المجموع : 25
كل الورى يدعون حبك
كل الورى يدعون حبك / أنا الوحيد الذي أحبك
صدرك فيه اضطراب شوق / يقرع قرع العباب جنبك
فكيف تخلي به مكاني / وتسكن الغادرين قلبك
لما اعتنقنا على اشتياق / لمست بالساعدين خطبك
تعال لا تعتذر لذنب / بقدر حبي غفرت ذنبك
طال على المتعب الطريق / بلا حبيب ولا صديق
قد بعد الشاطئ المرجى / والموج لا يرحم الغريق
في واضح النور جنح ليل / وفي الرحاب الفساح ضيق
يا أرجوان الغروب مهلا / ولتئد أيها العقيق
صبغت عمري فصرت أمشي / على دمائي التي أريق
يا مسرحاً والفصول تترى / عليه ما لي بك اغترار
فلا بخير ولا بشر / ولا طوال ولا قصار
ما خنت عهدي لمن تولى / كلا ولا خانني اصطبار
أين الليالي التي تسر / بلا لقاء ولا مزار
كم قلت ذا مشهد يمر / ولم أقل إنه ستار
إن كان للمشجيات رسمٌ / إني تمثالها المقام
بلا دموع ولا شكاةٍ / قد جمد الدمع والكلام
يا طالب الحزن في المآقي / لا تنشد الدمع في الرخام
وخذه من أخرس مرير / من شفه دمعها سجام
فهل فمٌ قد بكى بكائي / من ذا رأى دمعةَ ابتسام
يا رامي السهم يدري أين موضعه
يا رامي السهم يدري أين موضعه / مني ويعلم ما داريت من ألم
رميتَ في ساحة موسومة بدم / منقوشة بندوب الحب والندم
لا يخدعنَّك منها وهي صامتة / صمت القبور فراغ الموت والعدم
فكم شفاه جراحات إذا انطبقت / جرح الإباء عليها غير ملتئم
فيم انتقامك من قلب عصفت به / لم يبق من موضع فيه لمنتقم
وفيم لذعة سخطٍ من جوى برمٍ / ترمي بجمرته في جوف مضطرم
لا القوم راحوا بأخبار ولا جاءوا
لا القوم راحوا بأخبار ولا جاءوا / ولا لقلبك عن ليلاك أنباءُ
جفا الربيع ليالينا وغادرها / وأقفر الروض لا ظل ولا ماءُ
يا شافي الداء قد أودى بي الداء / أما لذا الظمأ القتال إرواءُ
ولا لطائر قلب أن يقر ولا / لمركب فزع في الشط إرساءُ
عندي سماء شتاء غير ممطرةٍ / سوداء في جنبات النفس جرداء
خرساء آونة هوجاء آونة / وليس تخدع ظني وهي خرساء
وكيف تخدعني البيداء غافية / وللسواقي على البيداء إغفاء
أأنت ناديتِ أم صوت يخيل لي / فلي إليك بإذن الوهم إصغاء
لبيك لو عند روحي ما تطير به / وكيف ينهض بالمجروح إعياء
تفرق الناس حول الشط واجتمعوا / لهم به صخب عالٍ وضوضاءُ
وآخرون كسالى في أماكنهم / كأنهم في رمال الشط أنضاء
هم الورى قبل إفساد الزمان لهم / وقبل أن تتحدى الحب بغضاء
ضاقت نفوسٌ بأحقاد ولو سلمت / فإنها كسماء البحر روحاء
تألقت شمس ذاك اليوم واضطرمت / كأنها شعلٌ في الأفق حمراء
طابت من الظل ظل القلب ناحية / لنا وقد صليت بالحر أنحاء
مالي بهم أنت لي الدنيا بأجمعها / وما وعت ولقلبي منك إغناءُ
لو أنه أبدٌ ما زاد عن سنة / ومدة الحلم بالجفنين إغفاء
أرنو إليك وبي خوف يساورني / وأنثني ولطرفي عنك إغضاء
إذا نطقت فما بالقول منتفع / وإن سكت فإن الصمت إفشاء
وأيما لفظة فالريح ناقلة / والشط حاكٍ لها والأفق أصداء
يا ليل من علم الأطيار قصتنا / وكيف تدري الصبا أنا أحِباء
لما أفقنا رأينا الشمس مائلة / إلى المغيب وما للبين إرجاءُ
