صب بكى وجرى للبين مدمعُهُ
صب بكى وجرى للبين مدمعُهُ / رام التصبرَ لو أغنى تصنعُهُ
باللَه رفقاً كفاه ما يروّعُهُ / لا تعذليه فإن العذل يولِعُهُ
قَد قُلت حقاً ولكن ليس يسمعُهُ /
له فؤاد هَوى بَلوى مُعذِّبِهِ / لا يستطيع خلاصاً من تصبِّبِهِ
فما الَّذي فيه يرجى من تقلُّبهِ / جاوزت في لومه حدّاً أضرَّ بهِ
من حيثُ قدرتِ أن اللوم ينفعُهُ /
أَما كفى ما يقاسي من جَفا وقِلا / من بعد صفو ليالي أنجز الأملا
قد باتَ يشكو من الأيام ما احتملا / فاستعملي الرفق في تأنيبه بدلا
من عنفه فهو مُضنى القلبِ موجعُهُ /
عبدٌ هواك وعزُّ الحب ذلَّلَهُ / وكان خال فصار الوَجد يشغلُهُ
لا تسألي ما جرى فالدَمعُ سائلُهُ / قد كانَ مضطلعاً بالخطب تحملُهُ
فضُلِّعت لخطوب الدهر أضلُعُهُ /
الدهر عانده والحال حَوَّلَهُ / والخلُّ باعده والعزُّ ذلَلهُ
إن كنتِ لم تعلمي وجدي وأجهله / يكفيه من لوعة التشتيت أنَّ له
من النوى كل يوم ما يروِّعه /
في حاله عجب قد ردَّ منهجَهُ / عن السرور فما همٌّ وفرَّجَهُ
فوالذي في فؤادي الوَجد أجَّجَهُ / ما آب من سفر إلا وأزعجَهُ
رأيٌ إِلى سفرٍ بالرغم يزمعُهُ /
يرجو التواصل لولا أنْ تُحَرِّمَهُ / عليه أيامُه ظُلماً وتَحرِمَهُ
ولم يَزل مستهامَ القَلب مغرمَهُ / تأبى المطامع لَولا أن تُجشِّمَهُ
للرزق كدّاً وكم مِمَّن يودعُهُ /
وكم يودع من خلٍّ ومن أَهَلِ / وَكَم يضيّع بين السهل والجبلِ
لا يشتكي وجلاً إلا إِلى أَملِ / كأنما هو في حل ومرتحلِ
موكلٌ بفضاء الأرض يذرعُهُ /
معذبٌ يلتقي من دهره مِحنا / ولم يَزل جَلِداً في الخَطب ما غبنا
كأنه من نوىً قد صيغ أَين دَنى / إذا الزَمان أَراه في الرحيل عَنى
وَلو أتى السد أَضحى وهو يزمعُهُ /
كم سارَ ليلاً وعين النجم غافيةٌ / وداس غيلاً وعينُ الليث راعيةٌ
فما أَفاد ولا أَجدَتْ مغالبةٌ / وما مجاهدة الإنسان واصلةٌ
رزقاً ولا دعةُ الإنسان تقطعُهُ /
وَكَم فَتى شانه الإقدام والهممُ / قد أخطأت حظَّه من دَهره القسمُ
لا تبتئس جف بالمقدورة القلمُ / قد قسَّم اللَه بين الخَلق رزقَهمُ
لم يَخلق اللَه من خلق يضيّعُهُ /
وكم فتى حُفَّ بالنعمى وما شعرا / وآخرٍ فاته ما كانَ منتظرا
وكل ذاكَ مضى في علمه وجرى / لكنهم مُلِئوا حرصاً فلستَ تَرى
مسترزقاً وسوى الغايات يقنعُهُ /
وتلك أَقدارُنا في اللوح قد رُقمت / وما لنا في أُمور اللَه إذ خُتمت
والفكرُ كدٌّ إذا ما غايةٌ حُتِمت / والحرصُ في الرزق والأرزاق قد قُسمت
بَغيٌ ألا إنَّ بغيَ المرء يصرعُهُ /
والأمر لِلّه مبديه ومرجعُهُ / والسر إن لا يقي المجهود مزمعُهُ
