الشيخ محمد جنيد البابونغري: قصة كِفاحٍ طالما يرويها الرواة ويحدوها الحُداة
دخل شابٌ غريبٌ مكتَب مدير الجامعة، وقدَّم رسالة يحملها معه إليه.. نظر مدير الجامعة في الرسالة وقرأها سريعًا، ثم ألقى نظرة على الشابّ، وسأله عدّة أسئلة عن صاحب الرسالة وعنه، ثم وقَّع في استمارة الالتحاق كاتبًا: "يُقبل هذا الطالب دون اختبار"!
هرولَ الشاب بالاستمارة الموقَّعة من قبل مدير الجامعة إلى رئيس القسم فرِحًا مستبشِرًا وهو موقنٌ بأنه قد قُبِل في قسمه المنشود! وبدون اختبار!
يا له من حظ عظيم!
نظر رئيس القسم في الاستمارة، وأطال النظر فيما كُتِب من قِبَل مدير الجامعة، وبدتْ ملامح وجهه تتغيَّر شيئًا فشيئًا.. من هدوء إلى عبوس إلى غضب.. وبعد برهة من الزمن رفعَ وجهه مصوِّبًا عينيه الحمراوين في عينَيْ الشاب الغريب، وإذا بالغضب يُلقي بشرارته من عيني الرجل.. ماذا يا تُرى؟ (يقول الشاب في نفسه) لم أقترف ذنبًا، ولم أخالف قانونًا، وليس لي سابقةُ عهدٍ في هذه المدينة، بله عن هذه الجامعة، فلِمَ ينظر هذا الرجلُ إليَّ بهذه الطريقة المخيفة؟ ما المشكلة؟
خفَض الأستاذ بصرَه، وكتب على الورقة: "القبول في الجامعة يكون عن اقتدار، وليس عن توقيعٍ من أحد، مهما علتْ منزلةُ الموقِّع! لن يُقبل هذا الطالب بهذا القسم إلا بعد اختبار قبول، ولن يُختبر إلا بعد ثلاثة أشهر!" وسلَّم الاستمارة للشابّ، وانشغل بعمله..
أخذ الشاب الاستمارة، وهو يتلهَّف إلى قراءة ما كتبه الأستاذ فيها ليعرِف مصيره في القسم.. وحين وقع بصرُه على المكتوب سُقِطَ في يَدَيْه، وعرَف أنه هالِك!
... سيكون الاختبار بعد ثلاثة أشهر؟ لماذا؟ لماذا لا أختبر كما يختبر الآخرون، إن كان هناك داعٍ للاخبتار؟
خرج من مكتب رئيس القسم بغير الوجه الذي دخل به، وسأل الطلبة القدماء عن أسباب ما حصل؟ وبعد سؤال واستفسار عرَف أن هذا عقابٌ لهذا الشاب الذي أراد دخول الجامعة بطريقة ملتوية! وليس عن اقتدار!! كما عرف الشاب أن اختباره لن يكون كغيره، بل سيكون اختبارًا عسيرًا يهدُّ أذكياء الطلبة! لأنه لجأ إلى طريقة غير قانونيَّة!!
لَيْتَه عرَف أن ما قام به أمرًا غير قانون! يا ليته عرف!! ولكن فات أوان المعرفة.. وليس أمامه إلا أن يبحث عن الخيارات المتاحة... وإذا بالخيارات قد هربتْ من وجهه، حيث لم يجد أمامه إلا أن يستعدَّ للاختبار، ولمدة ثلاثة أشهر، ولا شيءَ غيره! لأنه سافر إلى هذا البلد الجديد للدخول في هذه الجامعة فقط، وليس لديه خيار العودة إلى بلده دون القبول فيها، حيث صرفَ والدُه مبالغَ طائلة في هذه الرحلة! رحلة العلم. فلا يمكنه العودة إلى البلد دون أن يحمل الشهادةَ معه، والعلمَ معها.. فتوكَّل على الله تعالى، وأخَذَ قرارَه، وتحدَّى عجزَه، وقرَّر أن يهلك دون الدخول في هذه الجامعة التي واجه فيها العقوبة قبل أن يلتحق بها!
دخل الشابُّ المكتبة، وعكف على الكتب والمؤلَّفات، وغاص في بحار المصادر والمراجع، وأقدم على البحث والدراسة إقدامَ الظمآن إلى الماء العذب! وارتمى بين صفحاتها الغبراء والصفراء ارتماءَ المسافر المُتعَب إلى الفراش.. وانكبَّ على مناهل العلم والمعرفة انكباب العاشق على معشوقه بعد انقطاع طويل... فواصلَ الليلَ بالنهار، وتابعَ الغداة بالرواح، وسابقَ الزمن لينتهي من المقرَّرات المطلوبة قبل انتهاء المدة المحدَّدة..
