المجموع : 112
مسروقة كلها تلك المضامينُ
مسروقة كلها تلك المضامينُ / وليسَ منها لهم إلا العناوينُ
لقد أَهانك منهم غير ذي أدب / يا شعر إني عليك اليوم محزون
ما الشعر إلا بمعنى فيه يرفعه / وليس يكفيه أن اللفظ موزون
إن القلوب إذا لم يعترفن بما / منه تحس فلا تجدي البراهين
الشعر ما عاش دهراً بعد صاحبه / وصاحب الشعر تحت الأرض مدفون
قد يفضل البيت ديواناً برمته / وقد تقصر عن بيت دواوين
والناس ليسوا سواء في اِستجادته / بل نزعة المرء فيما يرتضي دين
الشِّعر كان يسرّ العين زهرته / حيناً إلى أَن تولى ذلك الحين
والشِّعر من بعد ما قد دال دولته / قاسيت منه عذاباً كله هون
أيامه البيض ما كانَت بنافعتي / وقد تضرّ به أيامي الجون
لم يضمن الشعرُ حقاً عنده ليَ في / يوم وأما الَّذي عندي فمضمون
أَشكو إِلى اللَيل بثي وهو يسمع لي
أَشكو إِلى اللَيل بثي وهو يسمع لي / فأَملأ الليل إعوالاً وإرنانا
من لي بحرٍّ كبير النفس ذي حسب / يأبى على الضيم إِقراراً وإِذعانا
إن الَّذي ساس قوماً وهو يجهلهم / أَعمى يقود بظهر الوعر عميانا
قالوا سيقبل يوم فيه مسعدة / فقلت أَيَّان ذاك اليوم أَيَّانا
طالبت دَهري بحق لي تهضَّمه / دَهري فأَوسعني مطلاً وليّانا
يسؤوني أن من نهواه يمقتُنا / وأن من لم نكن ننساه ينسانا
كم مجرم ذي مقام في مواطنه / تَراه مِمّا جنت أَيديه جذلانا
يا مزهق الروح إرضاءً لشهوته / هدمت مِمّا بناه اللَه أَركانا
لا تزهق الروح من جسم يقيم به / واجمع إن اسطعت أرواحاً وأبدانا
ومورد لي من الأيمان أَغلظها / على سلامة ما ينويه برهانا
إني لأَحسب أن الشر نيته / وإن أَتى وهو يخفي الشر أَيمانا
وواعظ غارق في لحية كبرت / يأتي بكل قبيح ثم ينهانا
لا واللحى والَّذي في الوجه أنبتها / ما إن تكون اللحى للفضل ميزانا
يشجي العيون على حسن هناك به
يشجي العيون على حسن هناك به / لون الدماء الَّتي سالَت على الأسلِ
ما نالَت النَفس ما كانَت تؤمله / يا خيبة النفس بل يا ضيعة الأمل
نفديك من كوكب للرشد وهّاجِ
نفديك من كوكب للرشد وهّاجِ / نَمشي على ضوئه في ليلنا الداجي
بالاتحاد اعتصم إن كنت معتصماً / فإنه للترقي خير منهاج
إن الَّذي أخذت عينى تشاهده / قد أبهج النفس منى أي إبهاج
أرى العدالة يا قَلبي الكَئيب وفت / بوعدها وهي كل السؤل والحاج
أشر عليّ وقل من أين ألثمها / أَمن ترائبها أم طرفها الساجي
هي الحَبيبة تحمي اليوم حوزتها / من التعرض أيدي حزبها الناجي
من كل أروع لا يَخشى منيته / وخائض لغمار الهول ولّاج
لَولا بقية آمال تعللني / لطال في اليأس تأويبي وإدلاجي
حسناء ترفل في ثوب يجللها / وذلك الثوب من خز وديباج
مشت من البهو والأحرار تتبعها / إلى الحديقة فوجاً بعد أفواج
حزب على خلفة الأديان متحد / كأَنه لم يكن قبلاً بأمشاج
معشوقتي عن هَواها لست منصرفاً / وإن فروا بسيوف الغدر أوداجي
وقفت والعين تَبكي من مسرتها / أمام شعب من الإفراج عجّاج
أمام بحر من الأفكار مضطرب / أَمام جيش من الأصوات رجراج
إن الشعوب إذا هاجَت عواطفها / كالبحر يضرب أمواجاً بأمواج
يا قوم إنكم نِلتم مطالبكم / فأفرجوا عن طريقي بعض إفراجِ
أو اسمحوا بسكوت كي أخاطبكم / أو انصرفت كما قد جئت أدراجي
قالوا تكلم وساد الصمت بينهم / فقلت أنصح والإخلاص منهاجي
العلم يا ناس لا تنسَوا تدارسه / فإنه للمعالي خير معراج
لا أطفأَ اللَه نوراً كان منتمياً / إلى سراج من العرفان وهَّاج
والعدل حيطة من قد كان ذا سعةٍ / وعون كل فقير الحال محتاج
والظلم مفسدة ماحل في بلدٍ / إلا وأزعج فيه أي إزعاج
قد أُعلنت للورى حرية فمضى / زمان سخرة ذي أمر وقرباج
وأُطلقت كل نفس من أسارتها / هذا الذي كان يرجو نيله الراجي
فقال في وصفها شعري يؤرخها / تحرر الناس من أسر وأحواج
إن العدالة ويك اليوم في الطلبِ
إن العدالة ويك اليوم في الطلبِ / يا ظلم فاِستخف أَو فالجأ إلى الهربِ
قد كانَت العين قبل اليوم باكية / من الأسى وهي تَبكي اليوم من طرب
البرق أَهدى لنا بشرى بها هدأت / أرواحنا بعد طول الخوف والرهب
بشرى كَما تَبتَغي الآمال صادقة / أجلها الناس من قاص ومقترب
لَقَد أَقر لعمري أَعيناً سخنت / ما ناله فئة الأحرار من أَرب
صاحت لفرحة هذا العيد أفئدة / كانت تئن من الإرزاء والنوبِ
صاحت سروراً وكانت قبل فرحتها / تدعو على كربها بالويل والحرب
العدل في الناس برد الصبح ينفحها / والظلم في الناس مثل النار في الحطب
بدا وكلُّ قوى الآمال تتبعه / كأنه قائد في عسكرٍ لجب
يا عدل سيفك محمود صرامته / في حده الحد بين الجد واللعب
جرده من غمده يا عدل مقتدراً / واحكم به بين مغصوب ومغتصب
يعود منك إلى بغداد شوكتها / مما مضى عهده في سالف الحقب
نعم يعود إليها كل ما فقدت / من دولة العلم والعرفان والأدب