وإنما أمل الإنسان يدفعُهُ / والدهر يأتي الفَتى من حيث يمنعُهُ
دأباً ويمنعُهُ من حيثُ يطمعُهُ /
فكم جهدت على أمرٍ وما قدرا / وكم سعيتُ وخالستُ القَضا فَدرى
وصرت من بعد ما جر النَوى وجَرى / أستودعُ اللَه في بغدادَ لي قمرا
بالكرخ من فلك الأزرارِ مطلعُهُ /
كان الوصالُ شهيّاً ليس يقنعُني / منهُ البقا وغرورُ الدَهر يُطمعُني
وقد وحقك والأيام تمنعُني / ودّعتُه وبودي لو يودِّعُني
طيبُ الحياة وأنّي لا أودّعُهُ /
وكم وقفنا نناجي كي أسارقَهُ / درّاً وقد بتُّ قبل اليوم ناسقَهُ
وكم يعانقني كيما أعانقَهُ / وكم تشفّع لي أن لا أُفارقَهُ
وللضرورات حالٌ لا تُشفِّعُهُ /
لم أنسَ والعينُ سَكرَى والفؤادُ صحا / وأبلغُ الدَهر ما لم تَدرِهِ النُّصَحا
كم رام يكتمُ وجداً جدَّ فافتضحا / وكم تشبَّثَ بي يَوم الرحيل ضُحى
وأدمعي مستهلاتٌ وأدمعُهُ /
وبنتُ عنه وطرفي جاد يندفقُ / ومهجتي فيه بالأحزان تحترقُ
حالي عجيب فلي وجدٌ وبي أَرَقُ / لا أَكذِبُ اللَه ثَوبُ العذرِ منخرقُ
عني بفرقته لكن أرقّعُهُ /
أَبيتُ أَذكرُ للأقمار طلعتَهُ / وأشتكي لغصون البان قامتَهُ
كَأَنني بعد ما أَدركتُ غايتَهُ / رُزِقتُ ملكاً فلم أُحسن سياستَهُ
كذاك من لا يسوسُ الملكَ يخلعُهُ /
فاصبر لها واترك التعليلَ والمللا / واقنع فلن تستطع أن تبلغ الأملا
واترك فمن سره ودٌّ دهاهُ قِلى / ومن غدا لابساً ثَوب النعيم بلا
شكرٍ عليه فإن اللَهَ ينزعُهُ /
يا رب كن ليَ عوناً في رعايتِهِ / وردَّ غايةَ وَصلي في بدايتِهِ
لعل يوماً يفي حظي بغابتِهِ / إني أوسّع عذري في جنايتِهِ
بالبين مني وجرمي لا يوسِّعُهُ /
إن التباعدَ أعيى فيكَ حاملَهُ / فلا يَزال عَلى وَجدٍ به وَلَهُ
كم عاذلٍ ساءَني ما كُنت عاذلَهُ / كَم قائل لك ذنب البين قلت لَهُ
الذَنبُ واللَه ذنبي لَستُ أَدفعُهُ /
ما لي أجوز مضلاً غال مهيعُهُ / مالي أَجوب الفَضا يعتزُّ بلقعُهُ
ألا أَبيتُ ظَلامَ الليل أَهجعُهُ / ألا أقمتُ فكانَ الرشدُ أَجمَعُهُ
لو أَنني حين بانَ الرُشدُ أتبعُهُ /
وَلم أُجبها بِلا أَهلٍ وَلا وَلَدِ / مروَّعَ الرُوحِ صبَّ القَلبِ ذا كَمَد
وهذه حالَتي ما كانَ ذا بيدي / واللَه ما وَقعت عَيني عَلى بَلَد
في سفرتي هذه إلا وأَقطعُهُ /
أَبيت واللَيل يشجيني بطرّتِهِ / وأَصبح اليَوم يغريني بغرّتِهِ
إني وَإِن كُنتُ لا أَحظى بوصلتِه / ما اعتضتُ عن وَجه مَن لي عندَ فرقتِه
كأسٌ أُجرَّعُ منها ما أُجرَّعُهُ /
سقاتها طائفٌ فينا منبّذُها / والعَينُ تشتاقها والكَفُّ يَنبذُها
كَم قُلت من بعد ما اغتصت لذائذُها / يا مَن أَقطِّع أَيامي وأُنفِذُها