طلَّق الشابُ راحته، وودَّع استراحته، وشيَّع نومه، وأقبل على الكتب قارئًا ومراجعًا ومقيِّدًا وناقدًا.. حتى أتى على المقرَّرات المطلوبة في الاختبار قبل أن تنتهي المدة المحددة بزمن! فبدأ بجمع تعليقاته على المقروءات، وتساؤلاته تجاه القضايا المدروسة، واعتراضاته على المباحث غير المقنِعة، وفوائده فيما دوَّن وقيَّد..
وهكذا مضَتِ الأشهرُ الثلاثة.. وجاء اليوم الموعود، اليوم المسمَّى بيوم الاختبار، والشاب يشتاق إلى الاختبار شوق الحبيب الوَلْهَان إلى المحبوب الحميم بعد نَأْيٍ ولَأْيٍ! فحضر إلى قاعة الاختبار المخصَّص له، وانتظر قدوم الأستاذ الذي باغتَه بالغضب في اللقاء الأول!
حضر الأستاذ وحده، وليس معه شيءٌ؛ لا أوراقَ، ولا أسئلةَ، وجلَسَ بجانب الطالب، وبدأ يتحدث معه حديث الصديق الودود إلى صديقه الحميم! فتَفَاجَأَ الشاب مرة أخرى من هذا التصرف غير المتوَقَّع، كما تفاجأ من سلوكه في المرة الأولى، فقال الشاب في نفسه: {وَلَلۡأٓخِرَةُ خَيۡرٞ لَّكَ مِنَ ٱلۡأُولَىٰ!}، ولكنه تساؤل: ما خَطْبُ هذا الإنسان الغريب؟ يغضب دون سبب، ويرضى دون سبب! وهنا فاجأه الأستاذ للمرة الثالثة والأخيرة قائلًا: كنتُ أختبرك طِوال هذه الأشهر الثلاثة الماضية، وقد اختبرتُك فيها كل يوم، ونجحتَ فيها جميعَها، حيث كنتُ أراقب تصرفاتك، ودراساتك، ومراجعاتك، فوجدتك قد تجاوزتَ المطلوب، فهل من داعٍ للاختبار من جديد؟
وهنا عرفَ الشابُّ السِرّ، وانكشف أمام قصة الأشهر الثلاثة، حيث كان الأستاذ يودُّ اختبار الشاب الغريب ليرى: هل يصلح للدراسة في القسم أم لا؟ وهل دخَلَ البيتَ من ظَهْره ليخرج من ظَهْره أيضًا؟ أم أن دخوله البيت من الظهر كان دون قصد، ودون سابق إصرار على الذنب؟ ولمّا تبيَّن للأستاذ حقيقة الطالب، وأنَّه بريء من تهمة الوساطة، قرَّر قبوله في القسم دون اختبار؛ لأنه يستحق الدراسة فيه عن اقتدار، وليستْ عن شفاعةٍ من أحد!
من هذا الشاب يا تُرَى؟ وما سِرُّ شفاعة مدير الجامعة على قبوله في القسم دون اختبار؟
هذا الشاب الغريب، في مدينة كراتشي، اسمه محمد جنيد، وُلد في الثامن (حسب بعض المصادر المتوفرة) من أكتوبر، عام 1953م بقرية بَابُونَغَرْ، وكان والده الشيخ أبو الحسن عالمًا جليلًا، ومدرسًا شهيرًا، ومؤلِّفًا كبيرًا، وكانت والدتُه فاطمة خاتونْ امرأة صالحة نيّرة، تحبُّ العلم والعلماء والإصلاح والمصلِحين، وكان جدُّه لأمه الشيخ محمد هارون البابونغري من مشاهير علماء القارَّة الهنديّة في عصره، كما كان والد هذا الأخير صُوفِي عزيز الرحمن من مؤسِّسي دار العلوم بهاتهازاي، المؤسسة العريقة التي غدتْ من كبرى الجامعات الإسلامية في القارّة الهندية كلها فيما بعد.