كم قد تعبنا ولم نظفر بحاجتنا / واليوم فزنا بها من غير ما تعب
مرت علينا ليالٍ قد حكت حقباً / بعداً لها من ليال هن كالحقب
سود غرابيب ما في جوّها قمر / ولا على أفقها لمعٌ من الشهب
لها سماءٌ تهاب العين رؤيتها / لما على وجهها الداجي من السحب
ما كنت أحسبها واليأس معذرة / تبدي صباحاً ينير الكون في العقب
أبدت نعم ليَ فجراً صادقاً سطعت / أنواره ليس بالموهوم والكذب
أمي بما نلت من حرية فرحت / وإنها وطني المحبوب إي وأبي
يا أَيُّها الناس إن العدل غانية / فتانة الوجه والعينين واللبب
في نحرها ماسة كالنجم ساطعة / وفوق مفرقها تاج من الذهب
تالله قد سلبت لبِّي غداة بدت / هيفاء ترفل في أثوابها القُشب
أَخال ليلى وَلَيلى العدل قد رضيت / عن المحبين بعد السخط والغضب
أمَّلتُ بالأمس عن بعدٍ زيارتها / فواصلت فوق ما أمَّلتُ عن كثب
أظنها رقّ منها القلب فانعطفت / لما رأَت ما لدمعي أمسِ من صبب
إن لم يكن دمع عيني أمسِ رقَّقها / فإن زورتها من أعجب العجب
ماذا الَّذي جعل الحسناء ترحمنا / لا بد من سبب لا بد من سبب
بل لقد رقَّ منها القلب حين رأَت / عيني تجود بقاني دمعها السرب
جودي بوصلك ليلي يا حبيبتنا / جودي على كل مشتاق ومكتئب
يكفي الذي فيك كابدناه من ألمٍ / يكفي الذي فيك قاسيناه من نصب
بما بعينيك من سحر ومن دعج / وما بثغرك من ظلم ومن شنب
لانَت احسن ما شاهدت من حسن / وأَنت أَكبر ما منيت من أَرب
عَمَّ البِلاد سرور لا ينغِّصُهُ / إلا وَفاة أَبي أَحرارها رجبِ
ذاكَ الَّذي كانَت الآمال تطلبه / لدفع ما حاق بالأوطان من كرب
لمّا نعاه ليَ الناعي يخبرني / سكتُّ من دَهشي حيناً وَلَم أُجب
كأن جذوة نارٍ أَحرقت كَبدي / أَو كَهربائية سارَت على عصبي
نعيُّهُ جاءَ في إِبّان فرحتنا / فنحن في مأتم منه وَفي طرب
أَفراحنا برزايانا قَد اِختلطت / فَقلتُ قد طابَت الدنيا وَلَم تطب
أَبكيتَ يا موت عين السيف فيه كَما / أَبكيت يا موت عين العلم والأدب
ما كان ضرك لو أخرته فنجت / به البلاد من الأخطار والنوب
لهفي على العلم منه والنهى وعلى / تلك الفصاحة في ألفاظه النخب
لَقَد بكتك مَعاليك الَّتي اِشتهرت / وَهذه الناس من ترك ومن عرب
كبرت بالنفس والأفعال شاهدة / لا بالمناصب والألقاب وَالرتب
حوى ضَريحك محبوباً لمملكة / سقى ضَريحَك هطال من السحب
فغاب شمسك عنا بعد أن سطعت / فليت شمسك ذات النور لم تغبِ
وليت شمسَك كل الدهر بازغة / تجلو العمى عن عيون ظَلن في الريب
خلَّفتَ بعدك ذكراً خالداً حسناً / وَذاكَ أَفضَل من مال ومن نشب
نجاد إنك لا تجزع ستخلفه / نجاد إنك خير ابن لخير أب
نجاد إنك معروف بحكمته / فاصبر فإن جميع الناس للعطب
الخير أن يستمر الناس إخوانا
الخير أن يستمر الناس إخوانا / والشر أن يهضم الإنسان إنسانا
إني لأحزن حزناً لا يفارقني / إذا رأَيت من استأمنت قد خانا
لا يخدع المرء إنساناً لغايته / إلا إذا كان ذاكَ المرء شَيطانا
صف الحقيقة للشبان يا قلمي / فكل ظني أن الوقت قد حانا
كن بالحقيقة مجهاراً وإن جرحت / وأعلن السر كل السر إعلانا
أَرضِ الإله وناساً طاب محتدهم / ودع عليك لئيم القوم غضبانا
ولا تبال إذا عاداك من سفه / بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا
قل ما تَرى فيه إصلاحا لفاسدهم / فقد يصادف منك القول آذانا
إذا وعى الناس ما تبديه من حكم / آبوا إليك زرافات ووحدانا
وَهَل عليك رعاك اللَه من عتب / إذا دللت على الغدران ظمآنا
إنَّ العقول لعمر اللَه ساخرة / مما رموك به زوراً وبهتانا
إن تنصر الباطل الممقوت زعنفة / فإن للحق أنصاراً وأعوانا
قُل لِلَّذي قد تَمادى في غوايته / يا منكر الحق إِنَّ الحق قد بانا
تريد بالغصب من حق الضعيف غنىً / وَبالصَلاة إلى الديان قربانا
لا يكسب المرء علماً من عمامته / إن الجهول جهول كيفما كانا
يرى الإحالة في أشياء ممكنة / وفي المحال من الأشياء إمكانا
اركض من الزور بغلاً أنت راكبه / فقد وجدت لبغل الزور ميدانا
مطارف الخز لا توليك مفخرة / ما دمت من مثبتات الفضل عريانا
يا عدل أنت مشاع النفع مشترك / فهل يظل نصيبي منك حرمانا
يا جهل أَنت برغم العلم والأدبِ
يا جهل أَنت برغم العلم والأدبِ / ممتع بعلو الجاه والرتبِ
يا جهل يأتيك عفواً ما تحاوله / يا جهل من غير سعي منك أو تعب
لا شيء في الشرق أَعلى منك منزلة / يا جهل حسبك هذا العز من حسب
العلم يعجز عن إدراك بغيته / وأنت تبلغ ما ترجوه من كثب
تأَتي المحافل محفوفاً بتكرمة / والعلم يرجع مطروداً إلى العقب
من أَين للعلم أردان مزخرفة / من أَينَ للعلم أطواق من الذهب
يا جهل قد ساعدتك الحال فاعلُ وتِه / وارفُل كما شئت في أثوابك القشب
قَد أَصبحَ الوطن المحبوب تربته / ألعوبةً في يد الأحداث والنوب
يُملى له الحيف من حزب التقهقر ما / يمليهِ قسراً لسان النار للحطب
