المجموع : 6
يا قاهرَ الموتِ كم للنفسِ أسرارُ
يا قاهرَ الموتِ كم للنفسِ أسرارُ / ذلَّ الحديدُ لها واستخْذت النَّارُ
وأشفَقَ البحرُ منها وهو طاغيةٌ / عاتٍ على ضرباتِ الصَّخرِ جَبَّارُ
حواكَ أُحدوثةً مُثْلى وتضحيةً / لم تحوِها سِيرٌ أو تروِ أخبارُ
رماكَ في جَنَباتِ اليمِّ محترِبٌ / خافي المقاتل عند الرَّوعِ فرَّارُ
ترصَّدتكَ مراميهِ ولو وقَعَتْ / عليهِ عيناكَ لم تُنقذهُ أقدارُ
يَدِبُّ في مسبحِ الحيتانِ منسرباً / والغورُ داجٍ وصدرُ البحرِ موَّارُ
كدودةِ الأرضِ نورُ الشمس يقتلها / وكم بها قُتِلتْ في الروضِ أزهارُ
هوى بكَ الفُلْكُ إلَّا هامةً رُفِعتْ / لها من المجدِ إعظامٌ وإكبارُ
واستقبلَ البحرُ صدراً حين لامسَهُ / كادتْ عليهِ جبالُ الموجِ تنهارُ
وغابَ كلُّ مشيدٍ غيرَ قُبَّعةٍ / ذكرى من الشَّرفِ العالي وتذكارُ
ألقيتَها فتلقَّى الموجُ مَعْقَدها / كما تلَقَّى جبينَ الفاتحِ الغَارُ
ولو يُرَدّ زمانُ المعجزاتِ بها / لانشقَّ بحرٌ لها وارتدَّ تيَّارُ
كأنَّها خطبةٌ راعَتْ مقاطعُها / لها العوالمُ سُمَّاعٌ ونُظَّارُ
تقولُ لا كانَ لي ربٌّ ولا هتفتْ / بذكرِه الحربُ إنْ لم يُؤخذِ الثارُ
يا ابنَ البحار وليداً في مسابحها / ويافعاً يؤثرُ الجُلَّى ويختارُ
ما عالمُ الماءِ يا رُبَّان صفهُ لنا / فما تحيطُ به في الوهم أفكارُ
وما حياةُ الفتى فيه أتسليةٌ / وراحةٌ أم فُجاءاتٌ وأخطارُ
إذا السفينةُ في أمواجهِ رَقصَتْ / على أهازيجَ غنَّاهنَّ إعصارُ
وأشجتِ السُّحْبَ موسيقاهُ فاعتنقتْ / وأُسدِلتْ من خدور الشُّهبِ أستارُ
وأنتَ ترنو وراءَ الأُفق مبتسماً / كما رَنا نازحٌ لاحتْ لهُ الدارُ
غرقانَ في حُلمٍ عَذْبٍ تُسلسلهُ / من ذروةِ الليل أنواءٌ وأمطارُ
يا عاشِقَ البحر حَدِّثْ عن مفاتنِه / كم في لياليهِ للعشَّاقِ أسمارُ
ما ليلةُ الصيف فيه ما روايتُها / فالصيفُ خمرٌ وألحانٌ وأشعارُ
إذا النسائمُ من آفاقه انحدرتْ / وضوَّأتْ من كُوَى الظلماءِ أنوارُ
وأقبلتْ عارياتٍ من غلائلها / عرائسٌ من بناتِ الجنِّ أبكارُ
شُغلُ الربابنةِ السارينَ من قدَمٍ / تُجلى بهنَّ عشِيَّاتٌ وأسحارُ
يُترِعْنَ كأسَك من خمرٍ مُعَتَّقَةٍ / البحرُ كهفٌ لها والدهرُ خمَّارُ
وأنت عنهنَّ مشغولٌ بجاريةٍ / كأنَّ أجراسَها في الأُذن قِيثارُ
صوتُ الحبيبةِ قد فاضتْ خوالجُها / ورنَّحتْها من الأشواق أسفارُ
وألهفَ قلبكَ لما اندكَّ شامخُها / والنوءُ مصطرعٌ والموجُ هدّارُ
بوغِتَّ بالقدَرِ المكتوب فانسرَحَت / عيناكَ تقرأ والأمواجُ أسطارُ
نزلتما البحرَ قبراً حين ضمَّكما / رفّتْ عليه من المرجان أشجارُ
نام الحبيبانِ في مثواهُ واتّسَدا / جنباً لجنبٍ فلا ذلٌّ ولا عارُ
مصارعٌ للفدائيين يعشقها / مستقتلونَ وراءَ البحر أحرارُ