بدأ الصبيُّ محمد جنيد دراسته الأوليَّة في كَتَاتِيْب القرية، وحفظ القرآن الكريم في سنٍّ مبكِّرة، ثم التحق بمدرسة عزيز العلوم ببابونغر –جامعة بابنونغر فيما بعد-، التي أسَّسها جده لأمه العلامة محمد هارون البابونغري، ودرس فيها إلى الصف السابع، ثم واصَلَ دراسته في دار العلوم بهاتهازاري، التي كان أبوه كبار أساتذتها، وأكملَ فيها بقية مراحله الدراسيَّة، وتخرَّج فيها بتفوق وامتياز... ثم حبِّب إليه السفر إلى جامعة العلوم الإسلامية بمدينة كراتشي الباكستانيّة للاستزادة من علوم الحديث النبوي الشريف، والتتلمذ على أيدي أساتيذها الكبار، أمثال العلامة المحدِّث محمد يوسف البنُّوري؛ صاحب كتاب (معارف السُّنن) وغيرها، والعالم البحّاثة محمد عبد الرشيد النعماني؛ صاحب كتاب (الإمام ابن ماجه وكتابه السُّنن) وغيرها، والعلامة المفتي ولي حسن التونكي؛ صاحب كتاب (ذكرى مشايخ الهند) وغيرها.. وأسرَّ بهذه الرغبة الشديدة والأمنية الأكيدة إلى مدير جامعة دار العلوم بهاتهازاري آنذاك الشيخ الكبير شاه عبد الوهاب بن عبد الحكيم الشَّاتغامي، فشجَّعه على ذلك، وسلَّمه رسالةً إلى مدير جامعة العلوم الإسلامية العلامة محمد يوسف البنُّوري، وزكَّى فيها هذا الطالب، وتفوقه، وذكاءه، واهتمامه بالعلم، ورغبته الأكيدة للتتلمذ على يديه، كما رجّاه لقبوله في الجامعة؛ ليُكمل دراساته العُليا بقسم علوم الحديث النبوي الشريف..
وحين وصلَ الشاب محمد جنيد إلى الجامعة قدَّم رسالة الشيخ عبد الوهاب إلى مديرها الشيخ البنوري، ولما رأى الأخير رسالة الأول كتبَ إلى رئيس قسم علوم الحديث أن يُقبل الطالب -الذي زكّاه الشيخ عبد الوهاب- دون اختبار؛ لأنه لا يحتاج إلى اختبار! ولم يُعجِب رئيس القسم أن يُعطى هذا الطالب ميزة بين أقرانه الراغبين للالتحاق بهذا القسم.. ففَعلَ ما فعل.. وقد قصصتُ عليك تلك القصة فيما سبق!...
ولما سمع الشاب محمد جنيد، من رئيس القسم، أنه قُبِل في القسم دون اختيار، وأنَّ أمله في الدراسة بهذه الجامعة قد تحقَّق.. تنفَّس الصعداء، وفرِح به فرحًا عظيمًا، وأقبل على العلم والمعرفة بشوق ورغبة حتى تخرَّج فيه بمرتبة الشرف الأولى، وكانت رسالته فيه: "سيرة الإمام الدارمي والتعريف بشيوخه"، ثم كفل راجعًا إلى أرض الوطن راغبًا في خدمة العلم والمعرفة والإسلام والمسلمين؛ فعُيِّن مدرِّسًا بجامعة عزيز العلوم ببابونغر، وقام بالتدريس فيها قرابة 25 عامًا، درَّس خلالها العلوم الإسلامية المختلفة، كما افتتح قسم علوم الحديث النبوي الشريف فيها، وهو من أوائل من افتتح هذا القسم في بنغلاديش، الذي راج سوقُه فيما بعد، وازدادت رغبة الطلبة في الالتحاق به.
وفي عام 2003 عيِّن الشيخ البابونغري أستاذًا للحديث الشريف والفقه الإسلامي والمنطق والفلسفة في جامعة دار العلوم بهاتهازاري، التي تخرَّج فيها؛ فقام بخدمات جليلة وأدوارٍ بارزة في نشر العلوم والمعارف بين الطلاب والباحثين، وقد شغف به وبطريقته في التدريس طلابُه ومحبُّوه، ونهلوا من علومه ومعارفه، واستفادوا من خيراته وتجاربه.
لم يَحصر الشيخ محمد جنيد نفسه في جدران المؤسسات التعليمية التي درَّس فيها، ولم يحبس نفسه في صومة العلم والعبادة، بل أولى اهتمامه بدعوة الناس إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسن، فقام بأسفار دعوية وجولات تربوية في أنحاء البلاد، فأفاد العامة، كما أفاد الخاصة.. كما أقدم على التأليف والتصنيف، فألَّف كتًبا تجاوزَ عددُها العشرين (20)، وكتبَ أبحاثًا علمية نُشرت في المجلات العلمية والثقافية، وقد نالتْ كتبُه ودراساتُه القبول والرواج في الأوساط العلمية والاجتماعية، واستفاد منها العلماء والباحثون وعامة الناس..