الحلم ثبطه عن ثأر واتره / وَما الحليم بمأمونٍ على الغضب
وهل تعوق إذا حيته معدلة / شعاع وتتجن ألواح من الخشب
ما أَنقذ القوم نصحي من غوايتهم / ولا أَفادهمُ شعري ولا خطبي
إذا أَقمتم فإن المال منتزع / وإن رحلتم فإن النار في الطلب
يا باذلاً لولاة السوء ما ملكت / يداه من كل موروث ومكتسب
يرجو بها رتبةً شماءَ راقية / كيما يقال فلان من ذوي الرتب
من ذا يعولك والأيام محوجة / إذا بقيت بلا مال ولا نشب
لا يرحم القوم من بانت مفاقره / فبات في القوم مطوياً على سغب
الدهر خان وكبار البلاد قضوا / ودولة الترك سادت أمة العربِ
والمرء في وصف أمر لا يشاهده / بمنزل بين صدق الظن والكذب
وإنما العقل نبراسٌ لحامله / يضئ ما حوله في سدفة الريب
لا يحدث الشيء من تلقائه عرضا / لكل حادثة لا بر من سبب
العدل كالغيث يحيى الأرض وابله / والظلم في الملك مثل النار في القصب
يا عدل بعدك من للاهفين ومن / للواقفين تجاه الموت والعطب
يا عدل من لمروع بات مرتجفاً / وَصارخ قد دعا بالويل والحرب
من ذا إذا ما اِستَجار الخائفون به / يرد عن ذي حقوق كفَّ مغتصب
يا عدل هل أنت في يوم معاودنا / فبعدك العيش لم يحسن ولم يطب
يا عدل حسنك بعد اللَه نعشقه / حتَّام أنت عن العشاق في حُجُب
لو أسعف العدل لم نحتج إلى حرس / في طلعة البدر ما يغني عن الشهب
وقائل قد حرمت الجاه قلت له / ما الجاه في دولة الأوغاد من أَربي
والجاه ليس بأَلقاب مفخمة / تهدَى لمنغمسٍ في الإثم منتهب
بل إنما الجاه في مجد تطول به / وإنما المجد كل المجد في الأدب
وإنما العز مشروح خلاصتُه / في متن أبيضَ ماضي الغرب ذي شطب
لا تقربنَّ كثيراً من حكومتهم / فإن مكروبها أعدى من الجرب
لقد وضعت يدي والعين باكية / على فؤاد من الأحزان مضطرب
عثرت في جوف ليل للخطوب دجا / بذيل جيش من الأهوال ذي لجب
والأمن قد غاب عن عينيَّ مشهدُه / فليت ما غاب عن عيني لم يغب
إذا لعبت تجدُّ الحادثات وإن / جددت في الأمر فالأحداث تلعب بي
وهكذا أنا بالأحداث مرتهنٌ / أقطِّع العمر بين الجد واللعبِ
أرى ظلاماً أمامي غير منصرف / عني بحال وأني منه في عجب
عميت أم طال ليلي فوق مدتهِ / أم أَخَّر الفجر ما في الجو من سُحب
لو كان قومي أباة ما تهضَّمني / وغدٌ من الترك معزوٌّ لغير أب
ليس الفتى بذليل في قبيلتهِ / لحكم آخر إن كانوا ذوي عصب
فالمرء ما كان محمياً بأسرته / كالليث عرّس في عِيصٍ له أشب
كن يا دعيُّ إلى الأمجاد منتسباً / فإنما المرءُ مأمون على النسب
واذكر لمن لجَّ في الانكار بينةً / فذاك أكشف بين الناس للرِيبَب
لا تنتحل نسباً من غير بينةٍ / فقد يضرُّك أن تعزى إلى الكذب
ماذا عليك وأنت اليوم مقتدرٌ / إذا افتخرت بما أولوك من لقب
وأي نقص لمثرٍ فاته حسب / أليس في المال ما يغني عن الحسب
ألا رعى اللَه أَوطاناً لنا امتهنت / محبوبة السهل والوديان والكثب
فحبَّذا تلك من سهل وأودية / وحبذا هضب الأوطان من هضب
الماء يجري فراتاً في مسائلها / والريح طلقاً على الأغوار والحدب
ومنبت الشيحٍ والحَوذان تربتها / ومغرس النخل والرمان والعنب
قد أَضرم الجور ناراً في مساكنها / وأهلها بين نفاخ ومحتطب
واعصوصب الشر حتى لا ترى أَحداً / إلا يئن من الأرزاء والنوب
ورب حرّ رأَى الأوطار صائرة / إلى الدَّمار بحكم العسف والنكب
يقول قد وجب اليوم النزاع لها / كأنه قبل هذا اليوم لم يجب
أما لقد رقّ شعرٌ كان قائله / يبكي كثيراً على باكٍ ومنتحب
ولا تخالنّ أن الشعر أنقذني / من المصائب والآفات والكُرب
لو ساعدتني الليالي سرت من وطني / إلى مكان بعيد منه منشعب
لا غرو إن فرّ حرٌّ خوف محنته / فكل ذي رهب يأوي إلى هرب
إني على الرغم مني ساكن بلداً / ما إن بها من أَنيسٍ لي سوى كتبي
يَعيش شعب إذا ما ضيم ينتفضُ
يَعيش شعب إذا ما ضيم ينتفضُ / من الهوان وإلا فهو ينقرضُ
وَلَيسَ من قوة في الكون قاهرة / تَسطيع أَن تقعد الأقوام إن نهضوا
كَم من شعوب تفانوا من جهالتهم / إن الجهالة موت أَو هي المرض
عن كل شيء إذا ضيعته عوض / إلا الحياة فَما عن هذه عوض
ينال كل امرئٍ مجداً يحاوله / لَولا المصاعب دون المجد والمضض
لَيسَ الَّذي جاءَ يَمشي اليوم متئداً / بسابق للأُلى من قبله ركضوا
نصحتهم أَن يثوبوا في مقالتهم / إلى الحقيقة إلا انهم رفضوا
وَفتية وجدوا من أَجل موجدتي / حتى إذا فهموا أني رضيت رضوا
أَوردتها حججاً كالشمس ساطعة / والمنكرون بغير السب ما دحضوا
لَو كانَ معترضي أَهلاً لمعرفة / ما جاءَ قط على ما قلت يعترض
أَما الحياة الَّتي يحيا السواد بها / فالناس منبسطٌ منها ومنقبض
لا سامح اللَه في بغداد طائفة / من بعد ما أَبرموا لي عهدهم نقضوا
إذا نوى الشعب إدراكاً لحاجته
إذا نوى الشعب إدراكاً لحاجته / فإنما الشعب مضمونٌ له الدركُ
