الشيخ الدكتور جسيم الدين الندوي: صاحب بداية محرقة ونهاية مشرقة
كان الجو هادئًا، ونسيم الصبا ساريًا، والدنيا تستعدّ ليوم جديد، والناس ينفثون عن عيونهم آثار الليل الغابر، وكان كلّ شيء على طبيعته، وسائرٌ على نظامه، ولكن... فجأة نزل خبرٌ كالبرق الخاطف، والرعد الصاعق، دون سابق نذيرٍ.
اتصلّ أبو طالب في تلك الساعة الباكرة من الفجر، فأسرعت إلى الإجابة، وأوجستُ منه خِيفة؛ لأن الوقت ليس وقت الاتصال، والزمن غير زمن التواصل... فأجبتُ على الاتصال، وانتظرت الخبر الذي يحمله المتصل، فقلتُ مستعجلًا: ما الخبر؟
- سمعت من أحد أقاربي أن فضيلة الأستاذ جسيم الدين الندوي قد... في مكة المكرّمة، ولستُ متأكّدًا من النعي، وأريدك أن تتأكد منه.
- استعذتُ بربي الكريم من الشر، وأودعتُ أستاذي في حصنه المنيع، وترجّيت بكل قلبي أن يكون أبو طالب قد كذبَني، وهو صدوق.
لم أضطرّ إلى التبيّن من صحة النبأ الفاجع الذي سمعته، بل جاء كفلق الصبح، ولكنّ شتان بين الفلقين؛ فلق الصبح الباسم وفلق النبأ الفاجع؛ أحدهما يحكي قصة الحياة، والثاني يحمل نبأ الوفاة، وإن كان الإدبار يحمل في نفسه إقبالًا وإقدامًا.
استرجعتُ (قلت: إنَّا لِله وإنَّا إليهِ رَاجِعُون) على نعي أستاذي الحبيب، وتوجّعت على فراقه هذه الدار الفانية، وتألمت لكوني بعيدًا عنه، ولكني تفاءلتُ بالخير، وتسنّمت البِشر، وترجّيت اليُمن؛ لميزة المكان، وميزة الزمان، وميزة الحال؛ حيث كان المكان أفضل بقاع الأرض، مكة المكرمة، والزمان زمان المرض، والحال حال العابد المسافر. فقلتُ: يا لها من فاجعةٍ تؤنِس المتألم!
بدأتُ أتحسّس أخبار الناس، فرأيت مسيراتٍ تلو المسيرات عن أخبار الوفاة، وأنباء الموت، وبيانات الفاجعة، وإعلانات المصيبة، فعلمتُ أن قائمة محبّي أستاذي طويلة، وقافلة تلاميذه كبيرة، وإن كنتُ شعرتُ –حينها– أننا نحتفي بالموت أكثر من الحياة، وليس ذلك عيبًا في ذاته.
عدتُ بذاكرتي إلى أيام صباي، أيام كنتُ أخطو أولى الخطوات في درب العربية الطويل، في محطتنا الأولى هناك، محطة دار المعارف الحافلة.
وفي يوم من أيام عام 2005م وجدتُ نفسي في الفصل الدراسي الخاص للصف الأول الثانوي، وسمعتُ بصوت الجرس يرنّ على المسامع، وإذا بزملائي ينتظرون قدوم أحد الأساتذة بشوق ورغبة، ورعب وهيبة؛ لأن اسمه معلومٌ، وشخصيته معروفة، ولكن طبعه مجهول، وخلُقه غير معلوم، ذلكم هو فضيلة الأستاذ (الدكتور فيما بعد) جسيم الدين الندوي، الذي كنّا نراه كل يوم في الطريق غاديًا ورائحًا، وآتيًا وذاهبًا، ولكن لم نتشرف بالجثوم بين يديه قبل اليوم؛ حيث لا يدرّس في الصفوف الأوَل من المراحل الدراسية.
دخل الأستاذ الفصل مسلّمًا مبتسمًا، وجلس في مكانه متكئًا منبسطًا، وجثم الجميع في أماكنهم منتظرين مستطلعين، وأصبحت العيون أسماعًا مصغية، وصارت الألحاظ آذانًا منصتة، فإذا بهم يسمعون الأستاذ وهو يعلِن قائلًا: "لا أسمح لكم بالحديث بغير العربية في هذه الحصة!!!".
