حَنَتْ على حاجز السفينهْ
حَنَتْ على حاجز السفينهْ / ترنو إلى الرغو والزَّبدْ
كأنّها الفتنةُ السجينةْ / تمضي بها لُجَّة الأبدْ
نَبَتْ بها ضَجَّةُ المكان / يَزينها الصَّمْتُ والجلالُ
والبحرُ من حولها أغاني / والسُّحْبُ والريحُ والجبالُ
ساهرة وحدها تُطِلُّ / بملتقى النور والظلامِ
لا تسأم الصَّمْتَ أو تَمَلُّ / تَهامسَ الشُّهْبِ والغمامِ
تُصْغي إلى الموج والرياح / في مَعْزِلٍ شاق كلَّ عَينِ
كأنها نجمةُ الصباحِ / مُطِلَّةٌ من سحابتينِ
هفهافةُ الثوب في بياضٍ / يكاد عن روحها يشفُّ
لأيِّ ذكرى وأيِّ ماضٍ / يَسْرِي بها خاطرٌ ويَهْفو
وما وراءَ العُباب تَبْغي / وأيُّ سرٍّ لها تَبدّى
وأيُّ لحن إِليه تُصغي / بروحها الحالم استبدَّا
عجبتُ للبحر ما عراهُ / يودّ لو مسَّ ناظريها
يتاخمُ النّجمَ في علاهُ / ويَنثني جاثياً لديها
وهائمٍ في الفضاءِ صَبِّ / مُجنّح لا يبينُ طيفا
كم ودّ لو من ضنىً وحُبِّ / هوى على صدرها وأَغفى
كم بثّ من أنّةٍ وألقى / بهمسةٍ ضائعٌ صداها
يا وَيحه لا يَحير نُطقا / فكيف تُلقي له انتباها
أنفاسُهُ عن جَواهُ تُغْنِي / عليلةً خفْقُها اضطراب
كآهةٍ في فم المُغَنِّي / جريحةٍ لحنُها العذابُ
يدنو ويرتدُّ في حياءِ / يُجاذب الثوبَ والشّعَرْ
وكلما كلَّ من عياءِ / أثاره الوجدُ فاستعرْ
يضمُّها راعشاً ويمضي / مباعداً وهو ما ابتعدْ
كأنه بالحنين يقضي / لُبانةَ الروح والجسدْ
والقمرُ الطالع الصغيرُ / أزاح عن وجهه السّحابا
وقد جرى ضوؤه الغريرُ / يستشرف الأُفْقَ والعُبابا
المرحُ العابثُ الطروبُ / لما دعا باسمِهِ الشروقُ
نادت به موجةٌ لعوبُ / إليَّ يا أيّها المشوقُ
طال على المنتأى طُروقي / وطال مَسراكَ في السماءِ
فَنَمْ على صدريَ الخفوق / واحْلُمْ بما شِئْتَ من هناءِ
وانْسِني وحشةَ الليالي / بقُبْلةٍ منكَ يا حبيبي
لكنّه مرَّ لا يبالي / ولجّ في صمتهِ العجيب
مذ أبصرته انثنى ومرّا / قالتْ ومن دمعها مَسيلُ
لأنتَ مثلُ الرجال طُرّا / يا أيُّها الخائنُ الجميلُ
وهبتُكَ الغضَّ من شبابي / سكرانَ من خمر أُمسياتي
فأين تمضي على العُباب / من صوت حُبّي وذكرياتي
ومن هيَ الغادةُ التي / تنسلُّ من مخدعي إليها
أعندها مثلُ فتنتي / أم انني أفْترِي عليها
إذهبْ إِليها ودعْ ذمامي / فديتُكَ اسْلَمْ على التنائي
إذْبَحْ على صدرها غرامي / واملأ لها الكأسَ من شقائي
والْهُ مع الغيد والعذارى / وغنّ بالكأس والوترْ
وانقعْ من الغُلّة الأُوارا / واقطفْ من اللّذة الثّمرْ
أبوكَ والطبعُ لا يحولُ / وَرِثْتَهُ خِلْقةً وخَلْقا
يا أيها القُلَّبُ الملولُ / من قبضتي لن تنالَ عِتْقا
