عبدالرحمن بن القاضي فقير محمد (قاضي مدينة سوات قبل استقلال باكستان)

(كان قاضي القضاة في مدينة سوات قبل استقلال باكستان وله مؤلفات شتى في اللغة البشتوية، خريج دار العلوم ديوبند، وهو الذي أدمج مدينة السوات في باكستان) رحمهما الله رحمة واسعة.

إن مثل ذرية آدم كمثل الزرع إذا أخرج شطئه فآزره فاستغلظ واستقام على سوقه وجذوعه يعجب الزراع ليقضي به حاجته ثم الزرع إذا انتفع به الزراع فتآلم بحصاده يوم الحصاد، وإن لم ينتفع به فلا يعبأ به ولا يبال به حتى ولو صار عشا للعصافير وعشبا يابسا للمواشي.

ذرية آدم تولد وتتوفى مثل الزرع لا غرو أن المولود إذا ولد سر به أبواه وأقرباؤه وجيرانه، لأنه سيترعرع تحت ظلهم ويتربى في رعايتهم حتى يكون عونا لهم، ثم هذا المولود لو لا ينزل عند بغية الآباء والأقرباء والأقران فلا يُعبأ به إذا مست به الحاجة ولا يُتألم معه إذا تألم، ولا يُسأل عنه عند غيابه ولا يُرثى عليه إذا مات...!.

وبالعكس لو صار عونا لأبويه ومساعدا لأقربائه وملجأ لأقرانه و تألم إذا أصيبوا فيصبح مأوى ومرجع الخاص والعام، فإن أصيب قلقوا بإصابته افتقدوه عند غيابته وساعدوه إن مست به الحاجة، وألجؤواه إن احتياج ورثوا عليه عند نعيه أيًّا كان ومن كان حيث كان.

من أولئك أبناء الأمة لقد كان الطبيب عبدالرحمن بن القاضي فقير محمد (كان قاضي القضاة في مدينة سوات قبل استقلال باكستان وله مؤلفات شتى في اللغة البشتوية، خريج دار العلوم ديوبند، وهو الذي أدمج مدينة السوات في باكستان) رحمهما الله رحمة واسعة.

لقد كان رحمه الله تعالى متصفا بصفات حسنة ومتزينا بالأخلاق النبوية على صاحبها الصلاة والسلام مواظبا على الصلوات الخمس في الجامع ولو كانت المستشفى مكتظة بالمرضى، ومن الجدير بالذكر أنه لم تفته صلاة التهجد منذ سنين، كان يصلي بالخشوع والخضوع.

يوما ذهبت لعيادته سألته متلاطفا: مابك يا سيدي، تستيقظ في الصباح الباكر وأنت على أحسن حال، نراك مساء طريح الفراش! فهامسني قائلا: أنني لم أخبر أحدا غيرك يابني، فليبق السر سرا وهو أنني عند ما أقوم أمام  رب العالمين متوجها إلى القبلة متضرعا إلى الله تبارك وتعالى، فأتذكر الجنة ونعيمها والنار وما فيها والقبر والميزان والصراط وما عليها، فترغيبا فيه وترهيبا منه أمرض، وأصبح طريح الفراش.

كان رحمه الله مرجع الخاص والعام يأتيه العلماء والطلاب والعامة للاستشارة في الأمور ما تخص بهم.

كريم يتصدق على الفقراء والمساكين وإنشاء المساجد والمدارس أثار استغرابي زهده عند ما أخبرني أنه لا يبقي في حسابه أكثر من خمسين ألف روبية رغم ربحه اليومية آلاف روبية.

جواد يعالج طلاب خمس أو ست مدارس مجانا، ولم يأخذ منهم فلسة واحدة، لا رسوم ولا قيمة الدواء، يأتيه الطالب للعلاج إذا كان وقت الغداء أبقاه للغداء ولو جاءه وقت العشاء شاركه معه في عشائه.

مرة ذكر لي أنني طلبت الدواء للصيدلية في الصباح الباكر ولم تبق منها شيئا إلى المساء ولم أجد من سعرها شيئا، ويعالج العامة برسوم طفيفة ويشخص لهم الدواء بأسعار رسمية مع الترغيب على الصلوات الخمس في الجامع.

يستعد لليلة الجمعة كما يستعد الصائم للإفطار والحاجي للحج أو مثل الأب عند قدوم الأولاد، سوف يأتيه الطلاب يوم الخميس ويتضيّفون لديه، وفي الشهر مرة كان يضيّف أحد العلماء الكبار والمشائخ وزوج بناته بالعلماء ابتغاء لوجه الله تعالى نسبة إلى الدين والعلم.

يوما كان يضمّدني إذ بختنه (وهو عالم) يقول: دعني أضمّده أنا، لأنك مريض، فمنعه قائلا: لو كنت تعرف التضميد والعلاج لما زوّجتك بنتي...!

وله صفات ومزايا لا تسعه هذه الأسطر العديدة.