وحين أسَّس العلامة أحمد شفيع رحمه الله تعالى جمعيَّة "حِفاظَتِ إسلام-بنغلاديش"، ساعده الشيخ محمد جنيد البابونغري في تأسيس هذه الجمعية المباركة التي أدَّت دورًا دينيًا وحضاريًا عظيمًا في خدمة الدين والمجتمع، حيث حملت راية الحفاظ على المكتسبات الإسلامية الطويلة في هذه البلاد، ووقفتْ في وجوه العلمانيّين والملحدين الذين أرادوا القضاء على هذه المكتسبات العظيمة التي ورثناها عن آبائنا الأوّلين؛ فصَدَعتْ الجمعية بواجب الدعوة الإسلامية وتوعية الشعب النبغلاديشي المسلم بخطورة أجندات هؤلاء العلمانيّين والملحدين.. وقد تحمَّل الشيخ البابونغري في ذلك أذى كثيرًا، وبُلِي بلاءً حسنًا، حيث سُجِن واعتُقل، وعوقب وعذِّب، ولكنَّه لم يتخلَّ عن دعوة الإسلام وخدمة الدين رغم شدّة البلايا وكثرة العِلل. فضربَ بذلك أروع الأمثلة في شجاعة العالم، وحميّة المؤمن، وغيرة الداعي، وقد أعجِبَ بها الأقارب والأباعد والأقاصي والدواني، حيث اكتشفوا في الشيخ البابونغري -الذي عُرف بالوقار العلمي والهيبة المعرفية- جانبًا جديدًا، وعرفوا أن صومعة العلم لا تجعل العالم جبانًا، وأن محراب العبادة لا يجعل المؤمن خوَّارًا.. فأعطى الشيخ بظهوره بهذه الصورة الجامعة درسًا للعلماء والباحثين الذين ظنَّ بعضُهم أن الثورة في وجه الباطل تناقِض هيبة العلم، وأن النزال في ميدان الحياة يعارض وقار العبادة، وبذلك أعاد الشيخ إلى أذهان الناس ذكرى علمائنا السابقين ومصلحينا الماضين ومجدِّدينا الأولين في تاريخ الإسلام الغابر...
وهكذا كان الشيخ البابونغري يقضي أيامه ولياليه في خدمة الإسلام والمسلمين والعلم وطلابه، دون أن يهتم بصحته وراحته، حتى أنهكَ المرضُ جسمه، وتوطَّنت العلة جسده، فكانت الأمراض الكثيرة والعلل العديدة أنيسه وجليسه وصاحبه وقرينه، وفي صبيحة يوم الخميس التاسع من محرم، 1443هـ (19 أغسطس، 2021) شعرَ الشيخ البابونغري بعلة شديدة في جسمه، فحُمل إلى مستشفى سي اس سي أر CSCR بمدينة شيتاغونغ.. وبعد وصوله إلى المستشفى بهُنَيْهةٍ لبَّى نداء ربِّه سبحانه، وفاضتْ روحه إلى رفيقه الأعلى.. وقد ترك وراءه آلافًا مؤلفة من تلاميذه (وصل عددهم إلى أكثر من 40 ألف حسب بعض المصادر) الذين نهلوا من علومه ومعارفه، ومحبّيه الذين استفادوا من نصائحه ومواعظه..
صلَّى عليه جمعٌ غفير من العلماء والطلاب وعامة الناس والمسؤولين في ساحة جامعة دار العلوم بهاتهازاري، ثم وُوريَ جثمانه التراب في مقبرة العلم والمعرفة والتزكية والإصلاح والدعوة والإرشاد، مقبرة جامعة دار العلوم، حيث كان يجلجِل دويّ صوته القائل بـ "حدَّثنا.. وأخبرنا.. وأنبأنا.. ورحم الله تعالى عن فلان وفلان وفلان.."
إلى هنا توقَّف كلُّ شيء...!
توقَّف الصوت الذي كان ينتظره الآلاف المؤلفة بقلوب حانية...
وتوقَّف الحديث الذي كان يروي غليل سامعيه...
وتوقفت الحياة التي نسجتها قرابةُ قرنٍ من الزمن بأزهار ورحانين...
وانتهتِ القصَّة الشجيَّة التي طالما يرويها الرُّواة ويحدوها الحُداة..
وأفل النجم الذي تلألأ في سماء العلم والمعرفة، والتزكية والتربية، والدعوة والإصلاح، والسياسة والاجتماع...
سقى الله تعالى قبر عبده محمد جنيد البابونغري بشآبيب رضوانه، وغفر ذنوبه، وأكرم نزُله، وجعل مقامه في "عليّين"، وألحقَنا به في دار كرامته، ومستقرّ رحمته بفضله الواسع وكرمه الجزيل.