مُطاردٌ أنت باشتياقي / ما جُبْتَ أرضاً وجُزتَ بحرا
مُقيّدٌ أنتَ في وثاقي / وإنْ رأتكَ العيونُ حُرّا
لأنتَ مهما كبرْتَ طِفلي / يا ابنَ الهوى البكرِ والألَمْ
خُطاكَ مسبوقةٌ بظلّي / وإنْ تعلّقتَ بالقِمَمْ
سأحفظ العهد مِنكَ دوما / وأقطع العمر في انتظارِكْ
وسوف تأوي إليّ يوماً / تبكي وأبكي إلى جواركْ
ضراعةٌ من عذاب أُنثى / مَشَتْ على المائج الغضوبِ
صغا لها الليلُ واستحثّا / سواكنَ الريح للهبُوبِ
وحدّقتْ في الدُّجَى نجومُ / غيرَى تغامزن بالخبرْ
وغمغمتْ نجمةٌ رؤومُ / أما يرى ضوءَه القمرْ
أما يرى ذلك الصَّبِيَّا / يُؤلّب البحرَ والظلاما
فيا لهُ فاتناً خَلِيّا / يُزوّرُ العشق والغراما
كم ليلةٍ بعد ألف ليلهْ / لم تروِها عنه شهرزادُ
وكم عناق له وقُبْلهْ / في كِذبةٍ لفظُها مُعادُ
فاستوعب الضوءُ ملءَ حسّهْ / مفاتنَ الناس والطبيعهْ
مُردّداً في قرار نفسهْ / ما أبشع الغيرة الوضيعهْ
وارتعش الضوءُ ثم أضفَى / من حوله الصفوَ والسكينهْ
وابتسمتْ نفسه فألفى / خطاه في جانب السفينهْ
فراعه ذلك الجمالُ / جمالُها الصّامتُ الحزينُ
فشاقه الشِّعرُ والخيالُ / وهزّهُ الوجدُ والحنينُ
فقال يا روعةَ المساءِ / وفِتنةَ اللُّبِّ والبصرْ
قد آذن الليلُ بانقضاءِ / وأنتِ موصولةُ السهرْ
أيّتُها الملكةُ الكسيرهْ / أيّتُها الربّةُ الخجولهْ
أيّتُها الطفلةُ الكبيرهْ / لن تبرحي عالمَ الطفولهْ
أعلمُ ما تكتمين عنِّي / وإنْ تلثَّمتِ بالخفاءِ
خمسُ ليالٍ وأنت مني / متبوعةُ الظلِّ باشتهائي
قد كنتُ أُزهى بما عرفتُ / من فِتنِ الحسن والدلالِ
لكنّني الليلةَ اكتشفتُ / أروعَ ما شِمْتُ من جمالِ
عشقتُ فيكِ الهوى ودُلّهْ / في زَهوةِ الحسن والشبابِ
وذلك الصّمت ما أجلّهْ / في عالم اللَّغو والكذابِ
هاربةٌ أنتِ يا فتاتي / من ثورةِ الشكّ والرِّيَبْ
هَرَبْتِ من ضجَّة الحياةِ / فكيف من نفسِك الهربْ
بها ابدئي أولاً فسُلّي / وردكِ من شوكِهِ الأثيمِ
لا البُعْدُ يجدي ولا التسلّي / كطعْنكِ الغدر في الصميمِ
هنيهةٌ لم يَطُلْ مداها / تروع بالصّمت والشحوبِ
لم يبلغ الليلُ منتهاها / إلَّا على رَوعةِ المغيبِ
والتفتَ الضوءُ للوداع / يهمسُ في رِقّةٍ ووجدِ
يا ربَّةَ الحسنِ لا تُراعي / فلترْعَكِ الكائناتُ بعدي
يا ليلُ يا موجُ يا رياحُ / أيّتُها السُّحْبُ والظلالُ
أيّتُها الغُورُ والبِطاحُ / أيّتُها الشهبُ والجبالُ
في الجوّ في الماءِ في الثرى / صوني لها العهدَ والودادا
رُدِّي على عينها الكرى / وأبعِدي الفِكرَ والسهادا
وأنقذيها مِنَ الجوى / يا عاشقاتي على الزَّمانِ
بكلِّ ما فيك من قُوَى / وكلِّ ما فيَّ من حنانِ