الحمد للَّه أن زال الخلاف وقد / جاءَ الوفاق فَلا حقد ولا حسك
إن الحَكيم إذا ما فتنة نجمت / هُوَ الَّذي بحبال الصبر يمتسك
لا يرأس الناس في عصر نعيش به / إلا الَّذي لقلوب الناس يمتلك
لَقَد تعلمت من بحث أواصله / أن الحياة بوجه الأرض معترك
عش هَكَذا في علوٍّ أَيُّها العلمُ
عش هَكَذا في علوٍّ أَيُّها العلمُ / فإننا بك بعد اللَه نعتصمُ
عش للعروبة عش للهاتفين لها / عش للألى في العراق اليوم قد حكموا
عش للعراق لواء الحكم تكلؤه / عين العناية من شعب له ذمم
عش خافقاً في الأَعالي للبقاء وثق / بأن تؤيدك الأحزاب كلهم
جاءَت تحييك من قرب مبينة / أَفراحها بك فانظر هذه الأمم
كأَنَّما الناس في بغداد إذ هتفوا / بحر خضمّ به الأمواج تلتطم
إنَّ العيون قريرات بما شهدت / وَالقَلب يفرح والآمال تبتسم
إِنِ احتقرت فإنَّ الشعب محتقر / أَو اِحترمت فإن الشعب محترم
الشعب أَنتَ وَأَنتَ الشعب منتصباً / وَأَنتَ أَنتَ جلال الشعب والعظم
فإن تعش سالماً عاشَت سعادته / وإن تمت ماتَت الآمال والهمم
هَذا الهتاف الَّذي يعلو فتسمعه / جميعه لك فاسلم أَيُّها العلم
تتلى أمامك والجمهور مستمع / قصيدة لفظها كالماء منسجم
لشاعر عربي غير ذي عوج / على الفصاحة منه تشهد الكلم
يا أَيُّها العلم المحبوب شارته / إنا لك اليوم بالإجماع نحترم
هيَ الحقيقة أرضاها وإن غضبوا
هيَ الحقيقة أرضاها وإن غضبوا / وأدعيها وإن صاحوا وإن جلبوا
أقولها غير هياب وإن حنقوا / وإن أهانوا وإن سبوا وإن ثلبوا
إِن يقتلوني فكم من شاعر قتلوا / أو ينكبوني فكم من عالم نكبوا
وَلست أول من أبدى نصيحته / لقومه فأَتاه منهم العطب
لَهفي على أمة ما زلت أرشدها / إلى سبيل هداها وهي تجتنب
نصحت للقوم في شعري وفي خطبي / فَما أفادهم شعري ولا الخطب
طلبت إصلاحهم في كل ما كتبت / لهم بناني ولما ينجح الطلب
جاؤوا إليّ غضاباً يسرعون ضحىً / فما رأَيتهم إلا قد اِقتَربوا
هَذا يسير على مهل ويشتمني / وَذاكَ يحبو وَذا يعدو وَذا يثب
يخاصمون صديقاً لا يخاصمهم / وَالجهل منهم إذا اِستنطقته السبب
ماذا تريدون مني يا بني وطني / إن كان ما تَبتَغون الحرب فاِحتربوا
سلاحكم خنجر ماضي الضريبة أو / مسدس وَسلاحي في الوغى قصب
إني امرؤ لَيسَ عندي للحياة يدٌ / فَما من الموت لي إن جاءَني رهب
حر تعود أَن يُقرى الأذى جلداً / وإن تلم به الأحداثُ والنوب
خاطبتهم بكلام بر قائله / ما فيه مين لمن يصغي ولا كذب
وَعندما فهموا مغزى مخاطبتي / تراجعوا بينهم في الأمر وانسحبوا
كأَنَّهم ندموا من بعد ما اِعتَزَموا / كأَنَّهم خمدوا من بعد ما التهبوا
لكنهم بعد يوم من ندامتهم / عادوا إلى ما اِنتَهوا عنه وَقَد صخبوا
الجهل أَبدى كَما قد شاء فعلته / فَما تَرى يفعلان العلم والأدب
أَشكو إلى أيِّ هذي الناس مظلمتي / وقد درى باضطهادي الترك والعرب
ما بال لَيلتنا سوداء حالكة / هل غاب عنك بها يا أَعيني الشهب
يا حق من أَجلك الجهال تشتمني / وَفي سَبيلك تؤذيني فأَضطَرب
فَما اكتتبت دفاعاً ذاع مشتهراً / ألا وأَنتَ مرادي حين اكتتب
إليك ترجع آرائي إذا اِنتسبت / فأَنتَ أُمٌّ لآرائي وأنت أَب
يا قوم أَنتم على غي يضرّ بكم / أَما هناك فَتىً للرشد ينتسب
إن السماء الَّتي تعلو مرابعكم / منها لأجلكم الخيرات تنسكب
هُوَ التعصب قد وَاللَه أَخَّركم / عَن الشعوب الَّتي تَسعى فتقترب
عَن الَّذين أَبوا إلا تقدمهم / عن الألى مشيهم نحو العلى خبب
يا قوم في كل عصر جاء ثم خلا / قَد غالب العلمَ جهالٌ فما غلبوا
ما للسماء أراها غير صافية / هَل قارب الليل أم حاقَت بها السحب
أَرى وجوهاً لعمري لست أَعرفها / تكاد من غيظها تغلي وتلتهب
للعلم ينمون عند الفخر أنفسهم / وهم من العلم لا نبع ولا غرب
العلم أربابه ما عندهم حنق / والعلم أصحابه ما عندهم غضب
إن جادَلوا لَم يسبوا من يخاطبهم / وإن تراءَت لهم في رأيه ريَب
وَرب مخطوبة عذراء قد جهلت
وَرب مخطوبة عذراء قد جهلت / ما قَد تُقاسي غداً من قسوة الرجلِ
سمراء في مقلتيها السحر مستتر / وَالسحر إن كانَ حقاً فهو في المقل
إذا نظرت إليها وهي ذاهبة / إلى لدات لها احمرت من الخجل
تزف في عنفوان من شبيبتها / إلى فتى لشعار النبل منتحل
مهما به احتفلت بعد الزواج فما / تَلقى سوى ذى غرور غير محتفل
تَراه زوجاً على إرغامها بطلا / وَفي سوى ذاك ليس الزوج بالبطل
له تبث هواها كي يجازيها / بالمثل وهو عن الأهواء في شغل
قامَت بخدمته جهد اِستطاعتها / تريد منه لها ميلاً فَلَم يمل
تود لو أنه كان الوفيَّ لها / فَلَم يخن عهدها يوماً ولم يحل
هَيهات فالطبع في الإنسان غالبه / بما توارث من آبائه الأُوَل
حتى أَضاعَت لعمري من شراسته / حَياتها وهو في سكر من الجذل
قد ينزل الخطب في دار بربتها / وَلا يَكون هناك الخطب بالجلل
عد للعراق وأصلح منه ما فسدا