شابت ذوائب وانحلت غدائرها / شهباء في ساعة التوديع صفراء
مشى لها شفق دامٍ فخضبها / كأنه في ذيول الشعرِ حِناء
يا من تنفس حر الوجد في عنقي / كما تنفس في الأقداح صهباء
ومن تنفستُ حر الوجد في فمه / فما ارتويت وهذا الري إظماء
ما أنت عن خاطري بالبعد مبتعد / ولن تواريك عن عينيّ ظلماء
بأي معجزة في الحب نتفق
بأي معجزة في الحب نتفق / يا قلب لا يتلاقى الفجر والغسقُ
يا قلب إنا لقينا اليوم معجزة / تكاد في ظلمات الليل تأتلقُ
ظللتُ أسأل نفسي كيف تعشقها / بقية من بقايا العمر تحترق
وافيتها وفلول النور دامية / تطفو وترسب أو تعلو فتعتلقُ
لم أدر حين تبدت لي إذا شفقي / أبصرته أو على المنصورة الشفق
يا من منحت الأماني البيض معذرة / إني بهذي الأماني البيض أختنقُ
أين الهدوء المرجى في جوانبها / إني رجعت وليلي كله أرق
أقبلت أنشد أمنا في هواك بها / فلم أنل وتولى قلبي الفرق
لا بالقلوب ولا الأرواح يا أملي / أنّا بشيء وراء الروح نعتنق
ويحي على كفك البيضاء إذ بسطت / عند السلام وويحي حين تنطبق
هل يسمع النيل إذ سرنا بجانبه / والموج مجتمع فيه ومفترق
صوتاً تماوج في روحي فجاوبه / من جانب القلب موج راح يصطفق
تظل تنهب أذني من أطايبه / كأنها من خفايا الغيب تسترق
يا جنة من جنان الله أعبدها / لن تبعدي ولدي السحر والعبق
غيث على القفر حيّانا وأحيانا
غيث على القفر حيّانا وأحيانا / يا شاعر الجيل كان الجيل ظمآنا
كنا نعيش من الدنيا على عدة / نبني من الأمل الموعود دنيانا
فالآن قد حققت ما كان منتظراً / منها وإن لمعت بالوعد أحيانا
جاءت بأروع من هز البيان ومن / أعاد مجد القوافي مثل ما كانا
ريحانة النيل هزت نفسها طرباً / وقدمت لأمير الشعر ريحانا
ماذا نقول ونبدي بعدما سبقت / لك الشهادة من تكريم مولانا
أقمت من عبقري الشعري برهانا / وقبلها كنت للأخلاق عنوانا
بآيتين وفاء للتي ذهبت / وأنت مَن حفظ الذكرى ومن صانا
إن التي نضَّرت عيشاً نعمت به / وصيرت بيتك المعمور بستانا
لو لحظة نحو ذياك الضريح رنت / عيناك تلق الهوى لم يختلف شانا
وآية من وفاء للألى سحبت / عليهم حادثات الدهر نسيانا
عهد الرشيد وعهد المجد في زمن / به توطد ملك العرب سلطانا
وعهد بغداد حيث العيش مؤتلقٌ / يهفو خمائل أو يهتز أفنانا
جلوته وهو فتاك بجعفره / والسيف يقطر بغضاءً وعدوانا
يا للطلاء الذي يكسو النفوس لكم / كسا النفوس من التزييف ألوانا
تلك الطبيعة لا شيء يغيرها / ينام فيها خيال الفتك وسنانا
الحرص يوقظه والمجد يوقظه / والويل إن وثب الوسنان يقظانا
جوزيت عن لغة الفصحى وأمتها / عمراً مديداً وتكريماً وإحسانا
إن السراة الأباظيين قد عظموا
إن السراة الأباظيين قد عظموا / عن طوق ند وعن تحليق أضداد
تخطف القدر الجاري أحاسنهم / بصيرفي المنايا أو بنقاد
كم صحت والعين تذري الدمع في أسف / على الجواهر في كف الردى العادي
ألا رقىً للأباظيين تحفظهم / على الحوادث من أنظار حساد
بأي لفظ يفيك شعري
بأي لفظ يفيك شعري / شرفت قدري وزنت داري
أما كفى برُك المواسي / فزدتني روعة المزار