حُزناً عليه وَليلي لست أَهجعُهُ /
إني لأعلمُ ما لي عندهم وعذا / بُ الحُبِّ عَذبٌ وإن مرُّ الفراق أذى
بيني وبين حبيبي خلةٌ ولذا / لا يطمئنُّ لجنبي مضجعٌ وكذا
لا يطمئن له مذ بنتُ مضجعُهُ /
بالله يا سادة ما كان يقنعُني / منهم وصالٌ ولا واشٍ فيمنعُني
عصرٌ تَولّى بكم واللَه كان هني / ما كُنتُ أَحسب أَن الدَهرَ يفجعني
به ولا خلت بي الأيام تفجعُهُ /
وَلم أَزل بهمُ في الأغيدِ الرغدِ / لا أَمسَ أَبكي وَلا أَخشى افتراقَ غد
والقَلب خالٍ من الأحزان والكَمدِ / حتى جَرى الدَهرُ فيما بيننا بيدِ
عسراءَ تمنعُني حظّي وتمنعُهُ /
وكم لَنا كانَ من أُنسٍ وَحُسنِ لقا / يَردى العَواذل فينا حسرةً وَشَقا
لَكنني كُنت أَدري ليسَ ثمَّ بقا / وَكُنت من ريب دَهري خائفاً قَلقا
فلم أَوقَّ الَّذي قَد كُنتُ أَجزعُهُ /
لَكنّني لم أصاحب عبرةً حُبِست / على البِعاد ولا لي مهجةٌ أَنِست
بلى وَلا فكرةٌ في سلوةٍ هَجَست / بِاللَه يا منزلَ القَصفِ الَّذي دَرَست
أَعلامُهُ وعَفَت مُذ بنتِ أَربعُهُ /
أَو يا ملاعب آمالٍ لوصلتنا / أَو يا مجال التهاني من أَحبّتنا
أَو يا منازل من لم يدر حالتَنا / هل الزَمان معيدٌ فيك لذتَنا
أم الليالي التي أَمضته ترجعُهُ /
قد كُنتَ تُرجَى لِمن وافى به وَلَهُ / وكان فيكَ به أنسُ الصفا وَلَهُ
واليَوم بانوا فمن ترضى تجملَهُ / في ذمة اللَه من أَصبحت منزلَهُ
وجاد غيثٌ عَلى مغناك يمرعُهُ /
باللَه لو تبدي بدراً أَو تكون سما / أَو تجري غصناً وتنشي جثةً إرما
هيهات تدرك مثل السادة القُدَما / من عنده ليَ عهدٌ لا يضيع كما
لي عنده عهدُ صدقٍ لا أضيِّعُهُ /
ومن يعزُّ عليه أن يقال أَذى / قلبَ المشوق فراقٌ قد أَجاد أَذى
ومن بحبة قلبي في الهوى أخذا / ومن يصدِّعُ قلبي ذكرُه وإذا
جرى عَلى قلبه ذكري يصدِّعُهُ /
أَقولُ حقاً ومن في الكَون يسمعني / وخلني عن أَمانيّ تطمِّعُني
إني وَحق الهَوى في يَوم وَدَّعني / لأصبرنَّ لدهرٍ لا يُمتِّعني
به ولا بيَ في حالٍ يمتِّعُه /
أَخوضُ من أَدمعي فيما جرى لُجَجا / وأَقحمُ النار من وَجدي بهم وَهَجا
فإن أَعظم ما يبدي إلى رَجا / علمي بأن اصطباري معقبٌ فرجا
فأضيق الأمر إن فكرتَ أَوسعُهُ /
ولا تغيّرَ عهدٌ من مودتنا / ولا يَرى عاذلٌ آثار ذلَّتِنا
ونكتم الوَجد حزماً في أَكنَّتنا / عَسى اللَيالي التي أَمضت بفرقتِنا
قلباً ستجمعني يوماً وتجمعُهُ /
هذا إِذا الدَهر لم تسبق سجيتُهُ / أَو لم تَطُل إذ رجوناه رَويَّتُهُ
فإن أَبى لم تفد ذا الحَزم حكمتُهُ / وإن ينل أَحداً منا مينتُهُ
فما الَّذي بقضاء اللَه يَصنعُهُ /