مَنيَّةٌ كحياةٍ كلما ذُكِرَتْ / تجدّدَتْ لك في الأجيالِ أعمارُ
هيَ الفخارُ لشعبٍ من خلائقهِ / خَلْقُ الرجالِ إذا هاجَتهُ أخطارُ
له البحارُ بما اجتازتْ شواطئها / وما أجنّته خلجانٌ وأغوارُ
رواقُ مجدٍ على جدرانهِ رُفِعَتْ / للخالدين أماثيلٌ وآثارُ
دخلتَ من بابهِ واجتزتَ ساحتَه / وسِرتَ فيهِ على آثارِ من ساروا
يتيهُ باسمكَ في أقداسهِ نُصُبٌ / رخامهُ الدهرُ والتاريخُ حَفّارُ
ماذا قدومهُما والغيثُ مِدرارُ
ماذا قدومهُما والغيثُ مِدرارُ / لا صاحبُ الدَّارِ طلاَّعٌ ولا الدارُ
هذي البحيرةُ وسْنى حُلمُ ليلتها / لمّا تُفِقْ منه شطآنٌ وأغوارُ
والأرضُ تحت سحابِ الماءِ أخيلةٌ / مما يُصوِّرهُ عُشبٌ ونُوّارُ
والصبحُ في مهده الشرقيِّ ما رُفِعتْ / عن ورْدِه من نسيج الغيم أستارُ
حتّى الجبالُ فما لاحتْ لها قممٌ / ولا شدا لرُعاة الضأن مزمارُ
فمن هما القادمانِ الريحُ صاغيةٌ / لوقع خطوهما والأرضُ أبصارُ
أعاد من زمَنِ الأشباح سامرُهُ / فالليلُ والغاب أشباحٌ وأسمارُ
أم البحيرةُ جِنّياتُها طلعتْ / فهبَّ موجٌ يناديها وتيَّارُ
أم راصدا كوكبٍ ضلاَّ سبيلهما / لما خَبَتْ من نجوم الليل أنوارُ
أم صاحبا سفَرٍ مال الضَّنَى بهما / حوَتهما جنّةٌ للفنِّ معطارُ
أم عاشقان تُرى أم زائران هما / وهل مع الفجر عشَّاقٌ وزوَّارُ
ما ذلك الصوتُ شاجي اللحن سحَّارُ
ما ذلك الصوتُ شاجي اللحن سحَّارُ / يُجرِيهِ نبعٌ من الإِلهام زَخَّارُ
فيه تنفَّسُ فوق السحب آلهةٌ / وآدميون فوق الأرض ثُوَّارُ
وفيهِ تهْمسُ أرواحٌ وأفئدةٌ / منهن عانٍ ورَحمنٌ وجبَّارُ
له مذاقٌ له لونٌ له أَرجٌ / خمْرٌ أباريقُها شتّى وأثمارُ
أشتفُّهُ وأنادي كلَّ ناحيةٍ / مَنِ المُغَنِّي وراءَ الغاب يا دارُ
السمفونيةُ هذي أم صدى حُلُمٍ / كما تَجاوبُ خلف الليل أطيارُ
أعاد لِلمِعْزَفِ المهجور صاحبُهُ / فعربدتْ في يديه منه أوتارُ
أظلُّ أُصغِي وما من شُرْفةٍ فُتِحت / ولا أراح رِتاجَ الباب ديَّارُ
حتى الحديقةُ لَفَّتْ كوخَ حارسها / بِصمتها فهما نَبْتٌ وأحجارُ
تواضعتْ بجلال الفنِّ ما ارتفعتْ / مثلَ البروج لها في الجوِّ أسوارُ
تُصْغِي إلى همسات الريح شيِّقةً / كأنما همسات الريح أخبارُ
قد باح بالنّغَمِ الموعودِ قيثارُ
قد باح بالنّغَمِ الموعودِ قيثارُ / فالفجرُ أحلامُ عُشّاقٍ وأسرارُ
صحا يُفَضِّلُ رؤياهُ ويَعْبرها / موجٌ على الشاطئِ الصخريِّ ثرثارُ
وزحزحتْ ورَقَ الصفصاف حانيةً / على البحيرة أعشابٌ وأزهارُ
تُسائلُ الماءَ هل غنَّتهُ أو عَبرتْ / شهبٌ به مستحماتٌ وأقمارُ
يا صاحبَ اللحن إنَّ الغابَ مُصغِيةٌ / فأين من سجْفرِيدَ السيفُ والغارُ
ما زال فوق نديِّ العشب مضجعُهُ / ومن يديهِ على الأغصانِ آثارُ
هذا النشيدُ نشيدُ الحبِّ تعزِفُهُ / له عرائسُ مِثلُ الورد أبكارُ
