يا أيها الروحُ يهفو حوله الفرَح
يا أيها الروحُ يهفو حوله الفرَح / تحيّة أيهذا الصادحُ المَرِح
من أمّةِ الطير هذا اللحن ما سمعت / بمثله الأرض لا روضٌ ولا صدَح
أنت الذي من سماء الروح منهلُه / خمرٌ إليهةٌ لم تحوِها قدَحُ
يفيضُ قلبُك ألحانا يسلسلها / فنّ طليقٌ من الوجدانِ مسرِح
وعالياً عاليا لا زلت منطلقاً / عن الثرى تصل الآفاق آمادا
مثل السحابة من نار مسعّرَة / والبرق مؤتلقا والنجم وقّادا
يهفو جناحاكَ في أعماقِ زرقتها / وأنت تضرب في الآفاقِ مرتادا
تشدو فَتُمعن في أجوازها صعدا / فإن علوت بها أمعنت إنشادا
ومائج ذهبيّ النتور قد غرقت / في ذوبِه الشمس عبر العالم الثاني
توَهِّج السحب البيضاء حمرتهُ / فتستحيل عليها ذات ألوان
أشعةٌ ذات أمواج غدَوتَ بها / تطفو وترسب في لجيّها القاني
كأنما أنت جذلانا تراوحنا / روحٌ من الطرب العلويّ نوراني
تذوب حولك إما طرتَ في أفقٍ / غلالةُ الأرجوان الشاحب الساجي
كنجمةٍ في سماء الليل خافقة / تذوب في فلَقٍ للصبح وهّاج
يا من تطرّبني ألحان غبطَتهِ / وما رأيت له طيفا بعراج
ألا أراك فإني سامعٌ نغما / يهفو إليّ بإطرابٍ وإبهاج
وصاعدا في مضاء السهم أرسلَهُ / قوسٌ من الكوكب الفضيّ منزعه
ينأى فيخبو رويدا وهج شعلَتهِ / حتى يلاشى كأن الفجر يتبعه
ونرسل العين نرعاه هنا وهنا / وما يبين لنا من أين مطلع
حتى إذا عزّنا المرأى وأجهدنا / دلّ الشعور على أن ذاك موضعه
هذي السماء بموسيقاك مائجةٌ / والأرضُ يغمرُها من صوتك الطرَب
وصفحة الليلِ أصفى ما يكون سوى / غمامة خّلتها وحدها السحُب
وقد بدا القمرُ الوضاح يمطرها / إرسالَ ضوء على الآفاقِ ينسَكِب
يرمي السموات سيل من أشعّتها / تكاد تسبحُ في طوفانهِ الشهُب
من أنت يا من يجوب الليل منفردا / ولم تقع لي عليه بعد عينان
أي الخليقة قل لي أنت تشبهه / وأيها منك في أوصافه داني
وهذه السحبُ أصباغاً مشكّلةً / في رائعٍ من فريدِ اللون فتّانِ
لا ينزلُ الغيثُ منها مثلما نزلت / شتّى أغانيكَ في سحريّ ألحانِ
كشاعرٍ في سماء الفكر مختبىءٍ / دلّ الوجود عليه لحنُه العالي
ألحان أغنيةٍ أمسى يُرتّلها / كمرسلٍ من نشيد الخلدِ سيّال
أسلنَ بالعالم السالي خوالجَه / حتى استحال شجوناً قلبه الخالي
يعثن من ألم فيه ومن أمل / ما لم يكن منه في يوم على بال
كأن حوريةً في ظلّ شاهقةٍ / من البروج تقضّي العيشَ في خلس
لم يغمضِ النوم عينيها ولا خمدت / نيران قلب لها في فحمَةِ العلس
باتت تلطّفق آلاما تساورها / في عزلة بنشيد ساحر الجرسِ
تطوف ألحانُ موسيقاه مخدعها / كأنه الحبّ في إيقاعه السلسِ
كأن بين الربا التفّت خمائلُها / فراشةٌ من سبيك التبر جلواء