عد للعراق وأصلح منه ما فسدا / وابثث به العدل وامنح أَهله الرغدا
الشعب فيه عليك اليوم معتمد / فيما يَكون كَما قد كانَ معتمدا
حييت من قادم إبان حاجتنا / إليه نَرجو به للأمة الرشدا
إن العراق لمسعود برؤيته / أباً له من بلاد العدل قد وردا
مرحّباً بك أشرافٌ غطارفة / وَلَيسَ ترحيبهم ميناً ولا فندا
عجل بسعيك إصلاحاً نؤمله / فَلَيسَ يذهب سعي المصلحين سدى
حبل السياسة قد أمست به عقد / فحلَّ أنت بأيدي رأيك العقدا
ارأف بشعب بغاة الشر قد قصدوا / إثارة الشر فيه وهو ما قصدا
أما وقد جئت مصحوباً بمقدرة / فَلا أبالي أقام الشر أم قعدا
غدٌ إلى الناس في الأيام منتظر / والظن أنك تَلقى بالسلام غدا
غداً ستُسعد بغداداً تجارتُها / فليَجتَهِد للغنى من كان مجتهدا
أعد لبغداد أياماً موالية / كانَت كَما وصفوا ترقى بها صعدا
مضت هنالك أيام مسالمة / لساكنيها فَلا ينسونها أبدا
لَقَد أتيت بإنذار ومرحمة / فَلَن ترى فوق أرض الرافدين عدى
أتيت توفي بوعد كنت معلنه / إن الكَريم لموفٍ بالَّذي وعدا
معاهد العلم في بغداد قد هجرت / فَلا تلاقي على أبوابها أحدا
فاِجهد وأَرجع بعزم منك رغبتها / ترض الخلائق والتاريخ والبلدا
حييت من زائر قد جاء مندفعا
حييت من زائر قد جاء مندفعا / يسير منخفضاً طوراً ومرتفعا
مؤملاً أن يرى بالعين ما سمعا /
لَقَد تجرد من أوراقه الشجرُ / في الغيط فاليوم لا ظل ولا ثمرُ
حييت من كاتب أثرى به الأدبُ / عليك في الشرق تبني فخرها العربُ
قد جئت بغداد إذ بغداد تضطربُ /
نزلت بالروض والأزهار ذاوية / هناك والروض لا غضّ ولا نضرُ
حييت من شاعر للحق مكتنهِ / لشعره الشرق ألقى سمع منتبهِ
أتى فرحب أهل الرافدين به /
بكيت والشعر حتى فاضَ دمعكما / فَيا لَها عبرات كلها عبرُ
الشعر أنت وأنت الشعر فيه هدى / بل شعرك الزهر في روق الرَبيع بدا
فطلُّهُ عند غيدان الصباح ندى /
شعر هو السحر منثوراً بدائعه / كأَنَّما هي في أسلاكها دررُ
شعر قد ازدانَت الأمصار قاطبة / به وقد بدت الآراء صائبة
فيه وأَصبحت الأمثال ذاهبة /
كالماء يجري من الأطواد منحدراً / فينفذ النور فيه ثم ينكسرُ
الشعر سيف وأَنتَ اليوم تصقله / الشعر بند وأَنت اليوم تحمله
الشعر روض وأَنت اليوم بلبله /
وأَنت ريحانه المهدي لنا أرجاً / جو العراقين من أرواحه عَطِرُ
يرحب الشعب بابن الذادة العربِ / بابن الدواوين والأقلام والكتبِ
بالعبقرية بالإبداع في الأدبِ /
الشعر أَصبح بالأستاذ مغتبطاً / وَبالحضور من الأستاذ يفتخرُ
أما العراق فإنا آملون لهُ / تقدماً قد أَرانا اللَه أَوَّلهُ
مكللاً بالسنى والشعر كلله /
وَالشعر يَرجو لَه مستقبلاً نضراً / وَأَول الغيث قطر ثم ينهمرُ
كابدتُ فيه كُلوحَ الليل والغسقا / حتى رأَيتُ ضياء للدجى خرقا
يَلوح في الأفق الشرقي مؤتلقا /
إن لم يكن ما أَراه في دجنته / سحراً فظنيَ فيه أنه السحَرُ
قابلتُ لَيلى فَلَم تمدد إليّ يدا / يا وَيلتا إن أتعابي ذهبن سدى
لا كنتُ من شاعر لما أَهين شدا /
أَزور لَيلى إليها الوجد يدفعني / وإن حظيَ من لَيلى هو النظر
بانت عشياً وما للبين من سببِ / فَساء من بعد ذاك البين منقلبي
يا لَيتَني كنت أَطوي الأرض في الطلب /
إذا اِجتمعت وَلَيلى عند رجعتها / فَقَد تعاتبني لَيلى وأعتذر
لما رأى الشمس تخفى صاحبي نشجا / يا صاحبي إن بعد الشدة الفرجا
ما زالَ لي في انعكاسات الشعاع رجا /
إن غابَت الشمس أبقت خلفها شفقاً / فيه لمن هي غابت عنه مدَّكر
إن الأمانيّ حاجات لصاحبها / يَلهو بصادقها طوراً وكاذبها
وَهَل خلت قط نفس من مآربها /
ما إن قضى وطراً في نفسه أَحدٌ / إلا تجدد فيها مثله وطر
قد كنت أَقدر أَن أَسعى على قدمي / وأن أغير سير الشعب بالقلمِ
حتى إذا نالَت الأيام من هممي /
عجزت عما عليه كنت مقتدراً / والمرء يعجز أَحياناً وَيقتدرُ
وَكنت حيناً عن الأحداث مبتعدا / كموسرٍ راح في لذّاته وغدا
لكنما الدهر لا يؤتي المُنى أَحدا /
جرت حوادث مثل السيل جارفة / ودَّ الفَتى أنه في جنبها حجر
وكنت جلداً على الأيام مقتدرا / أغالب الدهر والأحداث والقدرا
وَاليوم إذ بتّ أَشكو السمع والبصرا /
عِندي بَقايا قوى ألقى الخطوب بها / وإنما هي أَجناد ستندحر
حاولت مجتهداً أن ينهض العربُ / وأن يقوم بأعباء الهدى الأدبُ
طلبت أَمراً ولما ينجح الطلبُ /
ماذا يريدون مني أَن أَقوم به / من بعد ما بان فيّ الوهن والكبرُ
من كان حراً إلى المجد الأثيل صبا / وَالحر إن سيم خسفاً في الحياة أَبى
تباً لمن ناله ضيم وما غضبا /
البعض يَرجو سلاماً من ضراعته / وَالنفع إِن جاءَ من ذل هو الضرر
أَقول للغرب وهو اليوم ذو قدرِ / يُلقي على الشرق كف القاهر البطرِ
كفاك ما أَنت تأَتيه من الضرر /
للشرق أرهقت لا تخشى حزازته / يا غرب إنك مغرور به أشَرُ
يا أَيُّها الغرب إن الشرق مضطرب / يا أَيُّها الغرب إِنَّ الشرق مغتصب