بعثتهنَّ من الأنغام أجنحةً / هزيزهنّ مع الأفلاكِ دوَّارُ
في صدر قيثارةٍ أودعتَهُ نغَماً / مِزاجُهُ الماءُ والإعصارُ والنارُ
تُفْضِي بما شئتَ من أسرار عالمها / فيهِ ليالٍ وأيامٌ وأقدارُ
حتى الطبيعةُ من ناسٍ وآلهةٍ / تمازجتْ فهيَ أَلحانٌ وأشعارُ
هنَّأتُ باسمكِ تحت الشمس أحرارا
هنَّأتُ باسمكِ تحت الشمس أحرارا / يَنْدَى هواك على هاماتهم غارا
دمَشْقُ يا بلدَ الأحرارِ أيُّ فتىً / لم يَمْتشقْ فيك سيفاً أو يخُضْ نارا
ذوداً عن الوطن المعبود من دمه / للمجد يبنيه آطاما وأسوارا
زَكتْ أُميَّةُ في أعراقه وجرتْ / دماً يُروِّي الثرى أو يغسلُ العارا
عيدُ الجلاءِ أُسمِّيهِ وأعرفه / يومٌ تَباركَ أنداءً وأسحارا
جلا عن الشرق ليلَ البغي حين جلا / عروبةً فيكِ تلقى الأهل والدارا
لولا مصابٌ دهى الوادي فشبَّ به / ناراً وهاج النسيم العذب إعصارا
وروَّعَ الأمة الغلباءَ في رَجُلٍ / شدَّتهُ قوساً وسلَّتْ منه بتَّارا
من النوابغ أعماراً إِذا قصرتْ / مُدَّ النبوغُ لهم في الخلدِ أعمارا
أحرارُ مملكة في الرأي ما أثموا / سمَّاهمو الغاصبُ الظَّلَّام ثُوّارا
ثاروا على القيد حتى انحلَّ واقتحموا / على الطواغيتِ حِصنَ الظلم فانهارا
لولاهُ كان إِليك البرقُ راحلتي / أطوي به الجو آفاقاً وأقطارا
وجئتُ فيحاءُ أُزجي الشعرَ مُفتقِداً / تحت الصفائح مقداماً ومغوارا
والمفتدون شُراةُ الخلد قل لهم / ما ينظم المدح ألحاناً وأشعارا
عكّاءُ في الساحلِ الشرقيّ شامخةٌ
عكّاءُ في الساحلِ الشرقيّ شامخةٌ / تطاولُ النجمَ أبراجاً وأسوارا
كم غرّرت بالغزاة الصيد والتفتَت / إلى جحافلهم هزوا وإصغارا
وخلّفَت نارها أقوى سفائِنِهِم / يلهو بها الموجُ أنقاضا وأطمارا
مشى لها من ضفافِ السين مقتتل / دانوا به قيصرا في الحرب جبّارا
تساءل العرب من هذا وأيّ فتىً / يلقى الكماة شديدَ البأس قهّارا
وما سفائنُه في البحر منشَئَةً / رُعنَ الحديد وهجنَ النار إعصارا
كأنّ قرطاجةً ثارت ملاحِمُها / تنازعُ الغربَ أقواما وأمصارا
ذاك الذي راع ذئب البحر مخلبُه / وقلّمَ الدبّ أنيابا وأظفارا
تعوّدَ الحرب إقبالاً فما برَحَت / تغريه بالشرق حتى ارتدّ إدبارا
ألقتهُ عكّاء عن أبوابها ورمَت / به شراعا على الدأماء منهارا
حتى أتاها فتىً من مصر تعرفهُ / في الروعِ مقتحما في النقع كرّارا
أباح سدّتها واجتاحَ ساحتَها / فسلّمت كفّهُ الزيتونَ والغارا
وقبّلت في لواءٍ تحت إمرَتهِ / من فتيةِ النيلِ مقداماً ومغوارا
سمرٌ لهم بالشموس الغرّ واشجةٌ / تضيءُ أنسابهم شهباً وأقمارا
من كلّ رامٍ كما تنقضّ صاعقةٌ / يرمي العداة حديد الظفر عقّارا
وكلّ ليثٍ غضوبٍ مثل عاصفة / منه يطيرون ألباباً وأبصارا
لم يتركوا في مجال النصر متسعاً / للاحقٍ أو لباغي السبقِ مِضمارا