أقسمت بالشمس في ضحاها / أقسمت بالبدر بالدراري
بفضلك الماحق الدياجي / كأنه واضح النهار
فيك من البحر كل معنى / فمن سمو إلى وقار
وأنت صدر العباب رحباً / وبسمة الشط والمنار
كأن هذا الجميل يترى / من طيب غادٍ ولطف ساري
موج من البر ذو اتصال / بلا هدوء ولا قرار
غمرتني بالجميل حتى / لجت قوافيَّ في العثار
أنقذني البحر غير أني / غريق فضل بلا قرار
كنت ندى في رياض عيشي / وكنت غيثاً على القفار
لقيت ضنكا من الليالي / فمن غمار إلى غمار
قد طال عتبي على الليالي / وطال للراحم انتظاري
صفحت عن كل ما أساءت / حق لها الليلة اعتذاري
طوى السنين وشق الغيب والظلما
طوى السنين وشق الغيب والظلما / برقٌ تألق في عينيك وابتسما
يا ساري البرق من نجمين يومض لي / ماذا تخبئ لي الأقدار خلفهما
أجئت بي عتبات الخلد أم شركا / نصبت لي من خداع الوهم أم حلما
كأنني ناظرٌ بحراً وعاصفة / وزورقاً بالغد المجهول مرتطما
حملتني لسماء قد سريت لها / بالروح والفكر لم أنقل لها قدما
شفّت سديماً ورقت في غلائلها / فكدت أبصر فيها اللوح والقلما
رأيت قلبين خط الغيب حبهما / وكاتبا ببيان النور قد رسما
وسحر عينيك إني مقسم بهما / لا تسألي القلب عن إخلاصه قسما
واهاً لعينيك كالنبع الجميل صفا / وسال مؤتلق الأمواج منسجما
ما أنتما أنتما كأسٌ وإن عذبت / فيها الحمام ولا عذر لمن سلما
لمَّا رمى الحب قلبينا إلى قدرٍ / له المشيئة لم نسأل لمن ولما
في لحظة تجمع الآباد حاضرها / وما يجيء وما قد مر منصرما
قد أودعت في فؤاد اثنين كل هوى / في الأرض سارت به أخبارها قدما
كلاهما ناظرٌ في عين صاحبه / موجاً من الحب والأشواق ملتطما
وساحة بتعلات الهوى احتربت / فيها صراع وفيها للعناق ظما
يا للغديرين في عينيك إذ لمعا / بالشوق يومض خلف الماء مضطرما
وللنقيضين في كأسين قد جمعا / فالراويان هما والظامئان هما
بأي قوسٍ وسهم صائب ويدٍ / هواك يا أيها الطاغي الجميل رمى
يرمي ويبرئ في آن وأعجبه / إن الذي في يديه البرء ما علما
وكيف يبرئني من لست أسأله / برءاً وأوثر فيه السهد والسقما
لو أن للموت أسباباً تقربني / إلى رضاك لهان الموت مقتحما
إن الليالي التي في العمر منك خلت / مرت يبابا وكانت كلها عقما
تلفت القلب مكروبا لها حسرا / وعض من أسف إبهامه ندما
نارٌ من الشوقِ إثرَ نار
نارٌ من الشوقِ إثرَ نار / فلا هدوءٌ ولا قرار
إنك لي مبدأ وَعَودٌ / منك إلى صدرِك الفِرار
يا مرفأَ الروحِ لا تَدَعنِي / بلا دليلٍ ولا مَنار
موجٌ وريحٌ وزحفُ ليلٍ / فمن دمارٍ إلى دمار
إن أنتِ أخلفتِ وَعدَ حبّي / لم تُؤوِني في الديارِ دار
وليسَ لي في الهَوى اصطِبار / وليس لي دونك اختيار
وليلةٍ بات من أهوى ينادمني
وليلةٍ بات من أهوى ينادمني / ما كان أجملَه عندي وأجمَلها
بتنا على آية من حسنه عَجَبٍ / كتابُه من خَفايا الخُلدِ أنزَلَها
إذا تساءلتُ عمَّا خَلفَ أسطرها / رَنَا إليَّ بعينيه فأَوَّلَها
مُصَوِّباً سَهمَه مُستشرفاً كبدي / مُستهدفاً ما يشاء الفتكُ مقتلها
يا للشَّهيدة لم تعلم بمصرعها / ما كان أظلَمَ عينيه وأجهلَها