خفف من الوطء فالأيّام تنقلب /
الشرق يشبه بركاناً به حممٌ / أَخاف من أَنه يا غرب ينفجر
ما جاز أن يهضم الإنسان أخوته / وأن يجرب في الإذلال قدرته
فالعدل إن يحسن الإنسان سلطته /
كن في سلوكك يا إنسان معتدلا / إلى متى أَنت للإِنسان تحتقرُ
يا سرحة الماء أَنت اليوم وافرة / وأنت ناعمة خضراء ناضرة
لا تأمني الدهر فالأيام قاهرة /
يا سرحة الماء إن جاء الخَريف غداً / فإنما هذه الأوراق تنتثرُ
يممت بيروت بعد الشام في سفري
يممت بيروت بعد الشام في سفري / أجلو بأوجه أمجادٍ بها بصري
شاهدت من أَهلها الأجواد عارفة / ما شاهدت مثلها عيناي في عمُري
قد عاملوني بما توحي سريرتهم / إني بما عاملوني جد مفتخر
وكرَّموني وما لي ما أقابلهم / سوى ثناء على تكريمهم عطِر
آباء بيروت للأبناء قد غرسوا / فذاقَ أبناءٌ بيروت من الثمَر
رأَيت أبناءها قوماً أولي هممٍ / ما في عزائمهم شيء من الخور
يا أَهل بيروت لا أَنسى حفاوتكم / إذ جئت أدلف في بيروت من كبري
يعيش شعب إذا ما كانَ مرتقياً / في ذمة العلم بعد الصارم الذكر
حيّ الرئيس به حفت غطارفة / كما تحف نجوم الليل بالقمر
حيّ النجوم وحيّ الليل يطلعها / ما زينة الليل غير الأنجم الزهر
أماثل من ذرى بيروت قد لمعوا / في جو ليل من الأحداث معتكر
إني بحملي إلى بيروت في سفري / شعراً كمستبضع تمراً إلى هجر
ما الشعر إلا شعور المرء يعرضه / على الأنام بلفظ غير ذي عكر
جم لعمري الألى للشعر قد قرضوا / وَلَيسَ من برزوا فيه سوى نفر
لَقَد تَعاطاه ناس لا ابتكار لهم / والكل قد ضربوا منه على وتر
الشعر فن إلى ذي العلم مفتقر / وَلَيسَ للشعر ذو علم بمفتقر
إن رمت تفقه معنى الشعر مكتنهاً / فاسأل عن الشعر أَهل العلم والنظر
والشعر إن لم يفد معنى يخلده / فإنما هو معدود من الهذر
ولا يجيد سوى من كان مبتكراً / وَلَيسَ كل أخي شعر بمبتكر
أَينَ الَّذي يتقصى ما يشاهده / وينظم الشعر فيه نظم مقتدر
الشعر بحر خضم لا قرار له / ما كل من غاص فيه جاء بالدرر
لا يكبر الشعر مالم تُبق روعتُه / في نفس سامعه شيئاً من الأثر
وهذه صورة للشعر أعرضها / على الَّذين يرون الشعر ذا صور
حللت في روضة كانَ الكنار بها / مغرداً فوق غصن ناعم نضر
وَكانَ يلبس أَرياشاً مزوقةً / كأَنَّه زهرة صفراء في الشجر
وَقَد رآني أدنو منه مسترقاً / ففضَّل الصمتَ فعل الخائف الحذر
نزا يطير نفوراً فوق أيكته / فقلت ريثك لا ترهب ولا تطر
الزم مكانك لا تحذر مقاربتي / فَلَيسَ مني عليك اليوم من خطر
غرد فانت إذا غردت منفجراً / فجَّرت منِّيَ دمعاً غير منفجر
أنت المثير بأنغام ترجِّعها / للشجو في الناس والأطيار والزهر
لأنت شاعر هذا الروض أجمعه / وأنت تنطق إما قلت بالغرر
إني كما أنت للأطيار قاطبة / لشاعر قد أغني الشعر للبشر
لا بد للقلب من عطف على كلمي / إلا إذا كانَ مقدوداً من الحجر
لَيسَ الَّذي سنه من فرحة ضحكت / كمن بكى من صروف الدهر والغير
الكون للمرء يستقريه مدرسة / والكون للمرء مملوء من العبر
وَلَيسَ يُيئس أَرواحاً مفكرة / شيء كحقٍّ مضاع أَو دم هدر
لَقَد تجادل ناس حول منزلتي / من خاذل مكثر ذمي ومنتصر
كانَت حياتيَ في بغداد تسعد من / لبانة كنت أَقضيها ومن وطر
وتلك أَيامي الأولى الَّتي اختلفت / مما أُقاسيه عن أَيامي الأخر
من بعد شربيَ كأس العيش صافية / قد صرت أَشربها طيناً مع الكدر
لَقَد كفرت بنعمى كنت أَملكها / وقد يغص الفتى بالبارد الخصر
لا خير في الماء يأتيني بلا تعب / وإن كفاني عناء الورد والصدر
في البحر مد وجزر يعبثان به / والمد والجزر مفعولان للقمر
إن الحياة لحرب لا انقضاء لها / وليس إلا لأهل الصبر من ظفر
لا تهربن من النار الَّتي اضطرمت / وإن رمتك فنالَت منك بالشرر
لا يكبر الناس في عصر نعيش به / من لم يجادل ولم ينفع ولم يضر
الحازمون رأوا في السعي مسعدة / فَلَم يكونوا من الأعمال في ضجر
والجاهلون قعود في مجالسهم / فلا اعتماد لهم إلا على القدر
لَولا تفاقمُ شرٍّ ليس يحتملُ
لَولا تفاقمُ شرٍّ ليس يحتملُ / ما كنت عن وطني بغداد أَرتحلُ
اليأس بالأمس من بغداد أخرجني / واليوم جاء إلى بيروت بي الأمل
عجلت في السير عن بغداد خشية أن / تنسد من ريبة في وجهيَ السبل
وكنت أَرضى لقاء الموت منتحراً / لَو كانَ لي من حَياتي هذه بدل
اعوجّ من حقدهم ناسُ عليّ بها / وَهَكَذا الناس معوجٌّ ومعتدل
فما رآني جذلاناً بها أَحدٌ / وهل لمثليَ في أَوطانه جذل
يممت بيروت أستشفي بطيبته / وَقلت علّ جروحي فيه تندمل
بيروت عز بلاد الضادِ قاطبةً / بنهضة القوم فيه يضرب المثل
هناك شعب بصير بالحياة فما / تراه يوماً بغير العلم يحتفل
لا ترفع المرء أَقوال يفوه بها / بل يرفع المرء سعي المرء والعمل
وقد يصيب جليلاً حادث جللٌ / فَلا يغل يديه الحادث الجلل
