لِلْوُرُودِ
مِصْرُ اسْعَدِي وازْدَهِي وَتِيهي / دَعَاكِ لِلنَّصْرِ فاتْبَعِيهِ
مَا لَكِ في الْمَجْدِ مِنْ شَبِيه / وما لِجَدْوَاهُ مِنْ حُدُودِ
عاشَ مَلِيكُ الْبِلادِ زَنْدَا / وَسَاعِداً مُسْعِداً أَشَدَّا
فارُوق الْمُرْتَجَى الْمُفَدَّى / مُوَفَّقَ الرَّأْيِ والْجُهُودِ
مَصْرُ اسْلَمِي واسْلَمِي وسُودِي / يا أَلِفَ الْكَوْنِ والْوُجُودِ
رُدّا شَبَابِي وَرُدّا عهدَ زيدانِ
رُدّا شَبَابِي وَرُدّا عهدَ زيدانِ / ومِنْ روَائعِ ما أَمْلاَهُ زيداني
قرأتهُ ورياضُ العُمْرِ وارفةً / فكانَ منهُ ومن سنِّي شبابَان
في ضوءِ خافقةٍ في الريف شعلتها / كالسِّر ما بينَ إعلانٍ وكِتْمَانِ
بدت بها زُمُرُ الأبطالِ ماثلةً / تطوي القرونَ لألقاهَا وتلقاني
من كلِّ ما شَادَ للإسلام مملكةً / أبقى على الدهرِ من رضوى وثهْلانِ
للعرب بالضادِ إيمانٌ يوحّدهم / كانوا لعدنانِ أو كانُوا لغسّانِ
ما خطّ زيدانُ أسطاراً على صحفٍ / لكن جلا صُوَراً من صُنْعِ فَنّانِ
قد كانَ أوّل مرتادٍ لأمته / والخلدُ في هذه الدنيا لَهُ ثَانِي