كان رحمه الله مريض القلب، أجريت له عملية جراحية للقلب وهو في الثامن عشر من عمره، قضى عمره في هذا المرض المزمن!.

ومن أكبر أمنياته رحمه الله أنه كل سنة إما يحج أو يعتمر، وإذا اعتمر في رمضان اعتكف في الحرم المكي أو الحرم المدني ــــ حرسه الله ـــــ كالعادة العام الماضي (1438هـ) سافر في رمضان المبارك لأداء العمرة، بمشيّة الله وقدَره أضاع طريق الفندق، وما وصل إليه إلا بعد ثلاثة أو أربعة أيام رغم تطوّر الزمان والتقدم، فاشتد مرضه وقد تسرب فيه هذا المرض، ومن عادته أنه كان يستشيرني في أموره الخاصة ولكن خلافا لعادته منذ شهرين والنصف كان يقول لي: كأنه يريد التنفيذ أودّ أن أنجز عملي كذا و كذا... لأن الأجل قريب والعمر قصير ولا يُعرف أمري...؟! أو ربما قدّم إليّ الدليل أو الحجة قائلا: "كل نفس ذائقة الموت. وكل من عليها فان" لو قلت له يا سيدي، أنت ستخدم الدين والأمة الإسلامية أكثر... إن شاء الله!

إلى أن أدخل إحدى المستشفيات في قسم الطوارئ، ومنه نقل إلى الردهة ما أُبقيَ فيها إلا وحُوّل إلى غرفة الإنعاش علما أن الإدخال في غرفة الإنعاش مقدمة للموت، وخبر عن نعي، قلما يخرج منها أحد سالما ومعافا ( أعاذنا الله وإياكم).

وفي اليوم التالي (15-1-2018) يوم الاثنين على الساعة الثالثة ظهرا من حسن حظي وجدت فرصة للوصول إليه، وإذ بي أجده ركّبت له المكائن والأجهزة للضغط والتنفس وتحريك القلب...! فبدأت أتلو سورة يس عند وصولي إلى "اليوم نختم على افواههم وتكلما ايديهم وتشهد ارجلهم بما كانوا يكسبون) فذرفت عيناه ورفعت روحه المباركة إلى الأعلى العليين، فإن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده لأجل مسمى فلنصبر ولنحتسب.

لقد فاجأنا وآلمنا وفاة الفقيد (الطبيب عبدالرحمن) قد كان شهما كريما جوادا متواضعا... فلا شك أن المصاب عظيم والخطب جلل علينا (معاشر العلماء والطلاب) كما هو على أسرته.

لا أدري أعزي أسرته أو أعزي العلماء والطلاب وأنا واحد منهم. ولكني أسلي نفسي بأنه غسيل العلماء الكبار وقد كان أكثر عدد المصلين عليه العلماء والطلاب وزرته مع الزوار قبل تدفينه، وقد رسمت صورة شفتيه المبتسمتين في مخيلتي، كأنه قد  خوطب بما يخاطب به عباد الرحمن عند نزع الروح، (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ  ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً  فَادْخُلِي فِي عِبَادِي  وَادْخُلِي جَنَّتِي) وكأن الحور قائمات صفا صفا، تستقبل العريس الجديد، وكأنه يرى نعم الرحمن ما لا ترى أعيننا، ولا تسمع آذاننا، ولا تخطر على قلوبنا نحن البشر.

وختاما: أعظم الله أجور ذريته، أحسن عزائه، ألهَمَهُم الصبر والسلوان، وغفر الله الميت، ونور الله مرقده وجعله روضة من رياض الجنة، وأدخله الله فسيح جنانه وبحبوحة الفردوس الأعلى في رفقة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وإنا لله وإنا إليه راجعون.

في الأخير ألتمس منك أيها القاري كل الالتماس أن تقرأ من القرآن الكريم ما تيسر لك ولو حرفا فإنه بعشرة أمثالها للميت خاصة والأمة المرحومة عامة على صاحبها الصلاة والسلام.

أبو طلحة حيات البائيزي


مجموع المواد : 16
شبكة المدارس الإسلامية 2010 - 2024

التعليقات

    • ما أجمل أسلوبك! غفر الله له وأدخله في فسيح جنانه. آمين

يجب أن تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

إنشاء حساب

يستغرق التسجيل بضع ثوان فقط

سجل حسابا جديدا

تسجيل الدخول

تملك حسابا مسجّلا بالفعل؟

سجل دخولك الآن
المعلومات المنشورة في هذا الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع إنما تعبر عن رأي قائلها أو كاتبها كما يحق لك الاستفادة من محتويات الموقع في الاستخدام الشخصي غير التجاري مع ذكر المصدر.
الحقوق في الموقع محفوظة حسب رخصة المشاع الابداعي بهذه الكيفية CC-BY-NC
شبكة المدارس الإسلامية 2010 - 2024