وَللنساء لدى أَهليه منزلة / كما يَليق بشعب هب يعتدل
إن الرجال لهم نقص بمفردهم / وإنما بالنساء النقص يكتمل
هل يستطيع كما قد ينبغي عملاً / جسم أَصاب لداءٍ نصفَه الشلل
إنا نريد حياة لا يضر بها / تعصب ولأمّ الناقد الهبل
ما ضرنا الجهل لا نصغي لقالته / فكل أَرض على الجهال تشتمل
لكن شعباً يكون القائدون له / من الألى عرفوا بالشر ينخذل
من استطاع دفاعاً عن حقيقته / فإنه وحده في قومه البطل
إن القوي جسور في تكلمه / ومن علامات ضعف القائل الوجل
والرأي إن كان عن حب بصاحبه / فَلَيسَ ينفع في تمحيصه الجدل
إذا التكاليف لم تقسم بمعدلة / فَقَد ينوء بظهر الحامل الثقل
ما زالَ يَرجو شفاء كل ذي مرض / حتى إذا مات في أَصحابه الأمل
تأخر القوم في بغداد من كسل / وكَم تأخر قوم عندهم كسل
الناس بالقصف في بغداد لاهبة / كل امرئٍ فله عن غيره شغل
وأيّ قصد يرجي المرء في بلد / به تساوى سداد الرأي والخطل
تشابهت فيه مرضاة وموجدة / كَما تَشابَهَت العضاتُ والقبل
نصحتهم أَن يثوبوا من جهالتهم / وأَن يَكون لهم بالعلم مشتغل
نصحتهم أَن يكونوا عاجلين له / فإنما الوقت مطلوب له العجل
لكنما القوم كل القوم ما سمعوا / نصحي الَّذي كنت أَبديه ولا قبلوا
راموا وصولاً إلى ما فيه منفعة / لهم وفي الوقت لم يسعوا فَلَم يصلوا
إلا شباباً من الأحرار نزعتهم / إلى التقدم لا يثنيهم الملل
بالعلم تتحد الآراء صائبة / والرأي يفعل مالا يفعل الأسل
كَم قد تصدت إلى الأعمال من فئة / فكان فيها نصيب الجاهل الفشل
العلم عدة ناس ما لهم عدد / والعلم حيلة من أَعيتهم الحيل
أَقول للشعب أَنت اليوم ذو ظمأ / إلى العلوم فلا علّ ولا نهل
إن فاتك الغمر من ماء تريد به / بلّ الأوام فما إن فاتك الوشل
هَل يزهر العلم في أَرضٍ أَماثلُها / عليه بالمال في حاجاته بخلوا
لا ينبت الروض أَزهاراً ولا عشباً / حتى يجود عليه العارض الهطل
ورب غرّ أَتاه ما نطقت به / ذبّاً عن امرأة قد ضامها رجل
فغاظه الأمر حتى جاءَني حنقاً / كأَنَّه وهو يعدو مزبداً جمل
أَنحى يسب وَلَم يستَحي من أَدَبي / ولا من الشيب في فوديّ يشتعل
قد كفروني لأني في مجالسهم / على الحقيقة إِمّا قلت أتّكل
وجادَلونيَ عن جهل وعن سفه / فما أَضر برأيي منهم الجدل
الحق يندبني فيها فأنصره / وَالعقل يأَمرني فيها فأَمتثل
وَلَيسَ يعظم بعد اللَه في نظري / إلا الأثير الَّذي بالكون يتصل
فكل شيءٍ من الأشياء منه أَتى / وكل شيءٍ إليه سوف ينتقل
وإنه هادم فيه ومنهدم / وإنه فاعل فيه ومنفعل
لكل شيء نظام في تكونه / وإنما يعتريه بعده الخلل
هُو القوى وهو أجسام قد اِتصلت / بغيرها وهو الأجسام تنفصل
وإنه هو نفس الشمس طالعة / وإنه بُكَرُ الأيام والأُصَلُ
وإنه هو معلولات قدرته / قديمة ولمعلولاته العلل
ما الكون إلا فضاء لا حدود له / والزُهر إلا شموس فيه تشتعل
إذا تصور ما للكون من سعة / عقل الحكيم بحق فهو ينذهل
فيه الوجود ترقى من تنازعه / والأرض والشمس والإنسان والدول
تدور فيه نجوم لا انحصار لها / وكل شمس لها في دورها أجل
بيروت روح له لبنان جثمانُ
بيروت روح له لبنان جثمانُ / فليحي للمجد بيروت ولبنانُ
بيروت نسر له لبنان أَجنحةٌ / لبنان عين لها بيروت إنسان
بيروت بيت له لبنان أَعمدة / بيروت صرح له لبنان أَركان
أَبناء بيروت أسد في مرابضها / وَأَهل لبنان في الأطواد عقبان
لبنان صدر من الآكام أَضلعه / بيروت قلب له في الصدر إِرنان
كلاهما وطن للقوم مشترك / كلاهما بلد بالفضل مزدان
كلا الشقيقين معتز بصاحبه / وَفيهما القوم أَصحاب وأخدان
لي فيك يا بلداً حراً نزلت به / بالخل خل وَبالندمان ندمان
قوم لهم من خلال الحمد أَوفرها / وَفي الذكاء على الأقران رجحان
الحزب للحزب لا ينسى تواضعه / كَما تواضعُ للأَقران أَقران
قوم قد اِتحدت للحق وجهتهم / فَلا تفرق بين القوم أَديان
عاشَ النصارى به والمسلمون معاً / وَقَد تصافح إنجيل وقرآن
وَلَيسَ من فئة حيف على فئة / وَلا عَلى هابط ظلم وعدوان
ولا تفرق يخشى بعد وحدتهم / حتى تفرق أَرواح وأَبدان
أَما البلاد فأدنى ما رأَيت بها / حضارة ملأت عيني وعمران
لبنان أم على الأبناء مشفقة / وَأَهل لبنان في لبنان إخوان
إني لأشكر فضل القوم يكرمني / لَو كانَ يوفي حقوق الفضل شكران
اليوم يا نفس لا بغداد منك كما / كانَت وَلا أَهل بغداد كَما كانوا
الناس للمال في بغداد قد عبدوا / كأَنَّما المال في بغداد أَوثان
يبغي القوي افتراساً للضعيف بها / وَهَكَذا الناس ذؤبان وحملان
تلقى على الشر أَعواناً قد اتفقوا / وَما على الخير في بغداد أَعوان
كل امرئ مضمر فتكاً بصاحبه / يَوماً فلا يرحم الإنسان إنسان
إن يكثر الجهل في أَبناء مملكة / تكثر هنالك أَحقاد وأَضغان
ألا شباباً أولى عزم ومعرفة / فَهؤلاء لفجر المجد عنوان