حتى إذا لم يَدَع منها سوى رمقٍ / عَدَا على الرَّمقِ الباقي فجندلها
وصَدَّ عنها وخلاَّها وقد دَمِيَت / في قبضة الموت غَشَّاها وظلّلها
وحان من ليلة التوديع آخرُها / وكان ذاك التلاقي الحُلوُ أوَّلها
ضممتها لجراحاتي التي سَلَفَت / إِلى قديمِ خطايا قد غفرتُ لها
قلبٌ تقسَّم بين الوجد والألم
قلبٌ تقسَّم بين الوجد والألم / هل عند لبنانَ نجوى النيل والهرم
أشكو جواي إلى الرُّوح التي احتضنت / ناري وضمَّت إلى أسقامها سقمي
وقاسمتني الهوى حتى إذا رحلت / ألقت فؤادي بضنكٍ غير مقتسم
ميثاقنا أسطرٌ من مدمعٍ ودمٍ / يا طاهر النفحة اذكر طاهر القَسم
يا من أعاتب دهري إذ أودِّعه / وما عتابي على الأقدار والقِسم
إنّ النوى غرَّبته وهي عالمة / أني رجعت أُداري النار بالضرم
ورنَّحَت بعده خطوي وما عرفت / من عثرة الحظِّ أم من عثرة القدم
خَلَت وران عليها الصمت وانقلبت / كأنما لَفَّها ثوبٌ من العدم
بالله أيامَنا هل فيك منتَفعٌ / ونحن من سَأَمٍ نمشي إلى سَأم
وما أُرقِّع ثوباً فيك منخرقاً / لكن أرقِّع جُرحاً غير ملتئم
أفدي نهاراً طلعتِ فيه
أفدي نهاراً طلعتِ فيه / نجم جمالٍ ونجم سعد
إني لهذي العيون عبدٌ / والدهر إما رضيتِ عبدي
إن كان عيدٌ به ووردٌ / فأنت عيدي وأنت وردي
يا خير من مرَّ في وجودي / إنك كلُّ الوجود عندي
عندي خَفِيٌّ من الأماني / أضعافَ ما جئتُ فيهِ أُبدي
معذرةً في القليل إني / والله أعيا الكثيرُ جُهدي
يا فتنتي والهوى ديونٌ / حسبيَ أَني له أؤدّي
ما أنت من أنت هل مجيبٌ / على سُؤالٍ بغير رَدّ
لم يخلق الله من جمالٍ / يلفُّه في سَنِيِّ بُرد
حسنٌ قُصاراه من شفاهٍ / عطرُ ثناءٍ وطيبُ حمد
ويخلق الله معجزاتٍ / يجمعها كلَّها بفرد
كسحر عينيك كيد باغٍ / وسحر عينيك للتحدّي
أحببتُ ميَّة حبّاً لا يُعادله
أحببتُ ميَّة حبّاً لا يُعادله / حبٌّ وأفنيت فيها العمر أجمعَه
أُحبُّ عمري الذي في قرب ميَّ وما / قد مرَّ من دونها ما كان أضيعه
يا ميّ يا قلبي الثاني أعيش به / وإن يكن فوق ظنِّي أنّني معه
يا بضعة من كيان الصبّ نابضة / بكل حبٍّ به الرحمن أودعه
ما أضيع الصبر في جُرح أداريه
ما أضيع الصبر في جُرح أداريه / أريد أنسَى الذي لا شيء يُنسيه
وما مجانبتي من عاش في بصري / فأينما التفتت عيني تلاقيه
مكانيَ الهادئ البعيد
مكانيَ الهادئ البعيد / كُن لي مجيراً من الأنام
قد أمَّكَ الهارب الطريد / فآوِه أنتَ والظلام
يا حسنها ساعة انفصال / لا ضنك فيها ولا نكد
يا حقبة الوهم والخيال / هلا تمهلتِ للأبد
يا أيها العالم الأخير / ماذا ترى فيك من نصيب
أراحةٌ فيك للضمير / أم موعدٌ فيك من حبيب
كم يَعذُب الموت لو نراهُ / أو كان فيك اللقاءُ يُرجى
ينفض عن عينه كراهُ / ويقبل الراقد المسجَّى
لكن شكّاً بما تجن / خيّم فوق العقول جمعَا
عجبتُ للمرء كم يئن / ويستطيب الحياةَ مَرعَى
قد صار حبُّ الحياة منا / يقنع بالجيفة السباع
وعلم السمحَ أن يضنَّا / وثبّت الجبن في الطباع
طال بنا الصمت والجمود / لا البدر يوحي ولا الغدير
