اللغة العربية و تحديات العصر الحاضر في ظل العولمة

شهد العالم خلال العقدين الماضيين ثورة من المعرفة والمعلومات، ولقد تعاظم هذا الدور خلال السنوات المنصرمة بدرجة يمكن معها القول أن تراكم هذه السنوات من العلوم والمعرفة يفوق ما حققتها البشرية عبرآلاف السنين، وقد شهد أوائل القرن الواحد والعشرين ...

شهد العالم خلال العقدين الماضيين ثورة من المعرفة والمعلومات، ولقد تعاظم هذا الدور خلال السنوات المنصرمة بدرجة يمكن معها القول أن تراكم هذه السنوات من العلوم والمعرفة يفوق ما حققتها البشرية عبرآلاف السنين، وقد شهد أوائل القرن الواحد والعشرين تطورات سريعة في جوانب الحياة الاقتصادية والسياسية والتكنولوجية كافة، وخاصة في مجال الاتصال والإعلام حيث احتلت الحاسبات الآلية والأقمارالصناعية وشبكات المعلومات الحديثة (الإنترنيت) والأعلام الإجتماعية دورا مهما في نقل المعرفة والمعلومات و كل مواد الاتصال بين المجتمعات بشكل مباشرـ وإن العالم اليوم أصبح في ظل هذه التطورات قرية صغيرة، فما يحدث شئ في أي بلد ينقل بالصوت والصورة إلى باقي المجتمعات لحظة حدوثه.

وفي ظل هذه التطورات واجهت اللغة العربية عديدا من التحديات وكان أخطرها على الإطلاق دعوات بعض الحداثين العرب الذين كانوا متأثرين بالغرب و يتخذون اللغة العربية الفصحى مانعا للتقدم، وجعل الكيد لهد مها والقضاء على مقوماتها الأساسية، وهو اللغة العربية الفصحى الذي نزل بها القرآن وتكلم نبينا الكريم، وهكذا أدخلت لنا الحداثة الغربية في نسختها العربية كثيرا من الأفكار الهدامة تحت حجة التقدم وضغوط العولمة كالدعوة الى العامية، وكتا بة العربية بحروف لاتينية، والتخلي عن القواعد النحوية باسم تيسير النحو وبحجة صعوبته، والإبتعاد عن البلاغة والعروض، والتخلي عن كل ما هو موروث، بما في ذلك القرآن ولغة القرآن.

ويجدر بنا قبل الحديث عن واقع اللغة العربية في صراع ظل العولمة وماهي تحديات العصر الحاضر، وتحديد مصطلحات البحث والدراسة.

اللغة العربية: هي إحدى اللغات الرسمية للأمم المتحدة، وهي لغة العرب في العصر الحاضر، التي يستخدمونهم في معاملاتهم اليومية وتعاملاتهم المختلفة، و يستخدمها المسلمون الذين يقدر عددهم بحوالي مليارين من البشر في عباداتهم، فهي مرتبطة أشد الارتباط بالدين الإسلامي، وهي " اللغة الرسمية التي تنص عليها دساتير الوطن العربي والرسمية في المحافل الدولية، واللغة الرابعة المرشحة للظهور بقوة في القرن الواحد والعشرين، وتمتاز بخصائص مميزة، تظهر في البنيات الصوتية والصرفية والنحوية، ولها نطام كتابي مميز وتراث غني لا مثيل لها من لغات البشر، وهي أقدم لغةعلى وجه الأرض ولم تحدث قطيعة بين أصولها وحداثتها، و يقرأ بها تراثها دون مساعدة معجمية، كما أن لِلغة لهجات متنوعة تختلف في بعض ألفاظها أداء ودلالة من قطر عربي لآخر، وتشكل الفصحى الوسيلة المثلى للتواصل".

العولمة : مصطلح جديد في اللغة العربية فهو مترجم قطعا لكلمة (Globalization ) وهي تعمل على إزالة الحدود وإذابة الحواجز بين الأمم المختلفة، وهي مأخوذة من كلمة Global بمعني كروي أو عالمي وشامل، وقد استقر لدى الدارسين أنها تعنى "نظام عالمي جديد قائم على العقل الإلكتروني والثورة المعلوماتية القائمة على المعلومات والإبداع التقني غير المحدود، دون الأخذ بعين الإ عتبار الحضارات والقيم والثقافات والأعراف والحدود الجغرافية والسياسة السائدة في العالم قاطبة.