من كان حراً فَلا يرضى بذلته / وَلا على الضيم تغضي منه أَجفان
وإن بغداد فيها أُمَّة صدقوا / وإن بغداد فيها أُمَّة مانوا
الغرب والشرق حتى اليوم ما اِستويا / هَذا نَشيط وَهَذا بعد كسلان
يَفوز من كانَ ذا عزم بمطلبه / أَما نصيب الكسالى فهو حرمان
تغيَّرت بعد حرب ثار ثائرها / على البسيطة أَقوام وَبلدان
الناس في الغرب بعد الحرب قد سعدوا / وَالناس في الشرق بعد الحرب قد هانوا
وَالشرق أَكثره للحق مهتضم / وَالغرب أَكثره للحق مذعان
وَما الحروب بأَطماع كما زعموا / بل الحروب انقلابات وأَكوان
لا تَرتَقي أُمَّة حتى يَكون لَها / يوماً على سيِّئ العادات عصيان
حللت بالأَمس بستاناً فأَفرحني / وَخير ما يفرح الإنسان بستان
حيث البلابل قد كانَت مغردة / وكانَ يطربني منهن أَلحان
إن البلابل بالأدواح مولعة / وَزينة الدوح أَوراق وأَفنان
من موقظات شجوناً فيّ راقدة / وإنما توقظ الأشجان أَشجان
للعَندَليب على الأطيار قاطبة / رئاسة عند ما يشدو وسلطان
نزا على البان غريداً كعادته / فودَّ كل قضيب أنه البان
واهتز من تحته غصن تبوأه / حتى ظننت بأَنَّ الغصن نشوان
لدى الرَبيع تلاقى الروض مكتسياً / أَما الخَريف فَفيه الروض عريان
في الروض من بعد غارات الخريف به / لا الورد ورد ولا الريحان ريحان
يغادر البلبل الغريد روضته / وَالروض للبلبل الغريد أَوطان
أَأَنت من ذكر أَوطانٍ خفقت بها / يا قلب ذو جذل أَم أَنت أَسوان
كَم جاهِلٍ جاء في بغدادَ يوسعني / نقداً فأعوزه علم وعرفان
ومظهرين عداءً لا انقضاء له / كَما تعادي هزار الروض غربان
سبوا وَبالسب راموا الحط من أَدَبي / كأَنَّما السب عند القوم برهان
يزوّرون علي القول من سفه / فتسمع القول في بغداد آذان
وَقَد رَموني بإلحاد وزندقة / وَما رَموني به زور وبهتان
أَمّا الشباب فنشء لا يثبطهم / عن نصرة الحق إيمان وكفران
لَقَد شدوت بريعان المساء أَسىً / وَللمساء كما للصبح ريعان
أَثار فيَّ غنائي مشجياً حزنٌ / وَقَد تثير غناءَ المرء أَحزان
وَاللَيل أَنحى بوجهي من عواصفه / يصيح حتى كأَنَّ الليل غضبان
الهم أُكبره كالليل أَسهره / وَقَد أَنام به والنجم يقظان
الشعر منتقم ممَّن له احتقروا / يدينهم عن قَريب كالَّذي دانوا
كَم ادعى القوم إحسانا بما نظموا / من القريض وما للقوم إحسان
وقدروه بميزان له وضعوا / من العروض وهل للشعر ميزان
وَما القصيد قواف قد تكررها / كلا ولا هي ألفاظ وعنوان
فتلك فيها المَعاني من برودتها / موتى عليها من الألفاظ أَكفان
يعنون بالوزن وَاللفظ المقيم له / كأَنَّما الشعر ألفاظ وأوزان
ما أحسن الشعر مبثوثاً فرائده / كأَنَّه لؤلؤ رطب ومرجان
القوم قد بعتهم شعري بلا ثمن / أَرجوه منهم وَهَل للشعر أَثمان
لبنان قام بتهذيب الفتاة وَما / تهذيبها غير إصلاح له شان
وإن إصلاحها إصلاح مملكة / وإن إهمالها موت وخسران
يأبى تأخرها قوم لهم شمم / وَبالرقيّ لهم دين وإيمان
لا يرفع الشعب من أَعماق وهدته / إلا رجال أولو عزم ونسوان
للمرأة الفضل في العمران نشهده / لولا تقدمها ما تم عمران
فإنما هي للأَبناء مدرسة / وإنما هي للآباء معوان
وإنها هي للمفجوع تعزية / وإنها هي للمحزون سلوان
وإنها الروض مطلولاً له أرج / وإنها لجنى الأثمار بستان
وإنها تارة نار قد اتقدت / وإنها تارة روح وريحان
الخير في أن يعز المرء صنوته / وَالشر أن يهضم الإنسان إنسان
فخر كَما يَبتَغيه المجد للعربِ
فخر كَما يَبتَغيه المجد للعربِ / يا مصر ما فيك من علم ومن أدبِ
يا مصر إِنَّك أَنت اليوم مملكة / في ذمة العلم قبل الصارم الذرب
كأَنَّ مصر ووادي النيل يخصبها / حسناء ترفل في أَثوابها القشب
يَروي بها النيل فياضاً معاطشها / وَالنيل يأخذ ما يعطي من السحب
قد كنت أَسمع عن بعد مآثرها / وَاليوم تشهدها عيناي من كثب
تَنال إن كنت ذا علم وذا عمل / ما شئت في مصر من مال ومن نشب
قد خاب في كل ما يَرجوه ذو كسل / وَنال مطلبه من جد في الطلب
اتعب لنفسك كي تَلقى سعادتها / إِنَّ السعادة لا تأتي بلا تعب
الأرض معترك ما إِن يَفوز به / إِلّا الَّذي هو لا يَخشى من العطب
حرب تدور رحاها فهي طاحنة / وَلا يَفوز سوى الأقوين بالغلب
لا تأمن الذئب مهما كان ذا دعة / فالذئب إِن يلقَ يوماً فرصةً يثبِ
قاسيت ليلاً طويلاً بالهموم دجا / حتى أَتى الصبح بالأفراح في العقب
اليوم من مصر عن بغداد لي بدل / حتى كأَنِّيَ عنها غير مغترب
لَيسَ الحَقيقة في الأشكال والصور
لَيسَ الحَقيقة في الأشكال والصور / بل في الهيولى الَّذي يخفى عن البصر
عوِّل عَلى ما يراه العقل مفتكراً / ولا تعول على المشهود والخبر
قد كانَ لي فيك يا بغداد آمالُ
قد كانَ لي فيك يا بغداد آمالُ / وَاليَوم لي عوض الآمال أوجالُ
وكانَ أَهل ومال في ربوعك لي / بالأمس واليوم لا أَهلٌ وَلا مالُ