الجوال أفقدنا الكثير الكثير من قيم الحياة العظيمة
كان الناس قبل ثلاثين سنة ( نعم قبل ثلاثين سنة فقط) يتحابون و يتوادون ؛ فيجتمعون في منزل أحدهم أو في ساحة في ديارهم و يضرمون شبة النار و يصطلون... يتجاذبون أطراف الحديث لساعات طوال ؛ كما يتبادلون أفراحهم و أحزانهم و يشاركون آلامهم و أحلامهم.. لا يحزنهم ما يحدث وراء دنياهم الصغيرة المحدودة ؛ بل يحزنهم مرضُ أحد إخوانهم في القرية أو الحارة أو موت أحدهم أو ما ينزل به من نازلة ( و ما أقل هذه النوازلَ أيامَهم!! ) كما لا يفرحهم ما يحدث وراء البحار أو في أوروبا و أمريكا... و إنما كان فرحهم يكمن في فرح زميلهم الذي تولد له ولد أو تزوج أو أو...
فما كان الحزن حزن واحدٍ و لا كان الفرح فرحَ واحدٍ و إنما كانت القرية برمتها تشاطر الأفراح و الأتراح معا..
لا يعرفون من يحكم البلاد و لا يهمهم من انتصر أو انهزم في الانتخابات العامة ، فلا صحيفة تصلهم من مدينة و لا هاتف يأتيهم بالأنباء بل ربما لم يكونوا يعرفون الهاتف.. كل دنياهم هي القرية الصغيرة و جميع لذاتهم في هذه القرية..
أتذكر بعض الأماكن في القرية حيث تضرم النار أو شبة النار في مثل هذا البرد.. و الناس حولها يجتمعون ؛ فيهم الشاب و الفتى و الشيخ... نعم كانوا يستمعون إلى الراديو و كانوا يستمعون إلى أحلى الأغاني و عندهم ذوق لطيف للأغاني المحلية...
أيا ما كان ، فلقد كان الزمنُ جميلا ممتعا.. لم يعرفوا التقدم و آثاره ، و لا المدنيةَ و جمالها ( إن كان لها جمال) و لكنهم كانوا يتمتعون بأهنإ بال و ألطف حياة..
نعم كان المثقف فيهم يعظم لثقافته و علمه فهو ربما يزودهم بما لا غنى لهم عنه من بعض المشكلات للحياة المعقدة التي كادت أن تهجمهم... و ها هي قد هجمت عليهم !!
فلم تبق القرية هي القريةَ و لم يعد سكانها إياهم...كل شيء قد تغير..
فلا شبة نار تضرم و لا جماعة إخوان تجتمع و لا صوت راديو يسمع في الليل الهادئ الجميل... بل الليل فقد جماله و هدوءه.. اجتاحت المدنية القرى فحولتْها مدنا لا يعرف فيها الناس بعضهم بعضا فضلا عن أن يتحابوا و يتوادوا !!
أما الهاتف هذا ( الذي أكتب به هذه الكلمات) فقد أفقدنا الكثير الكثير من قيم الحياة العظيمة ، و جعلنا شيئا أشبه بالإنسان في الهيئة و الصورة ، و بالروبوت في العواطف و الأحاسيس!!