العولمة اللغوية: هي عملية جعل اللغة الإنجليزية لغة عالمية مهيمنة في مختلف نواحي الحياة في العالم وتضم في طياتها تهميش بقية لغات العالم والتأ ثير فيها، وطمس بعضها من الخريطة الحضارية والثقافية.

قنوات العولمة : للعولمة قنوات عديدة منها، الثورة العلمية والثورة التكنولوجية والثورة الإتصالية.

تحديات العولمة : تحكمها على اللغة العربية و فرض عليها اختيار الألفاظ العربية كمعادل تنقل بها تلك الألفاظ والأساليب الأحتبية الوافدة إلى البيئة العربية. 

وهي كما معلوم أن اللغة العربية التي يستخد مونها العرب ويتداولونها، منذ العصر الجاهلي الى اليوم فمنها كتبت المعلقات ونطق شعراء العرب الفحول قديما حينما كانت في أوج قوتها وتقام أسواق أدبية كسوق عكاظ الذي يتبارى فيه الشعراء، ومما عاد عليها بتثبيت دعائمها، وإحكام رسوخ أنماط استخدامها وأنظمتها لدى أبنائها، فيتعلمونها عن فطرة سجية منذ صغرهم بحكم الاستعمال اليومي لها في صورتها الفصحى وصارت بذلك ديوانا للعرب ومدونة لأحداثهم و تاريخهم، ثم جاء القرآن الكريم المعجز بآياته ومعانيه، فتحداهم في اللغة العربية التي نزل بها، فكان معجزة بيانية.

و تمتاز اللغة العربية بثباتها ورسوخها عبر أكثر من ألف وخمس ماة حيث أنها وحيد في العالم التي لم تطرأ عليها تغيرات جذرية، فيستطيع العربي المتعلم أن يقرأ كتب التراث والمخطوطات القديمة على ما بها من أختلاف أشكال الخط بسير تسبي لكونها حافطت ألى يومنا على شكلها الفصيح بين حدود الدول العربية.

ولعل من أبرز خصائص هذه اللغة "الإعراب" بمعنى " أن الكلمة من كلماتها تتبدل نهايتها بحسب وظيفة هذه الكلمة في الترتكيب أة الجملة، هذه الظاهرة تسمى الإعراب ةبالإعراب نعرف أحوال الكلمات من حيث البناء والإعراب ومن حيث ما عثرض لها من حال تركيبها.

وحري بنا الاعتراف بدور القرآن الكريم في حفظها وصيانتها بما ضمنه من محاسن لغوية وبيانية، وتوحيد الأمة العربية على لغة واحدة، فارتباط العربية بالقرآن الكريم جعلها محفوظة به و باقية ببقائه؛ قال تعالى: إنانحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون، فحفظ الله القرآن الكريم حفظ أيضا اللغة العربية التي منزل بها كما قال امام الأدب العربي مصطفى صادق الرافعي في وحي القلم " وما ذلت لغة شعب إلا ذل شعب، ولا انحطت إلا كان أمره في ذهاب وإدبار، ومن هذا يفرض الأجنبي المستعمر لغته فرضا على الأمة المستعمرة، ويركبهم به، ويشعرهم عظمته فيها ويستلحقهم من ناحيتها فيحكم عليها أحكاما ثلاثة في عمل واحد: أما الأول فحبس لغتهم في لغته سجنا مؤبدا، وأما الثاني فالحكم على ماضيهم بالقتل محوا ونسيانا، وأما الثالث فتقييد مستقبلهم في الأغلال التي يصنعها، فأمرهم من بعد ها لأمره تبع.

وذهب ابن تيمية إلى أن معرفة اللغة واجب وفرض؛ حيث يقول -رحمه الله تعالى-: "اعلم أن اعتياد اللغة يؤثر في العقلِ والخلقِ والدينِ تأثيرا قويا بيّنا، ويؤثر أيضا في مشابهةِ صدرِ هذه الأمةِ من الصحابةِ والتابعين، ومشابهتهم تزيد العقلَ والدينَ والخلقَ، وأيضا فإن نفس اللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرضٌ واجبٌ؛ فإن فهم الكتاب والسنة فرضٌ، ولا يُفهم إلا بفهم اللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب".