كانت تلك مفاجئة (صدمة) كبرى لطلّابٍ لم يلِدوا في مراتع العربية، ولم ينشأوا في منابت الضاد، ولم يروا أهلها، ولم يلتقوا بالعرب الأقحاح، فقال قائلهم: أيها الأستاذ الكريم! إننا حين نريد التحدث باللغة العربية ننسى كل شيء، حتى الكلمات التي نعرفها! فماذا نفعل للتغلب على هذه المشكلة العويصة؟
قال الأستاذ متبسمًا: أنصحكم بالعودة إلى المعاجم العربية، دون المعاجم الثنائية، حيث إن المعاجم العربية تساعدكم على معرفة المزيد من الكلمات المترادفة التي تجعل معاجمكم اللغوية غنيّة، كما تساعدكم في اكتساب السليقة العربية.
انتهتْ الحصة والسعادة تغمر صاحبنا وزملاءه، على عكس ما كانوا يظنّون! فكانت مفاجئة ثانية، وهكذا مرّت الأيام والأسابيع والشهور، وصابحنا وأصدقاؤه ينقلبون من مفاجئة إلى مفاجئة، حيث كانوا يتعرّفون في كل حين على أبطال العربية الجدُد، وفرسانها الكبار، وعظمائها النحارير.
فكانوا يسيرون في حدائق من العربية متفتحة متزهّرة، حيث كانوا يلتقون مع ابن قتيبة في حديقة "أدب الكاتب"، ومع الجاحظ في حديقة "البيان والتبين"، والهمذاني في حديقة المقامات، و و و ... فما أكثر تلك الحدائق الغناء والبسانين السرّاء التي كانوا يمرّون بها، دون إطالة الوقوف في محطةٍ منها، حيث كانت الرغبة جامحة لاكتشاف الجديد، والنهمة زائدة لمعرفة المزيد... فلم تكن حصصًا عادية نحفظ فيها الدروس الجاهزة لننسخها في أوراق الاختبار فيما بعد، بل كانتْ رحلاتٍ ماتعة وسفراتٍ ممتعة!
أراد صاحبنا أن يعرف سرّ هذا الرجل المتواضعِ في الصورة، والعظيمِ في السريرة، فبدأ ينقب في أغواره، ويكشف عن أسراره، فوجده تمليذًا صغيرًا في مدرسة عزيز العلوم بقريته النائية في مدينة كوكسبازار البنغلاديشيّة، ثم ألفاه طالباً فتيًّا بالجامعة الإسلامية -فتية– الشهيرة، ثم أدركه طالبًا شابًّا في قافلة دار المعارف الفتيّة، ثم لقيه مسافرًا إلى أرض الهند، حيث ندوة العلماء؛ ليرتوي من منهل أبي الحسن، أعني الندوي، ثم وجده وقد حاز على لقب "الندوي" الأثير، ثم ألفاه بمدينة المصطفى –على صاحبها ألف ألف صلاة وتحية– حيث الجامعة الإسلامية، ثم وجده مقدّما رسالة الماجستير بالجامعة الإسلاميّة –كوشْتيا– ثم التقى به وهو يناقش أطروحته للدكتوراه.
هذا عن مراحل تعلّمه فماذا عن محطات تعليمه! نعم، نهل من علوم المصطفى في مدينته المنورة، وقفل راجعًا إلى أرض الوطن حاملًا هموم الدعوة والرسالة، وحطّ رحْله في دار المعارف، حديقة البلبل المغرّد، وبستان الورد المتفتح، ومورد الفراشة الجميلة، فجعلها موضع عمله، ومحطة دعوته، ومكان نشاطه، وتحمَّل أعباء ثقيلة في العلم والدعوة والإدارة والسياسة.