يا حسن أجنحةٍ منها مذهبةٍ / قد رقّثتها من الأسحارِ أنداء
تُري السماء صفاءً فهي إن خطرت / فللسماء بهذا اللّون إغراء
تجلو الأزاهر والأعشابَ طلعتُها / إذا بدت ولها فيهنَ إخفاء
كزهرة الحقل في غيناء سرحتها / لم يملأ النور من أجفانها حدقا
حتى إذا لفَحَتها الريح هاجرةً / زكت وأربت على أملودها ورقا
وأرّجَ الحقلَ من أنفاسها عبقٌ / يشوق كل جناحٍ نحوها خفَفا
تهفو إليها من الأنسام أجنحةٌ / من كل منطلق من عطرها سرقا
ووقعُ لحنك في الأسحارِ أرخمُ من / وقعِ الندى فوق أعشاب البساتين
قد نقّط الزهرَ المنضور سلسلُه / وجاد بالطلّ أفوافَ السرياحين
يا من على صوته في الأفق منسجماً / تصحو الأزاهرُ في أفنانها العين
كل البدائع مهما افتنّ مبدعُها / لم تعد لحنك في صوغ وتلحين
قل لي أمن ملَكوتِ الروح منطلقٌ / أم طائرٌ أنت في الآفاقِ هيمان
أيّ الخواطرِ من حسنٍ ومن بهَجٍ / يشيعها منك في الأرواحِ وجدان
لم تشرئبّ قلوبٌ من أضالعها / لغير صوتك أو تنصبّ آذانُ
حديث حب وخمر بات يسكبهُ / من جانب اللَه أنغامٌ وألحانُ
من أين تلك الأغاني أنت ترسلها / من أيّ مطّردِ الينبوع منسجمِ
من أيّ ثائرةِ الأمواجِ زاخرةٍ / أي السهولةِ والأغوارِ والقمَمِ
من أيّ ضاحية الآفاقِ صاحيةٍ / أي السهولة والأغوارِ والفمَمِ
وأيّ حبٍّ أليف منك أو وطنٍ / وأيّ جهل لما نلقاه من ألم
وفي منامكَ والآفاقُ حالمةٌ / وفي نتباهك والظلماءُ إصغاء
لا بدّ من نباءٍ للموت تعرفهُ / وفي فؤادكَ عنه اليوم أشياءُ
لأنتَ أعمق فكراً في حقائقه / مما نراه ونحن اليوم أحياء
أو لا فكيف انسجام اللحن مطّرداً / يجريه من رائق البللور لألاء
إنا نفكّرُ في ماضٍ بلا أثَرٍ / ومقبل من حياة كلها غيبُ
ومستحيل نرجّي برق ديمتِهِ / وكل ما نرتجيه منه مختلب
وكم لنا ضحكاتٌ غير صادقةٍ / ما لم يشب صفوها التبريح والوصبُ
وإن أشهى الأغاني في مسامعنا / ما سالَ وهو حزينُ اللحنِ مكتئب
هبنا على رغمِ هذا ليس يجمعُها / بالحقد أو كبرياء النفسِ أوهاق
فلا القلوب لدى البأساء جازعةٌ / ولا بهنّ إذا روعن إشفاق
فكيف كنا إذا نلقاك في فرحٍ / أو يغمر الروح لحن منه رقراق
يا أعذب الطير موسيقى وأروعَها / من كل رائق أنغام وألحان
ويا أعزّ لنا من كل ما جمعت / نفائسُ الكتب من دريّ تبيان
يا ما أحقّ اقتدار منك قدرته / بشاعر لبقِ التصورِ فنّان
أنت المبرّأ في حبّ وعاطفةٍ / يا من تعاليتَ عن أرضٍ وإنسانِ
أما تعلّمني مما يفيضُ به / غناؤكَ العذبُ تطرابا وتحنانا
ذاك الحنون الذي يهدي توافقهُ / إليّ من صدحات الخلد ألحانا
ألستَ تلهمني وحيا يفيضُ به / فمي فأملا قلب الكون إيمانا
أشدو فيلقي إليّ الكون مسمعه / يصغي إليّ كما أصغي لك الآنا