يا عالم الضيم والقيود / برَّحت بالطائر الأسير
هربتُ من عالمٍ أضرَّا / وجئت يا كعبتي أزور
هاتي خيالاً إذن وشعراً / أسكبه في فم الدهور
هرَبتُ من عالم الشقاء / وجئت عليَّ لديكِ أحيا
أشرب من روعة السماء / شعراً وأسقي الفؤادَ وحيا
مللتُ في هاته العوالم / مهزلةَ الموت والحياه
وصورة القيد في المعَاصم / ووصمةَ الذل في الجباه
هياكلٌ تعبر السنين / واحدة العيش والنظام
واحدة السخط والأنين / واحدة الحقد والخصام
وواحد ذلك الطلاء / يسترُ خزياً من الطباع
افنى البلى أوجه الرياء / ولم يذُب ذلك القناع
بعينها كذبة الدموع / بعينها ضحكة الخداع
ومُنحنَى هاته الضلوع / على صوادٍ بها جياع
كأن صدر الظلام ضاق / من كَثرةِ البثِّ كل حين
يا ويحه كيف قد أطاق / شكوى البرايا على السنين
كأنما ينفث الشهب / تخفيف كربٍ يئنّ منهُ
كالقلب إن ضاق واكتأب / تخفف الذكريات عنهُ
كم زفرة في الضلوع قرّت / يحوطها هيكلٌ مريض
مبيدة حيثما استقرت / فإن نبح سميت قريض
كم في الدجى آهة تطول / تسري إلى أذنه وشعر
لو يفهم النجم ما نقول / أو يفهم الليل ما نُسر
ما بالها أعين الفلك / منتثرات على الفضاء
تطل من قاتم الحلك / بغير فهمٍ ولا ذكاء
ألا وفيّ ألا معين / في مدلهم بلا صباح
وكلّما جَدَّ لي أنين / تسخر بي أنّة الرياح
هبنا شكونا بلا انقطاع / ما حظ شاكٍ بلا سميع
وحظ شعرٍ إذا أطاع / يا ليته عاش لا يطيع
يضيع في لجة الزمن / مبدداً في الورى صداه
ولن ترى في الوجود مَن / يدري عذاب الذي تلاه
يا أيها النهر بي حسد / لكل جارٍ عليك رف
أكُلُّ راجٍ كما يود / يروي ظماه ويرتشف
ومن حبيب إلى حبيب / ترنو حناناً وتبتسم
وكل غادٍ له نصيب / من مائك البارد الشبم
يا نهرُ روّيت كل ظامي / فراح ريّان إن يذُق
فكن رحيماً على أوامي / فلي فمٌ بات يحترق
يا نهر لي جذوة بجنبي / هادئة الجمر بالنهار
فإن دنا الليل برّحت بي / وساكن الليل كم أثار
وقفت حرّان في إزائك / فهل ترى منك مسعدُ
وددت ألقي بها لمائك / لعلها فيك تبردُ
عالج لظاها فإن سكن / فرحمةٌ منك لا تحد
وإن عصت نارها فكن / قبراً لها آخر الأبد
ترينيَ الهاجر الشتيت / وقربه ليس لي ببال
وكلّما خلتني نسيت / مَرَّ أمامي له خيال
تمر ذكرى وراء ذكرى / وكل ذكرى لها دموع
وتعبر المشجيات تترى / من كل ماضٍ بلا رجوع
ماضٍ وكم فيه من عثار / ومن عذابٍ قد انقضى
كم قلت لا يرفع الستار / ولا ادكارٌ لما مضى
يا من أرى الآن نصب عيني / خياله عطَّر النسم
بالله ما تبتغيه مني / ولم تدع لي سوى الألَم
في ذمة الله ما أضعتم / من مهجٍ أصبحت هباء
لم نجزكم بالذي صنعتم / إنَّا غفرنا لمن أساء
لا تحسبوا البرء قد ألَمّ / فلم يزل جرحنا جديدا
يخدعنا أنّه التأم / ولم يزل يخبأ الصديد
يا أيها الليل جئتُ أبكي / وجئتُ أسلو وجئت أنسى
طال عذابي وطال شكي / ومات قلبي وما تأسَّى
قل للبخيل إذا ما عزَّ مشرعهُ
قل للبخيل إذا ما عزَّ مشرعهُ / يا مانع الماء عني كيف تمنعُه
أغرَّ حسنك أن الخلد جدوله / وأنّه من غريب السحر منبعُه
يا أيها الكوكب المحبوس في فلكٍ / مبدد مجده فيه مضيّعُه