ويقول العالم الرباني ويوسف القرضاوي (2000م)، في كتابه الشهير "المسلمون والعولمة"، ويرى الكاتب أن العولمة تعتبر أكبر المفاجأة التاريخية يعرفها تاريخ المجتمع الإنساني، وقد قفزت لتتصدر الصفحات الأولى في الصحف والمجلات الكبرى وفي الأجهزة الإعلامية العالمية وصكه بها من صكه، وترك الناس هنا وهناك يتجادلون ويتخاصمون في شانها، ما بين مادح وقادح، وما بين مؤيد على طول الخط، ومعارض على الخط، وواقف في منتصف الطريق، شأن البشر في كل قضية فكرية جديدة، وذات الوزن الثقيل، التي تمس حياة الناس، السياسية والاقتصادية والثقافية والدينية. ويرى أن أول العولمة وأقدمها هو ( العولمة السياسية) بمعنى إخضاع المجتمع الإنساني -على اختلاف أجناسهم و لغاتهم وثقافتهم ومعتقداتهم- لسياسة القوة العظمى، والقطب الأوحد في العالم، تمثلها الولايات المتحدة الأمريكية. و بعدها العولمة الاقتصادية التي احتلت مساحة واسعة من البحث والتحليل لعدد كثير من الدارسين والمهتمين لكنها أبرز مظاهر العولمة وذات الوزن الثقيل تمس حياة الناس. ثم انتقل الكاتب على جانب اللغة الثقافة وعلاقة العولمة بهما (اللغة الثقافة العربية) مبينا أبعاد آثارها على الثقافة واللغة العربية بوصفها مصدر اعتزاز الأمة العربية والمسلمين واللغة التي اختارها الله لينزل بها أعظم كتبه (القرآن الكريم) ومدى خطورة فرض ثقافة ولغة أمة على سائر الأمم، أو ثقافة ولغة الأمة القومية الغالبة، على الأمم الضعيفة المغلوبة، كفرض الثقافة الأمريكية ولغتها على العالم كله، عبر قنواتها وآلياتها الجبارة عابر القارات والمحيطات، من أجهزة الإعلام والتأثير بالكلمة المقروءة والمسموعة والمرئية الصوت والصورة، والبث المباشر، وشبكة المعلومات العالمية (الإنترنت) ومن ثمّ تطرق الكاتب إلى ما أطلق عليه بالعولمة الدينية مما يدخل في (عولمة الثقافة) وهي أهم العولمة بل أجلّها وإن كانوا لا يتحدثون عنها بصراحة لأنها وسيلة من وسائل تنصير العالم بما فيها المسلمين.

ناصر الدين الأسد، (2007م) في ورقة العمل له تحت العنوان: اللغة العربية وكيف تواجه التحدِّيات، لقد توصل الكاتب إلى أن الفكرة وراء ترويج العولمة وأيديولوجيتها قد ترجع إلى تنبّه المستشرقين والحركة التبشيرية والاستعمار الأوروبي –منذ زمن مبكِّر– على قيمة اللغة العربية بوصفها فكر الأمة العربية وإعجاز البياني لكتاب الله، فسعوا جميعا لإبعاد العرب عنها( اللغة العربية) وإبعادها عنهم ( الأمة العربية) وإزالتها من ألسنتهم أو على الأقل إضعافها في نفوسهم لا لأجل اللغة ذاتها وإنّما من أجل قضاء على فكرة الأمّة والهوية العربية وقضاء على كتاب الله.
وأشار الكاتب إلى أنّ العلاج الوحيد لما تُعانيه اللغة العربية من المشاكل هو الوعي الكامل من القيادة السياسية والتعليمية التربوية بأهمية هذه اللغة في احتفظ هويّة هذه الأمة وعقيدتها وأن تدرك القيادة أنه غير صحيح ما تسرّب إلى نفوسها وعقولها من أن مصلحة الأمّة ومستقبل أبنائها في مسايرة العصر، وأن التقدّم والعلم لا يكون إلاّ بالتمسك باللغة الأجنبية وإحلالها محل اللغة العربية التي زعموا أنّها أصبحت عاجزة عن تحقيق هذه المصلحة للأمّة، لأنها في زعمهم عاملة تخلّف وجمود وانقطاع عن ركب الحضارة، وقال:
"أنه لا بد من إشارة إلى تجارب بعض الدول العربية في تدريس العلوم التطبيقية ونظيرها باللغة العربية في العصر الحاضر، منها: التجربة المصرية (تجربة محمد علي ورفعة رافع الطهطاوي وكورنيليوس فاندايك من 1820م في مصر و 1866م )والتجربة البيروتية ( التي بدأت بين سنة 1866م و سنة 1882م، حين أسست الكلية البروستانية السورية التي سميت ب" الجامعة الأمريكية " فيما بعد في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فقد بدأ تدريس الطبّ والعلوم فيها باللغة العربية على عهد الطبيب المستشرق الأمريكي " من أصل هولندي" الدكتور كورنيليوس فاندايك C.van Dyek، الذي كان أحد منشليها وتولّى التدريس فيها باللغة العربية وألّف نحو خمسة وعشرين مؤلّفا في الطبّ والهندسة والكيمياء وعلم الهيئة وسواها، كلّها باللغة العربية. ثم التجربة السورية، عندما بدأت السوريّة في تدريس هذه الموضوعات العلمية النظرية والتطبيقية في جامعة دمشق وبقية الجامعات السّورية باللغة العربية.