وكان مع كل ذلك لم ينس نصيبه من الدنيا العلمية، حيث شارك في ندوات علميّة؛ محليّة، وإقليميّة، ودوليّة، وعمل عضوًا في مؤسسات دعوية وأدبية واجتماعية وسياسية، فكان عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وعضو المكتب الإقليمي لرابطة الأدب الإسلامي العالمية، ومساعد رئيس مجلة الحق، كما شغل مناصب قيادية وإدارية مرموقة، كمنصب المدير المساعد لجامعة دار المعارف الإسلاميّة، ورئيس رابطة طلاب دار المعارف الإسلامية، ورئيس مؤسسة العلامة محمد سلطان ذوق الندوي للأعمال الخيرية وغيرها، كما شارك في الانتخابات البرلمانيّة لعام 2018م.
فكان صاحبنا يعجب من تكثيره من الأعمال، وتنوعه في النشاطات، ونهمته في المطالعات، وحيوته في الدعوات، وشجاعته في المبادرات، وبسالته في المواقف، وتواضعه في المعاملات، وصبره في مواجهة المشكلات، وحبه لأساتذته، وعطفه على تلاميذه، وتألمه لمصائب أمته، واهتمامه الكبير بالقضايا ذات الشأن الإسلامي العالمي، ومبالغته في حب العربية.
فكان ممن أشرِبوا في قلوبهم حب العربية، والتفاني في هذا الحب، والتلذذ به، وتذوّقه، فكان لا يفتأ يذكرها، ويشيد بجمالها، ويظهر بهاءها، ويدافع عن شرفها، ويكافح في سبيل نشرها، وينافح ضد أعدائها، وينشرها أينما حلّ وارتحل.
فكان كالمضطر في حب العربية، حيث لم ير صاحبنا إنسانًا مثله، يعرف لغات عديدة، يتشبثّ بالعربية ممن ولدتهم العربيةُ وغيرُها من الألسن، مثل هذا الإنسان في حبه للعربية، وإن الناس قد يختلفون فيه في بعض جوانب حياته، ولكنهم لا يختلفون في حبه للعربية، ولا يمكنهم أن يختلفوا فيه.
ولم يكن ذلك عن مصادفة، كما لا يدلّ على المناقضة، حيث ورثها عن شيوخه الأجلاء وأساتذته الكبار، كسماحة الشيخ أبي الحسن الندوي، والعلامة محمد الرابع الحسني الندوي، والعلامة محمد (الخامس) واضح رشيد الندوي، والعلامة محمد سلطان ذوق الندوي الذي تزوّج كريمته لينتسب إلى العربية بسبب، ويرتبط بلغة الضاد بنسب، فتزوّج بنته، لتتوطّد علاقته بها من خلاله.
وفجأة عاد صاحبنا إلى الواقع المرير، ورجع إلى حاضره المرّ، وتذكّر أن ديناه الحالية لا تعِدّ أستاذه من أفرادها، وأنه في عداد مسافري الدار الآخرة، وأنه لا فرصة للالتقاء به في هذه الدار الفانية، وأن لقاءه الأخير الذي جمعه به يوم حفلة تخرُّجه كان آخرَ لقائه به فوق الأرض... فأحسّ بوجعٍ شديد، وألم مرير، وأسىً كبير، فسمع هاتفًا يقول: يا هذا! لمَ كل هذا الألم والوجع والأسى؟
ألم يدرك أستاذَك موتُه وهو خارج من بيته مهاجر إلى الله! ألم يعانق المنيّةَ وهو في أطهر بقاع الأرض! ألم يلتحق برفيقه الأعلى وهو شاهدٌ بالألوهيته تعالى وحده، وبرسالة محمد صلى الله عليه وسلم؛ نبيه ورسوله؟ كما شهد بذلك من حضره في آخر لحظاته. ألم يصلّ عليه ضيوف الرحمن الذين جاؤوا من كل فج عميق؟ ألم يُدفن بمقرُبة من رجالات الإسلام الكبار في مقبرة المعلّا؟ ألا يكفي كل ذلك شرفًا له!! فلمَ الهلع؟ ولمَ الجزع؟ ولمَ الأنين؟ ولمَ التوجع؟
فانشرح صدره، وانبسط قلبه، وترجّى إلى ربه الكريم أن يصاحب رضاه أستاذَه، وأن يلقى غفرانُه شيخَه، وأن يجعل فردوسه مستقرّ معلّمه، وأن يلتقي به هناك، في جنّاتٍ ونهر، في مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدر... فيا ربّ رحماتك وأفضالك!