هيهات يخلد حسنٌ لا يؤلهه / شعرٌ من النسق الأعلى ويرفعُه
أنا شهيدك والقلب الضحوك إذا / أدميتَه والمغني إذ تقطّعُه
هل منك يوم رضىً ضنَّ الزمان به / أعيا خيالي وأضناني توقّعُه
كم بتُّ منتبهاً أصغي لخطوته / أراه في الوهم أحياناً وأسمعُه
وأنت في أفق الأوهام طيف صبا / سما ودقَّ على الأفهام موضعُه
كأنك النسم النشوان منطلقاً / أظل كالنفس الحيران أتبعُه
تعالَ وادنُ بيوم لا نحسّ به / أجسادنا في صفاء لا نضيعُه
لكن أحسك تجري في صميم دمي / أنت الحياة وأنت الكون أجمعُه
يا ليلةً سنحت في العمر وانصرمَت
يا ليلةً سنحت في العمر وانصرمَت / هَلا رجعتِ وهلا عادَ أحبابي
يا ليت شهدَك إذَ لم يبق لي أبداً / لَم يُبقِ في القلب تذكاراً من الصابِ
لَم أنس مُهديَتي جلبابَها وعلى / جسمي من السقم منها أيُّ جلبابِ
قميصُ يوسف ردَّ العينَ مبصرةً / ففاز بالنورِ ذاك المطرقُ الكابي
وأنت لو أنّ روحاً أزمعت سفراً / أعدتَها وخَيالُ الموت بالبابِ
فَذُد خيالَ المنايا اليومَ عن رجُلٍ / أنشبنَ في روحه أشباهَ أنيابِ
وإن عجزتَ فكن في الموت لي كفناً / أمت وألقى إلهي غيرَ هيَّابِ
يا أمتي كم دموع في مآقينا
يا أمتي كم دموع في مآقينا / نبكي شهيديك أم نبكي أمانينا
يا أمتي إن بكينا اليوم معذرةً / في الضعف بعض المآسي فوق أيدينا
واهاً على السرب مختالاً بموكبه / وللنسور على الأوكار غادينا
قالوا الضباب فلم يعبأ جبابرة / لا يدركون العلا إلا مضحينا
والمانش يعجب منهم حينما طلعوا / على غواربه الحيرى مطلّينا
فاستقبلتهم فرنسا في بشاشتها / تجزي البسالة ورداً أو رياحينا
قالوا النسور فهبَّ القوم وادَّكروا / نسرا لهم ملأ الدنيا ميادينا
وهلل السين إذ هلَّت طلائعنا / طلائع المجد من أبناء وادينا
حان الأمان ووافَى السربُ فافتقدوا / نسرين ظنوهما قد أبطآ حينا
لكنه كان إبطاء الردّى فهما / لمّا دعا المجد قد خَفَّا ملبينا
فليبك من شاء وليُشبع محاجره / ولينتحب ما يشاءُ الحزن باكينا
يبكي الحبيب وتبكي فقد واحدها / من لا ترى بعده دنيا ولا دينا
هُنيهة ثم يسلو الدمعَ ساكبُه / لا يدفع الدمعُ شيئاً من عوادينا
فكلما حلَّ رزءٌ صاحَ صائحنا / فداك يا مصر لا زلنا قرابينا
فداك يا مصر هذا النجم منطفئاً / والنسر محترقاً واللليث مطعونا
يا وحدتي جئت كي أنسَى وها أنذا
يا وحدتي جئت كي أنسَى وها أنذا / ما زلت أسمع أصداءً وأصواتا
مهما تصاممتُ عنها فهي هاتفةٌ / يا أيها الهاربُ المسكينُ هيهاتا
جرَّت عليَّ الأماني مِن مجاهلها / وجمَّعت ذِكراً قد كُنَّ أشتاتا
ما أسخف الوحدةَ الكبرى وأضيعها / إذا الهواتف قد أرجعن ما فاتا
بَعثن ما كان مطوياً بمرقدِه / ولم يزَلنَ إلى أن هبَّ ما ماتا
تلفَّت القلبُ مطعوناً لوحدته / وأين وحدته باتت كما باتا
حتى إذا لم يجد ريّاً ولا شبعاً / أفضى إلى الأمل المعطوب فاقتاتا
ليس البيانو الذي راحت تحركه
ليس البيانو الذي راحت تحركه / يداك أطوعَ من قلبي وأفكاري
لمستِهِ فتمشّى السحر بي فكما / تهتز أوتاره تهتز أوتاري