وقد أشار الأسد إلى أنّه لا يمكن أن يكون حال اللغة العربية كما كانت في الوقت الراهن لو استمرّت هذه التجارب التدريسية في التعليم العالي باللغة العربية في مصر ولبنان ولم يُجهض قبل أن تصل إلى غايتها وقبل أن تتطوّر وترسخ بسبب التدخل الإنجليزي في مصر والتدخل الأمريكيّ في لبنان. وهذا مثل واضح على أن الاستعمار السافر والخفيّ لن يسمح بالتدريس باللغة العربية إلا إذا وُجد حكم وطنيّ مستقلّ استقلالاّ تاماّ وحقيقياً يرفض مثل هذا التدخل بوسائله المتعددة المباشرة وغير المباشرة.

وقد توصل الأسد إلى "أنّ حجّة استعمال اللغة الإنجليزية أو الفرنسية بأنهما ستمكنان الأساتذة والطلبة من البحث العلمي والمشاركة والتقدم والتطوّر هي حجّة داحضة بدليل أنّه قد مرّ نحو مئة عام على استعمال هاتين اللغتين في الكلّيات العلمية والتطبيقية والنظرية في بلاد عربية ولم تتقدم جامعة عربية واحدة بمشاركة فعّالة حقيقيّة في نموّ العلم العالمي أو في مجرى الحضارة المادية الإنسانية. وسبب ذلك أن ّ العلم بمختلف أنواعه لا ينمو ولا يتطوّر ولا يزدهر إلاّ باللغة الوطنية لأنها هي الفكر القوميّ وهي وحدها القادرة على استنبات هذا الفكر وتوطينه وتطويره.

وهذا من الأدلة على الارتباط الوثيق بين اللغة والفكر والعلم والثقافة".وأن التدريس باللغة الإنجليزية بحجة احتياجات السوق وإعداد الخريجين للمستقبل وتأهيلهم للأعمال المختلفة كان يطوّل الموادّ الإدارية والاقتصادية والقانونية. ويقول الأسد: " لا يعني هذا أن تنعزل هذه المؤسسات الاقتصادية والمالية عن حركة مثيلاتها في العالم، لأنن ندعو دائما إلى وجود العناية بتدريس اللغة الأجنبية وإتقانها على ألاّ يكون ذلك على حساب اللغة العربية. وهكذا يستطيع الخريج أن يحقق لتلك المؤسسات احتياجاتها من المراسلات والاتّصالات باللغة الأجنبية الوظيفية، مع اعتزازه وامتلاكه ناصيتها".

_____

شميم أحمد الندوي
جامعة جواهرلال نهرو، نيو دلهي

شبكة المدارس الإسلامية 2010 - 2024

التعليقات

يجب أن تكون عضوا لدينا لتتمكن من التعليق

إنشاء حساب

يستغرق التسجيل بضع ثوان فقط

سجل حسابا جديدا

تسجيل الدخول

تملك حسابا مسجّلا بالفعل؟

سجل دخولك الآن
المعلومات المنشورة في هذا الموقع لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع إنما تعبر عن رأي قائلها أو كاتبها كما يحق لك الاستفادة من محتويات الموقع في الاستخدام الشخصي غير التجاري مع ذكر المصدر.
الحقوق في الموقع محفوظة حسب رخصة المشاع الابداعي بهذه الكيفية CC-BY-NC
شبكة المدارس الإسلامية 2010 - 2024